تفسير سورة الفلق 3

  • 1996-10-11

تفسير سورة الفلق 3

الحمد لله رب العالمين، وأعطر التحيات وأزكى الصّلوات الطيبات المباركات على سيِّدنا مُحمَّد خاتم النبيين والمرسلين، والمبعوث رحمةً للعالمين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم وعلى أخويه سيدنا موسى وعيسى، وجميع إخوانه من النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ وصحبِ كُلٍّ أجمعين، وبعد:


رب الفلق هو رب الخلق أجمعين
سبق معكم في سورة الفلق قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، الاستعاذة كما سبق هي الالتجاء وطلب معونة العائذ من الذي يستعيذ ويستعين به، ويطلب النجدة والنصرة والمعونة منه، فالله أمرنا أن نستعيذ ونستعين في كل أمورنا برب العالمين، الذي خلق الأشياء من بحر العَدَم فانفَلَق عن هذه المخلوقات في الأرض والسماء، انفَلَق النهار من ظلمات الليل، وانفَلَقت الأرض بالزُروع والأشجار، وانفَلَقت الأرحام بمخلوقات الله من البشر والحيوان وإلى آخره.. فرب الفلق هو ربُّ الخلق أجمعين.

البرنامج الإلهي كله حكمة ولا خطأ فيه
أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نقول:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
[سورة الفاتحة]

فقدَّم الله معونته لنا بأن أنزل على أشرف أنبيائه بواسطة أشرف ملائكته - جبريل عليه السَّلام - ما يُعيذنا ويُنجينا وينصرنا على أعدائنا وينقلنا من الفقر إلى الغنى ومن الذلِّ إلى العز ومن التخلف إلى التقدم، أنزل برنامجاً إلهياً سماوياً ربانياً:

لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
[سورة فصلت]

كُلُّه حكمة وحقيقة لا خطأ فيه ولا زَيْغ، (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) من يعمل به لا يسعه إلا أن يَحْمَدَ مُنزله وأن يَشْكُرَ هذا التعليم الإلهي الذي ما أراد الله به إلا أن ينقل الإنسان من الظلمات إلى النور ومن الجهل للعلم ومن الشقاء للسعادة:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]


العرب قبل وبعد الإسلام
واقع المسلمين عند نزول القرآن الذين كانوا بصحبة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد ربى قلوبهم وأرواحهم ونفوسهم وعقولهم، هذا هو الجهاز الهضمي للمعاني وفّهْمِ حقائق الوجود، فكان الجهاز الهضمي على أحسن ما يرام، فكانوا بمجرد أن يلتَهِمَ العقل والسمع والقلب الكلمة حالاً يهْضِمُها وتتمَثَّل فيه عملاً صالحاً نافعاً وخُلقاً كريماً ملائكياً، فصَلُح الفرد والعائلة -مجموعة الأفراد القليلة- ثم صَلُح المجتمع، ثم قام المسلمون لتبليغ هذه الرسالة نيابةً عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لينقلوا الإنسان والعالم من الجهالة والتخلُّف والأنانية والخرافة والفقر إلى السعادة؛ بكُلِّ معاني السعادة في الجسد والروح في الأرض والسماء وعلى كل المستويات، وكانوا هم النموذج العملي التطبيقي، فبعد أن كانوا في أحطِّ الدرجات بين الأمم حتَّى أنهم لم يكونوا يُسمَّون أمة، لم يكن هناك مفهومُ الأمة العربية ولا الدولة العربية ولا الحضارة العربية، ولم يكن هناك أيضاً مفهوم الدولة العالمية فكلها اكتسبها العرب لما تصحح جهاز هضمهم للمعاني لهضم العلوم وتحويلها وتمثيلها لأعمالٍ وأخلاقٍ وسلوكٍ، فصاروا كما وصفهم الله عزَّ وجلَّ:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)
[سورة البقرة]

لا يتملَّكُهم الغضب حتَّى يصيروا حمقى، ولا الخوف حتَّى يكونوا جبناء، ولا الإسراف حتَّى يكونوا مبذرين، ولا الإمساك حتَّى يتملَّكَهم البخل (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا).

مساواة البرنامج الإلهي بين جميع الناس
فاستعاذوا برب الفلق ولجؤوا إلى مدرسته، واستعانوا بها، وتمثَّلُوها حتَّى صار المسلم في مدرسة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يُقرَأ الإسلام في قلبه ذكراً وحضوراً وحباً لله وخشوعاً بين يديه، وحياءً من الله أن يَظْهَرَ منه قولٌ أو عملٌ لا يُرضِي الله عزَّ وجلَّ، تَمثَّل فيهم الإسلام في السياسة السماوية، ساسوا أمتهم وشعوب العالم على أساس أن:

{ الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله (1) }

[مسند البزار]

لا يوجد تمييزٌ عنصري ولا قومي، فلما ضرب ابن عمرو بن العاص القبطيَّ النصرانيَّ بالقضيب عندما سبقه في سباق الخيل، وغَضِبَ ابن عمرو الدكتاتور فاتح مصر لا فلسطين، فلسطين كانت جزءاً يسيراً من فتوحاتهم، ضربه مُسْتَعلِياً بقوله: أتسبِقُنِي وأنا ابن الأكرمين؟ فذهب القبطي إلى المدينة وشكاه لعمر رضي الله عنه، فاستدعى عمر ابن القبطي من مصر لضربةٍ بسيطة، هل توجد دولة في كل العالم يُستدعى ابن رئيس الجمهورية من شرق الأرض إلى مغاربها من أجل إنسانٍ أجنبيٍّ لا من قومه ولا من جنسية الدولة العربية ومن أجل أمرٍ تافهٍ بنظر النَّاس ؟
فهذا البرنامج الإلهي الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ من أجل الإنسان كل إنسان، وأمر عمر بن الخطاب القبطيَّ أن يقتصَّ لنفسه وضرب ابن عمرو أمام عمر وعُظماء رجال الدولة، يعني المحكمة ليست محكمة صلح، في مجلس الوزراء لإنسانٍ عاديٍّ من عامة النَّاس، فيّضْرِبُ ابن فاتح مصر الذي فتح فلسطين أيضاً، نحن العرب من خمسين سنةٍ لا نزال نراوح أرضنا لغيبوبة الإسلام عن واقعنا- الإسلام بجوهره وحقيقته-.

لا بدَّ من الصدق في الاستعاذة
عندما نقول: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) هل ندري ما نقول؟ هل نقصد أن نكون صادقين فيما نقول؟ أعوذ برب الفلق، لا، تستعيذ دائماً وتستعين بالشيطان وبالنفس الأمارة بالسوء لطاعة أنانيتك ومصلحتك، هل ما تفعله يُرضِي الله أم لا، هل أحله الله أم حرمه.. فإذاً نحن لا نُنَفِّذُ ما نسمع ولا نفقه ما نقول.. نقول: قرأنا ختمةً من القرآن، فلو استعذنا برب الفلق واستعنا به والتجأنا إليه بعقولنا وأفكارنا ورغباتنا، نرغب ما يرغَبُه لنا لأن رغبته لنا أسعد من رغبتنا لأنفسنا، يُجنِّبُنا ما نكره أكثر مما نحرِصْ على تجنُّبِنا لما يُكره، الإنسان بدافع شهوة النفس قد يقع في الإيدز والمُسكرات والمخدرات والجرائم.
فلو استعاذ برب الفلق وكان صادقاً في قراءة الفاتحة حين يقول :

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
[سورة الفاتحة]

اهدنا يا ربي، يجاوبه الله فيقول:

الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)
[سورة البقرة]

تفضل هذه هي الهداية (لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) لكن من يتقبله.

وحي الشيطان ظاهره جميل
الدواء يشفي المرضى الذين يتقبلونه ويستعملونه، أما المرضى الذين يحفظون الوصفة عن ظهر قلبٍ من أول كلمةٍ إلى آخر كلمةٍ ويحفظ اسم الدواء والمعمل الذي يصنعه والمخترع الذي يخترعه، ويذكر كل تحاليله، لكن معه المرض ولا يستعمل الدواء، فهل تُفيده هذه القراءة؟ هذا يقرأ العلم الواسع بكل مفرداته وقواميسه، ولكن عند التطبيق لا يفقهُ شيئاً أبداً، فهذا ليقل أعوذ بالشيطان، يستعيذ بالشيطان ويلتجئ ويركَنُ إليه ويتقبل إيحاءه، ألا ينزل عليكم الوحي؟ هل يوجد وحيٌ أم لا؟ يوجد، وحتَّى على المجرمين، لكن من جبريلهم الموحِي إليهم؟

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
[سورة الأنعام]

ليُقاوموا الحق بباطلهم، وقال تعالى:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
[سورة الأنعام]

ظاهِرُه جميل:

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
[سورة الحديد]

فلا بدَّ أن يصحو القلب بذكر الله ويصحو العقل والفكر بفهم القرآن.

يجب أن نتعامل مع كتاب الله أكثر من التعامل مع المصالح الدنيوية
اقرأ القرآن كما تقرأ جريدة البارحة إذا لم تصلك جريدة اليوم، لماذا تقرأ؟ تقرأ لتقرأ أم لتفهم؟ وإذا كان هناك عنوانٌ يتناسب مع مصلحتك أو تجارتك، إعلانٌ عن بيعٍ أو شراء وإذا اعتقدت أن لك فيه شيئاً من الفائدة والربح فوراً ستنزل إلى ذلك السوق والمجتمع لتساهِمَ فيما أعلنت عنه الصحيفة، فلماذا لا نتعامل مع كتاب الله كالتعامل مع الجريدة أو المجلة؟ لنكون إذا قلنا (قُلْ أَعُوذُ)، قل: ماذا نقول؟ أعوذ، الله يعلمنا كيف يُؤمنُنا من الأخطار، أخطار الدنيا والآخرة:

مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
[سورة الأنعام]

فلا يوجد شيءٌ مما يُسعد الإنسان في دنياه وأُخراه إلا أمرنا الله به، ولا يوجد شيءٌ مما يُشقينا أو يُؤذينا من أمر الدنيا والآخرة إلا حذَّرَنا الله منه وحرَّمَهُ علينا وبيَّن لنا نتائجه:

يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
[سورة الحشر]

ويقول تعالى:

سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَىٰ (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (13)
[سورة الأعلى]


الاستعاذة من شر المخلوقات
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) الذي فَلَقَ هذه المخلوقات من بحار العدم، (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) فالمخلوقات صالحةٌ للخير وللشر، فالمال يصلُح للخير والشر، والعلم يمكن أن يُستعمل للخير وللشر، والحاكم إذا عَدَلَ يكون:

{ عَدْلُ ساعةٍ خيرٌ مِن عِبادةِ سِتِّينَ سَنةً }

[حدّثه البوصيري]

وهكذا كل شيءٍ في الحياة، الشباب: شابٌ يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، ويوجد شبابٌ يُستعمل في الفسق والإضرار بالنَّاس والغش والتعدي.. فالله يقول لنا: استعيذوا واستعينوا بي من شرَّ ما خلق، فكيف تكون الاستعاذة؟ أن نتقبَّل ونُقبل على مدرسة الله والكتاب الذي ألَّفه وأنْزَله وأوحى به الله على أشرف مخلوقاته، نقرأه لنفهمه، وفهْمُه ليس مُعسَّراً مثل بعض الكتب المترجمة من لغة إلى لغة وترجمتها ضعيفة، أما القرآن قال الله تعالى:

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (22)
[سورة القمر]

يعني فهمه سهلٌ:

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا (33)
[سورة الأنعام]

هل توجد صعوبةٌ في الفهم؟

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
[سورة الإسراء]

هل توجد صعوبةٌ في الفهم؟

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
[سورة الإسراء]

هل توجد صعوبة بالفهم؟.

تصديق القول بالعمل
(قُلْ أَعُوذُ) ألتجئُ، أيُعقل أن تكون في الصَّلاة مع الله وتكذِبُ عليه! إذا كذبت على طفلٍ صغيرٍ يقول لك: هل تكذب علي! تُحِسُّ بخجلٍ في نفسك لأن الطفل اطلع على نقصٍ فيك، فكيف ترضى بذلك؟ والملائكة الذين معك :

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

ينتظرون كلمةً للتسجيل، (عَتِيدٌ) حاضرٌ لا يُفارقك ولا يغيب، (قُلْ) لماذا يأمرنا الله بالقول؟ لنُنفذ ما أمرنا الله أن نقوله، (أَعُوذُ بِرَبِّ) هل تستعيذ وتلتجئ وتستعين بهديِ وتعاليمِ ربِّ الفلق، رب الكون هذا الخلق الهائل الذي أحقرُ ما فيه يُحقِّرُ عقولنا.
لو نظرنا إلى البعوضة الصغيرة، من ركَّب دماغها وخلايا مُخها، ومن مدَّد فيها الدورة الدموية في شرايينها وأورِدَتها؟ من ركَّب مفاصِلَها ومن أعطاها الوعيَ والعقل لتطلب رزقها؟.
ومن ركب الهواء بغازاته؟ لو أن كل نوعٍ من الغازات زاد على النوع الآخر لمات الخلق وانعدمت الحياة.
فهل عرَفْتَ رب الفلق؟ إذا كنت تركب السيارة وقمت بمخالفةٍ ومشيت على اليسار وأعطاك إشارة، يوجد أناسٌ تكون أعصابهم ضعيفة يصفرُّ وجههم، يخاف من العقوبة، والشرطي لم يخلقك ولم يرزقك، من هو؟ إنسانٌ مثلك، فكيف تعصي خالق الكون بمجراته وسُدُمه وشموسه وأقماره؟ وقد قال علماء الفلك: لو أن الرمال في الصحراء الكبرى في أفريقيا عُدت رمالها وعُرف عددها لكان أقل بمليارات المرات من عدد الكواكب والشموس والأقمار التي في هذا العالم الكوني الإلهي.

فضل الله عزَّ وجلَّ ونعمه الكثيرة
فأنت ماذا تُمثِّل في هذا الخلق؟ فهذا الخالق يُخاطبك، إذا خاطبك وزيرٌ مباشرةً تقول: هذا اليوم فتح الوزير بابه لي وأجلسني عنده وقدم لي فنجان قهوة، ألا يقدم الله لك الموز والتفاح والزوجة؟ من أعطاك العيون؟

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (23)
[سورة النحل]

لو كنت بلا سمعٍ وكان السمع يُشرى والأذن بمئة ألف دولار وأنت تملك مئتي ألف، تشتري واحدةً أم اثنتين؟ والعين بمئة ألف، هل ترضى أن تكون أعوراً بعينٍ واحدة؟ وتسمع بأذنٍ واحدة، لأنك عاجزٌ عن أن يكون لك عينان بالثمن المطلوب، فأعطانا الله عزَّ وجلَّ ما أعطانا:

وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
[سورة إبراهيم].


طهارة القلب مع قراءة القرآن
فلنكن إذا قرأنا القرآن طاهري القلب، مع طهارة الجسم:

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
[سورة البقرة]

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) الذين طَهُرت نفوسهم من النقائص والخبائث النفسية والخلقية والسلوكية، (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) بأجسامهم وثيابهم وأعمالهم.
(أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) هل سنقولها بصدقٍ وحضورٍ وفهمٍ أم كالببغاء أو الشريط الكاسيت المسجَّل، الشريط يقرأ ولكن هل يفهم ويعلم ويعمل؟ جعلنا الله بفضله وإحسانه من الذين :

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
[سورة البقرة]

ومن حق تلاوته أن تفهمه وتعلَمه وتعملَ به ثم تُعلَّمه للآخرين، سيِّدنا عيسى عليه السَّلام يقول: من تعلَّم وعمِلَ ثم علَّم دُعيَ عظيماً في الملكوت الأعلى.. كن من العظماء في عالم الأبد والخلود مع سعداء سعادة الأبد والخلود.

الاستعاذة بالله بصدق العزيمة والإرادة
(مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) فإذا استعذت به بصدق العزيمة والإرادة والتطبيق يُعيذك من كل الشرور، (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) من شرِّ الليل إذا أقبل بظلامه وكذلك من ظلمات الجهل والكفر والفُجور والمُيوعة وتفسُّخ الأخلاق، هذه التي تُعمي الطريق على الإنسان حتَّى لا يُميز بين ما يُسعده وبين ما يُشقيه ويُرديه، فالجهل ظلام، بدل أن ينفع نفسه يُهلكها، وبدل أن يُعزها فيُذلها:

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
[سورة ص]

فأمرنا أن نتحرَّز من الظلام.. لا نمشي إلا على نورٍ وضياءٍ في كل شؤوننا وأمورنا إذا أشكل علينا شيءٌ أن نستشير أصحاب العقل والرأي، أنزل سورةً جعل عنوانها: الشورى، ثم مع ما حَبَا الله نبيه من عقلٍ فريدٍ في بني الإنسان مع ذلك أمره قائلاً:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
[سورة آل عمران]

وكمسلمين مع بعضهم البعض قال:

وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38)
[سورة الشورى]

هذا معنى من معاني إعاذة الله لنا عندما استعذنا به في تلاوتنا (أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2)) من الكُفرِ لأنه شرّ، الكُفرُ كله خرافاتٌ وكله أباطيل، يقوم على الظلم والعدوان من الاستعمار والنفس الأمارة بالسوء.

الاستعاذة بالله من ظلمة القلب بالإكثار من ذكر الله عزَّ وجلَّ
(مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ) الليل وظلماته، (إِذَا وَقَبَ) أقبل وأحاط بضياء النهار:

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
[سورة النور]

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)
[سورة النور]

الذي يكون في قاع البحر وفوقه موجٌ ومن فوقه موجٌ ومن فوق الموج سحابٌ هل يبقى بين يديه نورٌ يُبصر به؟ (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) فالجهل ظلامٌ وظلمات، الجهل عن طريق السمع والعلم والإدراك، الجهل بالله عن طريق غفلة القلب عن الله، نستعين بالله من ظلمة القلب بأن نُكثِرَ ذكر الله عزَّ وجلَّ حتَّى تتبدل ظلماتنا بنور والجهل بالله بالعلم بالله، اعبد الله كأنك تراه:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
[سورة آل عمران]

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61)
[سورة يونس]

( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ) أيها الإنسان، (وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) مُشاهدين، (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) لما تشاور نفسك أو من معك في عملٍ ما فالله معك، (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) يعني وما يغيبُ عن ربك، (مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) إلا سُجِّلَ عليك، الآلة الكاتبة تُسجِّلُ عليك أوتوماتيكياً.


اختيار الزوجة الصالحة
يقال في عهد عمر رضي الله عنه كان وهو بلغة الوقت إمبراطور.. دولة القرآن والإسلام صارت في مشارق الأرض ومغاربها؛ ومع كل هذا كان عمله في الليل لا يعمل ست ساعاتٍ أو ثماني، في الليل كان كالحارس يمشي في الأزقة بين البيوت يتفقد حال الأمة والرعية، هل من مظلوم؟ هل من منكَر؟ هل من شيء يضرُّ الأمة؟ وإذا به يسمع حواراً من بيتٍ من شباك أو كذا بين أمٍّ وابنتها، الأم تقول لابنتها: ضعي الماء في الحليب حتَّى يثقُلَ وزنه، قالت البنت للأم: يا أماه لقد نهانا عمر أن نخلط الماء بالحليب، فقالت لها أمها: ويحك! أو يراكِ عمر؟ أين أنت وعمر؟ فقالت البنت: يا أماه! إن لم يرني عمر ألا يرانا ربُّ عمر؟ فقال عمر لرفيقه: اجعل على الباب علامة، فلما أصبح سأل أولاده من الأعزب منهم، بعدما عرف أن البنت خليَّةً من الزواج فزوج تلك البنت لأنها مثقفةٌ وأي ثقافة؟ يا تُرى أين نحن من هذه الثقافة؟

الدولة القوية ثمرة ثقافة الإسلام
ثقافة الله للإنسان والتي كان أستاذها سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، والتي أثمرت دولة الراشدين والأمويين والعباسيين، حتَّى حرروا نصف شعوب العالم ووحدوها تحت راية أمة واحدة راية لا إله إلا الله لا قومية ولا عنصرية ولا لغوية ولا حسب ولا نسب تحت راية :

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[سورة الحجرات]

نعود: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) فلما تطلب من الله أن يُعيذك من شرِّ الظلام والظلمات إذا أقبلت هل تعي وتفهم ما تقول؟ وإذا وعيت ما تفهم وما تقول فإذا دَلَّك الله على ما يُعيذك ويحفظك مما تخافه وتحذره هل تقبل وقاية الله ودِرْعَه وحِراسته؟ فيقول لك: تفضل هذه هي الحصانة وهذا هو الدرع:

ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)
[سورة البقرة]

كله صدقٌ وحقٌ ويقين.

الحاجة إلى الفقيه في الدين
الصحابة لم يروا له تجربةً ناجحةً ولكن آمنوا إيمان اليقين فكانت أعمالهم لنا لا نقول تجربةً ناجحة، لأنه حق اليقين ولأنه علم اليقين، فمع أنه بلغة بعض العقول يُقال تجربة، بلغة الواقع تاريخٌ حقيقي، فلماذا نحن في الشرق لا نعمل والعمل والفقه القرآني في الغرب؟ كأن بيننا وبين إسلامنا ما بين المشرقين.. السبب؛ كل شيءٍ له سبب، نحن المسلمون نفقد الفقيه في الدين، نحن لما درسنا العلوم درسونا الفقه من باب الطهارة إلى باب العتق، الفقه أوسع من هذا، فقه القرآن والقلب، أعمال القلب التي تُقرِّبُ من الله، والأعمال التي تُباعد عن الله والسلوك الذي يُعطيك النصر في الدنيا والعز:

{ فإنه لا يَذلُّ من واليت، ولا يَعزُّ من عاديت (2) }

[سنن أبي داود]

لما والوا الله عزَّ وجلَّ وكانوا أولياءه وكانوا:

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
[سورة التوبة]

كيف كان العرب؟ إذا قلنا بالقومية، والإسلام لا يُحقِّرُ القومية، لكن لا شرف لقوميةٍ على قومية، كلكم من آدم وآدم من تراب (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

عز العرب بالإسلام
ولكن نقول في ظل مدرسة القرآن المشروح بأعمال وأقوال وهديِ سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.. نابليون يقول باندهاشٍ: كيف استطاع العرب بأقلَّ من قرنٍ أن يوحدوا نصف العالم القديم؟! على أقدامهم وعلى حد السيوف وعلى رؤوس الرماح، نحن عربٌ وقومية.. وفلسطين منذ خمسين سنة لا نزال نراوح في أرضنا وإسرائيل تقضم فلسطين شيئاً فشيئاً وتجاوزت إلى لبنان ومصر وسوريا.. وكتبت على كنيسة برلمانها: حدود إسرائيل من النيل إلى الفرات، يقولون ويفعلون، العرب يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون مالا يقولون، الجامعة العربية والقومية العربية، فلا بد من أن نعود إلى الإسلام بحقيقته وجوهره وقرآنه كما يُكرر هذه الكلمة دائماً رئيسنا حفظه الله عزَّ وجلَّ.

مسؤولية التعليم والعمل والتعلُّم
فيا إخوان: إذا لم يصبح كل واحدٍ منا يعتبر نفسه هو المسؤول :

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا (84)
[سورة النساء]

فإذا لم ننطلق من هذه النقطة أن يعتبر كل مسلمِ وكل مسلمةٍ أنها مسؤولةٌ عن نفسها أن تتعلم وتعمل ثم تعلِّم، كما قال السيد المسيح عليه السَّلام: من تعلَّم وعمل ثم علَّم دعي عظيماً في الملكوت الأعلى، يصيرُ من العظماء عند الله في السماء، وفي الحديث الآخر يقول صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ألا أخبِرُكم عن الأجوَدِ الأجوَدِ؟ اللهُ الأجوَدُ الأجوَدُ، وأنا أجودُ ولدِ آدمَ وأجوَدُهم من بعدي رجلٌ علَّم عِلمًا، فنشَر عِلمَه يُبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً واحدةً }

[الترغيب والترهيب]

(ألا أخبركم بالأجود؟) قالوا بلى يا رسول الله، قال: (الله الأجود الأجود) في هذا الوجود من مصدر العطاء كل العطاء لكل مخلوق؟ مصدره الله، ((وأنا)) يعني النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم سيِّدنا مُحمَّد (وأنا أجود بني آدم) لأن كل الأنبياء أُرسلوا إلى عشائرهم وبيئتهم، لوط إلى عشيرته وإبراهيم إلى قبيلته وسيِّدنا موسى عليه السَّلام وعيسى عليه السَّلام إلى بني إسرائيل، وسيِّدنا مُحمَّد :

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]

{ وأنا أجود بني آدم (3). }


الإسلام في الغرب
الآن يا بنيّ رغم توقّف المسلمين وجُمودهم في فهم الإسلام وأداء واجباته منهم:

هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم (38)
[سورة محمَّد]

قرأت لكم قبل أسبوعين كتاباً من أحد إخواننا من فرنسا، يقول فيه: أكثر من خمسة ملايين فرنسي اعتنقوا الإسلام، ومُعظمهم من رجال السياسة والدولة والثقافة والعلم ومن عِلِّيًة القوم ولم يكن إسلامهم عن طريق المسلمين بل عن طريق دراستهم الخاصة، فإذا أوقف الله المسلمين ووقفنا غداً بين يديه وسألنا عن قرآننا :

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
[سورة آل عمران]

فبِلا (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أولئك هم الراشدون؟ بل هم المخذولون والفاشلون والمهزومون والضعفاء والذين هم طُعْمَةُ وطمع الأعداء.

الانبعاث الروحي والانبعاث العلمي
وكما هو واقع العالم الإسلامي في وقتنا الحاضر، نحن بحاجة إلى فقيه القرآن لا إلى الفقه المذهبي، هذا انتهى وقته أيضاً.. المذاهب الأربعة كانت حواجز شكلية، المذاهب بشكل عام في العالم الإسلامي كانت حواجز في طريق الانتهاء النهائي، المهم الآن الانبعاث الروحي نحو الله والانبعاث العلمي والدراسي نحو كتاب الله القرآن، أن نقرأ القرآن لا للتلاوة ولا لعشر حسناتٍ وخمسَ عشرة، أن نقرأه للعلم والعمل والتعليم، (ألا أخبركم بالأجود؟ الله الأجود الأجود، وأنا) من يعني بأنا هنا؟ يعني نفسه، (وأنا) يعني النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم (أجود بني آدم، وأجودهم بعدي رجل) وما المقصود الذكر بل الإنسان (تعلم علماً فعلمه) يعني إذا تعلمت أي مسألةٍ صارت أمانةً في عنقك بالنسبة لنفسك أن تحولها إلى عملٍ وبالنسبة للآخرين أن تُبلِّغَها لهم، (ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً) يعني إنساناً واحداً (خير لك من ما طلعت عليه الشَّمس وغربت)(4)، لو ملكت الدنيا وأتاك ملك الموت وآخر نفسٍ ودعته في هذه الدنيا ماذا يفيدك ما بين مشرقها ومغربها؟ أما إذا هدى الله على يدك إنساناً واحداً فهذا:

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
[سورة الكهف]


الإيمان بالقرآن يقتضي أن تتلوَه حق تلاوته
جعلنا الله عزَّ وجلَّ من الذين يتلون القرآن حق تلاوته، ولا تكون مؤمناً به إلا إذا تلوته حق تلاوته وحق التلاوة أن تتلوه طاهر الجسم لتفهمه وتَعْمَل به وتُعلِّمَه.. هذا الكتاب وحده لا مكتباتٌ وكتبٌ مثل الجبال، كتابٌ وحده وأستاذٌ وحده وهو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، صنع أفضل أمم العالم والتاريخ في كل الميادين، الروحية والعلمية والحضارية والسياسية والضمان المسمى الاجتماعي والاشتراكية.. فمرةً كنت مع بعض كبار المسؤولين نتحدث وكنا في صحبة رئيسنا حفظه الله، فأحد كبار المسؤولين في المجتمع وأنا أتحدث عن الإسلام، قال لي: لم تتحدث عن الاشتراكية، حدثنا عنها، قلت له: حاضر، قلت له: الإسلام أتى بما هو أعلى من الاشتراكية، الإسلام هو أعلى وأرقى من الاشتراكية.

الإسلام و الاشتراكية
فأولاً: من بعض مبادئ الإسلام في هذا الموضوع قول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ما آمن بي ساعة من نهار من أمسى شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم (5) }

[المعجم الكبير للطبراني]

قلت له ثانياً: لما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة واستولى المشركون على ديارهم وأملاكهم وأموالهم استقبلهم المسلمون في المدينة – الأنصار- فشاركوهم من غير قانونٍ إجباري بل بقانون الحب وقانون:

{ المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (6) }

[صحيح البخاري]

شاركوهم في مزارعهم وبيوتهم وأموالهم حتَّى كان بعضهم إذا كان عنده زوجتان يقول لأخيه المهاجر: اختر أجملهما لأتنازل وأطلقها وتتزوجها أنت، ثم قلت لذلك المسؤول وهو من كبار المسؤولين: لو كان عنك زوجتان وأنا ليس لدي، هل تتنازل عن واحدة منهن؟ فقلب المجلس إلى مجلس صفاءٍ وسرورٍ وإلى آخره.

الشهادة التي يجب أن يحملها الفقيه
فالإسلام من جهلنا به وزاد على الجهل أننا نتلقف من عدونا بعض فَهْمِنا للإسلام، أعداء الإسلام من مُستشرقين ومن مُنَصِّرِيْنَ ومُبشرين أوجدوا شبهاً على الإسلام وقدموها طعاماً مسموماً لمن تعلم في مدارسهم، فسُمِّمَ وهو لا يدري ماذا يأكل وماذا يتناول، فلا بد من الفقيه وليس من الشرط أن يحمل الفقيه شهادة أزهر، أظن أن أبا بكر لم يحمل شهادة الأزهر، وما كان معه شهادة ليسانس ولا ماجيستير ولا دكتوراه، ولكن كانت معه شهادة حب الله ورسوله، وشهادة:

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
[سورة الأحزاب]

وشهادة:

التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
[سورة التوبة]

وشهادة :

تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
[سورة السجدة]

تتجافى يعني آخر الليل يرفع جنبه عن الفراش ويقوم متهجِّداً مُتَعبداً بكَّاءً خاشعاً ساجداً راكعاً بين يدي الله عزَّ وجلَّ، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) في الدنيا أعطاهم الله فوق قرة الأعين.

الشجاعة والرجولة من صفات المسلم الحقيقي
كنت في إسطنبول أخذوني إلى زيارة قبر أبي أيوب الأنصاري، القسطنطينية كانت عاصمة الدولة العالمية الأوروبية الغربية، فما الذي أوصل أبا أيوب المولود في المدينة والمدفون في إسطنبول؟ هؤلاء رجال فهل نحن رجال؟

مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
[سورة الأحزاب]

كانوا يتشوَّقُون إلى الموت، قبل المعركة يُصلي أحدهم ركعتين ويرفع يديه متضرعاً قائلاً: اللهم لقِّنِي رجلاً كافراً شديدٌ بأسُه وشديدٌ حَرْدُه، أقاتله فيك فيقتُلُني ويقطع أنفي ويُصْلِمُ أذني ويشقُّ بطني، يعني يُبشِّعُ بي أبشع التبشيع، حتَّى إذا لَقيتُك قلت فيما أُصِبْتَ يا عبدي؟ فأقول: فيك وفي سبيلك يا رب، هذه هي التربية في سبيل تحرير الأمة العربية والشعوب المغلوبة والإنسانية وهذه المعاني كلها مجمعة في القرآن لكن لمن:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

هل أولئك رجالٌ ونحن رجال؟ إذا كانت الرجولة بأعضاء التذكير والإنجاب الجسدي فكلُّ الحيوانات لها هذه العضوية، أما الرجولة فهي رجولة الأعمال وجلائلها، العلم والحكمة والتزكية وتحرير الشعوب والعدل والتواضع والزهد، فرضِيَ الله عنهم وأرضاهم.

امتثال أوامر الله واجتناب محارمه
وكل هذا من مدرسة القرآن (قُلْ أَعُوذُ)، فلما تريدون قراءتها ستقرؤونها بفهمٍ وصدقٍ وتطلبون المعونة وأن يعيذكم الله من الفلق ومن شرِّ ما خلق، وكيف قدم الله لنا ما يُعيذنا وما يحمينا أو ضَنَّ علينا وبَخِل ولم يعطنا؟ قال تفضلوا هذا الذي يعيذكم :

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
[سورة ص]

ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)
[سورة البقرة]

الذين يمتثلون أوامر الله ويجتنبون محارمه.

وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
[سورة الفلق]

النفوس التي تَنْفُثُ وتَلْفُظُ وتُلْقِي في القلوب والأفكار الفساد والشرور والتخريب والتهديم في العقائد والأخلاق، فيفرِطُونَ عقد ورباطَ المتحابين ورباطَ الأمة فيما بينها ورباطَ العائلة فيما بينها.

حَسَدُ إبليس لآدم لسيدنا آدم
(وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)) حمانا الله من شر الحاسدين، وأول حسدٍ وقع في عالمنا حَسَدُ إبليس لآدم، فما كانت نتيجة الحاسِد والمحسود؟ فالحاسدُ صار مطروداً من رحمة الله والمحسود المظلوم:

فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
[سورة البقرة]

إن شاء الله في الجمعة الآتية نُكمِلُ لكم تفسير آخر السورة، فعلينا الآن أن نعمل ومن كل إرادتنا وأعماق قلوبنا بما علَّمنا الله في كتابه وقرآنه وأن نُعلِّمَهُ للآخرين رجاء أن نكون مِنْ مَنْ قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيهم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وفي رواية (خير لك من ما طلعت عليه الشَّمس وغربت)(7) .
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وآله وصحبه وسلَّم.

زيارة رئيس حركة حماس
اليوم شرَّفَنا وتشرَّفنا وسَعِدنا بلقاء الأخ الكريم المجاهد العظيم السيد محفوظ النحناح، رئيس حركة حماس في الجزائر والتجمع الإسلامي وكان هو المرشح لرئاسة جمهورية الجزائر، فأهلاً وسهلاً ومرحباً به، وقَدِمَ أهلاً ومكانُه سهلاً وفي القلوب، وإذا كان يُتحفنا بكلمةٍ نكون من الشاكرين، ينتظروننا عشر دقائق مولانا، أين المذياع؟

كلمة الشَّيخ المجاهد السيد محفوظ النحناح:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا مُحمَّد وعلى آله وأصحابه أجمعين، فضيلة الشَّيخ العلامة المجاهد بالكلمة، فضيلة المشايخ والعلماء والإخوة الحضور من أهل القِبْلَة والأخوات الفاضلات ويا شباب مُحمَّد السَّلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، وإنها لمناسبةٌ اختارها الله تبارك وتعالى لكي يلتحِمَ المشرق والمغرب، ولسوريا الحبيبة في قلوبنا نحن أبناء الجزائر مكانةٌ عالية، وبما أن فضيلة الشَّيخ أتاحَ لي هذه الدقائق المعدودات للوقوف أمامكم والجلوس إلى ركبتي هذا العالم الجليل فإني أُبلِّغُكم تحيةَ بلدكم الثاني الذي يقف معكم في نفس الخندق الذي تناضلون منه وتجاهدون من خلاله وتصمدون صمود الرواسي من الجبال أمام العنصرية الصهيونية ونازيتها وعصبيتها وأخطارها واحتلالها لأراضي العرب والمسلمين سواءٌ في ناحية القنيطرة أو في ناحية سيناء أو في جنوب لبنان أو في قدسنا الذي دُنِّسَ على أيدي الصهاينة اللئام.
معاشر المسلمين: إن ثمَّة مؤامرةً تحاك في مشرقنا ومغربنا من ذات هذا الجسد أو من خارج هذا الجسد العربي المسلم، المراد منه مضاعفة الجهود لتفتيت وحدتنا ومضاعفة الجهود لتفكيك قوانا وتحريك النعَرات التي أصبحت الجزائر الآن تعاني الأمَرَّين بسبب ما أصابها من فتنةٍ ومأساة، أما الفتنة التي أشار إليها كتاب الله تعالى:

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
[سورة البقرة]

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
[سورة البقرة]

فإن أشقاءكم في الجزائر يعانون منها يومياً، وأما المأساة فهي مأساة الإنسان المسلم المعاصر في بلادكم الجزائر والذي يَطمحُ في أن يَضَعَ قدميه على عتبة القرن الواحد والعشرين، وقد اكتمل بناء هذا الجسد العربي الإنساني ليُكَوِّنَ قطباً أمام القطب الأمريكي الكندي المكسيكي، وأما القطب الآسيوي العملاق، وأمام القطب الأوروبي المتمثل في المجموعة الأوروبية.
والجزائر كجزء من بلاد العرب والمسلمين وسوريا الحبيبة الشاهدة على القتال والجهاد في سبيل الله في هذا الموقع، الذي لاحظنا من خلال زيارتنا منذ ربع قرنٍ إلى اليوم أن ثمة تطوراتٍ حصلت رغم الهجمة الصهيونية على المنطقة بفضل السياسة الراشدة التي تسلكونها، وبفضل الثقة المتبادلة بينكم، وبفضل هذا الجيل من الرجال الذين استطاعوا الحفاظ على كلمة التوحيد في هذه الأراضي والبقاع، والتي تتطلب منا جميعاً كأمةٍ حكوماتٍ وأنظمة، أحزاباً وتجمعات، جماهيراً وشعوباً وعلماء وحكام، تتطلب منا أن نضع كل نوعٍ من أنواع الخلاف داخل البراد، وأن نقذِفَ بكلِّ ما يجعلنا مختلفين في البحر، وأن نقطِفَ ونقطَعَ بيننا كل الأشواك التي صُنعت في أرض العرب والمسلمين، وما أكثرها من أشواكٍ وألغامٍ زُرِعَت في حقل هذه الأمة، وما أكثرها من ألغامٍ زرعت في جَسَدِ في هذه الأمة، أورامٌ على مستوى الحدود، وأورامٌ على مستوى العرقيات، وأورامٌ على مستوى الثقافات، وأورامٌ على مستوى المذاهب، وأورامٌ طائفية وإثنية وقومية وأخرى ظهرت وما تزال تظهر من خلال تديُّنٍ مغشوش، يظهر هنا وهناك تتجلى صوره من خلال ما نراه وما نُحِسُّه من تدمير لأي منجزِ من منجزات أمتنا العربية الإسلامية.
إن الأمة الإسلامية أمة بناءٍ وتنميةٍ وتطورٍ وحضارةٍ وتقدمٍ وحريةٍ ومحافظةٍ على حقوق الإنسان مهما يكن هذا الإنسان، ومحافظةٍ على حقوق المرأة وحريتها، أمة تحافظُ على حرية الإنسان وكرامته:

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
[سورة الإسراء]

مهما يكن ابن آدم هذا سواء كان عربياً أو زنجياً أصفر أو أسود أحمر أو أبيض صغيراً أو كبيراً رجلاً أو امرأةً وحاكماً أو محكوماً وعالماً أو متعلماً، الإنسان كرامته محفوظةٌ بنص القرآن، قرارٌ ربانيٌّ لا نحتاج من خلاله إلى منظمة لحقوق الإنسان التي تَكِيلُ بمكيالين، عندما يُقتَلُ المسلم في فلسطين وعند القدس الشريف وتحت قُبَّة الصخرة تسكت كل منظمات الإعلام وحقوق الإنسان، وإذا قُتِلَ يهوديٌّ هنا أو هناك تحركت كل وسائل الإعلام لتُدافع عن ذلك اليهودي أو ذاك الإسرائيلي أو ذاك الصهيوني، الكَيل بمكيالين ليس من طبيعة الإسلام ولا من طبيعة المسلمين، الكيل بميزان الحق:

اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
[سورة الشورى]

والحق هو الله تبارك وتعالى، والله لا يُحابي أحداً ولا يُجامل أحداً، الله عزَّ وجلَّ خلق الكون والبشر والإنسان :

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
[سورة الانفطار]

هذا الإنسان يجب أن يكون مُحترماً وكريماً حيثُ ما كان، ولقد أعجبنا أيما إعجابٍ في أرض دمشق عاصمة سوريا والشام، والإنسان العربي الوافد إليها يصول ويجول في شوارعها وأزقتها، يمتلكُ ما يَشاء ويتحرك حيثما يَشاء وينطلق حيثما يَشاء لا رقيبٌ ولا عتيدٌ -بشري- بطبيعة الحال.
أيها المسلمون: إن جزائركم التي تأملون في أن تروها وأن تعيشوا بين جنباتها تعيش مأساةً كبيرة، وأعظم مأساةٍ هي محاولة إلغاء دور الجزائر التي عُرفت بثورتها المباركة المجيدة، هل تناهى إلى شباب مُحمَّد، هل تناهى إليكم يا معشَر الشباب بأن أرضكم الجزائر قدمت من الضحايا في أيام الجهاد المبارك بين المستعمر الفرنسي الغاصب المستوطن وبين الشعب الجزائري العربي المسلم قدم عشر السكان مليوناً ونصف مليون من الشهداء على مذبحِ استرجاع الحرية والاستقلال؟ هل يعرف الشباب هذا؟
وها نحن بعد مرور ثلاثين عاماً من عمر السيادة الوطنية والاستقلال وجدنا أن عدوَّ الأمس يُحرك أزلاماً في وطننا وعلى جميع الأصعدة وفي كلِّ مجال، يُحرك كل هذه الأزلام وهذه الأقلام وهذه الأقدام يُحركها من أجل أن يقتتل الجزائريون فيما بينهم، يا ويلَ أمةٍ يقتتل أبناؤها، ويا ويلَ أمةٍ يتعارك أبناؤها ويتطاحنون فيما بينهم، يا ويلَ أمةٍ يَقتُل فيها المسلم أخاه ويجزُّ فيها المسلم رقبة أخيه ويَعتقِلُ فيها المسلم أخاه ويسجنه ويعتدي عليه، يا ويلَ أمةٍ لا يحترم فيها هذا المسلم الذي طهَّره الله بالوضوء وطهَّره بالصَّلاة فهو قيِّمٌ على دين الله وشاهدٌ على كتابه وعلى النَّاس:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)
[سورة البقرة]

إن الشهادة على النَّاس معاشر المسلمين لا تكون إلا بإقامة العدل وإشاعة الحرية ورفض الظلم وتوفير الشغل وتهيئة النفوس لقبول الرأي الثاني، والاطمئنان إلى أن سُنَّة الحوار الحضارية التي وجدنا أسسها في كتاب الله تبارك وتعالى عندما حاور الله الملائكة وحاور الجن وإبليس، وحاور المسلمون بعضهم بعضاً وحاور المسلمون غير المسلمين.
وحاور الرسول الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجده النبوي النصارى الذي وفَدُوا لمسجده الشريف، حاورهم وتلا عليهم قرابة ثلاثٍ وثمانين آية من أوائل سورة آل عمران، آمن بها من آمن وكفر بها من كفر وتراجع من تراجع لكن لم يتهِمهُم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بشيءٍ ولم يطردهم من مسجده الشريف، وإنما كَرَّمهم وعلَّمَهم وعمِلَ على إخراجهم من الظلمات للنور ثم يسَّرَ لهم سَبُلَ الإقامة والسفر مرةً أخرى كدلالةٍ على أن هذا الرسول الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم هو الذي يُعلِّمنا وهو الذي وصفه الله تعالى بعدد من الصفات، مرةً قال:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
[سورة الإسراء]

ومرةً قال:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً) لسوريا والعرب والجزائر والجن والإنس والأمريكان، فكل ما فوق التراب ترابٌ، وكل ما تحت السماء إنسانٌ أو حيوان، علَّمنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كيف يرحَمُ الإنسان أخاه وكيف يرحم الرجل زوجته، وكيف يرحم الوالد أولاده وكيف يرحم الأولاد آباءهم، وكيف يرحم الحاكم رعيته وكيف ترحم الرعية حاكمها، وكيف تتضافر جهود جميع المواطنين خدمة لبقاء دولتهم ومؤسستهم وبقاء قوتهم ومجدهم، هذا كله عَلَّمَنَاهُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
إخوانكم في الجزائر التي تُبلِّغُكم عن طريقنا سلامها، وتتمنى جزائركم التي عانت من ويلات الاستعمار والاستيطان الفرنسي كما تعانون من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في هذه المنطقة، يأمل إخوانكم الجزائريون كشعبٍ أن يكونوا إلى جواركم، لأنهم تعودوا منكم حُسن استقبال المسافر والسقاية والوِفادة والضيافة، لا زلنا نذكر أيام عجِزَ الأمير عبد القادر عليه الرضوان الصوفي المجاهد الشاعر الذي قاوم الاستعمار الفرنسي سبعة عشرة سنة، ولولا وجود بعض الخيانات كخياناتٍ كانت قديمة وخياناتٍ تحصل الآن وخياناتٍ ستحصل في المستقبل لا سمح الله، ولولا تلك الخيانات لاستمر الأمير عبد القادر يُناضل ويُجاهد باللسان والشعر والصوفية وتصفية الروح إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة رضي الله عنه وأرضاه.
من استقبل هذا الرجل؟ سوريا الحبيبة ودمشق الفيحاء هي التي استقبلت هذا الرجل واستقبلت معه من الرجال المهاجرين والنساء المهاجرات فكنتم أنصار ذلك الزمان ولا تزالون أنصار هذا الزمان، هذا الزمان الذي يعيش عندكم هنا أشقاؤكم الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى قدموا من فلسطين والقدس الشريف ووجدوا مظلة الراحة والطمأنينة هنا في أرض دمشق والشام وهنا في فلسطين وجدوا من يُؤويهم ويُطعمهم ويُدافع عنهم ويقف إلى جانبهم ويُقيم الصف معهم صفاً واحداً لمقاومة الصهيونية، فسوريا لها هذا الموقف المشهود الذي يجب على علمائنا وحكامنا في المنطقة أن يُثمِّنُوه، وعليكم أيضاً يا شباب مُحمَّد ويا أبناء الإسلام وبناته أن تُثمِّنُوه لأنه موقف الأنصار والمهاجرين.
أيها الإخوة الكرام ويا معاشر السادة أيها المسلمون وأيتها المسلمات: إن جزائركم أعيش تحت لهيبها وقصفها ومشاكلها، ولا أريد أن أنقل لكم آلامها لكن أريد أن أنقل إليكم آمالها، فالأمل بجزائركم موجود رغم دُعاة التغريب والهزيمة الحضارية والاستلاب الموجود عند طبقة النخبة، ولا أعني النخبة كلها وإنما أعني جانباً من جوانب النخبة التي تُريد أن تفرض نفسها وقرارها، أقول: تُريد أن تفرض نفسها وقرارها الذي يتعلق بإلغاء لغة القرآن الكريم من الوجود.
والسؤال: هل يرضى أشقائي وعلمائي بأن يُقضى حرف القرآن إلى الأبد في الجزائر؟ أترضون بهذا؟ مسؤوليتكم كبيرةٌ في هذا، قالوا عندنا: إن العربية -انتبهوا- إن العربية التي يتعلَّم بها أبناء الجزائر هي سبب التخلف والضعف والأصولية، فقلت: إذا كانت الأصولية هي العودة إلى منابع الدين وكتاب الله وسنة رسوله فأنا أصوليٌّ حتَّى النخاع، وقرأت فيما قرأت لفخامة الرئيس هنا عن الأصولية كلاماً لم يَقُله حتَّى الأصوليون في جهادنا، الأصولية التي تعني الرجوع إلى المنبع والمحافظة على الأصالة والدين، هذه هي الأصولية التي نرضاها ونضعها كالتاج على رؤوسنا ونحتضنها ونلتفُّ بها ونُقبَرُ معها ونجاهد لأجلها ونناضل إلى أن تبلى أعمارنا، أما الأصولية التي -بين قوسين الطالِبانية- التي تُشوِّه صورة الإسلام وترفض التمدُّن وآلات التكنولوجيا المعاصرة وهذه الآلات وآلات التصوير والتلفاز والتكنولوجيا والأقمار الصناعية والصواريخ والأسلحة الكبيرة والإلكترونيات ترفضها بدعوة أنها غير موجودة في القرآن!
فكأننا نصل إلى مرحلةٍ ذكرتها من خمسة عشر يوماً في حوارٍ تم بيننا نحن الأحزاب في الجزائر وبين رئاسة الجمهورية وبقية المنظمات وقلنا أن هناك محاولةً لوضع الإسلام داخل قفصٍ من ذهب، وطرفٌ آخر يريد أن يضع الإسلام داخل قفصٍ من اتهام، فنحن نرفض أن يكون الإسلام داخل قفصٍ من ذهب أو اتهام، الإسلام أعظم من أن يَأسر بنيه أو يَسجُنَ ناسه وقومه وأتباعه ومعتنقيه، الإسلام وقد أشار منذ قليل فضيلة الشَّيخ إلى أن هناك الملايين من النَّاس المُثقفين والسياسيين والعلماء وأهل الخبرة في أوروبا يدخلون في دين الله أفواجاً، ليس عن طريقنا بل عن طريق القناعات العقلية، اقتنعوا وأدركوا أن الإسلام موجود، ويوجد الآن للعلم قرابة ثمانية ملايين من المسلمين في فرنسا، نقلوا إلى فرنسا بعض تعاستهم واختلافاتهم ويجوز ولا يجوز، ونقلوا تخلُّفهم ومع ذلك استطاع عقل الإنسان الأوروبي أن يُصطفيَ ليلتقي بعقله مع الوحي.
معاشر المؤمنين الفرصة التي أتيحت لي معكم بهذا اللقاء أجرها وأجرُ من استمع لها يعود إلى فضيلة الشَّيخ حفظه الله، ويعود إلى هذا البلد المضياف الذي تعلَّمنا منه ونتعلَّم منه كيفية الصمود، ويعود بعد ذلك دعاؤكم لجزائركم أثناء الصَّلاة وعند السجود وقبل ذلك وبعده حتَّى تنكسر قرون الفتنة في بلادنا، وتتوقف دموع المأساة التي يُراد من ورائها إلغاء الدولة الجزائرية، معاشر المسلمين أنتم الآن تعيشون داخل الدولة، والدولة فيها الأخطاء والسلبيات والإيجابيات، فعليكم بالإيجابيات فثمِّنُوها وثمِّرُوها ووظِّفُوها وعليكم بالسلبيات فانظروا إليها وانصحوا من ترونه أهلاً للنصح ليتفادى تلك الأخطاء والسلبيات.
الإسلام علمنا أن نقول للمحسن عندما يُحسن أحسنت ونقول للمسيء عندا يُسيء أسأت ولا أكثر من ذلك، لأنه إذا تعدت كلمتك قولك أسأت، فكأنك تُحاول أن تُدمِّرَ بلدك، تحاول أن تغرِسَ الفتنة والضغينة في النَّاس؛ ومجتمعٌ مُبتلى بالحسد وكذلك بالشنآن والخصومات الداخلية غير مؤهلٍ لمقاومة إسرائيل، وغير مؤهلٍ لمقاومة التخلف والمرض والجوع، المجتمع المؤهل للقيام بفريضة الشهادة على النَّاس والتمكين لدين الله هو المجتمع الموحَّد في التصورات، وهو الذي يعتقد أن هناك تنوعاً ثقافياً ودينياً ومذهبياً لكن من أجل التكامل لا من أجل التآكل، إن كل أمة يتآكل أفرادها وتضيع طاقاتها وتتفتَّتُ وحدتها تصبح على شفا جُرُفٍ هار، وتتعطل قدراتها عن الإبداع والمبادرة.
أنتم الآن ولا أريد أن أكون معلماً لكم إذا لكم علماءٌ ومعلمون وأساتذةٌ وموجهون ولكن أتمنى أن تكون أيديكم بأيدي علمائكم ووطنكم وأيديكم من أجل المحافظة على شرعية وجودكم، وعلى شرعية مؤسساتكم لنتمكن من صناعة مستقبلٍ زاهرٍ إن شاء الله وما ذلك على الله بعزيز، واطمئنوا من أن الأقطاب الدولية التي تكوَّنت سيتكون قطبٌ آخر ٌ قطبٌ عربيٌّ إسلامي، يتكوَّنُ بنا أو بغيرنا :

هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم (38)
[سورة مُحمَّد]

يأتي قومٌ آخرون ويتمكَّنُ من صناعة هذا القطب فتزول الحدود وتُقام الحدود، تزول الحدود الوضعية وتُقام الحدود الشرعية بما أمر الله تبارك وتعالى، ويستطيع المسلمون آنئذٍ أن يفرحوا بنصر الله :

وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
[سورة إبراهيم]

أشكركم أيها المؤمنون المسلمون وأشكركن أيتها المسلمات الفُضليات وأشكر فضيلة الشَّيخ الذي تعلمنا منه في هذا اللقاء وأحسست بأني جلست إلى جانبه والإلهامات الربانية تتقاطر عليه من فوق السماوات السبع كدلالةٍ على أن أمتنا بخير، اطمئنوا على أن مستقبل الأمةِ بخير، بارك الله فيكم وشكر الله لكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا مُحمَّد.
باسمي واسمكم جميعاً، رجالاً ونساءً شباباً وشيوخاً أشكر صاحب الفضيلة والسماحة والسعادة، لا أقول ضيفنا بل أخانا العزيز الشَّيخ السيد محفوظ النحناح رئيس فتح والتجمع الإسلامي في الجزائر، على كلمته العلمية الجهادية الروحية التي آمل إن شاء الله وعن قريبٍ أن نرى هذه المعاني متجسدةً في أمتنا، وهذا يكون بأن كل من يستمع الكلمة الطيبة ينقُلها إلى غيره، وكما قال النَّبيّ الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ليس مني إلا عالم أو متعلم، وإنما النَّاس صنفان عالم ومتعلم، ولا خير فيمن سواهما (8) }

[مسند الفردوس للديلمي]

أنا أبشِّرُ الجزائر ما دام أن فيها رجالٌ أمثال الأستاذ الفاضل الكبير العظيم فأمثاله كثيرٌ فلا خوف على الإسلام ولكن لا بد من تحقُّق سنة الله في الكون، لا بد من ظهور الليل ولكن إذا ظهر الليل فالله خلق لنا الكهرباء والوسائل، كافحنا القدر بالقدر، فالإنسان يستطيع أن يغلِبَ القدر الذي هو ظلام الليل بجهاده وكفاحه، الجوع قدرٌ فهل نستسلم له؟ نحارب القدر بالقدر، قدر الطعام يُذهِبُ قدر الجوع، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن نتفقَّه في الإسلام، كل واحدٍ منا صَغُرَ أو كَبُر، إذا تعلمت كلمةً واحدةً علموها للآخرين، إذا تعلمتموها صارت غذاءً لكم وأمانةً عندكم للآخرين

{ نضر الله امرأ سمع منا شيئاً فبلغه كما سمع فرُبَّ مبلغٍ أوعى مِنْ سامعٍ(9) }

[سنن الترمذي]

ورُبَّ حامل فقهٍ وليس بفقيه، وفقنا الله وحقق الآمال، والحمد لله رب العالمين.

الحواشي:
(1) مسند البزار، رقم: (6947)، (13/332)، مسند أبي يعلى، رقم: (3315)، (6/65)، المعجم الكبير للطبراني، رقم: (10033)، (10/86)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (7045)، (9/521)، حلية الأولياء لأبي نعيم، (2/102)،
(2) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب القنوت في الوتر، رقم: (1425).
(3) مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176).
(4) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، (1/315)، رقم: (930).
(5) المعجم الكبير للطبراني، (751)، (1/259).
(6) صحيح البخاري, كتاب الأدب, باب رحمة الناس والبهائم, رقم: (6011), صحيح مسلم, كتاب البر والصلة والآداب, باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم, رقم: (2586).
(7) سبق تخريجه.
(8) مسند الفردوس للديلمي، (3/419).
(9) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى، رقم: (1654)، والترمذي بلفظ: ((نضر الله امرأ سمع منا شيئاً فبلغه كما سمع فرب مبلغ أوعى من سامع)) سنن الترمذي، كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، رقم: (2657).