تفسير سورة الفلق 1

  • 1996-09-27

تفسير سورة الفلق 1

الحمد لله رب العالمين، وأعطرُ التحيات وأزْكَى الصّلوات الطيبات المباركات على سيِّدنا مُحمَّد خاتمِ النبيين والمرسلين، والمبعوثِ رَحْمَةً للعالمين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم وعلى أخوَيْه سيدنا موسى وعيسى، وجميع إخوانه من النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ وصَحْبِ كُلٍّ أجْمَعين.

معنى الفلق
نحن الآن في تفسير سورة الفلق، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم:

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
[سورة الفلق]

الفلقُ هو كل شيءٍ يَنْخَرِقُ ويَنْقَسِمُ إلى شِقَّين ويخرج منه شيءٌ جديد، فالغمام يَنْفَلقُ عنه المطر، وينابيع الماء تَنفَلِقُ فيخرج منها الماء، وتَنْفَلِقُ الظلمات وتُشق فيخرج من بين شِقَّيْنِ نور الصُبْح:
يا نـــورَ كُلَّ شيءٍ وهُداه أنتَ الذي فَلَقَ الظُلمات نُوره
{ الأسماء الإدريسية }
والبذر يَنُفَلقُ فيَخرجُ منه الحب وتخرجُ من بعض حبوبه الأشجار الباسقات، وفيما يلي بعض الآيات التي توضح المعنى من القرآن الكريم:

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ ۖ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ (95)
[سورة الأنعام]

فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
[سورة الأنعام]


الخطاب للرسول صلَّى الله عليه وسلَّم خطابٌ لنا
قل يا مُحمَّد.. فنحن لما نَقرؤُها نقرأ ما أنزله الله على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقال له: قُل، فنحن نقتَدِي بما لَقَّنَ سيِّدنا جبريل لرسول الله صلًّى اللَّه عليه وسلَّم بنفس اللفظ الملائكي عن الله عزَّ وجلَّ، في الاستعاذة يَستَجِيْرُ الضعيف بالقوي، فالقوي مُعِيْذٌ والضعيف مُسْتَعِيْذٌ، وإذا أعاذ القويُ الضعيفَ وألجأه له فصار بيته مَلجَأً ومَعاذاً، فالله يأمر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ويأمر كل مؤمنٍ بعد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يَستَعيذ وأن يَلتَجِئ وأن يَستنصِرَ وأن يَستغِيثَ برب الفلق، فكلُّ ما في هذا الوجود مُنْفَلقٌ عن قدرة الله وإرادته، إذاً ربُّ الفلق يشملُ أيضاً ربَّ الخلق كلهم، لأن هذه المخلوقات انفلقت عن إرادة الله عزَّ وجلَّ الذي وصف نفسه بأنه فَاْلِقُ الحَبِّ والنَّوى وفَاْلِقُ الإصباح وفَاْلِقُ الإنسان من بطن أمه وإلى آخره.. فهذا الفلق.

التعوذ هو طلب الحماية والرعاية والنصرة
الاستعاذة هي الالتجاء وطلبُ الحماية والرعاية والنصرة، وكلُّ إنسانٍ بحَسَبه، إذا طلب إنسانٌ من الإطفائية أن تُعِيذَه من الحريق، فإذا قال: أعوذ بدائرة الإطفائية من الحريق الذي يشتعل في بيته، يا تُرى بمجرد اللفظ من غير أن يعمل ما يُوجِبُ حضور الإطفائية هل تَنْطفِئُ النَّار؟ وإذا هَجَمَ سبعٌ أو ضبعٌ أو مفترسٌ على الإنسان وهناك ملجأٌ، فطلب من إنسانٍ يستطيع أن يُعِيْذَه فقال له تفضل هذا هو الملجأ الذي يُعِيذُك ويَحفظُك مما تُسْتَعيذ منه، فإذا طلب الاستعاذة ولم يتقبَّل عملياً أن يلتجِئَ لها، فيكون طلبه كمن يطلب الطعام من المطعم ويُقَدَّمُ له الطعام ولا يأكل، ويقول لصاحب المطعم: أعوذ بك وأَلتجِئُ إليك من الجوع الذي أجده.. وإذا كان غريقاً وأشرف على الهلكة وصار يستعيذ ويَلتجِئ بالنَّاس ليُنْقِذُوه، فأدْنَوا له بحبلٍ ومَدُّوا له يد الإنقاذ، فاكتفى بالقول ولم يَستجِب إلى العمل فماذا تكون استعاذته؟ يا ترى جُنون! فاقدٌ لعقله أو مُستهْزِئٌ باستعاذته أو بالمُعاذِ به.

حالُ المسلمين مع القرآن اليوم
فهكذا حالُ المسلمين في قراءة القرآن الكريم لا يقرؤونه ليفهموه ولا يفهموه ليعملوا به، حتَّى إذا عَمِلُوا به لا تنتهي المسؤولية حتَّى يقوم المسلم فيُعلِّم الجاهل ما يَجهلهُ الجاهل وما يستطيع أن يُعلِّمهُ العالِم، ليس هذا في أمور الصَّلاة والصوم والحج والعبادات، لا، بل كل شيءٍ ينفع الإنسان في دينه من علومٍ ومعارف: طلب العلم فريضة، وكل شيءٍ ينفع الإنسان في دنياه في قوته في رفعة شأنِه في مكافحة فقرِه في معالجة مرضه، طلب العلم فريضة، فعِلْمُ الطِّبِ فريضة، واكتشاف المعالم واكتشاف الفضاء وبناء المصانع فرائض.

الإسلام دين عملٍ وبناء
كنت مرةً في دعوةٍ إلى باكستان، في آخر البرنامج كان اللقاء مع أيوب خان رئيس الجمهورية رحمة الله عليه، ففي أثناء الحديث سألني، قال لي: كيف وجدت الإسلام في باكستان؟ والباكستانيون كانوا يعتزون باستقلالهم لأجل أن يكونوا أحراراً في إسلامهم، فكان ينتظر أن يسمع كلمة الإطراء أو المديح في ذلك، فقلت له وما أعتقد: بأن الإسلام في باكستان ضعيف، فكأنه انزَعَجَ قليلاً وقال: كيف ضعيف؟ قلت له: زُرت باكستان قبل هذه المرة فرأيت مساجدها مكتظةً بالمصلين وهذا شيءٌ حسن، ومناراتها شاهقةً في الهواء وهذا شيءٌ جميل، والآن أتيت بعد عشر سنوات وكنت أنتظر أن أجد إلى جانب ومقابل كلِّ مسجدٍ مصنعاً، وأن أرى كل مئذنةٍ تُعانق مدخنةً، فأما الجوامع بلا مصانع، والمآذن بلا مداخن، فهل أستطيع أن أقول لك بأن الإسلام في باكستان قوي؟ فهذا ما يَغِيْبُ، غابَ في الماضي، و غائبٌ منذ مئات السنين عن أذهان علماء المسلمين والدين، وغائبٌ عن ملوك وخلفاء المسلمين، شغلوا النَّاس بالعبادات والأذكار وقيام الليل وهذا شيءٌ حسن :

﴿ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ ۚ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
[سورة الأنعام]

فهذا الأمر ماذا يقتضي؟ الوجوب، ولكن جاء في آيةٍ أخرى:

وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
[سورة الأنفال]

هل يوجد فرقٌ في الفَرضية والوجوب بين هذين الأمرين؟ إقامة الصَّلاة فرض، وإعداد السلاح لم نفهمها فرضاً ولا سُنَّةً حتَّى ولا حتى شيئاً كمالياً، هذا من غباء وبلادة الفهم والفكر العلمي الإسلامي والسياسي أيضاً.

الاستعاذة من العدو هو إعداد العدة لمواجهته
لذلك أعوذ برب الفلق ستلتجئ من أعدائك ومن الصهيونية ومن الاستعمار، الله يقول لك: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) قد أعطيتك من العقل والفكر والجوارح والأعضاء ما أعطيته لأعدائك وهم استعملوها فَنَفَّذُوا قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)، فهل أنت أيها المسلمُ المؤمنُ بالقرآن فَهِمْتَ وعَمِلْتَ ونَفَّذْتَ؟
نتسابق في حفظ القراءات السبع والعشر والأربع عشرة، لا بأس، يا تُرى ما النتيجة؟ أيهما أولى بالعناية والفرضية؟ إعداد القوة التي مَلَكَهَا العدو فأذلَّ المسلمين وعَمِل على إفناء الإسلام عقيدةً وأخلاقاً وقوةً، وامتص ثرواتها وخيراتها حتَّى صار العالم الإسلامي كله تحت سيطرة الاستعمار وتحقق في المسلمين قول الله تعالى:

وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
[سورة البقرة]

الذِّلُّ تَسلط العدوِّ والمَسْكَنَةُ هي الفقر، أليس العالم الإسلامي في حالة ذلٍّ بتسلط الأعداء عليهم؟ هذه فلسطين ما يجري فيها الآن عارٌ على كل المسلمين.. المسلمون كالجسد الواحد كما جاء في الحديث الشريف:

{ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى (1) }

[صحيح البخاري]


وضع المسلمين اليوم لا يدل على فقههم بدينهم
هل نحن نَفْقَهُ الدين؟ أليس هذا من الدين؟

{ مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ }

[صحيح مسلم]

هل بدأنا وخططنا؟ لماذا المسلمون خمسون دولة؟ ولماذا العرب اثنان وعشرون دولة؟ ألا يقول القرآن الكريم :

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
[سورة الأنفال]

جعلنا أمةً واحدةً فصِرْنا أمماً، هل هذا قرآن وإسلام؟ فعندما نريد أن نستعيذ برب الفلق ولما نطلب منه :

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
[سورة الفاتحة]

في سورة الفاتحة وهي في أول المصحف أليس كذلك؟ فيُجيبنا الله في السورة الثانية -سورة البقرة- تطلبون الهداية فهذه هي الهداية:

ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)
[سورة البقرة]

(ذلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) طلبتم؟ أنتم فقراء وأنا أملك الهِدَاية فتفضلوا هذه الهداية، الهِدَاية هديتي لكم كتابي، ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) هل قال للغافلين والجاهلين والفاسقين! (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أي بالآخرة والجنة والحساب والقيامة المغيبون عنا.

كيفية فهم طلب الهداية
فهَلْ أنت يا مسلم الذي يطلب في الفاتحة :

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
[سورة الفاتحة]

هل تفهم ماذا تطلب؟ ولما يُجِيبُك الله على سؤالك هل تفهم جوابه وعطاءه؟ لا تفهم جوابه ولا تقبل عطاءه، لا تقبل هديَ القرآن الكريم، تقبل هَدْيَ هَواك وأَناك ومصالحك ودُنياك، فكيف ووضعُنا بما نحن فيه؟ الله عزَّ وجلَّ يُريد أن يُغير ما بنا من السيء للحسن ومن الضعف للقوة:

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)
[سورة الرعد]

الآن أيها الأخوة والأخوات هل أنتم مستعدون لتَقبُّل هذه السورة بهَدَفِهَا ومعناها علماً وعَملاً وتَعليماً بأقوالكم وأعمالكم؟

نصرة دين الله هي الملجأ
(قُلْ) نروي كلمة قُلْ كما نزلت من السماء، ( أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) أي استعذ، وإذا استعذنا بالله عزَّ وجلَّ هل يَرفُضُنا ولا يُعِيْذُنا؟ بماذا يُعيْذُنا ؟

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
[سورة الإسراء]

فيُعِيْذُنا بنصره عزَّ وجل:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
[سورة محمد]

فالمَعاذُ والمَلجأُ والمَنجاةُ أن ننصر دين الله، فنُصرتنا لدين الله هو الاستعانة والنجاة والمعاذ من ما يُحيط بنا من أعداءٍ وأخطارٍ وكوارثٍ إلى آخره.. أما أن نقرأها من غير أن نُعِيْرَ من ذاكرتنا وذِهْنِنا ولا واحداً بالمئة إلى ما يقوله الله، فعامِلُ النظافة لو كلمك تَفْهَمُ كلامه كُله، ولو كلمك طفلٌ صغيرٌ تُفْهَمُ كلامه كله حتَّى لو كنت لا تُجِيْدُ بعض الألفاظ فتَجْتهد لتفهم مقصوده، كلام الله واضحٌ مبين، قال تعالى:

بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)
[سورة الشعراء]

وقال الله عز وجل :

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (22)
[سورة القمر]

هل من مُتَفَهِّمٍ ووَاعٍ؟

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
[سورة ص]

(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ) لماذا؟ ( لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ).

أهمية العمل مع الفهم
الآية يَقرَؤُها ويدرسها و يُحدد أهدافها وأوامرها حتَّى يستوعب كل ما يُرادُ منها عِلماً وعملاً، هل انتهت المسؤولية؟ لا، حتَّى يقوم فيُعلِّمَ ما علَّمه لمن لا يعلَمُه، عملاً بقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ألا أخبِرُكم عن الأجوَدِ الأجوَدِ؟ اللهُ الأجوَدُ الأجوَدُ، وأنا أجودُ ولدِ آدمَ وأجوَدُهم من بعدي رجلٌ علَّم عِلمًا، فنشَر عِلمَه يُبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً واحدةً (2) }

[الترغيب والترهيب]

أنا: أي النبي عليه الصلاة والسلام، ليس المقصود من الرجل الذكور بل الإنسان.. والله أنا أخجل عندما أقرأ القرآن الكريم، فمع الفّهْمِ نُريد العمل، في أمورٍ نعمل، وفي أمور مُقَصِّرين، عَفا الله عنا، وكلُّ واحدٍ منا يعلَمُ نفسه فلا نُريد أن نبقى على ما نحنُ عليه :

{ من استوى يوماه فهو مغبون(3) }

[الفردوس بمأثور الخطاب]

خاسرٌ في بيعه وشرائه، ومن لم يكن يومه خيراً من أمْسِه فهو محروم، هذا ما يُسمى التقدمية دائماً في الزيادة في الخير في القوة والعلم.

الدين حضارة وتقدم
هذا يُسمى حضارةً وثقافةً وتقدم، أما في الإسلام فهذا اسمه دين، ستُسأل عنه في الدنيا والآخرة :

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
[سورة الحج]

السكران يستيقظ بعد ساعتين أو ثلاثة ، أما إذا كان ميتاً :

أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
[سورة الأنعام]

إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
[سورة النمل]

(إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ ) النداء، ( إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) تناديهم وهم مدبرون عنك .

وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ ۖ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (81)
[سورة النمل]

الذي يُسمي نفسه مسلماً أهؤلاء مسلمون؟ المسلمون مُستجيبون لندائك، مُنفِّذون لأوامرك، مُحققون لرغبائك:

وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
[سورة العنكبوت]

ووَرد في الحديث القدسي:

{ خلقت الخلق ليربحوا علي لا لأربح عليهم (4) }

[قوت القلوب للمكي]


نعم الله كثيرة
كوكبنا الأرضي بما فيه من خمس أو ستة ملياراتٍ في عالم الكون يُؤلف ذرةً، فهذه الذرة ماذا تُمثل عليها؟ من أوجدنا؟ من وهب لنا السمع والبصر؟ من خلق لنا القلب بتجاويفه بحيويته؟, ينبُض خمسين وستين سنةً لا يَفْتُرُ لحظةً واحدة، من مدد الأعصاب ؟ من ركَّب العظام؟ من هَندس العضلات؟ من جعل في الفم ست غددٍ من اللعاب حتى لا يجف لسانُك فتعجز عن النطق وعن الكلام ؟

فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ (24)
[سورة عبس]

من خلق لك الطعام من الأرض من الأنعام؟.. الله عز وجل لا يُمت قلوبنا ولا يجعل الحجاب على عقولنا في فهم ما يَنْفَعُهَا وبُعدها عن ما يُضِيْرُهَا.

الاستعاذة تحتاج إلى عمل
(قُلْ): فنحن نقرأها كما بلَّغها جبريل عليه السَّلام عن الله عزَّ وجلَّ ( قُلْ أَعُوذُ) فهل نحن نستعيذ؟ ما معنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟ (أعوذ بالله) إذا كان عدوك يلحق بك ويريد أن يقتلك، ورأيت رَجُلَ دولةٍ أو أمن، وقُلْتَ له: أستعيذ بك، ما معناها؟ إذا قال لك: ادخل إلى هذه الغرفة حتَّى تكون مُعاذاً، فإذا بقيت على الاستعاذة اللفظية وما ألحقتها بالاستعاذة العملية، فالأفعى مقبلةٌ عليك ودخلت في ثيابك، أعوذ بالله من الأفعى.. فإذا لم تحاول المكافحة فأنت مُسْتَهْزِئٌ بنفسك أو بعقلك أو بفكرك.
فالاستعاذة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، الله عزَّ وجلَّ يَدُلنا على ما يُعيذنا من كل ما يُخيفنا، يَدُلنا على كل ما يُنقذنا، من كل ما يُهلكنا، يدلنا على ما يُعزنا ليُنقِذَنا مما يُذلننا، ويقول لنا: هذا مُعاذكم، استعذتم فهذا هو المُعاذ، فإذا بقينا في ميدان الأقوال ولم نستجب لمن استعذنا به ورفضنا حمايته ورعايته وما قدمه لنا، ماذا يكون الموقف؟

الاجتهاد في البحث عن المعلم
الله يُحيي قلوبنا بذكره وعقولنا بفهم كتابه وحياتنا وأعمالنا بحكمته، وهذا لا يكون بالدعاء؛ يكون بأن تتجه إلى من يُعلمك الكتاب؛ لا قراءة كلماته وألفاظه وتجويد حروفه وتنغيمَ النطق بآياته، يُعلِّمُك عُلومه لتكون عاملاً بها، عليك أن تُهاجر وتُفَتِّش عن من يُعلِّمك الكتاب والحكمة التي هي الصواب في القول والعمل، الحكيم كل أعماله وأقواله صواب، هل أعمال المسلمين عبر مئات السنين الأخيرة صواب؟ ملوكهم علمائهم مساجدهم فقهاؤهم صوفيوهم، كل واحدٍ منهم يتحمل جزءاً من المسؤولية.

الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
[سورة الحجر]

جزأوه وبعَّضوه، فلا بد من المُعلم الحكيم المزكي، تَصوُّف فقط لا يكفي، والعلم الذي يُعلَّم في الأزهر وفي الجامعات والكليات الإسلامية بشكله الحاضر لا يكفي، لا يُخْرِجُ داعياً ولا بنَّاءً ولا مهندساً إسلامياً.

الإسلام قوةٌ عظيمة هائلة
والله لإن رجعنا إلى القرآن الكريم فلنحن أقوى من كل العالم، من اليابان إلى آسيا إلى أوروبا إلى أمريكا، هذا رأيته بعيني وباشرته بنفسي وقلت لكم عنه مراراً وتكراراً، في اليابان حضرت مؤتمراً دعاني رؤساء أديان اليابان دعوة ضيافةٍ وهم ثلاثة أديان فآمن رئيس أحد الأديان الثلاث، ودعوته وأركان طائفته وبَقوا عندنا شهراً، رأيتموهم وسمعتم كلماتهم وإسلامهم، وذهبوا إلى العمرة بللوا موضع سجودهم بدموعهم، هذا هو الإسلام، ما هي سوريا مقارنةً باليابان ؟ هل يمكن لإنسانٍ سوري أن يقود العقل الياباني!
تحدثت لكم عن لقائي في الكرملين مع بعض المسؤولين أيضاً، الذين قالوا: إذا كان الإسلام ما نسمعه منك فالإسلام شيءٌ حسن، خالد بكداش وقد ذهب إلى رحمة الله كان يقول لي لما أحاوره: إذا كان الإسلام ما أسمعه منك فأنا أضعه على رأسي.. في الفاتيكان مع البابا بعد حوار ساعة آخر كلمةٍ قالها: أنا أقرأ القرآن الكريم كل يوم.
فنملك هذه القوة العظيمة الهائلة -الإسلام- ونحن نشكو الضعف والهزائم واعتداء أَذَلَّ خلق الله الذين هم اليهود ونستعيذ بالله عزَّ وجلَّ من اليهود، يقول الله عزَّ وجلَّ: خذوا السلاح، فتحت لكم خزائن قوتي لتهزموا أهل الأرض وتنتصروا عليهم وتجعلوهم إخواناً وأحباباً كما فعل المسلمون الأُمِّيُوْن الأولون، ولكن لم يكونوا أميين في كتاب الله عزَّ وجلَّ، كانوا :

{ علماء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء(5) }

[حلية الأولياء]

من يُعادي الإسلام أو يتهاون بالإسلام هل يعاديه عن علمٍ وفقهٍ ومعرفة أم عن جهلٍ وأميةٍ وتسميمٍ من عدوه ليَحْجُبَهُ عن قوته وعزته وسلاحه؟

اليقظة تحتاج إلى مُوقظ
متى نستيقظ؟ اليقظة تحتاج إلى موقظ، فالنائم إذا أردت أن تُوقظه فبالحكمة والموعظة الحسنة، بعض الإسلاميين يُحاولون إيقاظ النائم فيبتعد عنه خمس أو ست خطواتٍ ويقفز على بطنه لكي يوقظه لأن القطار قادمٌ لكي لا يدهسه، فهل إيقاظه هذا مقبول؟ أو إذا وطأ بنعله على بطنه أو على رأسه وهو نائم، والنعل فيه مسامير حتَّى يوقظه ليُنقِذَهُ من سكة القطار لأن القطار قادم، ورد في الحديث الشريف:

{ كلمة حق عند سلطان جائر (6) }

[مسند أحمد]

لكن الله عزَّ وجلَّ وضحها قال: بالحكمة والموعظة الحسنة .

فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
[سورة طه]

مشكلتنا من شيئين قصور علماء الدين لأنهم ما أحسنوا البناء والتعليم.

العلوم النظرية لا تنتج العالِم القرآني
العلوم القرآنية لا تُنتج العالِم القرآني، أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يقرؤوا ولم يكتبوا، ملؤوا الدنيا علماً وحكمةً، ومددوا حدود جزيرة العرب التي كانت صحراء، بلاد الشام مستعمرةٌ من الروم، الجنوب مستعمرٌ من الفرس، وكانوا يعيشون في مكة في:

رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
[سورة ابراهيم]

هؤلاء العرب وهذه العروبة، ماذا صنع الإسلام بهم؟ لكن إسلام سيِّدنا مُحمَّد صلًّى اللَّه عليه وسلَّم معلمه ومهندسه ومربي نفوسه وعقوله، في عشرين سنة تعليماً وتزكيةً وقوةً ووحدةً وسياسةً حَضَّرَ الجزيرة العربية (علماء حكماء فقهاء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء) وانطلقوا فمدُّوا حدود الجزيرة العربية إلى الهند وفرنسا وعلى بعد سبعٍ وعشرون كيلو متراً من مدينة باريس، وصلوا إلى مدينة بواتييه.

مخالفة قانون الله عز وجل أصل كل خلل
ثم حصل التراجع والسبب.. لمَ تراجعوا؟ لأن معركة عبد الرحمن الغافقي عندما انتصر المسلمون اشتغلوا بجمع الغنائم، كما فعل المسلمون في أحد، انتصروا فبدل أن يواصلوا الزحف حتَّى يقضوا على العدو، انشغلوا عن القضاء على ما تبقى من قوة العدو بجمع الغنائم فانهزموا، لو فَقِهُوا قصة غزوة أحد في القرآن الكريم، لو أحسنوا قراءة القرآن الكريم ربما كانت أوربا كلها مسلمة، عندما انهزموا في أحدٍ عاتبوا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قالوا: الله عزَّ وجلَّ وعدنا بالنصر ولم ننتصر، هذا وهم أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومن قائدهم؟ من؟ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بذاته موجود، وما نصرهم، أن تخالف قانون الله عزَّ وجلَّ في الأسباب والمسببات وتتوسل بالنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم! النبي لا يأمرك أن تُهمِل العقل والفكر والأسباب والمسببات، رد الله عزَّ وجلَّ على قولهم لماذا لم ينصرنا الله ؟ في القرآن الكريم :

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
[سورة الروم]

ألم يكن الصحابة في أحد من المؤمنين؟ ومن قائدهم؟ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كاد يُقتل، نزف الدم حتَّى وقع على الأرض ولم يستطع أن يقف، دخل السهم في خده وأصيب بحجرٍ في فمه فكُسرت أسنانه الرباعية، وهو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، يقول الله في كتابه العزيز:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
[سورة محمد]

معناها أن نصر الله عز وجل معلقٌ بنصرتكم له.

الإعراض عن نصرة الله عز وجل
فالذين اشتغلوا بجمع الغنائم وتركوا بقية المعركة، هم أعرضوا عن نصرة الله عزَّ وجلَّ فأعرض الله عزَّ وجلَّ عن نصرتهم، وسألوا لماذا ؟ أنزل الله عزَّ وجلَّ جواباً :

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
[سورة آل عمران]

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ) الله وعد بالنصر وانتصرتم في أول معركة لأنكم طبقتم الخطة النبوية، (إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) بعضهم كانوا يقولون لا، لنُكمل المعركة حتَّى ينتهي العدو، وبعضهم يريدون غنائم المعركة، (وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ) ما الذي رأوه من ما يحبون؟ النصر، لماذا تنازعتم؟ (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ) كلنا نريد الدنيا، (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) بعدما كنتم منتصرين، (وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ) بعد ما عاتبهم عفا عنهم.
فالآن لا نريد اليأس بل البدء والنَّاس كلهم بخير، لا يوجد أحدٌ في الدنيا يستطيع أن يُلحد ببياض هذا الثوب ويقول أنه أسود، هل هذا ممكن؟ هل يوجد أحدٌ يمكن أن يُلحد بأن هذا الكأس من الشراب؟ وإذا لم يُصدق يتذوقه وللتشجيع يتذوقه شخص قبله، فالعمل في كل لحظةٍ ممكن، ولكن يجب أن يكون مقروناً بالحكمة والعلم والإخلاص والصدق.

الالتجاء لله يكون بنصرة دين الله
نعود إلى (قُلْ أَعُوذُ) ستقول لتَفْهم وتعلَم ثم تعمَل، أعوذ يعني ألتجئُ، إذاً التجئ لله، كيف يكون الالتجاء إلى الله ؟ بأن تنصر دين الله:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
[سورة الأنفال]

وقال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
[سورة محمد]

فلا يوجد شيءٌ في هذا الوجود تأخذه بلا عطاء، نصرٌ بلا إعداد لا يمكن، لذلك كل منا يجب أن يكون بنَّاءً للإسلام في نفسه ومجتمعه، ويبدأ من حيث ما وصل، إذا صعد شخصٌ الدرج ووصل للدرجة الثانية، ماذا يوجد بعد الثانية؟ فإذا أراد وضع قدمه بالدرجة السابعة؟ سيسقط، فهذه اسمها الحكمة، فابدؤوا بما بدأ الله به، فأعوذ: يا ترى أنت تطلب الإعاذة من رب الفلق بالصدق والعمل، فإذا أراد أن يُعيذك ويَدُلَّك على طريق الإعاذة هل تتقبلها؟ وإذا عرفك بأنك لن تتقبلها ولن تفهمها، فلن يرد عليك وستقول لك الملائكة قبل أن ترفع يدك للسماء: أنت كاذب! أنت لا تتعوذ برب الفلق، أنت تتعوذ بالشيطان وهواك الذي اتخذته إلهاً، أنت عبد الهوى والبطن والفرج والدرهم والدينار تستعيذ بهذه الأمور، فكيف سأُعيذك؟
فما رأيكم؟ هل تستعيذون برب الفلق؟ هل فهمتم ما هو رب الفلق وما معنى الاستعاذة؟ إذا لاحقك عدوك وهو قويٌ وأنت ضعيفٌ واستعذت بشخصٍ أقوى، وقال ادخل الغرفة، تتحقق رغبتك وطِلْبَتُك، أعاذك فنفِّذ الاستعاذة تُحفظ من العدو.

التعوذ من جميع الشرور

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
[سورة الفلق]

كم من شرورٍ في هذا الوجود عليك أن تستعيذ برب الفلق لتُحمى منها ؟ من كل ما يُؤذي ويُضِرُّ ويُهلك.. من إنسانٍ وحيوانٍ وجرثومٍ وأمراضٍ والفقر:

{ اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع (7) }

[سنن أبي داود]

الاستعاذة بالله من الجوع، حتى يُعيذك الله من الجوع يقول لك:

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
[سورة الملك]

فامشوا أي اسعوا.

فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
[سورة الجمعة]

( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ ) )أي صلاة الجمعة،( فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ ) اعملوا، (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) اذكروا الله مع العمل لبناء الروح والجسم.

طهارة القلب شرطٌ للاستفادة من القرآن
فالقرآن كله عقل، يجعل من عقلك البذرة، ويجعل منها الشجرة الطيبة الثمار لا تنقطع ثمراتها ليلاً ولا نهاراً، ولكن يا بنيّ :

لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
[سورة الواقعة]

إذا لم يكن قلبك طاهراً من الغفلات ومن نجاسات المعاصي ومن عبادة ما سوى الله:

{ أبغضُ إلهٍ عُبدَ في الأرضِ عند اللهِ تعالى هو الهَوى }

[أخرجه الطبراني]

والأنا وحب الحياة الدنيا فلا تحصل الفائدة، والله أنا أخجل لما أقول ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) لأننا نقول أعوذ برب الفلق ونتجه إلى غيره، الله يقول من هنا أعيذك والشيطان يقول من هنا، فنُقدم إعاذة الشّيطان على إعاذة الرحمن، ألن يغضب الله؟ هل سيُلبي دعاءنا ويستجيبُ لرغباتنا !

كل من عمل سوءًا يجازى به

لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
[سورة النساء]

من: هذه تشمل كل إنسان، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لما أعرض عن ابن أم مكتوم، وهو سيد ولد آدم عاتبه الله فقال له:

عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (1)
[سورة عبس]

حالاً ولم يتأخر.

عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
[سورة التوبة]

َأَذِنَ لبعض المنافقين أن ينخرطوا في الجيش، والمنافق طابورٌ خامس لا خير فيه.
إلى آياتٍ كثيرة فيها عتبٌ من الله لرسوله وهو أشرف وأقدس وأحب مخلوقٍ خلقه الله في هذه الأرض.. فنحن يا بنيّ من نحن؟ يُكلمنا الله فنُعطيه ظهرنا، عقولنا نُعطيها إلى أتفه الأشياء، لا يمكن أن تتغير الأحوال حتَّى نُغير ما بأنفسنا.

شرط إجابة الله لعباده
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) نسأل الله أن نكون من الفاهمين والواعين والقاصدين للعمل، أن نستعيذ به ونُقبل على ملجئه ومُعاذِهِ فيُعِيْذُنا ويَحْفظنا، طلبنا نصره فقال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
[سورة محمد]

انصر الله ينصرك.

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
[سورة البقرة]

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
[سورة البقرة]

لكن شَرَطَ شرطاً لإجابة الله لعبده فقال له: أستجيب لك إذا استجبت لي، أنت تقول يا الله، اللهم، يخاطب الله عزَّ وجلَّ عباده في القرآن الكريم بأشكالٍ عديدة منها:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
[سورة الحشر]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[سورة الحجرات]

يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
[سورة غافر]

فالله يقول: إن استجبت لي أستجيب لك، وإن أعرضت عني أُعرِضُ عنك.

قراءة القرآن بفهمٍ وتدبر
فهل نقرأ القرآن كما نقرأ الجرائد والصحف، عندما يقرأ الرجل جريدةً أو مجلةً يسأله سائلٌ ويقول ماذا هناك؟ فيقول له توجد حوادثٌ عديدة في فلسطين وغيرها.. كل ما قرأه فَهِمَهُ، إذا قرأت القرآن ماذا فهمتم منه؟ يقول لك: تقبل الله، قل لنا ماذا فهمت؟ يقول ما شاء الله والله القرآن.. وماذا سمعت من القارئ؟ يقول لك: والله صوته جميل، والثاني ماذا فهمت؟ إذا كان قرأ بالتجويد يقول: الأحرف يخرجها الدال مقلقلة، والسين بالهمس تمام، والإدغام بغنةٍ صحيح، أين نحن من فقه القرآن والدين؟ أين الفقيه المُفَقِّه والعليم المُعلم والزكي المُزكِّي والحكيم الذي يُعلِّم الحكمة ؟ حتَّى لا تقع في خطأٍ لا في قولٍ ولا في عملٍ.
(قُلْ) الأفضل أن تقول لا، لن أقول، لأنني إن قلت لن أسمع كلامك ولن أستعيذ بك، أستعيذ بك بلساني ولكن عندما تدُلُّني على ما يعيذني ويحفظني لن أستجيب، فلن أكون كاذباً.
فما رأيكم هل ستقولون أعوذ برب الفلق؟ هل فهمتموها؟ يعني يا ربي خلصني مما أنا فيه، أعِذْنِي من عدوي وبلائي، يَدلُّك على طريق الإعاذة فإن سلكته أعاذك الله، وإن سلكته فقد قَبِلْتَ وأُعِذْتَ ونَجَوْتَ، وإن رفضت وأبَيْتَ وقدَّمت هواك على تقواك .. اللهم لا تكِلنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ ولا أقلَّ من ذلك.

الفهم الصحيح للقرآن يغير حياة الأمم
(قُلْ أَعُوذُ ) ما معنى أعوذ؟ أرجوك وأستجير بك يا ربي، من ماذا؟ أولاً (بِرَبِّ الْفَلَقِ) فأنت الخالقُ والمَلِكُ والمُتصرف، يقول لك: أُعيذك إذا مشيتَ على قوانين الإعاذة، هذا مخططٌ للإعاذة تفضل طبقه وأنا أُعِيْذُكَ من ما استعذت منه.

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
[سورة الفلق]

معناه أنك إذا التجأت إلى الله وكتابه ووصاياه وتعليمه وتخطيطه يُعيذك ويُنجيك ويَحْفَظُكَ من كل الشرور.
ماذا فعل العرب الأميون لما فَقِهُوا القرآن وعَمِلُوا به؟ كيف كانوا فقراً وكيف صاروا غناً وثروة، كيف كانوا ضعفاً وكيف صاروا قوةً، كيف كانوا تخلفاً وكيف صاروا تقدماً، لم يكونوا شيئاً مذكوراً، فصاروا كل شيء في هذا الوجود، إذا قرأ المنصف في تاريخ الإنسان لا يرى أمةً ودولةً صار لها المكانة العالمية في الأرض وفي السماء كما كانت الأمة العربية لما هضمت القرآن عِلماً وعَملاً وتعليماً، ففتحوا البلاد ليَرْقَوا بالشعوب إلى العلم والحكمة والفضائل والإنسانية.

الاستعاذة تقتضي العمل
(قُلْ أَعُوذُ ) ما معنى أعوذ؟ أرجوك يا ربي خلصنا احفظنا، (مِن شَرِّ مَا خَلَقَ) من كُلِّ شرٍ، يقول لك لتنتهي من هذا الشر اعمل كذا ومن الشر الثاني اعمل كذا، والثالث اعمل كذا، كالطبيب تقول له: أرجوك أيها الطبيب بطني ورأسي وقلبي فيكتب لك الوصفة، أيضاً تذهب للصيدلي يعطيك الدواء، فإذا مشيت على تخطيط الطبيب وما أعطاك الصيدلي وكان الدواء خمسين حبةً لخمسين يوماً، فإذا أخذته في خمسين يوماً حصل الشفاء، وإذا أخذته بيومٍ واحد فتكون قد استعجلت على آخرتك.

{ لا يُعجِّلُ اللهُ لعَجَلةِ أحَدٍ }

[المعجم الكبير للطبراني]

خَلَقَ السماوات والأرض بستة أيامٍ لكي يُعلمنا أن لا نستعجل ويُعلمنا الترتيب والدقة والمواقيت إلى آخره.

جزاء الاستعاذة العملية
(مِن شَرِّ مَا خَلَقَ) إذاً إذا استعذت بالله الاستعاذة العلمية والعملية والصادقة يُعيذك ويُنجيك ويُنقذك من كل الشرور، يُنقِذُك من الفقر إلى الغنى ومن المرض إلى الصحة، قال صلى الله عليه وسلم:

{ تداوَوْا ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يُنزِلْ داءً إلَّا أنزل له شفاءً }

[رواه البيهقي]

من العدو:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
[سورة محمد]

أحد أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المُسمَّى زُرارة بن عمرو رأى مناماً طويلاً، لن أقوله لكم كاملاً، وجاء للنبي فقصَّ عليه منامه، فمن جملة ما رأى قال: رأيت النعمان بن منذر، وهذا مَلِكُ العرب، فقال زرارة: رأيت مَلِكَ العرب في منامي، يقصُّ المنام على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي أذنيه قُرْطَان، وفي يديه سِوَارَان وعلى رأسه التاج، يصفه بوصف المُلك، فقال له النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لزرارة بن عمرو: (ذلك مُلك العرب، رجع رائعاً إلى أحسن زيه وبهجته )، أي أن النبوة والرسالة السماوية على يد سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ستُعيد مُلك العرب رائعاً، وعاد رائعاً وإلى أحسن زيٍ وبهجة؛ ولكن هل يريد العرب الآن أن يُعِيْدُوا العروبة والقومية إلى أروع ما كانت وأحسن زيٍ وبهجة؟ علينا بالإسلام.

ترجمة القرآن وتفقيه المجتمعات به
والله أنا لا ألوم الحكام ولو قصروا، لأنه لا يوجد من يُحسِنْ ترجمة القرآن وتفقيه المجتمع بالقرآن، أنا لقيت كل أصناف النَّاس فما رأيت إنساناً قال للإسلام لا، ذكرت لكم قصةً قبل انهيار الشيوعية، زارني عضو اللجنة المركزية البلغاري، هنا في المجمع، فأنا كلما أقول له عن الله والإيمان يُجيبني فيقول: أنا ملحد! فأغيِّر له لون الطعام والشراب فيقول لي: أنا ملحد! قلت له: أنا أيضاً معك ملحد، يعني هل يقولها أحدٌ يا بنيّ؟ لكن الطبيب لو شقَّ بطنك بالسكين مقبول، لأنه سيفعل ذلك ليُنْقِذَك لا ليَقْتُلَك، قال: كيف أنت ملحد؟ قلت: أنت ألا تُلحد بالجهل وتُؤمن بالعلم؟ قال: بلى، قلت: أنا أُلحد بالجهل وأُؤمن بالعلم، ألا تُؤمن بالتقدم وتُلحد بالتخلف؟ قال: بلى، قلت: وأنا أُلحد بالتخلف وأُؤمن بالتقدم، ألا تُؤمن بمكافحة الفقر والإلحاد بوجود الجياع والفقراء المحتاجين، وتُؤمن بوجوب الرفاه لكل الشعب؟ قال: بلى، قلت له: وأنا أيضاً ألُحد بالفقر وأُؤمن بغنى الشعب، سردت له عديد الأمثلة ثم قلت له: هذا هو الإسلام.

زيارة مسجد مدينة صوفيا
زرت بلغاريا في زمن الشيوعية، كان في البرنامج لقاءٌ مع نائب رئيس الدولة، ومعي مفتي بلغاريا، لما دخلنا عليه كأن غوريلا قد دخلت عليهم، عَبَسَ الناس وبسروا، لما رأيته استقبلني بهذا الشكل قلت في نفسي: لا يهم، لا يستقبلني، أشرب فنجان القهوة وأذهب، لكن شاء الله غير ذلك، لم أنتهِ من شرب فنجان القهوة إلا انشرح الصدر وبَشَّ الوجه وأشرقت الابتسامة.
من كان معي من الإخوان؟ أبو الفضل، واستمرت الجلسة ساعتين إلا ربعاً، أنا زرته في يوم جمعة، زرت جامع صوفيا في العاصمة، وفتحوه لأجلي كضيفٍ .. أن الجامع مفتوح، وتم إغلاقه منذ سبعين سنة وجدرانه سوداء وصفراء من الرطوبة والمطر، وخطبت هناك أيضاً.
فلما شَرَحَ الله الصدر وروَّحَ عن النفس، قلت له: والله أنا اليوم زرت الجامع وصليت فيه، قلت له: لكنني رأيته بحالة.. والله أمريكا تدفع مئة مليون دولاراً لتجعل جامع المسلمين بالشكل الذي رأيته فيه.. تجعله دعايةً ضدكم، قلت له: هذه السنة سأذهب للحج وكل النَّاس يعرفون أني زرت بلادكم، فسيسألونني كيف رأيت حرية المسلمين والحرية الدينية في بلغاريا؟ قلت له: أنا تعودت أن لا أتكلم إلا الصدق، وقلت له: بلغاريا وسوريا أصدقاء، ويوجد مثلٌ عند العرب يقول: صَدِيْقُكَ من صَدَقَك لا من صَدَّقَك، قلت له: أنا سَأصْدُقُك، فإذا أردتم أن تكسبوا العالم الإسلامي فلتكن رموز الإسلام عندكم موضع العناية والرعاية، الخلاصة حول الموضوع التفت للمفتي وقال له: سماحة المفتي اعتبر نفسك مسؤولاً عن ترميم المسجد وتزينه وإرجاع بنائه على أحسن ما يكون، وأنا مسؤولٌ عن كل شيءٍ تطلبه في تحقيق هذه الغاية، في السنة الثانية صارت لي زيارةٌ مرةً أخرى إلى بلغاريا، ذهبنا وزرنا الجامع فإذا به مثل العروس ( بأحسن حال).

ثلاث مهمات للنبي الكريم
جعل الله مهمة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في ثلاثة أشياء: تعليم الكتاب: النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم علم الكتاب للصحابة، هل نحن نتعلم الكتاب بالفهم والعلم والعمل؟ نحتاج معلماً، لما ما رأوا المعلم في مكة واليمن هاجروا للعلم والحكمة، والحكمة هي العقل الحكيم الذي لا يُخطئ وقلَّ ما يُخْطِئ، كلنا أخطاءٌ على كل مستوياتنا، مشايخ وعلماء وإلى آخره.. ويزكيهم: أي الأخلاق.. فعلمٌ وعقلٌ حكيم وأخلاقٌ فاضلة، فهل يمكن أن نفشل أو نُهزم أو نكون بين عشرين أو خمسين دولة ؟ في عهد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ودولته ودولة أبي بكر وعمر لم يكن هناك محكمةٌ ولا قاضي، لماذا؟ الإيمان كفاهم كل شيء.

الإسلام يعني الاستجابة لنداء الله
(قُلْ أَعُوذُ) هل ستستعيذون برب الفلق وربه؟ هل تعرفونه كما تعرفون الأفعى والعروس؟ مثلما تعرفون الغوريلا والعروس؟ ليلة العرس إذا كان هناك حفلٌ للغوريلا وأخرى للعروس، هل تذهب لعروستك أم للغوريلا؟ إذا ذهبت للغوريلا وتركت عروستك.. يا تُرى فَقَدنا العقل يا بنيّ! عقلنا كله نصرِفُه للدنيا وهَوانا وأجسامنا وشهواتنا لهذه الحياة والعمر المحدود، أما العمر الأبدي الخالد والنعيم الذي تَقْصُرُ العقول عن إدراكه.. نحتاج للمعلم، كانوا يهاجرون ويُقتلون في سبيل الهجرة وتُسلب أمولهم وبيوتهم وكل شيءٍ في سبيل أن يصلوا إلى معلم الكتاب والحكمة ومُزَكِّي النفوس.
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) عن كذبٍ أم صدقٍ ستقولونها؟ تريدون أن تلتجئوا إليه يعني أن تتقوه وتطيعوه وتقرؤون كتابه بفهم، ليس كما تقرؤون الجريدة.. فالجريدة عندما تقرأها تفهمها كلها، افهم من القرآن نصف ما تقرأ، أما إذا قرأته كما يجب وفهمته كله وما لا تفهمه تسأل عالِمهُ تصيرُ عند ذلك مسلماً، يعني مستجيباً، كلمة مسلم يعني مستجيب، فهل أنت مسلمٌ يعني مستجيبٌ لنداء الله وأوامره؟ هل قابلت أوامره بالطاعة ووصاياه بالتطبيق والتنفيذ في نفسك:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[سورة التحريم]

في أهلك، ثم في عشيرتك:

وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
[سورة الشعراء]

هذه كلماتٌ وآياتٌ للعمل لا للغناء والثرثرة وتكرار سورة يس أربعين مرةً على نيةٍ معينة، سورة يس كلها حكمٌ، سورةٌ ترفع من شأن الإنسان عقلاً وحياةً وفكراً ودعوةً وإلى آخره..

حب النبي والبحث عن وارثه
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) هل أنت كاذبٌ أم صادقٌ عندما تقول أعوذ؟ تستعيذ بالله أم بالشيطان من الله؟

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)
[سورة الذاريات]

أم إلى الشيطان؟

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51)
[سورة الذاريات]

الصنم أمره سهل، تضربه بقدمك فيُعرف أنه صنم، أما إذا كان صنمك هو هواك يتَعَبْعَبُ بك من رأسك إلى أظافر قدميك، هذا هو الصنم الذي لا تتخلص منه إلا بشيئين: أولاً: كثرة ذكر الله حسب القرآن الكريم:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
[سورة آل عمران]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
[سورة المنافقون]

ثانياً: أن تُحِبَ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أكثر من مالك وأهلك، من الاثنين.. قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ العلماء ورثة الأنبياء (8) }

[سنن ابن ماجه]

ابحث عن وارثٍ مُحمَّديٍ يُعلمك الكتاب والحكمة ويُزكيك، ومعنى الحب أن يرتبط قلبك بقلبه برابطة الحب الفولاذي، أن تُحبه أكثر من أهلك ومالك، والحب فائدته لمن؟ للمُحِبْ أكثر منه للمحبوب.

حال المسلمين مع العلماء اليوم
المسلمون أكثرهم الآن مصداقُ الحديث النبوي:

{ إذا أبغض المسلمون علماءهم وأظهروا عمارة أسواقهم وتناكحوا على جمع الدراهم رماهم الله عز وجل بأربع خصال: بالقحط من الزمان، والجور من السلطان، والخيانة من ولاة الأحكام، والصولة من العدو (9) }

[مستدرك الحاكم]

فهل نحن كما نُؤمن بوصفة الطبيب؟ هل نُؤمن بوصفة الطبيب وحميته ودوائه؟ فلا نُؤمن بحمية القرآن ولا بدوائه، هل سنبقى هكذا؟.. لا أنتم إن شاء الله ستُشَمِّرُوْنَ وسنبدأ بالعمل وسنستعيذ بمن؟ برب الفلق، ما هو الفلق؟ الذي يُوْجِدُ الأشياء من عدمٍ فيَشُقُّ العدم ويُخرِجُ منها ما يشاء من مخلوقاته.
(مِن شَرِّ مَا خَلَقَ ) شرور الإنسان والحيوان والبلاء بكل أنواعه.

الغاسق هو الظلام

وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
[سورة الفلق]

الغاسق هو الليل والظلام، ووَقَبَ يعني إذا أقبل وشمِل العالم الأرضي الذي نعيشه، فالظلام يُوْقِعُ في المشاكل، يُعينُ المجرم على إجرامه والسارق على سرقته والوحوش تخرج في الليل لتفعل وتفعل.. والعدو يترَبَّصُ بعدوِّه في الظلمات، وأعظم من هذا الظلام ظلمات الجهل، الجهل هو ظلام :

الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
[سورة ابراهيم]

الغسق هي الظلمات، ظلمات الجهل والغفلة وحب الدنيا وصُحبة قُرناء السوء، إذا أحاطت الظلمات بالقلب كإحاطة الليل بنصف الكرة الأرضية، يحتجب عنك وأنت سائرٌ مسافرٌ الطريق، فقد تقع في الوديان والحُفر وفيما يُهْلِك، وظلمات القلب التي تمنع عنك نور الله، ظلمات العقل التي تَحْجِبُ عنك التفكير الصحيح كما قال الله في كتابه:

وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
[سورة الحشر]

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
[سورة يوسف]

وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
[سورة البقرة]

كله حضٌّ على العلم واستعمال العقل وعلى الفكر والحذر:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا (71)


القرآن مدرسةٌ لمن يفهمه
القرآن كتاب تعليمٍ ومدرسة، تدخل مدرسة اللغة الإنكليزية وبعد سنة تتعلم اللغة، تقرأ القرآن طوال حياتك ولا تفهم منه شيئاً، سورة التوبة هل فهمت من العنوان ما معنى سورة التوبة؟ على الثلاثة الذين خُلفوا.. هجرهم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم خمسين ليلةً لأنهم تخلفوا عن الجهاد، أمر المجتمع بأن لا يُكلمهم ولا يُجالسهم ولا يُسلِّمَ عليهم، الذي يهربُ من الجيش أثناء المعركة ما جزاؤه في العصر الحاضر؟ الإعدام، فهل يوجد ألطف وحكم إنسانيٌ أعظم من الحكم القرآني على المُتخلف؟ قال: لا، فقط اهجروهم.. أيُّ حكمٍ.. أمريكا هل هذا حكمها الإنساني وأوروبا وروسيا واليابان؟ ونحن أين نذهب؟ لأننا :

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
[سورة البقرة]

ولا يوجد طبيبٌ يعالج الأمراض ولا مُذكرٌ يُذكِّرُ النَّاسي ولا مُعلمٌ يعلم الجاهل.

الصحابة أخذوا العلم من الأصل
الصحابة لم يأخذوا شهادة الأزهر والدكتوراه، كان الواحد منهم يجلس مع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يوماً واحداً فيرجع إلى قبيلته فيأتي بها إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مسلمين، هذا هو الإسلام، الإسلام الحقيقي في زمان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ذلك هو الأصل، مياه الفيجة الأصل يكون عند النبع، لكن عندما تخرج من باب توما سوداء ماذا تكون؟ أليست من نبع الفيجة؟ قاتلةً وكلها سمومٌ مهلكة، فيجة وعين بردى لم يتغير الأصل لكن دخل عليه ما دخل، فبعد أن كان حياةً صار سماً زؤاماً.

ظلمة القلب هي الغاسق
(وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) فظلامُ الليل أمرهُ سهلٌ أحضر الفانوس والكهرباء فتنجو من الشر، أما إذا أظلمَ قلبك وحُجِبَ نُوره عن روحك، وحكمته عن عقلك، ورعايته في حياتك وأعمالك، فهذا هو الغاسق وهذا هو الظلام وهذه هي الظلمات:

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
[سورة النور]

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)
[سورة النور]

إذا كنت في داخل البحر والبحر موجٌ فوق موج، وفوق الموج يوجد السحاب بعضه فوق بعض، فهل يوجد في مكانك نورٌ أم ظلمات؟ ظلمات بعضها فوق بعض، فظلمات المعاصي ومحبة الدنيا والغفلة عن الله ومجالس الجهل والجاهلية وحرمانك من مجالس العلم والحكمة والمعرفة والتزكية، هذا يا بنيّ هو الغاسق والظلام والذي يجب أن تخاف منه، اسْتَعِذْ من الظلام إلى النور، ومن أهل الظلمات إلى أهل الأنوار.

ليل العيون وليل العقول
(وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) ما الغاسق؟ ظلام الليل، فيوجد ليلُ العيون يَحْجِبُ العيون عن النظر ومعرفة الأشياء، ويوجد ليلُ العقول يَحْجِبُ العقل والفكر عن حقائق الأشياء، ويوجد غاسق وظلام القلوب يَحْجِبُ القلوب عن نور الله ويقطع الأرواح عن روح الله، فتمرض وإذا استمر المرض تموت:

أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
[سورة النحل]

أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
[سورة الأنعام]

واستعيذوا بالله من:

وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
[سورة الفلق].

أظنُّ يكفيكم إلى هنا أليس كذلك؟ الآن فهمتم الآيات.. لكن يا ترى هل لديكم استعدادٌ أن تطبقوا الاستعاذة عملياً؟ عندما نطلب من الله الحماية ويُعطينا برنامج الحماية، نلتجِئُ للطبيب من المرض لما يعطينا الوصفة ونذهب للصيدلي ونستعمل الدواء استعذنا واستعملنا الاستعاذة فيذهب المرض وتأتي العافية والصحة، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيَتَّبِعُون أحسنه.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

زيارة رئيس جامعة السودان
شرفنا اليوم ضيفاً وأخاً عزيزاً الدكتور أحمد علي الإمام رئيس جامعة القرآن في السودان، نرغب منه إذا سمح الوقت بإلقاء كلمةٍ وبعد ذلك نُصلي صلاة الغائب على إخواننا الفلسطينيين تولاهم الله عزَّ وجلَّ، الدعاء لا يكفي يا بنيّ، الدعاء يحتاج لتكملة، ألهم الله العرب العودة للإسلام، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، لا إسلام التمني ولا الانتماء، إسلام العلم بالمُعلم والحكمة بالحكماء والتزكية بالمُزكي، غَفَرَ الله عزَّ وجلَّ لنا ولهم، في نهاية الجلسة نصلي إن شاء الله عليهم، وأهلاً وسهلاً بمعلم القرآن.. معلم القرآن في حكومة السودان.

كلمة الشَّيخ الدكتور معلم القرآن أحمد علي:
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
[سورة الأعراف]

نحمدك اللهم لا نُحْصِي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وصلوات الله المباركات وتسليماته الزكيات على من كان القرآن خُلُقَهُ وميراثه ووصيته، القائل:

{ خيركم من تعلم القرآن وعلمه (10) }

[صحيح البخاري]

اللهم كما يَسَّرت على عبادك تلاوته وحفظه وتدبره فاجعلنا جميعاً من خِيَارِ وارثيه، الذين هم بهدايته مستمسكون، وتحت لوائه يجاهدون في جُنْدِ قائدنا الأعظم ورسولنا الأكرم صلَّى الله عليه وسلَّم ..
أيها الإخوة الأحباب في هذا المجمع والمسجد الجامع الحامل اسم النور :

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)
[سورة النور]

والكون كله ظلمةٌ وإنما أناره ظهور الحق فيه، فنحمد الله على ما يَسَّرَ لنا في ضحى هذا اليوم من هذا المجلس القرآنيِّ المبارك مع سورِ المُفَصَّل وخواتيم القرآن الكريم بتفسيرٍ يجمع بين العِلم والعَمل، مثلما جمعت سورة العلق وما أقرب العلق إلى الفلق.
الابتداء ببسم الله :

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
[سورة العلق]

وختام السورة:

كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩ (19)
[سورة العلق]

فلا علم ينفع ما لم يكن معه سجودٌ واقتراب، وكما يقول بعض حكمائنا: إنما قَصَّرَ بنا عن عِلْمِ ما جَهِلْنَا تقصيرنا في العمل بما عَلِمْنَا، ولو أنا عَمِلنا ببعض ما عَلِمنا لأورثنا بذلك علماً لا تقوم به أبداننا، وهو علمٌ كما ذكر الإمام العلامة المفتي العام بحكمته علمٌ يجمع بين السيف والقلم ويُؤاخي بين السلطان والقرآن، ويُؤلف بين الجوامع والمصانع، ويُؤاخي بين مآذن المساجد ومداخن المصانع، وهكذا كما كان في العلق مع الابتداء باسم ربك والختام بـ :

كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩ (19)
[سورة العلق]

ما بين ذلك خلق الإنسان والعلق إلى قضية الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وحمل هموم المسلمين في مشارقِ الأرض ومغاربها، ونُصْحِ العامة بالحكمة والموعظة الحسنة.
وكلنا يبتغي أن يصل إلى ما يُحب لتكون كلمة الله هي العليا، هذه غايتنا لكن دون أن نبلُغها أشواطٌ ومساعٍ وجهادُ حلقٍ متصلةٍ من العاملين المخلصين، إننا حقاً نرجو جميعاً أن تكون كلمة الله هي العليا، وإن الله برحمته يقبل منا أن نجعل كلمة الله عاليةً ولو شيئاً أعلى ولو سطراً أو شبراً أو مداً أو ذراعاً أو ما استطعنا حتَّى يأتي أمر الله، لنقوم بما تيسر لنا من العمل من الطائفة المنصورة القائمة على الحق إن شاء الله، إن العلم النافع وهو ما كان تحته عمل، والعلم الذي يجمع أصحابه خبرة همِّ العمل وإصلاح الأمة وتجديد أمر دينها هو العِلْمُ الذي نرجو أن يكون إماماً، و العِلْمُ إمام العمل والعمل تابعه من أجل أن نبلُغ غاياتنا المرجوة إن شاء الله تعالى، بأن نجعل تحوُّل المجتمعات إلى الإسلام تحوُّلاً سلمياً على الحب والإخاء، ونسأل الله أن يوفقنا في ما نقوم به في السودان من عملٍ من أجل أن نجعل القرآن إمامنا ودليلنا ونجعله أُنسنا في حيرة الدنيا وظلمتها.
من يتُب خشيـة الـــــعقــــاب فإني تبت أنساً بهذه الأجزاء بـعـثـتـنـي إلـــى الـــــتـلاوة والنسك من القـــــــــراء حين جاءت تروقني باعتــــذار ٍ من صدود وصبغة واستـواء سبعة أشبهت لــي سبعــــــــة الليل ذات الأنوار والأضواء كسيت من أديمها الحالك اللون غشاءً أحبب به من غشـــــاء وهي مشغولة بعدة أشكــــــال ومقروءة على أنحـــــــــــاء فإذا شئت كان حمزة بهـــــــــا وإذا شئت كان بها الكسائــي فحقيق علي أن أقرأ الــــــقرآن فيهن مصبحي ومسائـــــــي
{ أبو الفتح محمود بن الحسين السندي }
هكذا القرآن في الأناس، ولئن تحدث هذا رجل عن أنس القرآن في المصاحف الخطية والقراءات المتعددة، وقد أشار إلى ذلك الشَّيخ من التجويد والإتقان، لكن لا ينبغي أن يُنسِيَنا تجويد الألفاظ وإتقان القراءة أن نُجَوِّدَ العمل وأن نُتقن التلاوة لأن التلاوة في لغة القرآن هي إتباع العِلْمِ بالعمل، تلا القرآن أي تبِعَ عمله ما تعلَّم من القرآن، وهكذا كان الذين يتعلمون القرآن لا يتجاوزون مقدار ما تلا الشَّيخ وفسَّر علينا، أو كما قالوا أنهم كانوا لا يتجاوزون الآيات العشر يقرؤونها ويفهمونها ويحفظونها ويعملون بما فيها، قالوا: فتعلمنا القرآن والعِلْمَ والعمل معاً.
فأُوصي نفسي وإياكم بالقرآن قائداً وهادياً وجامعاً تجتمع قلوبنا عليه تلاوةً من تدبرنا وقراءتنا وعلمنا وعملنا، وكما ألَّفَ الله بين قلوب المؤمنين الوافدين من كل قُطرٍ وجمعهم في هذا البلد العربي الكريم المسلم المضياف، فنسأل الله أن يحفظ أمتنا ودعوتنا وكيان ديننا وأن يتولى القائمين على أمورنا بحسنات الدنيا والآخرة، وأن يُقرب قلوبهم إلى الحق ويجعلهم قادةً للدين وينصرهم وينصُرَ بهم كتابه العزيز لتكون كلمة الله هي العليا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وشَكَرَ الله لهذا المسجد وآله وشيخنا الجليل وما منحوني من هذه الفرصة لأُخاطب قلوبكم ولأجعل هذه الصِّلة الروحية بيني وبينكم في العلم، إذِ العِلْمُ إمام العَمَلِ والعِلْمُ رحمٌ بين أهله، نتواصى عليه ونجاهد في سبيل الله حتَّى نلقى ربنا مخلصين له الدين، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحواشي:
(1) صحيح البخاريُّ في الأدب، باب رحمة النَّاس والبهائم، رقم: (6011)، ومسلم في البرِّ والصِّلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2586).
(2) مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176)، بلفظ: ((ألا أخبركم عن الأجود الأجود؟ الله الأجود الأجود، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل علم علما، فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمة واحدة، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله حتى يقتل)).
(3) الفردوس بمأثور الخطاب، للديلمي، رقم: (5910)، (3/611)، وفي حلية الأولياء، أبو نعيم، (8/35)، بلفظ: " إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ ، يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عِظْنِي قَالَ: ((مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ وَمَنْ كَانَ غَدُهُ شَرًّا مِنْ يَوْمِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ وَمَنْ لَمْ يَتَعَاهَدِ النُّقْصَانَ مِنْ نَفْسِهِ فَهُوَ فِي نُقْصَانٍ وَمَنْ كَانَ فِي نُقْصَانٍ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ)).
(4) قوت القلوب للمكي، (1/366).
(5) حلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني، (9/279).
(6) مسند أحمد، رقم: (18830)، (31/126)، سنن ابن ماجة، كتاب الفتن: باب الأمر بالمعروف والنهي المنكر، رقم: (4012)، سنن النسائي، كتاب البيعة: فضل من تكلم بحق عند إمام جائر، رقم: (7786).
(7) سنن أبي داود، كتاب تفريغ أبواب الوتر، باب في الاستغفار، رقم: (1547)، ونصه: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ))، سنن ابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب التعوذ من الجوع، رقم: (3354).
(8) سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223). وأبو داود، أول كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، رقم: (3641). والترمذي، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682).
(9) مستدرك الحاكم، رقم: (7923)، (4/361). قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد إن كان عبد الله بن أبي مليكة سمع من أمير المؤمنين عليه السلام» وقال الذهبي: بل منكر منقطع. واللفظ: ((إذا أبغض المسلمون علماءهم وأظهروا عمارة أسواقهم وتناكحوا على جمع الدراهم رماهم الله عز وجل بأربع خصال: بالقحط من الزمان، والجور من السلطان، والخيانة من ولاة الأحكام، والصولة من العدو)).
(10) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن: باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، رقم: (5027).