تفسير سورة الحديد 02

  • 1992-07-17

تفسير سورة الحديد 02

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيدنا محمدٍ، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم وأخويه سيدنا موسى وعيسى وعلى جميع الأنبياء والمُرسلين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، يقول الله تعالى:

سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
[سورة الحديد]

ذلك أنَّ هذه الجنّة وهذه المغفرة أعدت للذين أمنوا بالله ورسله الجنة، ذلك وللمسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ).
ودائماً إذا المشيئة ذُكرت في القرآن:

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
[سورة النحل]

لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
[سورة النور]

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
[سورة آل عمران]


مشيئة الله في أفعاله وعطاءه:
وهنا (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) فمشيئة الله في أفعاله وعطاءه، إذا أراد الله أن يرزق إنسان بغير حساب هذا الرزق والعطاء قائمٌ على الحكمة، قائم على الأسباب والمُسببات (وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ) ليس بشكل بلا رقيب، أو بشكل فوضوي، الإذلال لا يعني أنّ الله يُجبرك على الإضلال، لا، قانون الله إذا فعلت كذا وكذا فقانون الله يُبين بأنّك حتماً ستسير إلى الضّلال، (وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) يعني قانون الله يُحتِّم إذا سلكت الطريق الفلاني وأتيت بالأسباب الفلانيّة فحتماً سيصير أمرك إلى هداية، وهذا من يشاء بالحكم المُطلق لا المُفصَّل، القرآن دائماً يُفسر المُطلق العام بالمُقيد الخاص، يتبع الهداية بالمشيئة العامة (وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ)، فُصلت في موضوع آخر بقوله تعالى:

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
[سورة محمد]


من يطلب الهداية سيهديه الله ومن أراد الضلال أضلّه الله:
الذين طلبوا الهداية (زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)، فطلب الهداية مما يكون؟ وممن يكون؟ العسل مِما يكون؟ وممن يكون؟ يكون من خلية النحل، ويستخرج من رحيق الورد فمن هنا يُطلب العسل، فإذا طلبت العسل من مصادره ومن صُنّاعه، (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) فالعسل من فضل الله لا تستطيع أنت أن تصنع عسل، تقوم الدنيا ولا تستطيع أن تصنعه، ولكن العسل يصنعه النحل ولكن هذا من فضل الله.

وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

لكن من علّمها؟ من ألهمها؟ كذلك (يُضِلُّ مَن يَشَاءُ) الله لا يُجبرك على الضلال ويُمسكك من رقبتك ويوقعك بالضلال، أنت تسلُك أسباب الضلال، أنت تصحب الضالين، أنت تسهر معهم، تأكل معهم، تشرب معهم، تُناكحهم، تُزاورهم، النبي يقول:

{ المرءُ على دينِ خليلِه فلينظرْ أحدُكم مَن يُخاللُ }

[أخرجه أبو داوود والترمذي وأحمد]

القرآن يقول:

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا(140)
[سورة النساء]

فالذي يُجالس النبي يا ترى هل يكون كالذي يجالس ابن أبي سلول رأس المنافقين؟! يُضل من يشاء مَن؟ ابن أبي سلول، ويَهدي من يشاء مَن؟ لمن جالس، وهاجر، وأحبَّ رسول الله بالقول والعمل في الحضور والغياب، وأظهر من الحب في ميدان العمل ما يتناسب مع قانون الحُبّ، وكل إنسان يتمنى أن يكون من أحباب رسول الله، من أحباب الله، لكن هذه النية يا ابني، النية إذا ما اُتبعت بالأسباب التي تحقق النية، نيتك الله يرزقك الولد فإذا لم تأتِ بأسباب مجيء الولد وهو الزواج، والمهر وكذا وكذا الأُمنية تبقى أُمنية، لذلك هنا الله يقول:(سَابِقُوا) وهنا تحصل المشيئة، ونصير إلى الجنة، قال تحتاج إلى ركض وسباق، فالإنسان يمشي ببطئ أم يمشي بمنتهى السرعة؟ فإذا كان يوجد مسابقة وفيها دروس فماذا يفعل المتسابقين؟ ينكبّوا على دراسة المواد التي يُراد فحصهم فيها ليل نهار، والذي يدرس أكثر، والحافظ الأكثر، والمُستعد الأكثر هو الذي يفوز في المسابقة.
وكذلك المسابقة في التعهدات التي تسمى مناقصة، من الذي يسبق في أخذ التعهد؟ الذي يُقدّم سعر أنقص من سعر الباقين، لمّا يأخذها ويُقدّم الأرخص يقول الله فضّل عليه، لكن بأسباب أم بلا أسباب؟ فالمسلمون في العصور الأخيرة فهموا القرآن فهماً مغلوطاً، يقول لك: اتركه (يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ) لكن أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! والغيرَة على رضاء الله وتنفيذ أوامره والغضب لله، والاهتمام بإزالة المُنكرات في كل مكانٍ ومن كل إنسانٍ غافلٍ بحسب الطاقة، وبالحكمة والموعظة الحسنة.

التوبة النصوح أن تترك الذنب بلا عودة وتصاحب الصالحين:
إيمانهم بالقضاء والقدر، وصل التحريف إلى الإسلام مثل ما أهل الكتاب حرَّفوا التوراة والإنجيل، هكذا المسلمون الآن يُحرِّفون الإسلام، الجاهل منهم الذي لم يتعلّم، هل يصبح يا ابني الإنسان نجار لأنَّ أبوه نجار فقط بالنسب هل يصبح نجار؟! الذي أبوه طبيب هل ابن الطبيب يصبح طبيب؟! إذا لم يسلك الطريق الذي سلكه أبوه لا يكون نجار ولا طبيب.
فسابقوا، الجنّة تحتاج إلى تشمير، والمغفرة الناس تظن عندما يقول الله غفورٌ رحيم وكأنه هو الله، هو المذنب وهو الله الغافر! يعني إذا كنت تقول الله غفور رحيم، يعني غُفرت ذنوبك فأين الله؟ أين كلام الله؟ أين الشروط التي ذكرها الله في القرآن حتى تصل إلى المغفرة؟ الله يقول:

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ (82)
[سورة طه]

يترك الذنب تركاً بلا عودة، هذه التوبة النصوح، ترك الخمر بلا عودة، القمار بلا عودة، صُحبة الفسقة الفجرة، إذا تبت وتركت الخمر وعدت وجلست مع السكيّرين ستعود سكّير، إذا تبت عن القمار وعدت إلى مجالستهم وإلى لعبهم بالقمار، النفس ستتغلب عليك وتُرجعك إلى الذنب، النفس إذا خرجت من الجسد هل يتوفى الإنسان مرةً أُخرى؟! سابقوا وسارعوا الثوب كلما عدت إلى الأوساخ سيتسخ ولو غسلته مرة ثانية وثالثة.
لذلك ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: بأنَّ رجلاً قتل تسعاً وتسعين إنساناً، ثم بفضل من الله بالهداية فكّر فيما فعل فندم على ما أجرم، فدفعته الفطرة للتوبة، فسأل عن أعبّد أهل الأرض في بلده، فدلّوه على عابد، قال له: هكذا أنا فعلت فهل لي من توبة؟ قال له: لا توبة لك، فقال له: مادام لا توبة لي فسأُكمِل بك المائة فقتله، فدُلَّ على عالمٍ فسأله: أنا فعلت كذا هل لي من توبة؟ فقال له: ومن يحول بينك وبين التوبة، الله ينادي المُذنبين:

{ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا. }

[صحيح مسلم]

أنت نائم، أنت تلعب قمار، وتشرب الخمر، وتفعل وتقول وتعمل، والله يمدّ يده لك يا عبدي تُبّ أنا معك، أنا أرى ما تفعل، أنا أسمع ما تقول، أنا أعلم السِرَّ وأخفى، ما السرّ؟ الذي تُخفيه عن الناس، وما الأخفى؟ هي أسرارك التي لم تخطر لك على البال وستُسرُّ بها في وقتٍ من الأوقات، يعلم أسرارك الحاضرة والأسرار التي لم تُسرَّ بها وستُسرّ بها في المستقبل، قال له: ومن يحول بينك وبين التوبة، فتاب على يده، قال له: لكن حتى تثبت على التوبة لا تصحب الفُجّار والأشرار الذين كنت تَصحبُهم، ودلّه على جماعة من الصالحين قال له: تصحبُهم بدل صُحبة الأشرار، فإذا الإنسان كان يصحب الأشرار فإنه سينزلق إلى الشرور، إذا أحبَّ الأشرار وصاحبهم، وأكل معهم وذهب معهم، لا يصح يا ابني، واحد يجلس في مكان كريه، ويشرب الأركيلة أو فنجان شاي أو قهوة، والدنيا شتاء وحوله نفايات، إذا لم يسقط أقل المراتب سيشم الرائحة الكريهة، فإذا كان يستمتع بهذه الرائحة الكريهة معناه هو جرذ، لأنه من يستمتع بهذه المناظر والروائح الكريهة؟ هذا عطر الجرذان، أما النحل أين تراهم؟ تراهم في الحدائق الغنَّاء، وفي الورود والزهور التي تَفيض مِسكاً وعِطراً.
قال له: لتكون توبتك نصوحاً اذهب إلى المكان الفلاني هناك جماعةٌ صالحون جالسهم لعل الله أن يقبل توبتك، الله يقبل لكن يجب أن تصبر على التوبة ولا ترجع إلى ما كنت عليه، قال وهو في طريقه أتّته ملائكة الموت فقبضت روحه، فنزلت لاستلام روحه إلى السماء ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ملائكة العذاب قالوا لملائكة الرحمة: لماذا أتيتم؟ قالوا لهم: أتينا لأنّ هذا تاب ومن قلبه وأناب فنحن أولى به.

{ التَّائبُ من الذَّنبِ كمن لا ذنبَ له }

[أخرجه الطبراني وابن ماجه]

إلا حقوق الخلق أذا آكل مال، إذا مُغتاب إنسان، إذا مؤذي إنسان يجب أن تستسمح منه، إذا غيبة الأفضل أن لا تستسمح لكن تستغفر له وتدعو له، أو تهديه هدية، أنت إذا ظلمته بالغيبة ثم دعيت له أو أكرمته استبدلت السيئات بالحسنات، هل تريد الجنة مجاناً يا ابني؟! لكن الناس يظنون الآخرة مثل الفجل، الفجل لا تأخذه مجاناً، جنّةً عرضها السماوات والأرض تريد أن تأخذها بلا أي دفع، هذا جهل يا ابني أصعب من جهل الجاهلية، ملائكة العذاب قالوا: هذا قتل مائة قتيل، فأنزل الله مَلَكاً يقضي بينهم، قال: قيسوا ما بين الأرضين وإن وجدتموه إلى أرض المتقين والطائعين أقرب فلتستلمه ملائكة الرحمة، وإن وجدتموه إلى أرض الفُسّاق والمنافقين والأشرار أقرب فلتستلمه ملائكة العذاب، فقاسوا ما بين الأرضين فأوحى الله لصدقه في توبته، وإخلاصه في إنابته، أوحى الله إلى أرض الطاعة أن تقرَّبي من عبدي، وأوحى إلى أرض المعصية أن تباعدي عن عبدي، فقاسوا فوجدوه أقرب إلى أرض المُتقين بقلبه وبجسمه بأربع أصابع فاستلمته ملائكة الرحمة.

{ كانَ في بَنِي إسْرائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ إنْسانًا، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ، فأتَى راهِبًا فَسَأَلَهُ فقالَ له: هلْ مِن تَوْبَةٍ؟ قالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ، فقالَ له رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذا وكَذا، فأدْرَكَهُ المَوْتُ، فَناءَ بصَدْرِهِ نَحْوَها، فاخْتَصَمَتْ فيه مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذابِ، فأوْحَى اللَّهُ إلى هذِه أنْ تَقَرَّبِي، وأَوْحَى اللَّهُ إلى هذِه أنْ تَباعَدِي، وقالَ: قِيسُوا ما بيْنَهُما، فَوُجِدَ إلى هذِه أقْرَبَ بشِبْرٍ، فَغُفِرَ له }

[صحيح البخاري]


الجنَّة تحتاج إلى سباق:
فسابقوا، هذا السباق يجب أن تُكمله يا ابني، معنى السباق أنك ستركض، ومعنى السباق أنك ستعرق، ومعنى السباق أنك تترك كل شيء إلا ما دُعيت إلى المسابقة فيه، الآن إذا كان يوجد مسابقة لتوزيع السُكر وقت الغلاء أو لتوزيع زيت وحددوا ساعة معينة ألن يصير سباق وتنافس؟ الله يدعونا إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، وبحسب عقولنا لا نفهم إلا بهذه اللغة، فإذا العرض السماوات والأرض فما هو طولها؟!

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
[ سورة السجدة]

أحوال الآخرة تشترك مع أحوال الدنيا بالألفاظ والأسماء، أما في الحقائق (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) فاكهة فاكهة، زوجة زوجة، لكن زوجة الدنيا وزوجة الآخرة مثل الغوريلا وملكة الجمال.

انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
[ سورة الإسراء]

(سَابِقُوا)، فالمسلم كم قرأ القرآن ومرَّ بهذه الآية؟! ويوجد آية سارعوا، ففكر أنه يقف عندها ويُشمر عن ثياب إرادته وهمته، يرى نفسه في ميدان السبق أين هو؟ إذا أراد أن يبدأ السَبق إذا السَبق بطريق بيروت وهو مازال في عدرا هل هذا ينجح في السَبق؟ هل فهم السَبق؟ هل فهم ما معنى السَبق؟ فلا تزهدوا في قراءة القرآن يا ابني، الله قال:

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
[سورة البقرة]

ما حقّ التلاوة؟

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

إن في ذلك في القرآن لذكرى يعني تذكر والذكرى تنفع المؤمنين، لمّا تقرأ القرآن ينتفع بأداء أوامره، واجتناب محارمه، والتخلُّق بأخلاقه، والاستجابة إلى نداءاته، ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه، آمن بآية واحدة من آيات القرآن، أنت مطلوب منك أن تؤمن بكل القرآن، يعني أن تفهمه حقّ الفهم، أنا لمّا أؤمن بهذه الكأس إنها زهورات، فمن إيماني أنها زهورات أنا أشربها، إذا عدلت وآمنت أنها مازوت هل أضعها على فمي؟! فهذا هو الإيمان المُنجي، وهذا هو الإيمان الذي يوجب النصر.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
[سورة الروم]


الإيمان الحقيقي هو الإيمان المُنجي وهو الذي يوجب النصر:
هذا الإيمان الذي يجعل لك من كل ضيقٍ فرجاً، من أكثر من الاستغفار، ما الاستغفار؟ طلب المغفرة، والطلب باللسان، إذا طلبت شراء بناء تطلب من صاحب البناء تقول أطلب منك يا صاحب البناء أن تبيعني بناءك، يقول لك أين الثمن؟ تقول له: أنا أطلب منك بالقول! أيضاً استغفر الله يعني أطلب منك المغفرة يا الله، فلما تطلب أي شيء تُهيئ أسبابه، النبي يقول: "إذا أراد الله أمراً هيّأ أسبابه" إذا أراد أن يُعطيك ولد هيأ أسبابه، يُهيئ لك الزواج، يعطيك زوجة، يُلهمك أن تشتغل وتعمل وتأتي بالمهر، فإذا الله لا يعمل إلا بالأسباب، فالمسلمون يريدون أن يكونوا أعظم من الله! يريدون النصر بلا أسباب، يريدون الدنيا بلا أسباب، يريدون النجاح بلا أسباب، يريدون العزّ والفخر بلا أسباب، إذا رأوا من يأتي بالأسباب ويجدّ ويجتهد، تجدهم بين حاسدين وبين مؤذيين، لا يعمل ولا يمكن الإنسان أن ينتفع إلا من عمله، يريد أن ينتفع من عمل غيره، يطلب المستحيل فيصبح منبوذً في الأرض وفي السماء، النبي سمّى الحسد الحالقة، قال:

{ دبّ إليكم داءُ الأمم قبلكم الحسدُ والبغضاءُ هي الحالقةْ لا أقولُ تَحلقُ الشّعرَ ولكن تَحلق الدّين }

[أخرجه الترمذي وأحمد]

صلاته التي يُصليها محلوقة، صومه محلوق، زكاته محلوقة، الإسلام يا ابني يجب أن تأتي بكل أوامره وتجتنب كل نواهيه، السيارة يجب أن تضع فيها كل العجلات والمحرك و البطارية وإلى آخره، يجب أن تجتنب كل طريق لا يصلح للسير بها، أنت تعرف أن المرسيدس إذا أردت أن تصعد فيها على رأس الجبل طريق قاسي هل تصل؟! لأنك تستعملها لغير ما صنعت له.

الله غفّار لمن يطلب المغفرة:
(سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ)، فالله يقول لِمن يطلب المغفرة (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ) يجب أن تترك المعصية، سواءً معصية اليد بأكل الحرام أو عمل الحرام، أو اللسان الغيبة، الكذب، النميمة، الفساد، الإفساد، أو بالعين النظر إلى الحرام، أو بالأذن السماع إلى الحرام، أو بالمجالس مُجالسة الفُسّاق في فِسقهم، في أقوالهم، أو أعمالهم، أو تصرفاتهم، هذه المسابقة، إذاً لتصل لهذه المعاني يجب أن تُسابق إلى مرضات الله بيدك، بقدمك، بأّذنك، بعينك، لا تنظر إلا إلى أحباب الله.

{ خمسٌ من العِبادةِ: قلَّةُ الطَّعامِ عبادةٌ، و القُعودُ في المساجدِ عبادةٌ، و النَّظرُ في المصحَفِ من غيرِ قراءةٍ عبادةٌ، و النَّظرُ في وجهِ العالِم عبادةٌ، و أظنُّه قال: و النَّظَرُ في وجهِ الوالدينِ عبادةٌ }

[أخرجه الألباني إسناده ضعيف]

إيُّ نظرة؟ نظرة الحُبّ، نظرة واحدة على حُبّ، الله يُسعد فيها صاحبها من الدنيا إلى الآخرة، ونظرة فاسق بيده، أو بلسانه، أو أي عمل قد تُشقي صاحبها من الدنيا إلى الدار الآخرة.
(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ)، التوبة تُقلع عن المعاصي، تترك كل أعضاءك، وجوارحك، وأعمالك الفاسقة، تعزم عزماً أكيداً، الترك الكُلّي من أصحاب، وأعمال، وأخلاق، وسهرات، هذا الترك، وثم تعمل عكسها تستخدم كل جوارحك وسمعك وبصرك، وفكرك، وقلبك، ويدك، ومالك، في مرضات الله.
(لِّمَن تَابَ وَآمَنَ)، تؤمن بالقرآن إيمان العِلم، إيمان الصدق واليقين، إيمان العمل، (لِّمَن تَابَ وَآمَنَ)، الإيمان الحقيقي يوُجب العمل، قال: (وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ)، يبحث بعد ذلك على مجالس العِلم، والمعرفة، وتزكية النفس، ويبحث على من يُحقِّق له دينه وشخصيته الإيمانية، شخصيته الإسلامية، يجب أن تبحث عن مسالك الهداية، (ثُمَّ اهْتَدَىٰ) يعني يطلب الهداية، يبحث على مجالسة عالِم، عامل، مُخلِّص، داعي إلى الله، مُرشد، مُربّي، مُزكّي، حكيم، فأين نحن من آية قصيرة من آيات القرآن؟! هل آمنّا بها كما أنا مؤمن بهذه الكأس، مؤمن أنه اليوم الجمعة والساعة الحادية عشرة يبدأ الدرس، من إيماني بهذا حضرت في الوقت المُحدّد، وأنتم أيضاً حضرتم لإيمانكم، أما لو كنتم غير مؤمنين أن الدرس بهذا الوقت شَكَّكتم أو تَوهمتم لا يوجد اليوم، فإيمانك يا ابني إيمان حقيقي؟ أم إيمان كذب؟ أو إيمان جاهل؟ أو إيمان إنسان لا يفهم شيء؟ (ثُمَّ اهْتَدَىٰ) الله قال:(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) طلبوا الهداية من مواطنها، من مصادرها، من ينابيعها وأنهارها (زَادَهُمْ هُدًى)، ومن لا يطلب الهداية لم يهتدي، ولا يطلب الضلال ليزيد ضلالاً إلا الضّال.

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
[سورة الفاتحة]

دُلّنا على الطريق حتى نصل إليهم، حتى يصيروا جلسائنا ومعشوقي قلوبنا، ( المرءُ على دين خليلِه، فلينظْر أحدْكُم من يُخاِللْ).

النسب الروحي يكون من التقاء قلبين وروحين:
(ثُمَّ اهْتَدَىٰ)، بعد ذلك بالمجالسة، بالمحبّة، بالإتباع، حتى ترى هذا الهادي لك هو كل شيءٍ في حياتك، إذا ما ارتبطت بالمُنشئ المُربّي المُزكّي، كارتباط الربيع بالمروج، أو كالعاشق في معشوقه، أو كالحريص على المال بثروته وماله، إذا لم يكن لك هذا الرباط الحُبّي الذي النبي قال عنه:"لا إيمان لمن لا محبة له" هناك ناس يا ابني ببركة الشيخ يصيروا أولياء، وأناس يصيروا أبو جهل، يوجد أناس يصيروا أبو لهب، ويوجد أناس سعدوا برسول الله كأبو بكر وعمر والصحابة، حتى صاروا خير أمةٍ أخرجت للناس.
ويوجد أناس شقوا بالنبي حتى صار ألعن هذه الأمة كأبي جهلٍ وأبي لهب، الله لم يذكر من أسماء الكفار في القرآن غير أبو لهب وهو عمّ النبي، حتى يفهم الناس أن القرابة الجسديّة سواءٌ مع النبي أو مع وارث النبي لا تفيد شيئاً، بل يُضاعف العذاب لصاحبها إذا عمل على عكس ما يجب أن يعمل، كما أنّه إذا كان مع القرابة الجسدية يوجد قرابة الحُبّ والإيمان يصير الثواب مُضاعف لأنه يصير قدوةً للناس في الخير ولذلك الله قال:

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
[سورة الأحزاب]

أول عذاب قِصاصاً على المعصية، والعذاب الثاني لأنَّ الناس يقولوا زوجة النبي هكذا فعلت، ابن النبي هكذا فعل، زوجة الشيخ فعلت كذا، ابن الشيخ عمل كذا، يصيروا قدوةً في الضلال والآثام والشرور، ولذلك الله نص على نساء النبي، ونص على اسم أبي لهب حتى لا ينغرَّ بالأحساب والأنساب:

قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
[سورة هود]

من أهله جسدياً لكن ليس من أهله روحيّاً، لأنّه النسب الجسدي يكون بلقاء الزوجين، النسب الروحي يكون من التقاء القلبين والروحين، القلب الإيماني لا يوازيه كل مخلوقات الدنيا، لأنَّ كل مخلوقات الدنيا تفرح بها وليس لك منها شيء، صار معه مليار يستفيد من المليار شيء؟ يستفيد من مائة ليرة سورية لكن لا تستفيد منه ولا قرش، يركض ويتعب ويموت حتى يُدخلوه نار جهنم أو يبقوا لأعدائه، أو لمن لا يبالون به عند موته، فهذا يا ابني خسر في المسابقة.
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ترضى واحد يقول لك يا كافر بالقرآن؟! لمّا تغتاب والله يقول لك:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ(12)
[سورة الحجرات]

فأنت الله يقول لك (وَلَا يَغْتَب ) وأنت تغتاب أنت مؤمن بهذه الآية أم كافر بها؟
لمّا يقول لك:(اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ) لا تظّن بغيرك إلا في المعاملات، "إن من الحزم سوء الظنّ"، هذا في المعاملة، رأيت واحد يحمل زجاجة قلت هذا يحمل الخمر، رأيت امرأة ظننت بها ظنّ السوء، هذا لا يجوز، هل أنت مأمور أن تبحث عن أحوال الناس؟ هل الله سيسألك لماذا لم تتحقق هذه المرأة زوجته، أم أمه، أم امرأة يمسكها، الله سيسألك؟! فالذي يسألك عنه تتركه، والذي لن يسألك عنه تتدخل به، فكيف الذي يجتاز الحلال إلى الحرام ويترك الفرض إلى المعاصي والآثام؟ هذا سابقوا؟!
(سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ)،فالمغفرة بأي شيءٍ تُنال؟ بالتوبة، والإيمان، والعمل الصالح.

إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70)
[سورة الفرقان]

هذه علامة التائب، يصير كذّبه ينقلب إلى صدق، غيبته تنقلب إلى ذكر محاسن الناس لأنَّ الله لم يطلب منه يُحاسب المخلوقات، إيذائه ينقلب إلى نفع؟ حسده ينقلب إلى رضا بما رزقه الله، وفرحه بأخيه المؤمن إذا الله أكرمه بنعمة من مال، أو جاه، أو دار، أو زوجة، أو سيارة أو إلى آخره.

{ لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ }

[صحيح البخاري]

أما أكثر الناس إذا رأى أخاه في نعمة يريد أن يُؤذيه، ويريد أن يكذب، ويحسد، ويغتاب، ويريد أن يؤفك الإفك، قد تكون النعمة النقمة، كثير من الناس أهلكوا دينهم بدنياهم، فقدوا دينهم بِغناهم، بجاههم، بحكمهم، بسلطانهم، النبي كان يقول:

{ لا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ مالًا، فَسَلَّطَهُ علَى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، وآخَرُ آتاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهو يَقْضِي بها ويُعَلِّمُها }

[صحيح البخاري]

إذا أردت أن تحسد، احسد لكن بشيئين، رجل أعطاه الله مال صار ينفقها في الخير وفي ما يُحبُه الله ويرضى، هذا احسده ليس على المال المستعمل في غير مرضاة الله، تحسده على إنفاقه في مرضاة الله وليس على المال، والثاني إذا أردت أن تحسده (وآخَرُ آتاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهو يَقْضِي بها ويُعَلِّمُها) يقضي بها بين الناس.

الإخلاص شُعبة من شعب الإيمان:
إذا أنت مؤمن بأنَّ محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله تقبل بكلامه، وإذا أنت قبلت كلام الشيطان قل أنا مؤمن يا أخي بالشيطان ولست مؤمن بمحمد رسول الله، تقول له: أين الشيطان مدفون حتى أتبارك بعتباته، لأنك لا تعرف النبي إلا نافذة نحاسية والنافذة يا ابني لا تنفعك، والمؤمن الكامل أفضل عند الله من الكعبة، فإذا سيدنا عمر قال: "ما أعظمكِ وأعظم حرمتكِ عند الله، غير أنَّ المؤمن أفضل عند الله منكِ"، تذهب إلى الحج ويوجد من هو أفضل من الكعبة، حج الفرض لا يوجد كلام، ولكن يجب أن تحج حج بتعلّم من عالِم حقيقي تتعلّم ما هو الحج، ما هي فرائضه الحقيقية لا الجسديّة، الأخلاقيّة، الروحيّة، الربّانيّة، يجب تلزم شيخك شهر أو سنة حتى تتهيأ أن تكون حاجّاً حقيقياً.
مرةً كان والد الشيخ عبد الرحمن بركات رحمه الله، كان من كبار العلماء والصالحين، أتى لشيخنا يريد أن يذهب إلى الحج فقرأ عليه مناسك الحج، قالوا له: أنت عالِم وهو كان عالم كبير ورجل من الصالحين، قال له: سيدي أنا صحيح أعرف لكن إذا لم أتعلّم مِنك حج الفرض أخاف أن أقع في الخطأ، يعني كم فيه من التواضع وهضم النفس! أريد أن أتعلّم وأنا الشيخ الكبير هذا هو الإخلاص وهذا الإيمان" الإخلاص شعبةٌ من شعب الإيمان"
متى سنعملها حتى يأتينا عزرائيل ونرى الآخرة والجنّة والنار ومُنكر ونكير؟! هناك سنتوب؟!

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158)
[سورة الأنعام]

(سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ)، الله هكذا يأمرنا، فهل أنتم مستعدون تنفذوا نداء الله وتنفّذوا هذا الأمر الإلهي؟ يا ترى هل ستنفّذوا؟؟ برفع الإصبع، أم ستغيروا أخلاقكم، وأعمالكم، وأصدقائكم، وسهراتكم، وجُلسائكم، وصرف أموالكم، وأخلاقكم مع نساءكم، والمرأة أخلاقها مع زوجها، فقط بالكلام يا ابني، من منكم يريد أن يصير وزير؟ من يريد أن يكون عنده مائة مليون ليرة سورية؟ لكن يا ابني بالتمني، بالكلام ورفع الأصبع يصبح عندك مليون؟! كذلك نريد أن نُسابق بالتمني أم بمجرد السماع أم برفع الأصبع، أم بالعمل؟ نخرج من المسجد نفتش أنفسنا ماذا عندنا من ذنب، هذا إذا أراد أن يشارك في مسابقة الركض ويحمل كيس كبير من الإسمنت، هل هذا نرجو أن ينال الشرف ويأخذ كأس الفضة؟! وإذا يحمل معزة باليد الثانية هل هذا ممكن أن يسبق؟! فلا نريد أن نضحك على أنفسنا ونُضحك الشيطان علينا، الشيطان لا يحزن إذا قلت أستغفر الله وأتوب إليه وأنت غافل عن فهم المعنى، غافل ولا يخطر ببالك أن تُحقِّق حقيقة هذا المعنى.

السباق إلى مغفرة الله أن تتوب من جميع ذنوبك:
(سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ)، ما المسابقة؟ فتش نفسك ما الذنب الذي عندك؟ بالعين، أو بالأذن، أو باللسان، أو بالرفيق، أو بالرفيقة، أو صاحبتكِ، أو جارتكِ، أو ابنتكِ، أو أختكِ.

لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
[سورة المجادلة]

الإيمان الحقيقي الصادق

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

الذي يؤمن باليوم الآخر يتجرأ أن يفعل معصية ولو نظرة من طرف عينه؟! النبي رأى بعض الناس، يفتّشوا غيرهم من نساء أو رجال، ويطقّوا القمل بأظافرهم، لكن النبي رأى أنه لا يوجد قمل، قال لها: هل يوجد قمل فقالت له لا، فقال لها: إن الله يكره ويُبغض كذب الأنامل، الله يكره الكذب.

{ أتى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في بيتِنا وأنا صبيٌّ قال: فذهبتُ أخرجُ لألعبَ فقالت أمي: يا عبدَ اللهِ تعالَ أُعطيكَ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: وما أردتِ أن تُعطيه؟ قالت: أُعطيه تمرًا قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أما إنك لو لم تُعطِه شيئًا كُتبتْ عليكِ كَذِبةٌ }

[أخرجه أبو داوود وأحمد]

فكيف الذي يكذب للتفريق بين الزوجين، أو للتفريق للإضرار بالناس، أو التفريق حتى يأخذ بيعة، واحد اتفق هو والمشتري، النبي قال:

{ لا يبيعُ أحدُكم على بيعِ أخيهِ }

[صحيح النسائي]

إذا خطب واحدة، يُفسد له الخطبة حتى هو يخطبها، يُفسد البيعة حتى هو يشتريها، هل هذا سابقوا إلى مغفرةٍ أم سابقوا إلى جهنم؟! إلى غضب الله، إلى معصية الله، (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ)، الله هو من يغفر، والله سبق وبيَّن طريق المغفرة كيف تنالها.
(وَجَنَّةٍ) إذا قال وزير الإسكان إذا عمل خمسين بيت وأراد أن يعمل مسابقة سواءً بالمال من يدفع أكثر أو إلى آخره، لو عمل مسابقة بالركض الذي يسبق يأخذ بيت، الذين يريدون بيوت ماذا يفعلوا؟ إذا وزنه زائد يدمّر نفسه، يُخفف وزنه شهر وشهرين ثلاثة حتى يستعد لينجح في السِباق، الله يقول سابقوا هل فهمتم على الله ماذا يعني سابقوا؟ افهموا هذه الكلمة وحدها تكفي.
أبو جهل هل تزكّت نفسه بالنبي لماذا؟ لأنه لم يرتبط، لم يرتبط برابطة الحُبّ، ولكن قطع الرابطة برابطة البغض والعِداء، بالقول، وبالعمل، وبكل الطاقات التي يملكها، فسابق إلى جهنم وسابق إلى سقر، وسابق إلى غضب الله، فنحن نقرأ القرآن ونعمل عكس ما يطلبه منا القرآن، وبعد ذلك ألا يوجد موت؟ ألا يوجد عزرائيل؟ تعتقد أنك لن تموت إلا بعد خمسين سنة وتتوب؟! بالعكس.

كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
[سورة المطففين]

النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

{ إنَّ المؤمنَ إذا أذنبَ كانت نكتةٌ سوداءُ في قلبِه فإن تاب ونزع واستغفرَ صقلَ قلبُه فإن زاد زادت فذلك الرَّانُ الذي ذكرَه اللهُ في كتابِه { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوْا يَكْسِبُونَ }

[صحيح ابن ماجه]

إذا قلبك مثل المرآة صافي انعكس فيه نور الله، يعرف الفطرة يعرف الصدق لا يعرف الكذب، يعرف الأمانة لا يعرف الخيانة.

{ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ البَهِيمَةِ تُنْتَجُ البَهِيمَةَ هلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ }

[صحيح البخاري]

أو صديقه وجليسه (فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ)، وقل لي من تُجالس ومن تُماشي، ومن تُعاشر، ومن تُصاحب وأنا أقول لك من أنت.
(سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ)، فالآن عندما تخرجوا من المسجد تعملوا سِباق أم لا؟ الذي سمعناه في المسجد نبقيه في المسجد، هذا يا ابني معناه لا يوجد قلب، قلب نجس، قلب قاسي لا يتأثر، (إنَّ المؤمنَ إذا أذنبَ كانت نكتةٌ سوداءُ في قلبِه) فإذا تكررت الذنوب نكتة فوق نكتة فيصبح قلبه في المرآة كله يُحجب فلا ينعكس شيء من نور الشمس، وتكرار الذنوب بعضها وراء بعض يُذبل القلب، فيقسو القلب فلا يتأثر بموعظة ولا تنفعه ذكرى ولا تذكرة.

كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ(14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
[سورة المطففين]


الارتباط بأحباب الله وورثة رسوله سعادة الدنيا والآخرة:
يا ابني هل تصبح نجار بلا رابطة مع المُعلّم؟! تستيقظ من نومك فوراً إلى العمل، إذا كنت ستدخل مسابقة هل تستطيع أن تتأخر خمس دقائق؟ قد تسعدك وقد تشقيك، أما الارتباط بأحباب الله وورثة رسول الله، والله سعادة في الدنيا والآخرة، والله ما أحد ارتبط بأحباب الله الارتباط الصادق المُخلِّص الله يُخلف وعده؟! قال:

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
[سورة الزمر]

ألا تريد أن تصبح غني، وموفق؟ يجب أن ترتبط مع الشيخ أيضاً، هل ترتبطوا الرابطة الحقيقية انظر لنفسك، هل تحب زوجتك أكثر أم شيخك؟ ابنك أم شيخك؟ سيارتك أم شيخك؟ الله في القرآن قال:

لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
[سورة المجادلة]

عندما تخالف أوامر الله وأوامر رسول الله أنت تكون معه على رضاه؟! في عالم الإيمان بالله لا يوجد إنسان بهذا الشكل، هذا خارج عن الإيمان، وآية أُخرى قال:

قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
[سورة التوبة]

هل يوجد أغلى من الأب، إذا كانت هذه الأشياء مُنفردة أو مجتمعة إن كانت أحبّ إليكم من الله ورسوله، وبعد رسوله ألا يوجد من ينوب عن النبي في أداء ما أُرسل به النبي من تعليم الكتاب والحكمة والتزكيّة؟ هو قال:

{ العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ }

[أخرجه أبو داوود والترمذي وابن ماجه]

هل حُبّك للشيخ بلغ عُشر ما ينطق به القرآن؟ إذا لم يبلغ لماذا تقرأ القرآن؟ تقرأه للعِلم والعمل أم لمجرد القراءة ولا عِلم ولا عمل؟ اذهب جدد إسلامك وإيمانك بالقرآن وبعد ذلك اقرأ، لمّا شيخنا أخذ الطريق، ما معنى الطريق؟
الطريق معناه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) الصراط هو الطريق، يجب يُعاهد الشيخ أن يمشي على صراط الله المستقيم، ويتوب إلى الله ويقوم بأداء كل ما فرض وطلب، فبعد ما أعطى العهد شيخنا للشيخ، قال له: تترك كل أعمالك، قال له: عندي دروس، قال: لا تُعطي الدروس، قال له: كل يوم أقرأ خمس أجزاء من القرآن، لأنه رأى أنه إذا لم يُكرر سينسى، قال له: وقراءة القرآن تتركها، لا تعمل إلا الفرائض، الصلوات والنوافل والباقي تشغله بذكر الله، لكن لمّا أخذ الأسباب وتهيأ روحيّاً بمجرد الأخذ تكهرب، لأنه إذا كان السلك غير مهيأ يعمل كهرباء؟ ففي الحال تكهرب شيخنا، ففي أربعين يوم قال له: الآن ارجع إلى ما كنت عليه، قال: لمّا رجعت إلى قراءة القرآن وجدت نفسي أني أقرأه خلاف ما كنت أقرأ، وأفهمه خلاف ما كنت أفهم، وتجلّى لي من أنوار القرآن، وتأثري بالعمل بالقرآن ما لا أعرفه قبل أن أقع تحت نظر شيخي، وتحت نظر تربيته رضي الله عنهم وأرضاهم.
إن كانت هذه الأشياء (أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) يعني حتى يأتيكم بعذابه، (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) من الفاسقين؟ الذين لا يكون الله ورسوله أحبّ إليه من كل هذه الأشياء، الذي بصره ضعيف ويضع نظارة كل سنة يقول له الطبيب يجب أن تعمل فحص، والمريض يقول له كل شهر يجب أن تعمل تحليل دم، والذي يتعلم عِلم إذا دائماً كرره لن ينساه.

ما هي حقيقة الإيمان؟
(سَابِقُوا)، فهل أنتم مستعدون أن تُسابقوا؟ إذا كنت الآن وصلت هل ستبقى مكانك أم ستسير ثلاث خطوات للأمام، في كل أعمالك في صلاتك، في ذكرك، في صُحبتك، في محبتك، في جُلسائك، في بيتك، في رفاقك، في نشاطك، (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ).
إذا سابقاً إذا كنت هذه الأشياء تقع في الذنوب، يجب أن تمحوها بالتوبة الصادقة قولاً، وعملاً، وحالاً، وسلوكاً، وواقعاً، (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ).
إن لكل قومٍ حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ لا يكون إيمان الأقوال كالمنافقين، إيمان القلب، وإيمان العمل، وإيمان السرّ، وإيمان العلن:

يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(4)
[سورة التغابن]

(أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)، الإيمان بالرسول ماذا يقتضي؟ يقتضي الطاعة، يقتضي المحبِّة، يقتضي الامتثال، كانوا يَفدونه بأرواحهم، بأموالهم، واحدة منهم في معركة أحد فقدت زوجها، وابنها، وأباها، وأخاها، كل ما سمعت بواحد أنه قُتل تقول ورسول الله، يقولوا لها: بخير، تقول: كُل مصيبةٍ دون رسول الله جلل، كان النبي أغلى من أبوها، وابنها، وزوجها، وأخوها وحياتها.
سيدنا سعد في معركة أحد لمّا صاروا يضربوا بالسهام وضع صدره أمام صدر النبي وعمل نفسه درع، ويقول صدري لصدرك وِقاء وروحي لروحك فداء، الذين ينتفعوا بالشيخ يا ابني بأخلاقهم، بدينهم، بتعلمهم العِلم الحقيقي والحكمة، من أين انتفعوا؟ انتفعوا من هذا الباب فقط، هذا الباب أولاً و آخراً، و(المرءُ على دينِ خليلِه)، حبيبه، اللهم إني أسألك حُبَّك وحبّ من يُحبَّك وحبَّ عملٍ يُقربنا إلى حبّك.

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)
[سورة آل عمران]

إذا قلت لكم سابقوا إلى بيت طوله وعرضه مائة وخمسون متر، والآن الذي لا يصل إلى مكان المحدد لا يحصل على بيت، والله ممكن أن تتركوا الدرس، ولو عندك بيت تسابق وتقول زيادة الخير خير، من أجل بيت مائة متر تترك الله، والمسجد، والقرآن، والشيخ، وكل شيء! والله يوجد منكم من يُعطوه الدنيا والله لا يسابق بقدمه ولا بقلبه، ولا بنظره، والذي لا يستطيع يطلب من الله، يطلب لا بالقول، لا بالتمني، بالعمل.
(أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ) ما الإيمان بالله؟ أن تعبُد الله كأنك تراه، الإيمان بكتاب الله أن تعلمه حقَّ العِلم وتعمل به حقَّ العمل،( وَرُسُلِهِ) هذه الجنّة التي عرضها السماوات والأرض إذا دفعت ثمنها بالتوبة بتمام المغفرة، والمسابقة إلى الأعمال الصالحة (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ)، إذا وصلت للجنّة بهذه الأعمال، إذا كنت تعمل خمسين ستين سنة إما يصبح لديك بيت أو لا، وبيت مائتان متر، وإذا كان صار عندك بيت أو بناء هل هذا أعظم أم جنة عرضها السماوات والأرض؟! فإذا لتلك تركض إمّا تحصِّل أو لا تحصِّل، وبهذه لا تركض هل أنت تعرف أن تُتاجر؟ هل تعرف مصلحتك؟! أين أبوك؟ أين جدك؟ أي أمك؟ أين جدتك؟ أصبحوا بالقبور الآن، يتمنوا أن يرجعوا إلى الدنيا ليصلّوا ركعتين بخشوعٍ وحضورٍ مع الله، ويتركوا كل الدنيا لأنهم عرفوا الحقيقة.

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)
[سورة الكهف]

صدق الله العظيم أم كذب الله العظيم؟! وصدق الله العظيم تركض إلى الباقيات الصالحات، وكذب الله العظيم لا تغير وضعك وتبقى على ما أنت عليه ولو قرأوا لك القرآن من أوله إلى آخره.

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
[سورة الجمعة]

الله لا يجعلنا حمير، الله يجعلنا بني آدم، لا بني آدم بالجسم بني آدم بالعقل وبالفهم، وبالتقوى، وبالإيمان.

كيف تتقرب إلى الله لتُصبح محبوباً لله؟
(ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ)، ومن الذي يشاء الله أن يؤتيه هذا؟ الذين سارعوا إلى مغفرةٍ من ربهم، سارعوا إلى جنّةٍ، إلى الجنّة بماذا المُسارعة؟ بالأعمال الصالحة، بأداء الفرائض، وبالإكثار من النوافل، النبي عليه والصلاة يروي عن الله يقول:

{ إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ }

[صحيح البخاري]

التقرب بالمكان؟ الله لا بالمكان والزمان، التقرُّب بما يُحبُّه من الأعمال وترك ما يُبغضه من أعمالٍ وأخلاقٍ وصفات، الله يقول: (وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه)، أحبّ شيء يُقربك من الله وتصبح محبوبه وموضع عنايته ورعايته، أن تؤدي ما فرض الله عليك من عبادات وأعمال وأخلاق ومعاملات، ولا يزال عبدي يؤدي الفرائض، (وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ) أنا أديت كل فرائضي يا رب ظاهراً وباطناً، أخلاقاً، وعبادةً، ومعاملةً، وقلباً، وإخلاصاً، وحُبّاً للخير، وبُعداً عن الشر، بعد ذلك يؤدي ما لا يُطلب منه ولم يُفرض عليه لكن دُعيّ إليه باختياره زيادة، أيضاً فوق الفرائض يؤدي النوافل، قال:(حتَّى أُحِبَّهُ) ما معنى أحبّه؟ كان أولاً مُحبّاً لله والله مَحبوباً له، الآن صار مَحبوباً لله والله مُحبّاً له، فأيهما أعظم يا ابني المُحب أم المحبوب؟ لمّا تحب واحد وهو لا يُحبك، تُحب زوجتك، وزوجتك لا تُحبّك، أما إذا أصبحت زوجتك تُحبك صرت محبوبها، وإذا أصبح الله يُحبك صرت محبوب الله، اللهم إنا نسألك حُبَّك أن نُحبّك وتُحبنا.

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
[سورة التوبة]

الذين رضوا عنه رضوا عن شرعه فسابقوا إلى أداءه، رضوا بقضائه وقدره، أفقره، أغناه، أمرضه، أصحه، في النعماء راضي، في البأساء راضي، هذا هو المؤمن يا ابني.
رئيس عشيرة عرب رأى حول القبائل كل الجِمال ميتة على مدّ البصر، فساق الجمال شيخ القبيلة فماتت كلها قال: فلما لقيته رأيته على تلةٍ، فقام يعزيه، قال له: أعظم الله أجرك والله يعوض عليك، قال له: كانت بإسمي واستردها صاحبها.
في حياة النبي إحدى الصحابيات مات ابنها، أتى زوجها بالمساء قال لها: كيف حال الولد؟ قالت له: بخير، قال لها: أريد أن أراه، قالت له: نائم وأخاف أن يستيقظ، أتركه هادئ لكن نام نومة لم ينم من قبل مثلها، فنام عندها بأحسن مبيت، فلما أصبحت قالت له: جيراننا استدانوا وعاءً من جيرانهم ثم بعد ذلك استردّوه، فلمّا استردّوه منهم صاحوا وبكوا وصرخوا، فقال لها: بئس ما صنعوا، قالت له: وأنت ابنك كان وديعة الله عندك وقد استردّ الله وديعته فماذا أنت فاعل؟ هذه ملكة الجمال، أما ملكة الجمال بالجلد أو بالنقوش؟ الأفعى لا يوجد أحلى من جلدها، تحبوا أن تضعوا في حضنكم أفعى؟ أم الإبر على كل شعرة فيها إبرة، فكذلك الزوجة الصالحة، الله يرزقنا الزوجات الصالحات يا ابني، ويرزق نساء المسجد وكل النساء الأزواج الصالحين.
وولد صالح خير من الدنيا وما فيها، وولد السوء نسأل الله العافية، يوجد قرة العين ويوجد قرحة العين، يوجد واحد يقرح عين والديه، ويوجد واحد يملئ قلوب والديه فرحاً وسروراً الله يملئ حياته كلها فرحاً وسروراً والعكس بالعكس الله يوفقنا.
قال له كانت باسمي واستردها صاحبها وأنشد قائلاً :
لا والذي أنا عبدٌ من خلائقه والمرءُ في الدهر نصبُ الرزء والمِحنِ
{ }
الرزء هنا المصائب، فالإنسان في الحياة دائماً مثل الهدف والمصائب هي النشاب هو دائماً هدفها، مرة يفقد حبيب، مرة يفقد مال، مرة يفقد صحة، مرة يفقد ابن، وإلى آخره.
ما سرّني أن إبلِّي في مباركها وما جرى من قضاء الله لم يكنِ
{ }
هذا (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).
وتلك المرأة الصحابية لمّا قالت لزوجها أعطته درس لا يقدر أن يتنكر له، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام وأنها باتت عنده خير مبيت، وهناك واحدة يكون ابنها سليم، تخرّب على زوجها ويكون تعبان وتكدره وتعكّره، يوجد نساء الله يعين رجالهم عليهم، ويوجد رجال أيضاً يعملوا أكثر من المرأة، النبي عليه الصلاة والسلام قال:

{ استوْصوا بالنساءِ خيرًا فإِنَّهنَّ عوانٍ عندَكم }

[أخرجه النسائي والترمذي وابن ماجه]

وقال:

{ رِفقًا بالقَواريرِ }

[أخرجه البخاري بمعناه]

يعني كالزجاج الرقيق، أقل شيء يكسر خاطرها، وما عُبِد الله بأفضل من جبر الخواطر.
بعدما دعا النبي لذلك الصحابي الله رزقهم سبعة أولاد كلهم كانوا من خيرة المؤمنين والمسلمين.
بالنسبة للزوجين، يقال كان أبو عبد الله القرشي من كبار الأولياء، لكن زوجته كانت من كبار المنحوسات، دمها ثقيل والله أعلم منظرها كيف؟ بعد ذلك لم يعد يطيق العيش معها فهجرها وذهب إلى البرية، وفي المساء دخل إلى غار فرأى فيه اثنان من الصالحين المُتعبدين، سلّم عليهم وجلس صلّى المغرب والعشاء، فرأى لا يوجد عندهم طعام ولا أي شيء ففكر من أين يأكلوا ويشربوا؟ فبعد صلاة الليل دعا واحدٌ منهم فنزلت مائدة من السماء فيها من كل ما لذَّ وطاب فأكلوا، وفي الليلة الثانية دعا الثاني، وفي الليلة الثالثة قالوا له: أنت يجب أن تدعي و إلا فاذهب في سبيلك ولا تجلس معنا، نحن لا يجلس معنا إلا من هو من جنسنا، هل القطط تجلس مع الكلاب؟! والقطط هل تجلس مع الفئران؟! يجب أن يكون تجانس، الناقصين مع بعضهم، شاربين الخمر مع بعضهم، إذا صاحبت الموفقين علامة أنك موفق، أو أنك ستوّفق، إذا صاحبت المنحوس إما أنك منحوس مثله أو ستنتحس، فما رأيكم؟
قالوا له: إما أن تدعي لنأكل أو تخرج، فذهب وصلّى ركعتين و دعا فنزلت مائدتان من السماء! وأعظم من موائدهما، قالوا له: والله لا نأكل حتى تخبرنا بماذا دعيت؟ نحن منذ ثلاثين سنة ولا ينزل علينا إلا مائدة متواضعة، وأنت من أول يوم مائدتان وفيها من كل شيء وحلويات، من أول ليلة! يجب أن تعلّمنا، قال لهم: أخبروني أنتم أولاً بما دعيتم؟ الخلاصة بعد أخذ ورد قالوا له: نحن ندعي أنت بماذا دعيت؟ قال لهم: أنا قلت اللهم بحقّ الدعاء الذي يدعوك به الرجلين الصالحين لا تسوّد وجهي وتخجلني أمامهم ولا تفضحني وأنزل علينا مائدة لنأكل، فدعيت بدعائكما، قال لهم: أنتم بماذا تدعوا؟ قالوا له: نحن في هذا البلد يوجد رجل من الأولياء من الصالحين اسمه أبو عبد الله القرشي، عنده زوجة سيئة الخلق، فنحن ندعو يا رب ببركة صبر أبو عبد الله القرشي على زوجته نحن جياع فأطعمنا، فأبو عبد الله القرشي التفت إلى نفسه وقال لها: يا أمّارة السوء، العُبّاد الله ينزل عليهم موائد من السماء ببركة صبرك على زوجتك، ارجعي إلى ما أقامك الله فيه، إذا الله يرزق الأولياء فيه ببركة صبرك فكيف أنت ستكون منزلتك عند الله؟!

الإيمان يحتاج إلى مُعلِّم مُربي ومُزكي حكيم:
فهذا يا ابني هذا هو الإيمان، هذا هو قراءة القرآن ( ذلك فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) من يشاء هل بالحظ؟ بالصدفة؟ كله بالحساب.

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)
[سورة الأنبياء]

(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الله عز وجل يُسجل علينا مثاقيل الذرّ، النظرة تُسجل، الكلمة تسمعها تُسجل،

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(36)
[سورة الإسراء]

ما نيتك؟ تُظهر الحُبّ وتُبطن الأذى، تُظهر النصيحة وتُبطن الغش، تُظهر الأمانة وتُبطن الخيانة، تخجل من الناس ولا تخجل من الذي يعلم السر وأخفى؟!

وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
[سورة طه]

لا تخالف شرطي السير وتمشي على الشمال، ألا تخاف من جبار السماوات والأرض الذي قال لك:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
[سورة النساء]

أين الإيمان يا ابني؟! الإيمان يكون بلا مُعلّم؟ بلا مُربي؟ هل يصبح نجار بدون معلّم يا ابني؟ هل يمكن أن تصبح سائق سيارة بلا معلّم؟ متسول بلا معلّم؟
واحد كان عنده ابنة جميلة جداً، خطبها واحد من الأغنياء فلم يقبل قال له: لماذا؟ قال له: لأنك كلما تضايقت منها ستقول لها يا ابنة الشحاذين، قال له: ماذا تريد مني أعطيك، قال له: أريدك أن تتسول أربعين يوم، أزوجك ابنتي حتى إذا يوماً ما قلت لها يا ابنة الشحاذين تقول لك أنت أيضاً كنت تشحذ! بعد أربعين يوم قال له: اذهب إلى الحمام، وفي الحمام قال الشاب الخاطب قال لعمه: عمي هل عندك قطعة صابون تشحذني إياها؟ قال له: الآن زوجتك ابنتي الآن صرت تستحق.
يا ابني لا يصح بلا معلّم، الحشاش لم يصبح حشاش بلا معلّم، والمعلمون أربعة: المُعلِّم المُربي هذا أحدهم، والكتاب العِلم والتربية وأعظم الكتاب كتاب الله، لكن اقرأه للعِلم والفهم والعمل، لأنه يكون حجة الله عليك ويزداد عذابكم بتلاوة القرآن، المُعلِّم المربي، الثاني الكتاب الصادق، والثالث الصديق الصالح، والرابع الزمان ونكباته، الزمان ومصائبه، يقولوا من لم يتأدب بأدب أمه وأبيه الزمان يُربيه، وهذا أقسى الأساتذة تربيةً.
ويوجد واحدة خامسة وهي جهنم، وجهنم تربية لِمن؟ تربية لِمن لم تتزكى نفسه في الدار الدنيا، والمُخلدين فيها حتى لا يتأذى بهم غيرهم في عالم الدار الآخرة.
ذلك ما هو ذلك؟ الجنَّة التي عرضها السماوات والأرض (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)، ذلك هذا العطاء، وهذا المصير، وهذه السعادة الأبدية (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ)، لأنّك مهما عملت لا تحصل على بيت في الدنيا يا ابني، (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ)، لأنه لا نستحق الجنة بأعمالنا.

{ سَدِّدُوا وقارِبُوا، وأَبْشِرُوا، فإنَّه لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ قالوا: ولا أنْتَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ منه برَحْمَةٍ، واعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ العَمَلِ إلى اللهِ أدْوَمُهُ وإنْ قَلَّ. وفي روايةٍ بهذا الإسْنادِ، ولَمْ يَذْكُرْ: وأَبْشِرُوا }

[صحيح مسلم والبخاري]

إذا جدرانها لبنةٌ من ذهب ولبنةٌ من فضة، وحصبائُها الدُرّ والياقوت، وطينها ملاطها المسك والزعفران، الصلاة بخشوعها، وخضوعها وامتثال كل أوامرها، تستحق الله يعطيك الجنة، الله يُعطيك جنّة عرضها السماوات والأرض، فإذا لم تعمل بمقتضى القرآن فأنت لا تطبق هذه الآية، وليس لها مكانة في قلبك ولا ذرة، لأنه لو استقرت في قلبك لتبدلت أعمالك، وأخلاقك، ورفاقك، وسهراتك، واكتساب المال، وإنفاق المال، ونطق لسانك، ونظر عينك، كله سيتبدل، الله عز وجل ينقلنا من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العِلم النافع، اللهم إني أعوذ بك من عِلمٍ لا ينفع.

الحُبّ يظهر في الأعمال والكلام والمؤمن مُحب:
ابن أبي سلول كان شر الكافرين في زمن النبي، يُصلّي مع النبي، يذهب إلى الجهاد مع النبي، وينفق، لكن كان من خلف النبي يطعن بالنبي، وهو أول من أساء بتهمة السيدة عائشة في حادثة الإفك.

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
[سورة النور]

لمّا مات مع ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، كان إذا مرض عاده، وفي كل مناسبة كان يزوره، مرة زاره النبي كان مريض، وتلك البلاد المدينة والحجاز حارّة، والحمار كان قد عرق، قال: يا محمد لقد آذاني النتن رائحة حمارك، هذا ليس بمؤمن يا ابني، المؤمن مُحب، والحُب يظهر في الأعمال والكلام والمناسبات، المُحب يتقرب إلى حبيبه بكل مناسبة، ولو بالروح، إذا لا يوجد يا ابني حقائق الحُبّ هذا ادعاء وأماني، فأحد الصحابة قال له: رائحة حمار رسول الله خير منك ومن رائحتك.
في بعض الغزوات تكلم بحقّ النبي، قال: ما نحن ومحمدٌ وأصحابه إلا كما قال الأُّول: سمِّن كلبك يأكُلك، جاءنا محمد جائع فقير هو والصحابة أطعمناهم وساعدناهم، أرادوا أن يستولوا علينا، سمِّن كلبك يأكلك، فبلغت الكلمة للنبي فأحضره، فحلف بالإيمان الكاذبة أنه لم يقول.

يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
[سورة المنافقون]

سنخرجه هو وجماعته من المدينة، نحن الأقوياء ونحن الأعزاء، جاء للنبي لمّا بلغ الكلام للنبي وسأله فأنكر.

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
[سورة المنافقون]

والسورة كلها ماذا سماها الله؟ سورة المنافقون، الله لا يجعلكم من المنافقين يا ابني.
لمّا وصلوا المدينة ابنه عبد الله وقف بباب المدينة لمّا أراد الدخول قال: والله لا أمكّنك من الدخول حتى تقول: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، قال له: والله أقتلك ولا أُمكّنك من الدخول حتى تقرّ بعزة الله (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، من كان أغلى عليه؟ الذي علَّمه الكتاب والحكمة وزكّاه أم أبوه الذي أنجبه؟ الله يرزقنا يا ابني بر الوالدين، الوالد ولو كان مجوسياً له حقّ البرّ بأن لا تقول له أُفْ، وخاصةً عند الكبر والتقدم في السن تؤذيه كلمة أُف فكيف إذا كان أناس يضربوا، ويشتموا، فأي رفق هذا؟!
النبي عليه الصلاة والسلام يقول : أربعة لا يشمون رائحة الجنة وإن رائحتها لتوجد من مسيرة خمسمائة عام ومن جملتهم العاق لوالديه سواء كان والد الجسد أو كان والد الروح.

{ ثلاثةٌ لا ينظرُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ إليهم يومَ القيامةِ؛ العاقُّ لوالِدَيهِ، والمرأةُ المترجِّلةُ، والدَّيُّوثُ ، وثلاثةٌ لا يدخُلونَ الجنَّةَ: العاقُّ لوالِدَيهِ ، والمدمِنُ على الخمر ، والمنَّانُ بما أعطى }

[أخرجه النسائي وأحمد]

والد الروح حقّ النبي أعظم أم حقّ والد عبد الله الصحابي أعظم؟ اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا عِلماً.

المطلوب من المؤمن بعد العِلم العمل و الإخلاص بالعمل:
هذه الآية هل أنتم مستعدون تطبقوها؟ هل ستُسابقوا؟ إذا رأيتم أحد سبقكم في الذكر زيدوا ذكركم على ذكره، بالتهجد زيدوا، بتلاوة القرآن، بالخشوع، بالحضور، بالأخلاق، بالأعمال الصالحة، حتى نكون آمنا بهذه الآية، هل نحن مطلوب منا أن نؤمن بهذه الآية أم بستة آلاف وأكثر بجميع القرآن، فأنتم هل فهمتم القرآن؟ وبعد العِلم يكون العمل، وبعد العمل يكون الإخلاص لا يكون لك غرض إلا إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي .
أعود وأذكركم (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ)، فإذا حقوق بينك وبين الله يجب أن تسأل العالِم المُزكي الحكيم كيف تتوب من الذنوب الماضية؟ إذا بينك وبين الخلق، بينك وبين الناس من قريبٍ أو بعيد شتمته، ضربته، تكلمت عليه، أكلت ماله.
واحد من إخوانكم كان يقول: قبل أن ينتسب إلى إسلام العِلم والعمل، كانوا يسرقوا من صندوق من يعملوا عنده، فلما تاب قال: أنا يا شيخي كنت أعمل عند فلان وسرقت منه مبلغ من المال، فكيف أتوب؟ قلت له الأموال يجب أن تعيدهم، التوبة أن تأكل مال الناس هذا لا يصح، فذهب وخجل أن يقول لمعلّمه، وقف أمام دكانه وهو يفكر إذا أخبرته سأُفضح، وإذا سكتت سأتعذب، فشاهده معلمه السابق ظنَّه متسول فقير يحتاج حسنة لكنه يخجل، فأخرج شيء من الصندوق وقال له: تعال، قال له: ولكني أنا لست محتاج، قال له: فلِمَ تقف أمام الدكان منذ ساعة؟ يبدو أنك أتيت لحاجة، تكلم إذا كنت خجل أُساعدك، قال له: أنا كنت أعمل عندك، قال له: أعرف، قال له: أنا سرقت من الصندوق شيئاً من المال، والآن الله هداني إلى الصراط المستقيم، وهداني إلى الإسلام الحقّ الحيّ، كان إسلامي ميت، أين إسلام :

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
[سورة البقرة]

أين يا ابني؟ فقال له: "جسدٌ نبت بالحرام فالنار أولى به"
هل الإسلام فقط بالكلام محمد رسول الله، وكلام النبي وكلام الله؟! قال له: الآن تُبت واهتديت وتفقهت في ديني وعرفت أن الله لا يغفر لي إلا أن اُرجع الحقّ إلى صاحبه، فقال له:أعد ما قلت، فأعاد القصة مرتين ثلاثة قال له: مادام كذلك هذه هدية مني لك وخذ هذه عشرة آلاف مكافأة لك لأنك تبت إلى الله ورجعت إليه، هل رأيتم أحد عامل الله وندم؟خسر؟! ضاع؟! وهل رأيتم أحد عامل الشيطان وربح؟! استفاد بدنياه أو بآخرته؟!

إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
[سورة فاطر]

الله عز وجل يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وسابقوا درسنا طول الأسبوع وسابقوا، ابحثوا في أنفسكم بماذا أنتم مقصرين، اركضوا حتى تمشوا مع السباقين، أبوك لا تُحب أن يكون أعزّ منك، الدنيا زائلة وقد يكون غناه بالحرام يكون وبال عليه في الدنيا والآخرة، فكيف في الآخرة؟ إذا كان أعز، وأعز، وأكرم، وأفضل، وأغنى وأسعد وأنت في جهنم، سابق إلى تلك يا ابني، إلى مغفرةٍ بالماضي، وجنةٍ بالأعمال التي تدخلك الجنة في المستقبل بعد التوبة (عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، أيهما أفضل؟ الدنيا يقول النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
لو أن أحدكم وضع إبرة في بحر، فماذا يعلق من ماء وماذا بقي في البحر من ماء، أي أكثر في الإبرة أو في البحر، فقال عليه الصلاة والسلام: مثل دنياكم ما علق في المخيط الإبرة، ومثل آخرتكم ما تبقى في البحر من ماء، اذكر لكم الحديث بالشرح والتفصيل.
حديثٌ آخر: يشبه خروجكم من الدنيا إلى سعة الآخرة إلا كما يخرج الجنين من بطن أمه إلى سعة الدنيا، فهل بطن أمكم أوسع، وفيه جبال وسيارات وأبنية وإلى آخره، أم دنياكم؟! أما الحقيقة لا تُعلم حتى نراها.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.