تفسير سورة الفلق 4

  • 1996-10-20

تفسير سورة الفلق 4

الحمد لله رب العالمين، وأعطر التحيات وأزكى الصّلوات الطيبات المباركات على سيِّدنا مُحمَّد خاتم النبيين والمرسلين، والمبعوث رحمةً للعالمين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم وعلى أخويه سيدنا موسى وعيسى، وجميع إخوانه من النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ وصحبِ كُلٍّ أجمعين، وبعد:


الله خالق هذا الكون من العدم
نحن لا نزال في تفسير سورة الفلق، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) أستجيرُ وألوذُ وأستعينُ وأتحصَّنُ (بِرَبِّ) خالق هذا الكون الذي فَلَقَهُ فخرجت هذه المخلوقات من عالم الأرض وعالم السماوات، فكانت في عالم العَدَمْ فانفَلَقَ العَدَمُ عن مخلوقات الله من عوالمٍ وملائكةٍ وبشرٍ ومن مخلوقاتٍ لا يعلمهم إلا الله عزَّ وجلَّ، (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) فإذا لاذَ المؤمن بالله ووصاياه ومشى على ضوء تعاليمه وعلى حسب توجيهاته، يمتثلُ ما أمره ويجتَنِبُ ويحذَرُ ما حرَّم وما منه حذَّر، فالله يُعيذه ويحفظه من شرِّ ما خلق، يُعيذه من الأعداء فينصره ومن الفقر فيُغنيه ويُثريه، ومن الشدائد إذا لاذَ وتقبَّل وصايا الله وتعاليمه وتثقَّفَ بمدرسة الله وكتابه فهضمه في قلبه ونفْسِهِ وفكرِهِ حتَّى تَمثَّلَ فيه أعمالاً وأخلاقاً وسلوكاً.

عدم الاكتفاء بالاستعاذة القولية
فهذه هي الاستعاذة العملية.. أما أن تقول أعوذُ بربِّ الفلق وأنت تلوذُ بالشيطان تُصغِي إلى وساوسه وتعاليمه وإلى نفسك الأمَّارة بالسوء، فتقول بالقول: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وأعوذُ بالأمير أن يُعيذني من هذا السبع أو النمر، باللفظ تستعيذُ وتُلقي بنفسك بين أنياب ومخالب الذئب أو الأسد أو النمر، فهذا هزءٌ بما تقول وأنت سخريةٌ لمن يسمعك، فيقولون عنك: هذا حمارٌ ومجنون، يقول: أنا ألوذ بهذا الشجاع البطل من هذا المؤذِي ويُلقي بنفسه بين فكَّي الأسد والوحش، فيقول شيئاً ويعمل عكس ما يقول، يطلب الحِفْظَ ويرمي بنفسه في الهَلَكة، يقول له: أعطني شيئاً ينقذني من الغرق، يعطيه البالون فيلقيه في البرِّ ويُلقي بنفسه في البحر، ويقول: أنا لُذْتُ وعُذْتُ بمن عنده وسائل الإنقاذ، استعاذ لفظاً ولم يستعذ عملاً.. يقول: أكلت ويرمي بالأكل في النهر أو البحر، يشكو الجوع ويقول أعوذ بالله من الجوع، فيبعث الله له خروفاً محشياً فيلقيه للكلاب ويقول أنا جائعٌ أعوذ بك يا ربي من الجوع، ما أكثر من يستعيذون بالله بأفواههم وألسنتهم ويلوذون بالشيطان ومصدر الشرور من شياطين الإنس والجن، فهم يهزؤون بأنفسهم وبالقرآن.

القرآن شفاءٌ ولكن باتباع ما فيه

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
[سورة الإسراء]

الذي يؤمن بالوصفة والدواء فعلامة الإيمان أن يستعمله حسب وصفة وتعاليم الطبيب، أما إذا لم يستعمله أو استعمله بشكلٍ معكوسٍ وخلاف التركيب فلا يزيد الدواء ذلك المريض إلا خساراً ومرضاً وقد يُوصله إلى التَلَفِ والهَلَكَة.. (قُلْ) ماذا أقول؟ أعوذُ وألوذُ وأستجيرُ وأحتمي بالله الذي هو ربُّ الفلق، الذي تَنْفَلِقُ الحبَّة عن الشجرة والقمحةُ عن السنابل وظلام الليل عن الشَّمس وضوئها والقمر وضيائه، (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) لم يقل لك(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)) إلا لأنك إذا لُذْتَ به واستجرت به فهماً وعملاً وخُلقاً وسلوكاً فيُعيذك ويَحميك ويُسلِّمُك (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) مما تعلم ومما لا تعلم.

اختلف حال الصحابة بعد إسلامهم وامتثالهم
لما لاذَ المسلمون الأولون في مدرسة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالله وبرسوله وكلامه، كانوا متعادِيْنَ متقاتلين وجياعاً وفقراءً وجهلاء، فلما لاذوا بالله وتعاليمه.. كانت شمال البلاد العربية مستعمرةً للرومان وجنوبها للأفارقة والأحباش وللفرس المجوس، فلما لاذوا بالله هل بقوا مُستَعْمَرِين؟ فحرَّرهم الله من المُستعمِرِين، كانوا فقراء فحرَّرهم الله من الفقر، وجهلاء فحرَّرهم فصاروا علماءَ حكماءَ فقهاءَ كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء، كان أحدهم يعطي في اليوم الواحد في سبيل الله مئة ألف دينارٍ بعدما كان أحدهم يقتل ولده إذا ولدته أمه مخافة الجوع من شدة الفقر والفاقة، وكما قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه:

{ ألم أجدكم فقراء عالةً فأغناكم الله بي وأعداءً فألَّف بين قلوبكم(1) }

[صحيح البخاري]


الفرق بين الاستعاذة الحيَّة والاستعاذة الميتة
هذه هي الاستعاذة بمعناها الحي، أما الاستعاذة بمعناها الميت أو قولٌ ولا عملٌ لا يُفيدك إن قلتَ أنا مليادير أو مليونير أو قلت أنك ملكٌ وسلطانٌ وأنت لا قيمة لك في الحقيقة، (قُلْ أَعُوذُ) ولكن بصدق، بمن تعوذُ وتلوذُ وتطلبُ الحماية والعناية؟ من ربِّ الفلق، يفلق لك من الفقر غنى، ومن الجهالة علماً، ومن الضيق فرجاً، ومن الذل عزاً، ومن الضعف قوة، إذا كنت صادق الاستعاذة والاستعانة واللَّوذِ والتوجُّهِ إلى الله عزَّ وجلَّ، جعلنا الله صادقين فيما نتلوه من كتاب الله، وجعلنا طاهري القلب من الغفلات وحُبِّ ما سواه، لأن الله يقول عن القرآن أن روحه وحقيقته لا تَصِلُ إلا إلى القلوب الطاهرة والنفوس المزكاة :

لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
[سورة الواقعة]

في زمن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكن هناك مصحف، كان يُكتَبُ على الأحجار والعظام وورق النخيل، فالمراد بمن لا يمسُّه أي لا يمسُّ روح القرآن وثمراته ومكاسبه إلا من طَهُرَتْ قلوبهم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
[سورة التوبة]

(لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) فالمشرك ليس نَجِسَ الجسد بل نَجِسُ النفس والعقل والقلب.

الطلب بصدق وإخلاص
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) فإذا لُذْتَ وعُذْتَ به هل يحميك من شرِّ ما خلق؟ إذا كنت لائذاً وأخذت الجنسية والتبعية الإلهية، من يأخذ الجنسية الفرنسية إذا أُسِيءَ له؛ السفير يُدافع عنه وإذا لم يمكن للسفير ذلك فالدولة تدافع عن رعيتها، جعلنا الله من رعاياه وحزبه ولا جعلنا من رعايا الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، (قُلْ) لكن قُل بصدقٍ وإخلاص، أعوذُ وألوذُ وأستجيرُ وأستعينُ (بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)) فإذا طلبت منه أن يُعيذك من كلِّ الشرور يجيبك الله عزَّ وجلَّ: وأنت أيضاً أطِعْ أمري في كل الواجبات والوصايا، فكما تَدِيْنُ تُدَانُ وبالكيل الذي تَكيْلُ تَكتال:

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
[سورة الحج]


شروط استجابة الله لعباده

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
[سورة البقرة]

يعني بالاستجابة وطاعة أوامري أستجيبُ لكم في طلباتكم ورغباتكم.

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
[سورة البقرة]

(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) قال لكن أنا أجيبُ بشروطٍ ما هي؟ قال:
(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) فإذا دعوتهم، أنت تقول يا الله والله يقول لك يا أيها الإنسان، فأنت تناديه وهو يُناديك، فإذا استجبت لندائه يستجيب لندائك، وإذا استجبت لدعائه إذا دعاك فيستجيبُ لك إذا دعوته،
(قُلْ) ولكن بصدقٍ وإخلاصٍ وعزيمةٍ وتصميم،
(أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وإذا كنت تقول هذا ثم تلوذُ بالشيطان - شياطين الإنس أو الجن- أو بنفسك الأمارة بالسوء، فالله ليس طفلاً يُضْحَكُ عليه ويُهزَأُ به ويُكْذَبُ عليه:

لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (24)
[سورة الأحزاب]

يذكرون عن الولي الكبير الشَّيخ عبد الله البرعي أن والده كان من الدراويش، وذهبوا إلى الحج وبعد الحج زاروا قبر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وعند الرجوع من الزيارة إلى بلدهم أراد رفاقه أن يمزحوا معه لأن عقله بسيطٌ وعلى البركة مثل ما يقولون، صاروا يقولون لبعضهم البعض، رجلٌ يسأل الآخر يقول له: أنت عندما زرت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ماذا أعطاك؟ يقول: أعطاني مسبحة، ويسأل الثاني: ماذا أعطاك؟ فيقول: أنا أعطاني زجاجة عطر، وأنت ماذا أعطاك؟ بضع تمرات، جاؤوا إلى أبي الولي الكبير عبد الله البرعي قالوا له ماذا أعطاك النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ وهو درويشٌ وعلى البركة، فقال: والله لم يُعطني شيئاً، كيف لم يعطك؟ يا مسكين، وعلى مسافة سبعة كيلو مترات من المدينة قال: والله لأذهب إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأسأله لماذا لم يُعطني، وقالوا له: نحن نمزح معك، فلم يسمعهم وذهب، ذهب ركضاً بلا توقفٍ حتَّى وقف على الحجرة النبوية وصار يبكي ويقول: يا رسول الله، أحدهم أعطيته زجاجة عطرٍ والآخر مسبحة والآخر تمراً، أنا ما ذنبي أن لا تعطيني شيئاً؟ يقول: فخرجت يدٌ من الروضة الطاهرة المنورة وبها ورقة، وناولتها له، أخذ الورقة ورائحة المسك والعطر تفوح، ورجع ركضاً ويكاد أن لا يُصدق ما حصل، لما وصل وهو يرقص، سألوه خيراً إن شاء الله؟ قال: الحمد لله، جَبَرَ الله والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم خاطري، خيراً؟ قال: اشتكيت للنبي أنه أعطاك مسبحةً والآخر زجاجة عطر والآخر تمراً وأنا يا رسول الله لماذا لم تعطني؟ فانظروا أعطاني ورقةً، فرأوا ورقةً تُشِعُّ نوراً وعطراً ومسكاً، هم مَزحوا وهو صَدَقَ الله فصدقهُ الله، لما رأوا أنهم ضحكوا عليه والله عزَّ وجلَّ حققها له، قالوا له: أرنا الورقة! فقال: لا أريكم، فحاولوا أن يأخذوها، لما ضغطوا عليه أخذها في فمه وابتلعها، فرزقه الله عزَّ وجلَّ ولده الشَّيخ عبد الله البرعي الذي كان من أكبر علماء وأولياء عصره وزمانه.. لماذا؟ لأنه كان صادقاً في توجُّهِهِ وطَلَبِهِ ومُخلصاً في دعائه.

ثمرة اللجوء تكون حسب الصدق والإخلاص
كذلك (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) إذا لُذْتَ به ولجأت إليه بأقوالك وأعمالك وقلبك وروحك وفي أعمالك ورضاك وغضبك وطمعك فحاشا لفضله وكرمه أن يُهملك:

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
[سورة البقرة]

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
[سورة الحشر]

فيقيك من شرِّ ما خلق.. وهكذا كان أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، لما لاذوا بالله ودينه وكتابه ورسوله فكفاهم الله شرَّ ما خلق وأعطاهم في حياتهم خير ما يُعطى إنسان من نعم الله التي خلق، (ألم أجدكم الله ضلالاً فهداكم الله بي؟ وعالة فقراء فأغناكم الله بي؟)، جعلنا الله من الصادقين في تلاوة وتَقَبُّلِ تعاليم الله في قرآنه وكتابه.

شرُّ الظلمات هي الأعمال التي تُغضِبُ الله عزَّ وجلَّ
(وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) الغاسق هو الليل، ووَقَبَ إذا أحاط بظلامه على أرضنا، فبالظلام والظلمات تحصل شرورٌ كثيرة، فالسارق يستعين بظلام الليل، والماشي إذا كان في ظلامٍ لعله يسقط في وادٍ أو حفرةٍ أو بئرٍ أو ما شابه أو يلتقي بوحشٍ وإلى آخره.. وشرُّ الظلمات هي الأعمال التي تُغضِبُ الله عزَّ وجلَّ، هذه هي الظلمات تُوقِعُ الإنسان في الهَلكة في الدنيا والدار الآخرة، يقول الله:

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
[سورة النور]

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ)السراب ما يُرى للمسافر في الصحراء عن بعدٍ كأنه بحرٌ أزرقٌ بأمواجه، فلما يتجه إليه ويصل (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) يعني بسهلٍ وصحراء (حتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) هذه أعمال الكافر يوم القيامة .

وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا (23)
[سورة الفرقان]

وعند الموت كل أعماله الدنيوية وثرواته وبناءاته وأملاكه ووزاراته وجاهُه وسلطانه (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حتَّى إِذَا جَاءَه) أي الموت (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ) وحساب الله ولقاءه عنده، أو في مثالٍ آخر قال:

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)
[سورة النور]

(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) أي عميق (يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ) كلُّ طبقةٍ من الموج ظلمةٌ والثانية ظلمةٌ والسحاب فوقه (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) فهذه الظلمات إذا أحاطت بالقلب بالغفلة عن ذكر الله خاصةً في الصَّلاة، فهل تصحُّ صلاةٌ بلا وضوء؟ الوضوء غسل الأعضاء والأطراف من الأوساخ التي تزول بالماء، ولكن هناك النجاسات التي تلوث القلب وتُنْتِنُ رائحته لملائكة الله عزَّ وجلَّ.
سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مرةً من عائشة عن ضَرَّتها صفية والنبي يذكرها فغارت منها، شأن الضَرَّة مع الضَرَّة، فقالت للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم: إلى متى تذكر صفية؟ - القائلة عائشة- حسبُكَ من صفية أنها قصيرة! إذا ما فيها عيب إلا أنها قصيرةٌ ولا زلت تقول صفية وصفية، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ يا عائشة! لقد قلت كلمةً لو ألقيت في بحرٍ لأنتنته (2) }

[سنن أبي داوود]

يا الله! هذه كلمة، قالت: يا رسول الله! ما قلت إلا ما فيها، لم أكذب، فقال: لو قلت غير ما فيها لبَهَّتِيها وكنتِ صاحبة كذبٍ وافتراءٍ وبهتان.

ثمرات الإسلام بمعناه الحقيقي
فأين الإسلام حسب القرآن؟ أين الإسلام حسب التربية النبوية؟ أين الإسلام بمعناه الحي الحقيقي حتَّى نقطف ثماره سعادةً في الدنيا ونصراً في حروبنا وعزةً أمام أعدائنا وتقدُّماً في كل مسيراتنا وعزةً ورفعةً بلا توقف، إلا إذا توقفت عن الله:

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
[سورة الصف]

أيضاً أن نستعيذ بالله من غاسقٍ إذا وقب، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إذا أذنبَ العبدُ ذنباً نكتت نكتةٌ سوداءُ في قلبه (3) }

[سنن الترمذي]

إذا أذنبت بلسانك تكلمت بالحرام والكذب والغش والمكر والخديعة والظلم والإيذاء وتحقير الآخرين، إذا بأذنك :

وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
[سورة القلم]

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
[سورة الفرقان]

اللغوُ هو الذي لا يُضرُّ ولا ينفع -كلام الثرثرة- فالله وصف المؤمنين بأنهم يُكرِّمُون أنفسهم من أن يكونوا في مجلس اللغو، فكيف إذا كان مجلس الحرام الغيبة والنميمة والفساد والإفساد وإيقاع العداوات؟ هذا شأن النمامين والمفسدين في الأرض بين النَّاس فكيف؟ فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال لعائشة: كلمتكِ لو ألقيت في بحرٍ لأنتنته، وهي ماذا قالت؟ قالت: ما قلت إلا ما فيها! ما قالت إلا صدقاً.

قراءة القلوب الطاهرة للقرآن الكريم
فإذا كانت القلوب طاهرةً وتلت القرآن فتتحول كلمات القرآن إلى نور.. الكهرباء نور، طاقةٌ وتيارٌ تُحرِّكُ المعامل وترفعُ الأثقال وتعمل، وكذلك إذا دخل نور الله في القلب وسَرى في الروح محبةً وذكراً وحضوراً يُعطي النفس طاقةً وقوةً على امتثال أوامر الله، فلو بذلَ روحه وحياته في سبيل الله يجد نفسه كأنه في عرسٍ على ملكة جمال، وإذا كان القلب مظلماً بظلمات المعاصي والآثام :

يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
[سورة إبراهيم]

لا يستطيع أن يُطيع الله في لسانه وسمعه وبصره ويده وماله وجاهِه وقُوَّته، (إذا أذنب العبد ذنباً نكتت نكتةٌ - نقطة - سوداء في قلبه) فإذا تاب واستعتب ورجَعَ مُحيت تلك النكتة، فإذا زاد، نقطةً فوق نقطةٍ فوق نقطة، فيُظلم القلب كله وهو الرَّان الذي قال الله عنه:

كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
[سورة المطففين]


الجليس الصالح وجليس السوء
(وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ) سواءٌ كان ظلمات الليل أو القلب أو المعاصي أو الجليس، يوجد جليسٌ إذا جالسته يُظلم قلبك وآخر إذا جالسته تزول ظلمات قلبك، رزقنا الله عزَّ وجلَّ الجليس الصالح، كان صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحْذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة }

[متفق عليه]

(الجليس الصالح كحامل المسك) إما أن يعطيك، يعني بلا مقابل، لا ترى إلا هبةً من الله، والله أحيا القلب ونوَّره بعد ظلامه، وإما أن يبيعك، تبذل الجهد وإلى آخره، وتُجاهد النفس وإما أن تشُمَّ منه راحة طيبة، (وجليس السوء كنافخ الكير) كالحداد، إما أن يحرقك بناره، يحرق دينك وأخلاقك ونفسيتك وأخلاقيتك واستقامتك، إما أن يُحرقك بناره أو يؤذيك بشراره، إذا لم يتلفك يصبح لك أذى، يعني يُفسد ثوبك أو يُحرق قسماً من جسدك أو تشُمَّ منه رائحة خبيثة.

الطبعُ يغلب التطبُّع
(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) الساحر كان إذا سحر يعمل عقداً بالخيط وينفخ عليها نفثاً فشبَّه الله عزَّ وجلَّ الذين ينفثون الشرور والفساد بين النَّاس، مثل النمامين الذين ينقلون الخبر أو يكذبون أو يأفِكُون أو يفتري ليُفرق بين الأحباب أو يُعكر صفاء الإخوان أو ليؤذي لأن من طبيعته الأذى.. مثل قصة الضفدع والعقرب، يقال: اجتمع ضفدعٌ وعقربٌ على شاطئ نهر، فالعقرب يريد اجتياز النهر إلى الطرف الآخر ولا يستطيع، فقال للضفدع: أتحلمني إلى الجانب الآخر؟ فقال صُنْعُ المعروف واجب، وأنا أحب الخير وخدمة المخلوقات لكنك لست ابن حلال، أنت مشهورٌ عنك أنك مؤذٍ أينما جلست، فأعطاه العهود والمواثيق أنه لن يؤذيه، فبعد ما حلفه الأيمان المغلظة ولكن قال: الطبعُ يغلب التطبُّع، القط مهما حلَّفته إذا رأيت بيت المونة مغلقاً وتريد وضع اللحم وإحضار البرغل وتريد وضعهم خارجاً وحلَّفت القط خمسين يميناً أن لا يقترب من اللحم يعني هل أيمانه مقبولة؟ هل يصدق فيما يحلِف؟ والمصيبة إذا حَلَفَ والمصيبة الأكبر إذا صَدَّقته، يقولون عن رجلِ تركيٍّ أنه دعا جماعةً على كبةٍ (أحد أنواع الطعام) فأحضر اللحم ونسيَ الجوز فوضعه ونسيَ أن يُغلق عليه، ولديه قطٌّ في البيت، فعاد ورأى اللحم عظَّم الله أجركم، وفوق ذلك القط جالسٌ على سجادة الصَّلاة ويستقبل القبلة ويفتح المصحف ويقرأ، أما اللحم عظَّم الله أجركم، قال له: قراءة تشوك، تقرأ كثيراً، ذمة يوك، أمانةٌ لا يوجد، فلا تغتروا بقراءة القطط.

خطورة شياطين الإنس تفوق خطورة شياطين الجن
كان سيِّدنا عمر يقول: أنا لست بالخبِّ، أنا لست خداعاً لا أخدع النَّاس ولا مكاراً، والخبُّ لا يخدعني، لست بالخبّ، المخادع الماكر، والخبُّ لا يخدعني، إذا عاملتم صِدِّيق زمانكم كونوا على حذر، إذا عاملتموني كونوا على حذر، لا تقولوا والله أنا عاملته لأنه رأيته بالجامع، توجد شياطين تدخل الجامع أيضاً، من شياطين الإنس الذين هم أخطر من شياطين الجن، فنستعيذُ من شر النفاثات وهي النفوس التي تَنْفُثُ الشرور من النميمة والكذب والمكر والخداع في العقد لتَفْرُطَ عقدَ وصحبة والتصاق المتحابين من أهلٍ وإخوانٍ وأصدقاء، فينبغي أن يكون المؤمن كيساً حذراً فطناً، أما الغباء وحسن الظن ورأيته في الجامع وكذا.. هذا من الغباء وليس من حسن الظن، هذا من العجز، كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ اللهم إني أعوذ بك من العجز ومن الكسل (4) }

[صحيح البخاري]


الاستعاذة من الحسد

وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(5)
[سورة الفلق]

(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) النفوس التي تنفث الشرور بأقوالها وكيدها ومكرِها وكذبها ونفاقها وإظهارها الحَسَن وهي تريد السوء، (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) فكذلك ذكر الله الحسد بشكلٍ خاص، فالحسد أول معصيةٍ وقعت مع الإنسان هي حسد إبليس لآدم عليه السَّلام، لما أمر الله ملائكته بالسجود لآدم فأبى إبليس وقال:

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12)
[سورة الأعراف]

وكادَ لآدم حتَّى أخرجه من الجنة، فهو نَفَّذَ مأربه الخسيس الخبيث حسدًا بلا حقٍّ ولا موجب، إذا أراد الله أن يُفضِّلَ النحل على الدبور فهل يُسأل الله عما يفعل؟

أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)
[سورة الزخرف]

هل تظن أنت أنه إذا كان غنياً فهذه نعمة؟ فقد يكون غناه سبب شقائه وهلاكه في الدنيا قبل الآخرة، أن يصيرَ ذا جاهٍ عظيم، قد يكون جاهُه سبباً لظلم النَّاس والعدوان وأكل الحرام والتَعدِّي على الفقراء.

الحالات التي يجوز الحسد فيها
كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلِكَتِهِ وإنفاقه في الخير ورجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يُعلِّمُها النَّاس }

[صحيح البخاري]

(لا حسد إلا في اثنتين) إذا أردت أن تحسُدَ ولا بد فنفذ هذه الغريزة في نفسك: (رجلٌ آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلِكَتِهِ وإنفاقه في الخير) الله أغنى رجلاً فعمَّر مسجداً ومدرسةً وأنفق على طلاب العلم وعلى أرحامه والفقراء في سبيل الله، احسده حسد الغِبْطة لا حسد أن تؤذيه وتشوِّهُ سمعته أو تَكذب عليه أو تُلقي الفتن بينه وبين أنداده، فالحسد حسد الغِبْطة، إذا أردت أن تحْسُد فاحْسد حَسد الغِبْطة بأن تتمنى نعمةً مثل ما أنعم الله على من رأيته مُنْعَماً عليه، قل: يا رب أعطني كما أعطيته وأعزَّني كما أعزَزَته وأكرمني كما أكرمته، هذا اسمه حَسَدُ الغِبْطة، حسدٌ ولكن لا يريد الإيذاء أو الإضرار بالمُنْعَمِ عليه ولكن يتمنى أن يُعطيه الله مثل نعمته هذا لا مانع منه، (رجلٌ آتاه الله مالاً -أغناه- فسلَّطه على هلِكَتِهِ في الخير، ورجلٌ آتاه الله الحكمةَ فهو يُعلِّمها النَّاس)(5) آتاه الله العلم والحكمة فهو يُعلِّمُ النَّاس الحكمة والصواب في القول والعمل وفِعْلُ ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي يُعلِّمُ النَّاس ما يُسعدهم ويُحذرهم من ما يُشقيهم.

ذم الحسد
(وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) كان عليه الصلاة والسلام يقول في ذَمِّ الحسد وما يتبعه من غلٍّ وحقدٍ في الحاسد على المحسود، وهذا دائماً يقع بين المتماثلين والمتشابهين والمتقاربين بعضهم مع بعض، إن كان قربَ الجوار تجد الجار يحسُدُ الجار، أو في التشابه في العمل الطبيب قد يحسُدُ الطبيب، والضَرَّة تحسد ضّرَّتها والأخ يحسُدُ أخاه حتَّى يصل إلى درجة ما قصَّه الله في سورة يوسف، على منامٍ وهو لا يزال طفلاً غلاماً -سيِّدنا يوسف- فكيف إذا كان الشيء أكبر من منام؟ لذلك كان يأمرنا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمةٍ محسود (6) }

[المعجم الكبير للطبراني]

حمانا الله يا بنيّ من الحسد، يقول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إن الحسد يأكلُ الحسنات كما تأكلُ النَّارُ الحطب (7) }

[سنن أبي داوود]

قالوا: يا رسول الله! كلنا يحسُد؟ يعني إذا رأى الرجل أخاه وجاره وشريكه وقريبه بنعمةٍ فيوجد منهم من تضيق نفوسهم إذا رأوا نعمةً على الآخرين.

النهي عن التَطَيُّر
وقالوا: نهيتنا عن التَطَيُّر، وهو التشاؤم بالمكان والله هذا المكان نحس، هذا اليوم وهذا الشهر نحس، هذا الجيل نحس، هذا أيضاً نهى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عنه ويسمى بالطِيَرَة والتَطَيُّر، قالوا: نهيتنا عن الحسد وكلنا يحسُد، يقع في قلبه لما يرى أخاه أو جاره أو رفيقه أو كذا، ونهيتنا عن التَطَيُّر وكلنا يَتَطَيَّر ويتشاءم، فقال:

{ إذا حسدت فلا تبغِ وإذا تطيَّرت فأمضِ وإذا ظننت فلا تُحقق }

[المعجم الكبير للطبراني]

(إذا حسدت) وقع في نفسك شيءٌ نفسيٌ فدعه في الداخل ولا تُخرجه إلى الخارج كعمل، (إذا حسدت فلا تبغِ) لا تظلم ولا تتعدى على المحسود فتؤذيه في قولٍ أو عملٍ أو مضاررة، (وإذا تطَيَّرت) إذا تشاءمت من يومٍ أو مكانٍ أو كذا (فأمضِ) لا تتوقف عند هذه الأوهام الخيالية الكاذبة، اخرقها وتجاوزها، (وإذا ظننت) لما نهى الله عن سوء الظن:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)
[سورة الحجرات]

قال: (وإذا ظننت فلا تُحقق) (8) لا تلحقه، يحمل زجاجة خمرٍ فتلحقه وتسأله أين كنت وأين جئت ومن رآه يأتي من عند بائعِ الخمر، ماذا نريد بكل هذه الغَلَبَة؟

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
[سورة المائدة]

وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في هذا الموضوع:

{ دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحمَّد بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلام بَيْنَكُمْ }

[سنن الترمذي]

(دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ) كما هو دبيب النمل يدبُّ على وجه الأرض من الدابة ودبيبها وجريها ومشيها، (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ) (9) فسمَّاه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا مرضاً بل داءً وهذا داءٌ عُضال.

الحسد كان سببًا للقتل
سيِّدنا آدم عليه السَّلام رُزِقَ بهابيل وقابيل، حملت حواء عشرين مرة، كلَّ مرةٍ تلد توأماً ذكراً وأنثى. فكان سيِّدنا آدم عليه السَّلام يُزوج الذكر في التوأم الأول للبنت في التوأم الثاني، فقابيل أخته التي نزلت معه كانت جميلة، وهابيل أخته التي نزلت معه لم تكن جميلة، فعلى حسب شريعة آدم عليه السَّلام هابيل سيأخذ أخت من؟ أخته التي نزلت معه أم التي نزلت مع أخيه؟ التي مع أخيه هي الجميلة بحكم الله، فقتل أخاه هابيل ليفعل ما هَوَتْ نفسه الأمَّارة بالسوء، فهذا كان أول حسدٍ وقع في الأرض وكان ما كان حسب ما قصَّه القرآن، وقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ أول معصيةٍ وقعت في الأرض قتل قابيل لأخيه هابيل }

[لم أجد تخريجه]

والسبب هو الحسد، مع أنه يا بنيّ كم من امرأةٍ جميلةٍ مثلما قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إياكم وخضراءَ الدِمَنْ (10) }

[مسند الشهاب القضاعي]

قد تكون جميلة الشكل لكن قبيحة الإنتاج، لا تُنجب الأولاد الفُضلاء والعُظماء بل الأولاد الأخِساء الحقيرين الدنيئي النفس الذين لا يتعلَّقون بفضائل الأعمال وجلائلها والأخلاق والصفات :

وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
[سورة البقرة]

والإيمان كان يعني العلم والأخلاق والتربية والحكمة، كان يعني الإنسان الكامل بالمفهوم القرآني حسب زمن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، الآن بقي مفهوم الإيمان عند النَّاس هو الأماني:

لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
[سورة النساء]

فأمرنا الله في السورة أن نستعيذ من شرِّ الحاسدِ إذا حَسَد، وأمرنا من جملة ما يُعيذنا منه (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمةٍ محسود) (11)، ونستعيذُ بالله أيضاً أن يحمينا من كيدِ الحاسد وشروره ومؤامراته ونميمته وإفساده.

قصةٌ في فساد الطباع
يُذكَرُ أن إنساناً أراد أن يشتري عبداً، فنزل إلى سوق العبيد فرأى عبداً من العبيد طويلاً وضخماً وهيئته تملأ العين، لكن قيمته رخيصةٌ جداً، فسأل البائع: لماذا؟ قال هذا يوجد به عيب، لا نريد أن نغُشَّ المشتري، فقال: ما هو عيبه؟ قال: هذا نمام ومُفْسِدٌ بالكلام، قال له: إذا كان يساوي مئة ليرةٍ من الذهب وعرضوه بخمسة ليرات، فأخذه، فأخذه إلى البيت ومع أنه نمامٌ وخبيثٌ ومفسد، وفي يومٍ من الأيام جاء إلى زوجة سيده وقال لها: هل لديك خبر؟ فقالت: خيراً إن شاء الله؟ زوجك تزوج عليكِ، وحتَّى عبَّأ رأسها أن زوجها تزوج عليها، وذهب وقال لزوجها: أن زوجته تخونه، فبمقدار ما عبَّأ المرأة وهي مسكينة وستُجَنُّ في هذه الحالة، ثبَّتَ الله علينا العقل والدين، فما العمل؟ قالت: هذا يلزمُه الذبح، الخلاصة: تركته يوماً لم تذبحه، قال لها: أحضري لي سبع شعراتٍ من عند حلقه! من لحيته وأنا أسحره لك وتتبخرين بهم ويُطلقها، فصدقته، وذهب وقال للزوج: زوجتك هذه تريد أن تذبحك، تعشق رجلاً وتريد التخلص منك ولا تتخلص فقررت ذبحك الليلة، فقال: هذه الليلة مَثِّل أنك نائم وانظر بعينك لتعرف أني من الصادقين ولست من الكاذبين، لعنة الله على مثل هؤلاء، ذهب الرجل على حسب ما قال العبد، مَثَّل أنه نائم، وتلك المسكينة أحضرت موس الحلاقة، فتركته حتَّى نام ورفعته من ذقنه ووضعت الموس لتأخذ كم شعرة، وهو حضر الخنجر بجانبه، فلما رآها ستذبحه أخذ الخنجر وضربها فأرداها قتيلة، بلغ أهلها فهجموا عليه أيضاً فضربوه بالخناجر، فالفساد والإفساد من الحسد والطبع.

الطبعُ غلب التَّطبُّع
فقال الضفدع: كيف سأُركِبُك وأنت من طبعك الفساد؟ حلفت الأيمان بالله، لكن يا بنيّ العقرب والأفعى إذا حلفا الأيمان بالله الذي يصدقه ألا يكون غبياً؟ فأعطته العهود والمواثيق، فلما وصلت لنصف النهر قرصها العقرب، وقرصة العقرب هل هي هيِّنةٌ يا بنيّ؟ الضفدع من شدة الألم قال له: أين العهد والمواثيق؟ قال له: أعطيتك العهد والمواثيق، لكن ألا تعلم أن الطبع غالب؟ هذا طبعي، والطبع تحت الروح، من الممكن أن يستغني المرء عن روحه لكن لا يستغني عن طبعه، فغاص الضفدع بقاع النهر والعقرب أشرف على الغرق، فناداه ألم تعطِ العهد والمواثيق أن توصليني إلى الطرف الآخر؟ فقالت له: أنا أيضاً من طبعي الغوص، ما دام من طبعك الأذى وقرصتني وأنا أيضاً سأعمل بطبعي:

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
[سورة الشورى]

حمانا الله يا بنيّ من الحاسد إذا حسد ومن مرض الحسد.

داء الأمم الحسد والبغضاء
كان صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسدُ والبغضاء) من الحسد تحصل الكراهية والحقد والعداوة والتخريب، (وهي الحالقة، لا أقول حالقةَ الشعر، ولكن حالقةُ الدين) الحاسد يبقى مؤذياً، يغتاب وينمُّ ويُخرِّبُ ويُفسِد ويرمي العداوات والبغضاء حتَّى دينه كله -نسأل الله العافية- فلا تنفعه صلاته :

فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
[سورة الماعون]

وحجُّه أيضاً لا فائدة منه، وصومه:

{ من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدًا (12) }

[المعجم الكبير للطبراني]

وليس الصوم من الطعام والشراب، إنما الصوم من اللغوِ والرفث، اللغو هو الكلام الذي ليس فيه إثمٌ والرَفَثْ هو الكلام الفاحش، أما الكلام الذي يكون فيه خرابٌ وتخريبٌ وإيذاءٌ وعدوانٌ على حقوق النَّاس وكراماتهم وأموالهم وأعراضهم، نسأل الله العافية، هذا صلاته وصومه، هل هذا صائم هكذا؟ كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع وكم من قائمٍ في الليل ليس له من قيامه إلا السَّهر (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)).

البعد عن المفسدين والنمامين
فأمرنا الله أن نستعيذ ونلوذ، لم يقل لُذْ بأبيك وأخيك، لأن هذه الشرور لا يحمي منها إلا الله عزَّ وجلَّ، وإذا أردت أن تستعيذ بالله لا بالكلام بل بالكلام والطاعات والتقوى:

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ (114) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
[سورة هود]

بالدعاء والتضرع والبُعد عن صحبة أمثال هؤلاء النمامين والمُفسدين الذين يسعون في الأرض فساداً، كطبيعة العقرب مهما أعطى العهود والمواثيق فمن طبعه الأذى، ولذلك قال الله:

وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10)
[سورة القلم]

(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) لا تُطعه ولا تُجالسه ولا تُصاحبه (كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) ويثبِّتُ لك كلامه بالأيمان: والله العظيم وهو كاذبٌ وكاذبٌ وكاذب، ويريد الإيذاء والفساد والإفساد وهذا حقيرٌ ومَهِيْنٌ في كتاب الله وشرعه ودينه، فلو عظَّمك أهل الأرض والسماء وحقَّرَك الله فهل أنت كريمٌ أم حقير؟ لا جعلنا الله حقراء في نظر الله ولا حقيرين في كتابه (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ) دائماً يلاحق عيوب النَّاس ونقائصهم، يا تُرى هل تَذَكَّرَ نقائصه وهل ذَكَرَ عيوبه وهل تضرُّه عيوب النَّاس؟ التي تضرُّه هي عيوب نفسه ورذائلها، انظر إلى ما فيكَ يكفيك.

حاجة النفس إلى المُعلِّم
لكن يا بنيّ الأرض التي لا مزارع لها ماذا تُنْبِتُ وتُربي؟ تُنْبِتُ الأشواك وما لا خير فيه، وتُربي الأفاعي والحشرات السامة المؤذية، وكذلك الإنسان إذا لم يكن له الوارث المُحمَّدي الذي يُعلِّمُهُ الكتاب والحكمة ويُزكِّي نفسه، القمح لماذا؟ ليكون خبزاً وغذاءً وقوتاً، الحليب لماذا؟ ليكون قوتاً وغذاءً، فالعالم لماذا؟ العالم لتتعلَّمَ منه القرآن، القرآن يعني معانيه وحقائقه وواجباته لتؤديها ومحارمه لتجتنبها وخلائقه لتتخلَّق بها، فإذا لم يُعلِّمكَ القرآن وتعلَّمت القرآن على هذا المستوى فلو كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم موجوداً لم تستفد منه، لأن مهمة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُعلِّم الكتاب، فإذا رأيت بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وارثاً يُعلِّمُ الكتاب فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال:

{ العلماء ورثة الأنبياء (13) }

[سنن ابن ماجه]


صحبة ورثة الأنبياء
فلو ذهبت للمدينة ودفعت خمسين وسبعين وثمانين ومئة ألفٍ لترى نافذةً من نحاسٍ وقبةً من آجُر أو بناء حسب ما بُنيت له، أما يا ترى لو رأيت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هل أعظم من أن ترى شخص النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ المنافقون رأوا شخص النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، هل نفعتهم رؤية شخصه؟

وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
[سورة الأعراف]

(وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) إلى جسدك(وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) يعني نبوتك وعلمك وحكمتك وتزكيتك، فيوجد أناسٌ رأوا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فازدادوا لعنةً وكفراً وغضباً وسخطاً من الله، ويوجد أناسٌ لم يروا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولكن كرَّمَهُم الله بصحبة ورثة الأنبياء فتعلَّموا العلم علم الكتاب والحكمة وتزكَّت النفوس.
فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ وددتُ لو أني أرى إخواني، قالوا: ألسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني }

[صحيح مسلم]

(وددتُ لو أني أرى إخواني) ماذا سماهم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ الذين لم يروه لكن تمسَّكوا بورثته واهتدوا بهديه، قال: (وددتُ لو أني أرى إخواني) قالوا: ألسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: (أنتم أصحابي، إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني) (14)، ويقول في حديثٍ آخر:

{ العاملُ بسنتي عند فساد أمتي له أجر خمسين رجلاً منكم، قالوا: منا يا رسول الله؟ قال منكم، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: لأنكم تجدون على الخير أعواناً ولا يجدون على الخير أعواناً }

[المعجم الكبير للطبراني]

(العامل بسنتي) بطريقتي، لتصبح حداداً يا بنيّ هل تصبحُ من غير معلم؟ الحدادة أعظم أم ما تعلَّمهُ الصحابة من النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مثل أبي بكر أعظم؟ الذي تعلموه الصحابة، الصياغة أعظم أم ما استفاده الصحابة من النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أعظم؟ فإذا أدى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم المهمة ولكن تركَ الوكلاء من بعده، إذا ذهب الطيار فنائب الطيار يقود الطائرة إذا ركِبْتَ معه عَلَوْتَ في السماء، وإذا أردت الطيار الأول وهو مريضٌ أو مات ولا تريد إلا أن تركب مع الطيار الأول فستبقى في أرضك لو بقيت ألف سنة.

العمل بالسنة عند فساد النَّاس
(العاملُ بسنتي عند فسادِ أمتي له أجرُ خمسين رجلاً منكم) النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يخاطب من؟ الصحابة الكرام، قالوا: منا يا رسول الله؟ قال منكم، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: (لأنكم تجدون على الخيرِ أعواناً ولا يجدون على الخيرِ أعواناً) (15)، فما أحلى يا بنيّ الفقه في الدين، ما أجمل أن نتعلم القرآن بحقيقته وأهدافه ومعانيه للعمل به ثم التعليم لمن لا يعلَمُه، فإذا فعلنا ذلك نأخذ اللقب النبوي والوسام المُحمَّدي الذي يقول فيه صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ألا أخبركم بالأجود؟ الله الأجودُ الأجود، وأنا أجودُ بني آدم، وأجودهم بعدي رجلٌ تعلَّم علماً فعلَّمهُ يُحْشَرُ يومَ القيامةِ أمةً وحده }

[مسند أبي يعلى]

(ألا أخبركم بالأجود؟) الأفضل والأكرم والأحسن، (الله الأجودُ الأجود، وأنا) يعني النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم (وأنا أجودُ بني آدم، وأجودهم بعدي رجلٌ) ليس المقصود الذكور بل الإنسان (رجلٌ تعلَّم علماً فعلمه يُحْشَرُ يوم القيامة أمةً وحده) (16)، فمن صار الأجود يُقابله الأخبث الذي يُعلِّمُ الفساد وينشر الإفساد، يفعل الشرَّ ويعلِّمُه والخبث ويُعلِّم النَّاس الخبائث، جعلنا الله يا بنيّ الجليس الصالح كحامل المسك :

{ إما أن يعطيك وإما أن يبيعك وإما أن تشم منه رائحة طيبة (17) }

[صحيح البخاري]

{ دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء وهي الحالقة، لا أقول حالقةُ الشعر ولكنها حالقةُ الدين (18) }


نشر السَّلام يؤدي إلى المحبة

{ ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السَّلام بينكم (19) }

[سنن الترمذي]

السَّلام ليس قولاً، فتقول السَّلام عليكم بالقول والأذى عليكم في الغياب، السَّلام عليكم في الحضور وإذا غابَ عنكَ ينزلُ بخاصرتك وظهرك ورقبتك طعناً وجرحاً ونميمةً وتخريباً وتحقيراً وتصغيراً وإيذاءً (أفشوا السَّلام بينكم).

{ المؤمن يألَفُ ويُؤلَف، ولا خيرَ في مَنْ لا يَألَفُ ولا يُؤلَف (20) }

[المعجم الأوسط للطبراني]

{ لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يأمَنَ النَّاس بوائقه (21) }

[صحيح البخاري]

غدره ومكره وخديعته.

{ لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يأمَنه النَّاسُ على أموالهم وأعراضهم (22) }

[المعجم الأوسط للطبراني]

الأعراضُ ليست النساء فقط، العِرضُ يشمل موضع المدح والذم، إذا حَضَرَ يمدحُك، وإذا غابَ ذمَّك وقَدَحَ في عِرضك:

{ المؤمن من أمِنه النَّاس على أموالهم وأعراضهم، والمُسلم من سلِمَ النَّاس من لسانه ويده (23) }

[صحيح البخاري]


الإيمان العلمي والعملي بسورة الفلق
فهل أنتم مستعدون أن تؤمنوا بسورة الفلق؟ الإيمان العلمي والعملي وبعده ماذا؟ والتعليمي، تُعلَّمون السورة لمن لا يعلمها بأقوالكم وأعمالكم ومعاملاتكم، ومن تَعَلَّم وعمِلَ ثم علَّم -هذا كلام سيِّدنا عيسى عليه السَّلام- دُعِيَ عظيماً في الملكوت الأعلى، إذا ذُكِرَ في الملئ الأعلى بين الملائكة يقولون فلانٌ العظيم، خالدٌ العظيم، سعدٌ العظيم، سعد الدين العظيم، جعلنا الله عظماءً عنده وفي الملئ الأعلى وجعل القرآن لنا:

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
[سورة الإسراء]

اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبِعُون أحسنه، وصلى الله على سيِّدنا مُحمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

زيارة وفد وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات
اليوم شرَّفنا وفدُ وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف في دولة الإمارات، الشَّيخ عبيد العقروبي وكيل الوزارة، الشَّيخ مُحمَّد أمين ناصر أبو ناصر رضي الله عنه وعَنْ مَنْ معه، من كبار العلماء، والدكتور الشَّيخ مُحمَّد سليمان الفرج من كبار العلماء، فأهلاً وسهلاً بكم بلساني وبلسان الإخوان وإذا تكرمتم علينا بإلقاء كلمةٍ لمدة خمس أو ست دقائق باعتبار تداركنا الوقت نكون لكم من الشاكرين.

كلمة رئيس الوفد:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا مُحمَّد أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، قبل أداء التحية وإن كانت هي أولاً في الوجوه الرضية أُعرِّفُ نفسي أنني خادمٌ لإخوتي وما تقدَّمْتُ لفضلٍ عليهم ولكن بفضلٍ منهم، زميلي رئيس الوفد الشَّيخ عُبيد بن راشد العقروبي، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يُكرمه ويُسدِّد خطوته ويُبارك مُهمته، وأخي وأستاذي فضيلة الدكتور مُحمَّد سليمان فرج، الذي هو في مجال الجهاد في الدعوة إلى الله ما لا يزيده تعريفُنا عَرْفَاً وطِيباً، فلعلنا قد شممنا وشممتم أو سمعتم عن هذا الرجل المبارك من أهل الله، وأما أيضاً لا يسبقُ التحية موقفي بين يدي فضيلة شيخي وأستاذي المعلِّم والمدرِّس المُؤصِّلِ لأصول الدرس والمُجدِّدِ لمعنى إصلاح النفس سيدي الأستاذ الفاضل الدكتور أحمد أمين كفتارو حفظه الله ورعاه شيخاً وإماماً ومربياً وأرجو أن أُجدِّدَ بين يديه مع صحبي ووفدي محبةً هي أوثق عُروات العلاقات، ثم أقول ما قالته روحي ساعة الوقوف بين يديكم: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
فباسم رئيس وفدنا وأخي فضيلة الدكتور مُحمَّد سليمان فرج أشكر وفادتكم وكرامتكم واستقبالكم وتقديمَكم وإقدامكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يُبارك هذه النعمة وأن يُسبِغَها على أمة مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، سمعت أخي الأستاذ الشَّيخ عبيد بن راشد العقروبي يقول: إنما يُفرِّحُني في مجلس الشَّيخ أحمد كفتارو أني لا أراه يتكلم إلا عن تجديد أصول البحث في أدواء الأمة وشفائها حتَّى لو كانت الجلسة لا تعدوا خمس دقائقٍ لا تجده يدخل فيها من أحوال ابن آدم الاجتماعية وحساسيته النفسية وكأن ابن آدم إذا جلس مع الشَّيخ أحمد كفتارو يتحوَّل إلى ملكٍ يُطِلُّ على الدنيا ليُصلحها.
هذه كلمةٌ سمعتها وإن كنت بديباجة كلامي، فرح أخي رئيس وفدنا بهذا المعنى .. أن الحياة فراغُها إذا مُلئ بالذباب فإنما هو الأذى والمرض، وأن الحياة هواؤها إذا كان يجلب أمراض النفوس وإذا كان يُؤثِّرُ في تلوث الأجواء فإن النفس أولى بها أن تَنْفِرَ من تلوُّثِ أجواء الأرواح من نفورها من تلوث أجواء الهواء، وإذا كانت الأمم قد آذاها التلوُّث فإني أدعوها جميعاً إلى مجلس الشَّيخ أحمد كفتارو لترى كيف يُزيلُ الله التلوث من النفوس والأرواح ثم بعد ذلك ستجدون أجواءكم صافيةً نقيةً.
لا أريد أن أُطيل عليكم، أسأل الله أن يبارك لنا ولكم في هذه المواقف وأن يجعل هذه العلاقات المباركة وهذا البلد المبارك ورئيسه وحكومته وشعبه على ما علِمنا من رئيسنا حفظه الله، وحُبِّ شعب الإمارات لشعب هذا البلد، وما قام به الشَّيخ أحمد كفتارو من توثيق العلاقات وضبط إحسان صِدْقِ النيات وإبدائها بأطيب الكلمات ما هو إن شاء الله مشكورٌ عند الله ورسوله، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله أن يُديم لنا ولكم تجديد هذه المواقف وأن يُطيل في عمر شيخنا فضلاً من الله ونعمة، فما سألنا الله كثيراً إن سألناه طول العمر بالشَّيخ، عسى الله أن يُريه إن شاء الله ما يُؤمَّل في أمة مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تعقيب الشَّيخ أحمد كفتارو رحمه الله:
بارك الله فيك أيها الشَّيخ ناصر وأبا ناصر وبالإخوان جميعاً بإيمانهم وعلمهم، أكثروا من ذكر الله يا بنيّ وأكثروا من التأمل عند قراءتكم للقرآن لتنلقوه من كلماتٍ وحروفٍ إلى أخلاقٍ وأعمالٍ وسلوكٍ، وإلَّا:
رب تالٍ يتلو القرآن بفيه وهو يفضي به إلى الخذلان
{ شعر قديم }

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
[سورة الإسراء]

اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبِّعُون أحسنه، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وآله وصحبه، ولا فَضَّ الله فاكَ، يسرُّنا ذلك والله، نتبارك:

إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (30)
[سورة النمل]

أهلاً وسهلاً.

كلمة أحد القادمين من الوفد:
السَّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّد رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد:
فبعد أن تكلم الأخ الحبيب الأستاذ الفاضل أبو ناصر ووفَّى وكانت كلمته نوراً وتعبيراً صادقاً عن ما في قلوبنا فلا أستطيع الزيادة إلَّا أن أقول: هنيئاً لكم بشيخنا العظيم، أمدَّ الله في عمره، وهذا البلد الكريم الذي نرى فيه روحاً نورانيةً تسري وعلوماً حقيقيةً تعيد لنا مجد سلفنا الصالح، عندما نرى إقبالكم على القرآن ونرى المدارس الشرعية التي توجِّهُ النَّاس وتُدرِّبُهم وتُزكِّي نفوسهم نعلم أن الأمة بخيرٍ وأن الله سبحانه وتعالى سينصُر هذه الأمة وسيُعيد لها مجدها وأنَّكم والحمد لله تتمتعون بميزةٍ عظيمةٍ وهي حبُّكم وتعظيمكم لسيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وذلك ببركة توجيه شيخنا العظيم وإمامنا المبارك فضيلة العلامة سماحة المفتي الأكبر الدكتور أحمد كفتارو لأنه غرس فينا وفيكم وملأ العالم كُلَّه بكلامه وخطبه ودروسه وتوجيهاته حبَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وإن كان لا بد لي من كلمةٍ ونحن في يومٍ وهو يوم الجمعة والحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ أكثروا من الصَّلاة عليَّ في الليلة الغراءِ واليوم الأزهر }

[الألباني في ضعيف الجامع]

وصلاتنا على الحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم ومدحُنا له ونقدم له تحيةً في هذا اليوم بمدحِهِ في القرآن العظيم، إن الناظر في كتاب الله تعالى يجدُ عجباً، أنت تتعبدُ بكلام الله مدحاً في رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مئات بل آلاف الآيات، اقرأ تجد الله تعالى يُكرِّمُ هذا النَّبيّ العظيم على العالمين والخلق أجمعين، لأنه عندما كرَّمَهُ على الأنبياء ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال:

{ أنا سيد ولد آدم ولا فخر (24) }

[أخرجه الترمذي]

ورب العالمين بعد أن ذكر ثمانية عشر نبياً ورسولاً في سورة الأنعام قال:

وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ۚ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
[سورة الأنعام]

فهو أفضل العالمين بنصِّ القرآن والحديث الصحيح، ثم بعد ذلك انظر أن الله كرَّمَ أمته على سائر الأمم:

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
[سورة آل عمران]

وجعلنا شهداءَ على الأمم، كرَّمَ الله تعالى آل بيته تكريماً خاصاً وفرض علينا الصَّلاة عليهم:

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
[سورة الأحزاب]

كَرَّمَ ابنته فاطمة رضي الله عنها وجعلها سيدة نساء العالمين، وجعل ولديها الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وجعل عمَّه سيد الشهداء، كَرَّمَ أصحابه على أصحاب الأنبياء جميعاً وذكرهم في التوراة والإنجيل:

مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ (29)
[سورة الفتح]

كَرَّمَ نساءه على نساء الدنيا:

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32)
[سورة الأحزاب]

كَرَّمَ الله حتَّى حُجراته التي كان يسكن فيها وجعل لها سورة الحجرات:

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
[سورة الحجرات]

كَرَّمَ زمنه على سائر الأزمان:

{ خير القرون قرني (25) }

[صحيح مسلم]

كَرَّمَ الله تعالى بلدهُ على سائر البلاد:

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2)
[سورة البلد]

كَرَّمَ الله نسَبَهُ:

وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
[سورة الشعراء]

كَرَّمَ الله تعالى وجهه:

قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
[سورة البقرة]

كَرَّمَ الله صدره:

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
[سورة الشرح]

كَرَّمَ يديه:

إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
[سورة الفتح]

كَرَّمَ بصره:

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17)
[سورة النجم]

كَرَّمَ فؤاده:

مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ (11)
[سورة النجم]

كَرَّمَ خُلُقَه:

وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
[سورة القلم]

كَرَّمَه كُلَّه فأقسم بعُمرِه ولم يُقسِم بغيره:

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
[سورة الحجر]

واقرأ القرآن تجد مدحَ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُكرِّمُ حتَّى ما يراه في المنام:

لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
[سورة الفتح]

يُكرِّمُ خاطره:

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
[سورة الأنعام]

وهكذا اقرأ القرآن العظيم لترى الله تعالى يُصلِّي عليه بذاته ويأمر ملائكته ويتَعَبَّدُنا بالصَّلاة عليه، فندعو الله تعالى أن يجعل هذه الكلمات تحيةً لحبيبنا صلَّى الله عليه وسلَّم في ذلك اليوم وأن ينفعنا بهذا العلم ومجلس العُلماء وبشيخنا العظيم وأن يُبارك في بلدكم الكريم وأن يجعل هذا اليوم المبارك يوم الجمعة يوم المغفرة وإجابة الدعاء، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم.

الحواشي
(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، رقم: (4330)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام ...، رقم: (1061).
(2) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب: في الغيبة، رقم (4875)، بلفظ: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته».
(3) سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ومن سورة ويل للمطففين، رقم: (3334)، سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، رقم: (4244).
(4) صحيح البخاري، كتاب الدعوات: باب التعوذ من غلبة الرجال، رقم: (6363) بلفظ: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل، والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال)).
(5) صحيح البخاري باب إنفاق المال في حقه (2/ 108) ورقم (1409).
(6) المعجم الكبير، الطبراني، (20/94). شعب الإيمان، البيهقي، رقم: (6228) ، (9/34) و اعتلال القلوب للخرائطي (2/ 335) رقم680.
(7) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في الحسد، رقم: (4903).
(8) المعجم الكبير للطبراني، رقم: (3227)، (3/228)، الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم، رقم: (1962)، (4/17)،
(9) سنن الترمذي، أبواب: صفة القيامة والرقائق والورع، رقم: (2510)، أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، باب مسند الزبير بن العوام رضي الله عنه، رقم: (1412)، بلفظ: ((دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحمَّد بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلام بَيْنَكُمْ)).
(10) مسند الشهاب القضاعي، رقم: (957)، (2/96).
(11) سبق تخريجه.
(12) المعجم الكبير للطبراني، رقم: (11025)، (11/54).
(13) سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223). وأبو داود، أول كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، رقم: (3641). والترمذي، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682).
(14) صحيح مسلم، كتاب الطّهارة، باب استحباب إطالة الغرّة والتّحجيل في الوضوء، رقم: (249).
(15) المعجم الكبير للطبراني، رقم: (5414)، (5/315)، حلية الأولياء لأبي نعيم، (8/200)، أمالي ابن بشران، رقم: (501)، (218)، بلفظ: ((المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد)).
(16) مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176).
(17) صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد: باب المسك، رقم: (5534)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب: باب استحباب مجالسة الصالحين... رقم: (2628) .
(18) سبق تخريجه.
(19) سنن الترمذي، أبواب: صفة القيامة والرقائق والورع، رقم: (2510)، أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، باب مسند الزبير بن العوام رضي الله عنه، رقم: (1412).
(20) المعجم الأوسط، الطبراني، رقم: (5787)، (6/58).
(21) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه، رقم: (5670)، وعند مسلم بلفظ: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)).
(22) المعجم الأوسط، رقم: (232)، (1/ 81).
(23) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، رقم: (10)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام وأيُّ أموره أفضل، رقم: (65).
(24) أخرجه الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (3615).
(25) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة: باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، رقم: (2533)، بلفظ: «خير أمتي القرن الذين يلوني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته».