تفسير سورة النحل

  • 1980-07-11

تفسير سورة النحل

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيدنا وحبيبنا محمدٍ النبي العربي وعلى سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، وسيدنا موسى، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين وبعد:


الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر إذا أحسنوا وأخلصوا في إسلامهم:

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
[سورة النحل]

(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) يعني لنجزيهم ولنُعطيهم في الدنيا حسنةً، يعني حياةً حسنةً، ومنزلةً حسنةً، ومكانةً حسنةً، ونصراً حسناً وصحةً حسنةً، ومعيشةً حسنةً، (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) وما نُعطيهم إياه لمّا تخلع وتَنزِع أرواحهم أجسادها، وتتحرر من الأجساد إلى عالم الروح وعالم السماء.
قال فما هو مُهيأ لهم في عالم السماء هو أعظم ممّا أُعطوا في الدنيا، وممّا نَعِموا وسَعِدوا به في الدنيا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، من هُم؟ قال:

الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
[سورة النحل]

يثقون بوعد الله، يثقون بكلام الله، يثقون بهديّ الله، لأنَّ الله وعدهم النصر إذا أحسنوا إيمانهم، إذا صدقوا وأخلصوا في إسلامهم، مادام الله هكذا قال فلا بُدَّ من النصر، وعدهم الله بالنجاح والتوفيق، لا بُدَّ من النجاح والتوفيق، يبقوا في المعركة ثابتين، صامدين، مُجاهدين، مُتحمّلين، لا ينهزموا، إما شهادةٌ وإما سعادةٌ، إما هلكٌ وإما مُلكٌ، لا يُخيفهم الموت، الموت في نظر المؤمن وفلسفة الإيمان هو خلاص من عناء الجسد وأعباءه، ومن أسقامه وأمراضه، ومن آلامه وأوجاعه، ومن شقائه وتعاسته، من فقره وبؤسه، إلى حياةٍ فيها من النعيم ما تقصر العقول عن إدراكه، فهذه الثقافة وهذه المدرسة لمّا دخلها الإنسان العربي صار تلميذ الله والله أستاذه، صار في جامعة الله والله عز وجل هو مُعلِّمه، في تربية الله والله مُربّيه، ربّى عقله، فإذا الفلاسفة كانت عقولهم فلسفية، أما المؤمنين فكانت فوق أنه عقولهم فلسفية كانت أعمالهم فلسفية، أعمالهم كلها مُستمدة من العقل الجبّار، الضخم، الكبير، الحكيم، فالفلاسفة أتوا بأفكار وعجزوا أن يُحولوها إلى أعمال، في الفرد وفي الشخص، أما المسلمون العرب بالإسلام حوّلوا العالم إلى فلاسفة، حوّلوهم إلى ملائكة، ملائكة وفلاسفة، حوّلوهم إلى أغنياء، حوّلوهم إلى ملوك، حوّلوهم إلى عائلةٍ واحدةٍ مُتآخية.

{ مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ . مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى }

[صحيح البخاري والترمذي]

إذا أصبعه تورّمت، تداعى يعني تنادى وتجاوب له سائر الجسد بالسهر والحمى، كل الجسد يبقى ساهراً بسبب رأس الإصبع، وحرارته مرتفعة من أجل رأس الإصبع.

الإسلام صنع أُمم ولا يزال يصنع:
فأيُّ ثقافة في الدنيا، وأيّ أمة ودولة في العالم الآن في القرن العشرين، أمريكا عملت المجتمع الأمريكي كما صنعه الإسلام بقيادة النبي العربي؟ الأمريكان الواحد منهم إذا اشتكى منه عضو يتداعى له سائر الجسد الأمريكي؟! عندهم الفقر المُدقع، والزنوج في الأكواخ يُمنَعون من دخول كنائس البيض وهُم نصارى، تُمنع أولادهم من مدراس البيض وهُم مواطنون، المجتمع الاشتراكي الشيوعي صار كما صار المجتمع العربي بفضل الإسلام (في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ . مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى)؟ صار المجتمع الاشتراكي؟ خمسة جرحى لا يوجد ماء يُنقذ الحياة إلا لواحد، فكل واحدٍ أبى أن يشرب، وأن يُنقذ حياته من الموت إيثاراً لأخيه على نفسه، وماتوا كلهم ولم يشرب واحدٌ منهم، يا ترى هل استطاعت الاشتراكية، أو المسيحية، أو الامبريالية، أو الديمقراطية، أن تصنع مجتمعاً وعالماً؟ الإسلام لم يصنع إنسان فرد نموذجي، صنع عالم، صنع أُمم ولا يزال يصنع، والله سيُكرِم العالم بالإسلام، والإسلام الآن يكاد أن يرفضه المسلمون، لغبائهم ولتسميم المستعمرين لعقولهم وأفكارهم، ولكن لا بُدّ مِن اليقظة والصحوة، ولا بُدّ أن يعرف الابن إذا كبر مَن هو أبوه، ومَن هو عدوه ومُجافوه، كما أنه العالم الآن خَرج عن طوق الطفولة، يسمع أبوه كما يقول له، كبّر، فصار هو يصنع بذاته الحقائق، فالآن العالم كله يعمل في دراسة الإسلام وبشائر اعتناق الإسلام، ما معنى اعتناق الإسلام؟ هل نحن مستفيدين؟ نحن بعيدين عن الإسلام.
معنى الإسلام يعني الشعوب تصبح كلها عائلةً واحدة، معنى الإسلام يعني تآخي الشعوب، معنى الإسلام يعني تعاون الشعوب، معنى الإسلام السلام وليس السلام بين الأمم والدول، السلام بين الشريكين لا يكون أحدهما ذئب والآخر شاةً وخروف، معنى الإسلام العائلة، يعني الأب موضع التقديس، والأم موضع الحُب والأدب والاحترام، معنى الإسلام يعني العائلة والأسرة مُتكافلة مُتضامنة تحت حُكم صلة الأرحام.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
[سورة النساء]


ما هو معنى الإسلام:
معنى الإسلام يعني لا يوجد غشّاش ومغشوش، غابن ومغبون، مُتلاعِب ومُتلاعَب عليه، معنى الإسلام لا يوجد ظالم ولا مظلوم، معنى الإسلام لا يوجد جاني ومَجني عليه، معنى الإسلام يعني لا يوجد جائع لا يجد الطعام، ولا مريض لا يجد الطبيب والدواء والخدمة، معنى الإسلام يعني لا يوجد إنسانٌ لا مسكن له مريح، هذا هو الإسلام، معنى الإسلام يعني لا يوجد في المجتمع إنسانٌ جاهل، لأنَّ النبي قال إنما الناس تحت ظلة الإسلام:

{ النَّاسُ رجلانِ عالِمٌ ومتعلِّمٌ ولا خيرَ فيما سواهُما }

[السيوطي إسناده ضعيف]

وقال:

{ ليس مني إلا عالمٌ أو مُتَعَلِّمٌ }

[الألباني ضعيف الجامع]

الإسلام جعل كل المجتمعات كلها مجتمعات عِلم، المقاهي تصبح مدرسة، السينما تصبح مدرسة عِلم وتربية، في الباص المسافرين وفي القطار والطائرة مدرسة، لا يجوز أن يذهب هذا الوقت سُدى، يكون هناك تلفزيون، يكون هناك تسجيل كلها عِلم وتوجيه، ولا يوجد مانع مع العِلم والتوجيه أن يكون هناك مرح، ويوجد استراحة واسترواح، عن سيدنا علي: "روحوا النفوس ساعةً فساعة، فإنَّ النفوس إذا كلَّت عميت"
وورد أيضاً:

{ الهُوا والعَبوا، فإنِّي أكرهُ أن يُرَى في دينِكم غِلظةً }

[البيهقي إسناده ضعيف]


الهجرة هي هجرة القلوب إلى المحبوب:
نعود إلى الدرس:
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ) هاجروا وفي الله، معنى الهجرة هجرة القلوب إلى المحبوب، وعدم صبر القلوب عن مفارقة المحبوب، ودائماً المُحبّ الصادق هو دائماً مع محبوبه، قلبه مع قلبه، ووجدانه مع وجدانه، وشعوره مع شعوره، وفِكره مع فِكره، قد يُعوقه الجسد عن أن يكون منه قريباً، فيجب على النفس أن تحمل الجسد إلى حيث يكون المحبوب، فكان محبوبهم النبي صلى الله عليه وسلم، والمحبوب من النبي العِلم والحكمة، المحبوب من النبي كان حياة الروح، حياة القلب بالله، المحبوب من النبي كان النبي مصنع الفضائل الإنسانية، مصنع الكمالات الإنسانية، فكل من دخل في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من تعلَّق بمحبّة رسول الله دخل في ذلك المصنع، فعلى مقدار مَكثه وتسليم بضاعته الخام للمصنع والصانع، فكان يخرج من المصنع كما وصفهم صاحب المصنع عليه الصلاة والسلام، حيث قال: حُكماء، دخلوا أُمّيين في المصنع، دخلوا أعداء بعضهم البعض، دخلوا يئِدون البنات، دخلوا لا يُورثون المرأة بل كانوا يَرِثونها، إذا ماتت المرأة و كان على وجهها جَمَال كان ابن زوجها يرثها عن أبيه، وإذا كانت غير جميلة صارت مُلكه، يرثون المرأة هذه العروبة كانت قبل الإسلام، كانوا يمنعونها من الزواج حتى تُرضيه، تدفع له حتى يتنازل عن مُلكه وعن ميراثه، هذه هي العرب بلا إسلام، وقبل الإسلام، ولمّا تركوا الإسلام كيف أصبح حالهم؟! مُبعثرين، مُتفرقين، مُتعادين، جنسيات متعددة، مُنهزمين، مُتخلفين، ليس لديهم صناعة ولا تكنولوجيا، بينما لمّا كانوا مُنتسبين للإسلام كانت شعوب العالم، تدرس وتُثقف في جامعاتهم.
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ) هاجر بأي دافع؟ يطلب الله في صُحبة من يُهاجر إليه، ويطلب العِلم والحكمة، ليس له غرض مادي، لِمال، لإمرأة، لمصلحة جسدية، (مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) إذا لم يعد يمكنهم أن يكونوا مسلمين في مكة، تحت الإكراه والضغط حرمهم إخوانهم في ظل التعصّب الديني والفكري حرموهم من أوطانهم ومسقط رؤوسهم.
الإسلام عنده حرية الفكر، ترك النصارى على نصرانيتهم، واليهود على يهوديتهم، أما بلا إسلام لم يمكّنوا إخوانهم العرب أن يكونوا أحراراً في عقيدتهم وفيما يدينون الله به، قال: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) فالإسلام لا يقول لك تعال ادخل في شيء لا تعرف نتيجته وثمرته، والربح فيه، يُحدّثك عن الربح قبل أن تتاجر، وقبل أن تدخل السوق، يقول لك ماذا تريد أنت من الحياة؟

على الإنسان أن يعيش ويعمل لدنياه ولآخرته:
الذي ليس له دين ولا يتدين ما هدفه في الحياة؟ أن يكون في حياة حسنة، مال، زوجة، بيت، يعني لا يتعدى تفكيره تفكير فأر، فالفأر ما الذي يريده؟ يريد بيت، وفأرة وكم فأر صغير، يعني إذا هذه هي الحياة فبئست الحياة، وتكون الحياة كما قال الشاعر:
لَحى اللَهُ صُعلوكاً مُناهُ وَهَمُّهُ مِنَ العَيشِ أَن يَلقى لَبوساً وَمَطعَما
{ حاتم الطائي }
ما معنى لحى؟ لحوت عود الشجرة يعني انتزعت قشرتها، إذا واحد نزعوا عنه ثيابه ماذا يحدث؟ يُفضح، لحى الله فلاناً يعني فضحه الله كما العود، لمّا نقشره وتظهر حقيقته، إذا كان همه فقط أن يلبس ويأكل ويشرب ويريد ماعز وهو زوجها، ويريد فأر وهو زوجها بئس الإنسان هذا، الإنسان أعظم من هذا، يجب على الإنسان أن يعيش جسدياً ويعيش روحيّاً، وعلميّاً وفكريّاً، ودنيوياً وأخروياً، الإسلام هو هذا، يُريك إذا مشيت ما الطريقة؟ قال:(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) لنُنّزلهم، ولنُعطيهم، في هذه الدنيا حسنة، يعني الحياة الحسنة، والمكانة الحسنة، والصحة الحسنة، والعلوم الحسنة، والأفكار الحسنة، والسُمعة الحسنة، والمكانة الحسنة، (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) إذا كان المسلم لا يفهم ما الإسلام، فنحن يجب أن نطعمه فيتامين التبن، هذا إذا كان لا يعرف من الحياة إلا الجسد كما تعرفه البهائم والدواب، يجب أن يكون أكله مأكول الدواب، وشربه مشروب الدواب، ونومه نوم الدواب، لو بقي العرب كأبي جهل، وأبي لهب، يعبدوا الأحجار و الأوثان، يعني كان في العرب من يتكلم اللغة العربية الآن؟ اللغة اللاتينية ضاعت لأنّه لا يوجد قرآن يحفظها، الذي حفظ لغة العرب وأبقانا عرب هو القرآن والإسلام، عرَّب الأمم، سوريا كانت تتكلم بالسرياني، مصر كانوا يتكلمون بالقبطي، شمال إفريقيا يتكلمون البربري، من عرّبهم؟ من حوّلهم إلى شعوب عربية؟ إلا الإسلام والنبي العربي، لم يرضى أن تكون العروبة لغة شعوب الأرض، قال:

{ أنا عربِيٌّ، والقرآنُ عربيٌّ، ولسانُ أهلِ الجنةِ عربِيٌّ }

[الألباني السلسلة الضعيفة]

كل هذه المزايا الإسلام أعطاها للعرب، والعرب ماذا يُعطوا للإسلام مقابل عطاء الإسلام لهم؟ هل يُعطوه الشُكر؟ هل يُعطوه التجاوب؟ هل يُعطوه تقبّلهم لعلومه التي نفتخر ونعتز بالوليد والرشيد.
دعونا نسأل الوليد والرشيد ماذا كانت مبادئهم؟ ماذا كانت ثقافتهم، ما كانت منزلة القرآن والنبي وعلوم الإسلام في نفوسهم؟ كانوا يموتون تحت راية الإسلام ويحيون تحت راياتها، فإذا كنّا على عكس ذلك فهم منا بريئين، ونحن منهم بريئين أيضاً، والقصيدة لا تربطنا بهم، يربطنا بهم أن نتثقف بثقافتهم، ونؤمن بإيمانهم، ونجاهد جهادهم، ونتحضر حضارتهم، وبحسب لغة العصر التي نحن فيها.

سبب هجرة النبي عليه الصلاة والسلام:
نعود للهجرة:
الهجرة بحسب الحقيقة كانت هجرة إلى عِلم، وإلى حياة روحية، الهجرة كانت إلى حياة فكرية، كانت مرتبطة بشخص النبي، فلمّا النبي هاجر فهاجر الصحابة، وقبل أن يُهاجر في مكة ما استطاعوا أن يعيشوا على الأفكار الإسلامية، لتخلف الإنسان العربي في ذلك الوقت وحرمانه من حرية الفكر والعقيدة، فاضطروا إلى أن يخرجوا من مكة ثلاث مرات، مرتين إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة.
السبب في الهجرة، لمّا النبي عليه الصلاة والسلام حُبّب إليه الخلوة والإنفراد عن الخلق كلهم، حتى زوجته الأميرة والنبيلة وإخوانه وأصدقائه ومصالحه، وحُبب إليه الخلوة بربه، الجلوس مع الله، الجلوس والتنعُّم بصحبة الله، ذِكراً وإقبالاً وشوقاً، فكان يخرج إلى أعلى جبل المُسمى بجبل النور، مثل وكر النسر، وهناك كان يذكر الله مُنقطعاً عن كل الخلق، فما ظلَّ متوجهاً، ذاكراً، مُتضرعاً، عاشقاً، متولهاً بالله، حتى رقّ حجابه ورقّ ورق وصار شفافاً كالزجاج، ورُفع الحجاب وصار من اللطافة ما يستطيع أن يرى المخلوقات اللطيفة والملائكة وإذا به يفاجئه جبريل قائلاً له:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
[سورة العلق]

يعني خذ العلوم لأن القراءة الطريق إلى اقتناص العلوم، لكن اقتناص العلوم واكتسابها بواسطة ومن طريق ومدرسة اسم ربك الذي خلق، ذكر الذات مع ملاحظة الصفات، تريد أن تذكر الله تستشعر عظمته، جلاله، نوره، رحمته، ثم قال له: اقرأ، يعني لا تكتفي بعِلم القلب من طريق الذكر لا، أيضاً اسلك الطريق الثاني مع الأول قال:

اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
[سورة العلق]

ادرس العلوم التي تأتي بواسطة القلم.

عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
[سورة العلق]

فنزل حاملاً للرسالة بعلوم إلهية، بقي ثلاث سنوات كانت الدعوة سريّة، بعد ثلاث سنوات جهر بها، فلمّا جهر بها قريش لم تتعرض له بسوء، لمّا صار ينقض ويذمُّ أصنامهم، ويبين لهم تفاهة عقائدهم، وقد ورثوها عن آبائهم، فثارت ثائرتهم واشتعلت نخوتهم الجاهلية، فقاموا يُعذبون المؤمنين، وأيُّ عذابٍ كانوا يُعذبون المؤمنين.

أنواع الظلم والعذاب الذي تلقاه المسلمون الأول بسبب إسلامهم:
فكان عمار بن ياسر وأبو عمار، وأم عمار سُمية، الأب والأم سُمية ماتا تحت العذاب، تحريقاً بالنار، وكان عمار من شدّة العذاب يفقد وعيه أو يكفر بمحمد ووصل لمرحلة لم يتحمل فنطق بالكُفر، فأطلقوه فأتى إلى النبي يشكو ويبكي، قال: كيف وجدت إيمانك في قلبك؟ قال: إيماني على حاله، فأنزل الله تعالى :

مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
[سورة النحل]

يعني لو نطق بكلمات الكفر تحت الإكراه لا يُؤاخذه الله على ذلك (وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا) إذا نطق بالكفر قلباً ولساناً (وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فكان النبي يمرّ عليهم وهم تحت العذاب وكان له أخ يشكو للنبي عليه الصلاة والسلام فكان النبي لا يملك من الأمر شيء في الأمور الدنيوية فكان ما يُعزيهم إلا بقوله:

{ صبرًا آل ياسرٍ، فإنَّ موعدَكم الجنةُ }

[أخرجه الطبراني]

اللهم اغفر لآل ياسر، فمات ياسرٌ تحت العذاب، وماتت زوجة ياسر أم عمار أيضاً تحت العذاب، أخذها أبو جهل وعذبها تعذيباً شديداً، رجاء أن يفتنها عن دينها فلم تجبه لِما يسأل، ثم طعنها في عورتها الأمامية بحربةٍ فماتت وكانت أول شهيدةٍ في الإسلام، أول الشهداء هذه المرأة هذه مكانة المرأة في التاريخ الإسلامي وفي تاريخ النضال، سبقت الرجال في ميادين النضال والاستشهاد وإلى عالم السماء.
كان من جملة أنواع التعذيب لعمار وأبيه كان يلبسونهم دروع الحديد على عُريٍ من الثياب ويجعلونهم تحت حرارة شمس مكة التي تصل في الظل إلى الخمسين والخمسة والخمسين، في الظل أما في الشمس كيف تكون؟ ودروع الحديد ما يجعل اللحم ينضج في مثل هذه الحال وهم صابرون، وهم صامدون، وانزل الله مُعزياً لهم، لمّا يدعوا الله، نحن في دار الأسباب، فأنزل الله:

الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
[سورة العنكبوت]

من غير أن تُفتتن في دينك؟ من غير أن تتحمل وتدفع الضريبة، ضريبة بناء الإسلام روح ومال، ووقت، وعرق، وسهر، ومشقات، وأخطار، وأهوال هذا الإسلام، مسلمون هذا الزمان يا ابني تعودوا يريدون الإسلام بالراحة، يريدون إسلام (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) سيفتن عن دينه، ما الفتنة؟ يعني يبقوا يعذبوه، يبقوا يقطّعوه، يبقوا يُحرّقوه حتى يكفُر بالإسلام، فكانوا أقوى من كُفرهم، ومن عذابهم، ومن جبروتهم، وثم هؤلاء المستضعفين، هؤلاء العبيد، هؤلاء النساء العجائز هزموا صناديد قريش، هزموا فرعونيتهم، ونمروديتهم، وأقاموا الحضارة للعالم.
الآن العالم المتقدّم، العالم الراقي يدخلوا في كُتَّاب الإسلام والمسلمين، الآن يتركون عقائدهم وكنائسهم وحضارتهم وثقافتهم إلى الإسلام، يأتيهم مُعلّم أستاذ إسلامي من نيجيريا أسود أساتذة الجامعة في أمريكا وفي أوربا وفي اليابان يصبحوا تلامذة بين يديه، هذا هو الإسلام، لكن نريد أن ندرس فقهه القرآني، ندرس الهجرة الدراسة العملية على أساس إذا احتجت إلى الهجرة، ندرس كيف هندسة الإسلام لمّا شقّوا أرض البناء لوضع الأسس هذا الحفر وهذا بناء الأسس، بذل الروح، الدم، الحياة، الراحة، التحريق بالنار، الجوع، السجون، الضرب كله، التخويف، فيا ابني الأمة العربية نائمة، الشعوب الإسلامية نائمة.
أعتقد الآن لا نحتاج، والله لا نحتاج أبداً، فهم الإسلام وفقهه، حبّه وإخوته، حكمته وعقلانيته، والله الناس كلهم بخير، يا ابني أنا ما رأيت إنساناً لا خير فيه من أي دين مؤمن أو مُلحد، ولكنها تحتاج حكمة الداعي، وأدب الداعي، وعِلم الداعي، وشخصية الداعي، ما كل من صف الصواني يصير حلواني، يا ابني الله يجعلكم حلواني.
فصاروا يقوموا بتعذيب المستضعفين من المؤمنين، فكان من جملة من يُعذّب آل ياسر، قال: اللهم لا تعذب أحداً من أهل عمارٍ بالنار، وكانت أم عمار اسمها سُمية سابعة سبعة في الإسلام، لمّا استشهدت كان عدد المسلمين سبعة أشخاص، وقُتلت وهي عجوزٌ كبيرة، الإنسان سيموت، الموت لا مفرّ منه، مُت شهيداً لتكن موتتك تأخذ ثمنها الجنّة.

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
[سورة التوبة]

لا تستطيع أن تموت على فرشتك وتأخذ الجنّة! في هذا الوقت لا تحتاج يا ابني، والله العظيم الناس كلها بخير، والله الذين يسمونهم مُلحدين، الذين يسمونهم أعداء الدين، الدين عِلم هل من أحد يُعادي العِلم؟ الدين صدق هل من أحد يُعادي الصدق؟ الدين أمانة، الدين أخلاق، الدين مساواة، الدين تعاون، الدين إخاء، الدين حُب، هل أحد يُعادي هذه المعاني، لكن اعرض الدين بعكس هذه المعاني، أمسخ الدين، شوّه الدين، اجعل عِلمه جهلاً، ولطفه غلاظة، ومرونته وحكمته تعصباً وتزمُتاً، وحقداً وعداوة، كيف سيقابلونك الناس يا ابني؟ يا ابني الله يفهمنا الإسلام، الناس كلها بخير، ومع شيء من الصبر ومع شيء من الإخلاص، من العِلم القلبي التغذية الروحية هذه لا بُدّ منها.
خباب بن الأرت أيضاً كان من جملة المُعذبين، هذا كان عبد، وكانت مالكته وسيدته تأتي بحديدة تحميها بالنار وتضعها على رأسه، فيأتي ورأسه كله متورم ويشتكي للنبي عليه الصلاة والسلام، النبي لا يملك شيء فماذا يقول له؟ بماذا يُعزيه؟ قال: يا رسول الله لقد لقينا من المشركين شدّةً شديدة ألا تدعو الله لنا؟ ادعو لنقول آمين، الدعاء وآمين وحده لا يكفي، يجب مع الدعاء جهاد، ومشقات، و تحمّل.
أتى رجل إلى سيدنا عمر قال: يا أمير المؤمنين جَرِبت جِمالي، يعني أصابها مرض الجرب، فادعو الله لي أن يشفيها قال له: أنا أدعو لك لكن اجعل مع الدعاء قطراناً، ادعو الله يرزقنا الولد، اجعل من الدعاء زوجة، نحن المسلمين الكُسالى، الجهلاء في الإسلام، نريد إسلام من غير عمل، من غير جهد، من غير تحمُّل مسؤولية، من غير مشقّة، بالمال بُخلاء، بالعمل أضناء، كسالى، جُبناء، نتحمل مسؤولية، فارين هاربين لا نريد أبداً، كله بطن وفرج ولهو ولعب، هذه أُمة لا تستحق الحياة، ولا تستحق المجد، الأمة الراقية انظر الآن الأمم إذا لم يكن عندهم جهاد يذهبوا إلى جبال هيمالايا، يذهبوا إلى القطب المتجمد الشمالي، يغوصوا في البحار ليكتشفوا ما فيها، كل مجدهم قائم على الجهد والجهاد وتحمل المشقّات.
وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراً تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ
{ المتنبي }
أما النفوس الصغيرة، الحقيرة، التافهة، منذ مدة كنت مع بعضٍ من الناس الذي يتحمل شيء كبير من مسؤوليات الحياة، يتحدث مع صديقه أنه نلعب بالضاما، ونلعب بورق اللعب، ونلعب بكذا وكذا، نظرت وقلت سبحان الله هكذا كان آبائنا العرب الذين وصلت راياتهم إلى ضواحي باريس وروما، وجنيف، والصين، وبكين، بالضاما، وورق اللعب، وباللهو؟! نحن ممسوخين يا ليت لو مسخنا قرود، القرد ما عليه مسؤولية، لكن ما زلنا بني آدم ونعتبر أنفسنا بنو آدم ونعتبر حالنا عرب ومنسوبين لأولئك العرب؟! والله لو رأونا لتبرؤوا منا، حتى أبو جهل وأبو لهب يتبرؤوا منا نحن لسنا عرب لا من عرب الإسلام ولا من عرب قبل الإسلام، عرب هجين، ما الهجين؟ يعني الذي يكون أبوه شكل وأمه شكل آخر، إذا كانت الفرس الأصيلة تزوجها ولقحها حمار ماذا سيكون النسل؟ بغل والبغل عقيم ليس له إنتاج، نحن الآن ماذا لدينا إنتاج؟ بالعلوم، بالحضارة، بالصناعة، بالتكنولوجيا، أما أولئك ماذا أنتجوا؟ حضارة العالم الحالية كلها مدينة لأولئك العرب.
إن شاء الله نعود ونرتبط بنسبنا العربي الذي روحه الإسلام، والإسلام الذي رفعه شأنه العرب، فعروبة وإسلام، وإسلام وعروبة هؤلاء العرب الأُصلاء، الله يجعل عربنا وقوميتنا العربية يجعلها أصيلة بفضله وإحسانه، ويحنّ ربي على العرب، والله يحنّ إذا طلبت منه الحنان، يعني إذا ذهبت للحلواني وأعطيته الثمن يُعطيك بقلاوة، وإذا ذهبت لسوق التبن وكيسك فارغ يعبأه لك أيضاً فبحسب ما تطلب تُعطى، الله يجعل نفوسنا كريمة وهِممنا عظيمة حتى نطلب الأمور العظيمة حتى نُعطاها.
فخباب شكا إلى النبي الحرق برأسه، والحديدة التي يكووها في رأسه، فكان النبي جالساً فقعد محمراً وجهه وقال:

{ شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ }

[صحيح البخاري]

المؤمنين الذين قبلكم كانوا يُحضِرون لهم أمشاط الحديد ويمشّطون لحمهم عن عظمهم، يُعذبوهم حتى يفتنوهم عن دينهم، إنه كان من قبلكم (ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ)، والدين يعني الثقافة، العِلم، التربية، الأخلاق، الوطنية الكاملة، ليس له هدف شخصي إلا خدمة أمته، بل وخدمة الإنسانية والعالم، قال: (فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْر)ُ الإسلام سيعلو وسينتصر (حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ) الذئب على الغنم يتم ذلك بالراعي.
والله هل يتعدى على أحد؟ هل يظلم أحد؟ إذاً الصحراء صارت آمنة بلا شرطة، آمنة بلا دولة، آمنة بالتربية والعقيدة، فأيُّ شعب الآن في عالمنا ينال الأمن من غير رجال الأمن؟! هذا العرب صار لهم بالتربية، بالعقيدة، بالإيمان ولذلك كان النبي يقول:

{ المؤمنُ من أمِنه النَّاسُ والمسلمُ من سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه، والمهاجرُ من هجر السُّوءَ، والَّذي نفسي بيدِه لا يؤمنُ عبدٌ لا يأمنُ جارُه بوائقَه }

[أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى]


النبي عليه الصلاة والسلام عمل المجتمع كله يأمن الناس بوائقه:
مادام الناس يخافوا من عدوانك، يخافوا من خيانتك، ما ظهر إيمانك وأخلاقك وتربيتك العالية بالشكل المتواتر حتى تأخذ ثقة كل الناس، إذا لم تكن موضع ثقتهم فأنت مُنحرف والمنحرف (لا يؤمنُ عبدٌ لا يأمنُ جارُه بوائقَه) تستدين دين ويطلبوا سند عليك رهن، يعني أنهم يخافوا منك، يوجد أُناس وهؤلاء أندّر من النادر، الناس يأمنوا غدرهم وبوائقهم وخيانتهم ورذائلهم، فالنبي عمل المجتمع كله يأمن الناس بوائقه، هذه معجزة، من يستطيع أي دولة من دول العالم أن تفعل هذا الفعل؟ ولكن هذا صنع الإيمان، هذا صنع الدين.
وقال خباب: وقد رأيتني يوماً وقد أوقد لي ناراً ووضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودّك ظهري يعني دهنه.
وبعد ذلك الله عز وجل ضرب سيدته بمرضٍ في رأسها فكانت لا تسكن إلا إذا كويت على رأسها، فكان هو يحمي لها الحديدة ويكويها في رأسها وبطلبٍ منها جزاءً وفاقاً.
ومن المُعذَّبين بلال، كذلك بلال رأوه مرة وكان كاتم إسلامه، رأوه يبصق على الأصنام ظنَّ أن لا أحد يراه، فبصق على الأصنام فأمسكوه وصاروا يُعذبوه، كذلك بحرارة مكة التي في الظلّ خمسة وخمسين يضعونه على ظهره عاري ويضعون على بطنه حجر الرحى وبدرع الحديد ويقولون له: لا نرفع عنك العذاب حتى تكفُر بمحمد وبما جاء به محمد، وهو يُجيبهم أحدٌ أحد فردٌ صمد، مرَّ عليه الراهب ورقة بن نوفل هذا كان من قريش، فصار لمّا بلال يقول أحدٌ أحد ورقة يقول: أحدٌ أحد ويقول: والله لئن قتلتموه لأتخذنّ قبره منسكاً ومُترحّماً.
وكانوا يضعون الحبل في عنقه ويُعطونه للأولاد يطوفون به في شعاب مكة، ومن إيمانه لمّا وقع في سكرات الموت، كانت زوجته وهو يُنازع في الاحتضار تقول واكرباه، فكان يجيبها: "واطرباه غداً ألقى الأحبّة محمداً وحزبه" فكان بعض الشعراء المسمى بأبي محمد الشقراطي يقول في موضوع بلال :
لاقى بلالٌ بلاءً من أمية قد أحلَّه الصَبر فيه أكرم النُزل
{ أبي محمد الشقراطي }
كان الذي يملك أمره أمية، إيمانه الذي من فروع الصمود وضعه في أعظم منزلة.
إذ أجهدوه بضنك الأسر وهو على شدائد الأزل ثبت الأزر لم يزل
{ أبي محمد الشقراطي }
أهلكوه وهو أسير، ثابت على الموت من غير اضطراب ولا هلع ولا فزع.
ألقوه بطحاً برمضاء البطاح وقد عالوا عليه صخور جمَّة الثِقل
{ أبي محمد الشقراطي }
ألقوه على بطنه برمضاء مكة، ووضعوا عليه الصخور الثقيلة، فوحد الله أحدٌ أحد
فوحدَّ الله إخلاصاً وقد ظهرت بظهره كندوب الطلِّ فى الطلل
{ أبي محمد الشقراطي }
مثل الندى لمّا تكون على أوراق الزرع، فهذا سيده أمية في معركة أحد علق بمن؟ أمسكه بلال، وهجم عليه بلال فهرب، فلمّا هرب صاح بلال بأعلى صوته: يا أنصار الله هذا رأس الكُفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا، فتسابقوا إليه وكان أسير عبد الرحمن بن عوف صديقه أراد أن يحميه عبد الرحمن بن عوف، قال: فلمّا خشيت أن يلحقونا تركت لهم ابنه لينشغلوا به عنا قتلوا ابنه ولحقوا الأب، وكان أمية رجلاً بديناً سميناً فأدركونا، فقلت: له أبرُك فبرك فألقيت نفسي عليه لأمنعه فنهشوه بأسيافهم، النهش لمّا تأكل اللحم بالعظم بأسنانك، هكذا ظلوا ينهشوه بسيوفهم حتى قضوا عليه، فقال: إن قُضَّ ظهر ولي الله من دبرٍ، إذا كان ظهر بلال جرحه بالنار من ظهره قد قُضّ قلب عدو الله من قبله، فذبحوه وشقوا بطنه وكما تدين تُدان.

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)
[سورة إبراهيم]

وقال أبو بكرٍ لبلال وقد أخذ ثأره من أمية بن خلف:
هَنيئاً زادَكَ الرَحمنُ خَيراً فَقَد أَدرَكتَ ثَأرَكَ يا بِلالُ
{ أبو بكر الصديق }
ثم اشتراه أبو بكرٍ من سيده وأعتقه.
ومن جملة المُعذبين أم عُنيس، فكانت أيضاً مملوكة اشتراها أبو بكر، من جملة المُعذبين زُنيرة، كانت تحت أمر سيدها وتحت الضرب والعذاب، كانوا يضربوها ويعذبوها حتى تتعب أيديهم وهي صامدة صمود الأبطال، على النار، بالحديد، بالدروع، بالصخور، بحرارة الشمس يا ابني (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ).
مرةً وهي تحت العذاب من شدة العذاب عميت وذهب بصرها، فقال المشركون: ما ذهب ببصرها إلا اللات والعُزة، يعني أصنامهم أخذوا لها عيونها، فقالت لهم: كذبتم، قالت: والله ما هو كذلك، ما تدري اللات والعُزى من يعبدهما ولكن هذا أمرٌ من السماء، وربي قادرٌ على أن يردَّ عليَّ بصري، فردَّ الله عليها بصرها صبيحة تلك الليلة، لم يخذلها الله، لأن هي لم تخذُل أمر الله، نادت ربها فاستجاب لها، لأنَّ ربها لمّا يناديها كانت تستجيب له، كانت تُقبل على ربها فكان الله يُقبل عليها، كانت تنصر دين الله فنصرها الله في معركتها، فلما أبصرت قالت قريش، لما ذهبت عيونها قالوا: اللات والعُزى، ولمّا الله ردَّ لها بصرها قالوا: هذا من سحر محمد، لا يوجد فائدة يا ابني المنحوس منحوس لو وضعنا بين عيونه خمسين فانوس، بالعمى اللات والعُزة، برد البصر هذا معجزة هذا ليس من الإسلام من سحر محمد، وهكذا الأشقياء:

وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (3)
[سورة القمر]

لا يتبعون العقل والفكر ليسعدوا، الذي خُلق ضفدع لا يعيش إلا بالمجاري، والذي خُلق ذباب أين تراه على النفايات، والذي خُلق نحل لا تراه إلا على الزهور والورود، والذي خُلق شحرور تراه في الحدائق يَطرَب ويُطرِب، والذي خُلق قاق لا تراه إلا على الميتة، الله يجعلكم شحرور ولا يجعلكم قاق، ويجعلكم نحل على الزهور والورود، مثل النحل تكونوا طيبين، غذائكم طيب، ومسكنكم طيب، ولا تصنعون إلا الشيء الطيب.
وتحت هذا العذاب والتعذيب النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: هاجروا، إذا الوطن لم يعد يصلح لحرية العقيدة، وحرية الفكر، وكرامة الإنسان، فصار غير الوطن يُفضّل الإقامة فيه على الوطن هذا في هذا الزمن، قرن العشرين يوجد حرية، الآن في بريطانيا يوجد حديقة لو يذهب الواحد إليها لو شتم الملك أو الملكة، ويستطيع أن ينتقد أي شيء في الدولة تكريماً للمواطن من دولته، الإسلام هكذا أعطى الحرية، حرية الفكر صار خمسون عقيدة في الإسلام معتزلة ومُجزأة وشافعي وصوفي لا أحد يُكفِّر أحد لا أبداً.

الإسلام منهاج للإنسان وضعه خالق الأكوان ومبدعه:
مرةً سيدنا عمر قال: ما تقولوا فيّ إذا اعوججت؟ لم يردّ عليه أحد، وفي الجمعة الثانية على المنبر قال: ما تقولوا فيّ إذا اعوججت، وفي الجمعة الثالثة قام واحد بدوي قال له: والله إذا اعوججت لنقومنّ اعوجاجك بحدّ سيوفنا، يعني نقطع رأسك، ومن سيدنا عمر؟! ومن الذي يكلمه؟ بدوي! فلما نزل استدعاه، فظنَّ الصحابة أنه سيُعاقبه، فأعطاه وكافأه وأعطاه جائزة وقال له: جزاك الله خيراً أنت أنقذتني من الهلاك، قال له: كيف؟ قال له: لأنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه والحديث ليس بلفظه لكن بمعناه قال: سيكون ملوكٌ يتكلمون فلا يُرد عليهم أولئك من أهل جهنم، هذا معنى الحديث اللفظ أوسع من ذلك، فما هذه العظمة بالإسلام؟! ما هذه الكرامة للإنسان؟! ما هذه الحرية؟! سيدنا عمر ديناً هو:

{ لو كان من بعدي نبيٌّ لكان عمرُ بنُ الخطابِ }

[أخرجه الترمذي وأحمد]

مكانةً هو أمير المؤمنين، عملاً وإنتاجاً قاهر كسرى وقيصر ومُحطّم الإمبراطورتين الجائرتين بالعالم، وواحد بدوي قال له: نقطع رأسك!! فما كانت النتيجة؟ المكافأة والتشجيع على حرية الإنسان! هذا الإسلام يا ابني، هذا الأوربي لا يعرف الإسلام، الصيني لا يعرف، السوفييتي لا يعرف، يعرفوا الإسلام أنه إذا قال الواحد الأرض كروية يُصبح كافر، يعرفوا أنه إذا قال أحدهم أنه صعد للقمر يصبح كافر الذي يقول ويعتقد، الذي يدرس جغرافيا يخرج من الإسلام، هذا يا ابني صار مفهوم الإسلام، الإسلام مفهومه الحقيقي لا يوجد ولا ولن ولا يكون، لا مبدأ، ولا ثقافة، ولا تربية، ولا عقلية، ولا فكر، ولا تقدميّة تساوي الإسلام أبداً وأبداً، لأنه يا ابني الإسلام منهاج للإنسان وضَعَه خالق الكون ومُبدعه.
الذي خلق الشمس كل ثانية تصرف محروقات كم مليون طن؟ خمسة ملايين طن في كل ثانية، وهذه خمسة ملايين في الثانية ينقص من وزنها! كم يكون وزنها؟ من حاملها؟ مَن مخطط وقودها واحتراقها، البترول بثلاثين أربعين خمسين سنة ينتهي، لا يصل إلى ملايين السنين، وهي تمشي بسرعات بالساعة أكثر من مائة ألف كيلومتر، مع آلاف المليارات شيء لا يُحيطه الحساب وكله بنظام في عالمٍ لا متناهي هو وضع للإنسان نظامه في الأرض، وصاحب النزوات يعمل قانون مثل قانون الله، لكن قانون الله نحن مسخناه يا ابني، صار إسلام العِلم صار جهل يا ابني، إسلام الحُب صار عداوة وبغضاء وحقد وحسد، إسلام التقدم صار تخلف، الإسلام الإنساني صار الشقيق مع شقيقه، والجار مع جاره والأب وابنه لا يوجد معنى لا إنساني ولا علمي ولا إيماني ولا قرآني، ثم قالوا عن أعمالنا التخلّفية هذا الإسلام، الناس إذا كفرت لها شيء من المبررات مع أنه الإنسان العاقل يبحث في الإسلام ويدرس الإسلام، إذا كفر يكفر عن دراسة وعِلم، أما إذا درس لا يكون كافر بل يكون سيد المؤمنين، وسيد المواطنين، وسيد المناضلين، وسيد التقدميين، وسيد زمانه وعصره.
الإسلام يا ابني يعطي ولا يأخذ، يُربِّح ولا يُخسّر، يُنجِّح ولا يُفشِّل، يعطيك النصر ليس لديه في مستودعاته هزائم ولا فشل، ولا تخلف، ولا تقهقر، ولا فقر، ولا عداوات، مجتمع فردوسي، مجتمع النعيم، مجتمع الحُب، الإخاء، الصدق، الإخلاص، العِلم، المعرفة، النجاح، النصر، توحيد ليس فقط الوطن والعائلة، توحيد العالم في ظلّ عائلةٍ واحدة متآخيةٍ مُتحابة متعلمة، متثقفة، متقدمةٍ نحو الأمجاد ونحو كل ما يعود على الإنسان بالسعادة والخير.
ففي ظل هذا البناء والعذاب أذِن النبي لهم بالهجرة فالآية: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) فذكرت لكم نوع من الظلم الذي عانى منه البناءون الأُوّل، أنتم ماذا رأيتم؟ كبرتم وجدّتم المساجد مفتوحة، كبرتم وجدّتم المآذن شاهقة، كبرتم المؤذن يؤذن تفضلوا، المساجد مفروشة، منورة، الهواء في الصيف، والتدفئة في الشتاء، المعلّم، أمك وأبوك مسلمين، لم تروا شيء من عناء وبناء الإسلام، هؤلاء الذين يعملون في الحفر وبناء الأساس بإشراف المهندس والمعلّم خاتم الأنبياء، بأرواحهم، بدمائهم، عجائزهم والشيوخ فيهم، كل أنواع العذاب، الجوع، الفقر، الاضطهاد هذا إسلام؟! فالله كيف و أين سيضعهم وأين سيضعنا؟ ماذا سيُعطيهم وماذا سيُعطينا، ماذا فعلنا نحن للإسلام وهم ماذا فعلوا؟ يكون بينه وبين الجامع عشرة أمتار ومجلس العِلم قائم ما عنده من الإيمان بطاريته، ما عندها من التيار ما تُعطي ولا ضوء أحمر، مشغول وينشغل بماذا؟ بجهلٍ وجاهلية، بلهوٍ ولعب، ليس عنده الروح، الشخصية، الحس، الذوق، الشعور بالجوع إلى الإيمان، يتغذى بالجهل، لا يريد التغذي بالعِلم، لا يريد التغذي بالإيمان، لا يعرف الإيمان، ولا تذوق طعمه، ولا رأى جماله، ولا سمع موسيقاه، ولا عرف أمجاده، ولا عرف ثماره وحصاده، جهل وجاهلية و بإسم الإسلام، كان ذاك جهل وجاهلية بإسم اللات والعُزى أما هذا الجهل بإسم الإسلام، البيطري أحضروه مع عدة البغال حتى يعمل عملية في القلب والرئتين وهذا الطبيب العظيم بضربة واحدة أرسله للآخرة، هكذا أصبح الإسلام يا ابني، أصبحنا بلاء على الإسلام

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
[سورة الممتحنة]

أصبحنا فتنة للذين كفروا، وللذين آمنوا.

لا سعادة للإنسان لا سلام ولا طمأنينة بلا إسلام:
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) هجرة وظلم مع إيمان وصبر ماذا يعادل؟ يعادل (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) يا ترى هذا الوعد الإلهي وهذا الجزاء الرباني هل أخلف الله وعده؟ هل ضنَّ وبخل ولم يُعطي للعاملين أجرهم وأجرتهم؟ اقرؤوا التاريخ من عهد النبوة وإلى الآن، في كل مكان وفي كل زمان، من سلك الطريق، صبر، تحمل، ولو أدى الأمر إلى الهجرة، الآن لا يوجد، والله يا ابني اذهب الآن إلى موسكو، اذهب إلى باريس إلى بكين، إلى طوكيو، اذهب إلى أي بلد يكون معك إسلام حقيقي إسلام العِلم والقلب، الخُلق والسلوك، إسلام الروح ومقام الإحسان، إسلام فقه القرآن وحياة النبوة، حياة المسلمين الأوّل حتى تُصبح معشوق الجماهير، حتى تُصبح معشوق العقول والقلوب.
في بلدك هنا الناس بخير والله النفوس عطشى و جائعة، لكن لا يوجد من يُحسن طبخ الطعام، يقدموا لهم طعام لكن كما خلقه الله و بإسم الله، يقول له الله أعظم أم عبد الله أعظم؟ الجواب الله أعظم، صنع الله أعظم أم صنع عبد الله أعظم؟ لا والله صنع الله، تفضل هذا الطعام صنع الله، قاتله الله هذا يعمل مغالطة، هذه الله خلقها لكن الله لم يخلقها للإنسان، صنع الله صحيح، هنا البلاء، يأتي واحد بإسم الدين، بإسم الله يريد أن يطعمهم طعام سجق حشوة الله، قاتلهم الله، هذه الإساءة و بإسم الدين شوهت الإسلام، الحكمة وضع الأشياء في محلها، الصنوبر أليس صنع الله؟

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (4)
[سورة المنافقون]

الفستق و اللوز أليس صنع الله؟

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ (3)
[سورة فاطر]

ذبح المسلمين وذبح الإسلام لكن الله لن يتركه، الإسلام بدأ يتحرك وفي العالم له من شرقه الأقصى إلى غربه الأقصى، من شماله إلى جنوبه، هذا يا ابني لأنه لا سعادة للإنسان ولا سلام ولا طمأنينة وهذه العلوم التي يسعد بها الإنسان، إذا بقي بلا إسلام، ستنقلب هذه العلوم وهذه التكنولوجيا وهذا التقدم الحضاري سينقلب على الإنسان جحيماً يحترق فيه مثل ما قال القائل:
و إذا استوت للنمل أجنحة حتى يطير فقد دنا عطبه‌
{ أبو العتاهية }
فالصواريخ عابرة القارات حاملة الرؤوس النووية هل هذه للأفاعي أم للضباع أم لهذا الإنسان الكافر بالله؟ الحائد عن طريق الله إلى سعادته في دنياه وأُخراه، فالله يرحم الخلق بإرسال من يدلُّهم على طريق الله، يعني سعادتهم في الدنيا، ماذا تريد أنت في الحياة؟ تريد امرأة؟ الإسلام يتحداك ويقول لك خذ أربعة، نصف واحدة تكفي، تريد عمل؟ الله عز وجل يقول لك: اعملوا، تريد عِلم؟ العِلم من الدين، ماذا تريد صحة؟

{ تداوَوْا عبادَ اللهِ، فإنَّ اللهَ تعالى لم يضعْ داءً إلا وضع له دواءً ؛ غيرَ داءٍ واحدٍ، الهَرَمُ }

[الألباني صحيح الجامع]

تريد وحدة، النبي قال:

{ إذا بُويِعَ خليفتانِ، فاقتلوا الآخِرَ منهم }

[أخرجه مسلم]

ماذا تريد من الحياة؟ الإسلام فوق ما تطلب، إذا بدون إسلام كنا في الأمر دنيا ومن ثم نهاية دنيا، حفرة وأنت ميتة هذه نهايتك، اسمك باشا، بيك، كبير، صغير اسمك جنازة صار وبعده قبر وبعده تراب، يا ليت تنتهي عند هذا الحد وأن تكون كحمار.
أمامك سؤال، وحساب، وعذاب، وثواب، إما سعادةٌ خالدةٌ أبدية، وإما شقاءٌ وحرمانٌ دائم وأبدي، هذه الثقافة هي التي أوصلت العرب وجعلتهم سادة الدنيا لا سادة الاستعمار وتسلطهم وإذلال، سادة عِلمٍ وتعليم، إرشادٍ وتهذيب، سادة إخاءٍ وحب وإنقاذ الإنسان من جبابرة الجور والطغيان، ما دخل الإسلام بلداً إلا تآخى الحاكم والمحكوم، ما دخل بلداً إلا رفع الظلم عن الضُعفاء، عن المُستضعفين، لمّا جارّ الحاكم وخرج عن طريق الله سلب الله العرب دولتهم، لكن الشعوب ما تخلّت عن عقيدة الإسلام، خرج العرب من الهند والباكستان بقي الهنود والباكستانيين مُتمسكون بالإسلام، خرجوا من إيران وأفغانستان بقيت الشعوب متمسكة وهذا الإسلام الضعيف، أما لو الناس رأت الإسلام الحقيقي والله لتركت أكلها وشربها وأولادها وكل شيء تمسّكاً بالإسلام لأنه لا يوجد سعادة إلا بالإسلام.

وعد الله تعالى للمؤمنين:
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)،هذه الآيات نزلت على النبي في مكة والمسلمون تحت العذاب، قال: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) كان الأشخاص المُعذّبين وإذ لا تمضي سنين إلا وأحدهم ملك سوريا، وواحد ملك العراق، وواحد ملك إيران، بلال إلى الآن قبره في دمشق مُقدّس بعد أربعة عشر قرن مكانته وشرفه وعزّه وهو رميم لكن مكانته مُقدّسة، هذا العبد الأسود الذي كان عند العرب! عمر صار تراب ما هو عمر؟ المُراد بالتراب يعني صار بالقبر، هل صدق الله وعده، هل نصر عبده؟ هل هزم الأحزاب وحده؟ هذا الطريق الذي يدعونا القرآن إليه، فإذا قرأنا هذه الآيات، ليس المقصود أن نقرأها قراءة تاريخ أنه كانوا والله يرحمهم ويرضى عنهم، لا إذا إسلامك حيّ، يجب أن تعمل كما عملوا، يجب أن تُهاجر، يجب أن تصبر وفي الله (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)، ولا بدّ أن تمرّ على دائرة الظلم وتُظلَم، افرح واطرب إذا أوذيت في الله، لأنه من صفة الإسلام وطريقه :

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
[سورة آل عمران]

الآن إذا أراد أن يصبح شيخ مباشرةً لا يصح يا ابني، هل هذا المسجد مباشرةً أحضرناه بقالب لكم دفعة واحدة؟ كم أحضرنا تراب وحفرنا أساسات وانهارت جدران، ومنزلنا سيتهدم وتشقق الجدران والسقف، كله فداء بيت الله، المرأة ترى الولد من غير حمل وإنجاب وصراخ؟! وبعد يومين ثلاثة من الولادة تراها وكأنها رأت ليلة القدر، ما رأيك؟ نسيَت، وهكذا النصر في المعركة يُنسي شدائد المعركة، لا يجب أن تنظر إلى شدائد المعركة ولا تنظر إلى نصرها، تنظر إلى شوك لسع النحل ولا تنظر إلى عسل النحل، لا يجب أن تنظر إلى شوك الورود وتنسى الزهور وعطره، لا أذكر هذه وهذه ومع معرفتك بشوك الورد تشتري الورد، وشوكه معه وهكذا حلاوة الدنيا ممزوجةٌ بمرارتها، وسعادتها مخلوطةٌ بمشقتها إلا في الجنة هناك ورد بلا شوك، وعسل بلا لسع، اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.
فإذا يُعطيك في الدنيا الإسلام أعلى درجات المعيشة لكن بالثمن، لا يجعلك عاجز مشلول وفي الآخرة سيُعطيك ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، فأيُّ محروم؟! أيُّ بهلول؟ أيُّ متخلف؟ أيُّ جهول؟ أيُّ مغرور؟ يبعد عن الإسلام فضلاً من أن يُعادي الإسلام أو يُعادي أهله، أو القائمين به، أو الداعين له، خصوصاً الفاهمين العاملين المُنتجين، هذا يكون استعمار، هذا يكون طابور خامس، هذا يكون إمبريالية، هذا يكون صهيونية، بل ألعن من ذلك، لكن إن شاء الله الأمة الإسلامية كلها ربي يعيدها إلى جادة الصواب لكن فقط تحتاج إلى تذكير، النائم أيقظه، لكن بشرط لا تيقظه من طريق تدوس في بطنه أو تدوس بقدمك على أنفه، هكذا النائم يوقظ؟! يوجد أناس يوقظوا النائم يشغلوا المذياع أو المسجل على صوت أم كلثوم أو عبد الوهاب أو عبد الباسط عبد الصمد، صوت رخيم ناعم، أو ضع على أنفه زهرة فل وهو نائم، فيستنشق لعل غاز الفل والياسمين يدغدغ أعصاب أنفه، يصحو على الفل والياسمين، وإذا كان جئت إلى أذنه وبأعلى صوتك يمكن أن تؤذيه وأنت توقظه، فإذا أردنا أن نعمل دعوة للإسلام بهذا الشكل نكون أسأنا لأنفسنا وللآخرين وللإسلام.

{ مَن أمرَ بمعروفٍ، فليَكُن أمرُهُ بمعروفٍ }

[الألباني السلسلة الضعيفة]


الهجرة إلى الحبشة:
فالهجرة بدأوا بالهجرة إلى أين؟ النبي قال لهم: اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكاً لا يُظلَم أحدٌ في جواره، فذهب من الصحابة حول مائة وواحد من النساء والرجال، ثم تبعهم خمسون فصاروا مائة وواحد وخمسون وبقوا في الحبشة إلى أن رجعوا عند فتح خيبر، مع ذلك هاجروا وخرجوا والكفار لم يتركوهم، أرسلوا سفيرين إلى النجاشي يطلبوا من النجاشي بإسم مكة أن يُسلّمهم ويُرجعهم حتى يطفئوا نيران أحقادهم فيهم، يعني تركوهم لكن هم لم يتركوهم، فالنجاشي قالوا له: هؤلاء جاؤوا بدينٍ جديد لا تعرفه أنت ولا نحن، وهم يعتقدون في المسيح عكس ما تعتقد، أيُّها الملك لقد صبأ إلى بلدك منا غلمان سُفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدينٍ مُبتدعٍ لا نعرفه نحن ولا أنت، جاءهم به رجلٌ كذاب، حاشا لرسول الله، هم الكذَبَة، رجلٌ كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله، ولم يتبعه منا إلا السُفهاء، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آباءهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم إليهم، فهم أعلم بما عابوا عليهم، وقدّموا رشوة أيضاً للوزراء والحاشية، فقال البطارقة: صدقوا أيها الملك قومهم أعلم بهم فأسلمهم إليهم ليردوهم إلى بلادهم وقومهم.
فغضب النجاشي وقال: لا والله لا أُسلمهم، ولا يُكادون من قومهم، لقد جاوروني ونزلوا بلدي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هؤلاء فيهم، ما بمجرد أن تسمع كلمة من منافق أو من حاسد أو من مغرضٍ وحاقد، أو جاهلٍ ومُفسد تقول صدق، لا تقبل ولا ترفض، ابحث، قل له: ما هو الدليل على صحة ما تقول؟ قد يحلف وهو أكذب الناس في حلفه، اذهب وانظر، ذقّ العسل بإصبعك وبلسانك، لا تذوقه بإصبع غيرك أو بلسانه، اذهب وانظر خطيبتك بعينك، لا تنظر لها بعين أمك، هناك أمهات تغار لا تحب تزوج ابنها بواحدة جميلة تقول تأخذ عقله تصير أمه بالمطبخ، أنت قل لها أمي أريد أن أراها بعيني، أنت متدين، قل لها: الدين يسمح لي أن أنظر لخطيبتي.
قال: والله حتى أدعوهم فأسألهم فإن كان كما يقولون سلمتهم إليهم وإلا منعتهم عنهم، وأحسنت جوارهم ما جاوروني، قال جعفر: فأرسل إلينا ودعانا فلمّا دخلنا عليه وسلّمنا قالوا له: انظر لا يسجدون لك أيها الملك، فقلنا: نحن لا نسجد إلا لله، قال النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحدٍ من الملوك؟ قلنا: أيُّها الملك كنا العرب قوماً أهل جاهليةٍ نعبد الأحجار، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القويُ منا الضعيف، وكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولاً كما بعث الرُسل إلى من قبلنا، يعني ليس هذا غريب أو بدعة، وذلك الرسول منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله تعالى لنعبُده، ونوحّده، ونخلع عبادة الأحجار والأوثان، وأمرنا بالصلاة، وبالصيام، وبالزكاة، وأمرنا بصدق الحديث إذا تحدثنا لا نكذب، وأمرنا بأداء الأمانة لا نكون خونة في المعاملة، وصلة الأرحام أقاربنا نعطف عليهم ونتعاون معم ونساعدهم، وحُسن الجوار مع الجيران، والكفّ عن المحارم، لا نعمل شيء حرام نكفّ عنه، والدماء لا نسفك الدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المُحصنة، لا نتكلم على أعراض النساء، لا نهتك أعراض الناس ونقول هذه فاحشة وكذا كذا هذا حرام.
الذي يتهم امرأة بزنا يُجلد ثمانين جلدة، فصدّقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فتعدَّى علينا قومنا ليردونا إلى عبادة الأصنام واستحلال الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا من أوطاننا إلى وطنك، ومن بلدنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك، فقال النجاشي لجعفر: هل عندك شيءٌ مما جاء به نبيكم؟ قلت: نعم، قال: فاقرأ، قال: فقرأت عليه سورة مريم، عرف يختار السورة، ويقدم له الطعام الذي يناسب معدته، قال: فما أتممتها حتى رأيته ودموعه تتساقط على لحيته، وبكى أساقفته الرهبان، الأساقفة ورجال الكنيسة، قال: زِدنا من هذا الحديث يا جعفر، هذا ملك وأعجمي وأفريقي وأجنبي لمّا سمع القرآن ونصراني كيف كانت تربيتهم؟ الآن يسمع القرآن لا يتأثر! النصراني أيضاً لا يتأثر، انظر النصراني مع أنه ليس عربي ولا مواطن مع ذلك لمّا رأى الحقّ، قال: زِدنا من هذا الحديث يا جعفر، قال: فقرأ عليهم سورة الكهف، فقال النجاشي: إنَّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرجان من مشكاةٍ واحدة، مشكاة مثل ضوء السيارة نور واحد من مصدرٍ واحد، والله ما زاد هذا على ما في الإنجيل إلا هذا العود، كان بيده عود، قال هذا الذي سمعته منك لا يزيد على ما في الإنجيل إلا بقدر هذا العود.
إذاً الإنجيل والقرآن، والإنجيل الذي كان بزمانهم غير الإنجيل الذي موجود اليوم بين أيدي النصارى، لأنه كانت الأناجيل مائة إنجيل، انتقي منها أربعة واستُغني عن الباقي فحُرّق، لذلك بإنجيل برنابه يوجد في خمسة وثلاثين موضع ذكر محمدٌ رسول الله، لكن الكنيسة ما اعتبرته إنجيل قانوني، ثم التفت جعفر إلى وفد قريش وقال للنجاشي: سلهم أعبيدٌ نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيداً أبقنا من أربابنا فردنا إليهم، قال عمرٌ وكان عمرٌ بن العاص هو من جاء ليأخذ الصحابة، قال عمرو: بل أحرار، قال جعفر: فسأله هل أرقنا دماً بغير حقّ فيُقتص مِنّا؟ هل أخذنا مالٌ بغير حقّ فعلينا قضاءه؟ قال عمرو: لا، فقال النجاشي لعمرٍ وعمارة الذين جاؤوا ليأخذوا الصحابة: هل لكما عليهم دين؟ قالا:لا، قال: انطلقا والله لا أسلمهم إليكما أبداً، ولو أعطيتموني ديراً من ذهب، وعادوا بالخيبة وأنزل الله في شأن هؤلاء وأيضاً يوجد هجرة ثانية وثالثة، (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) هذه المرتبة الأولى هذا البِذار، ما الحصاد؟ البِذار يوجد شقّ الأرض، ويوجد عرق، وكُلَف وأجور عمال وتضع القمح في التراب (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) ما الحصاد؟ غرس الشجر ما القطاف؟ بناء المعمل ودفع الملايين ما الأرباح؟ الأرباح قال: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
العرب لمّا سمعوا القرآن سمعوه لكن بغير آذاننا كان لهم آذان غير آذاننا، كان لهم سمع غير سمعنا، وذوق غير ذوقنا، وشخصيات غير شخصياتنا، كانوا عرب حقيقيين، أما الآن النبي يقول لا نعرف هل ينطبق علينا أم على غيرنا النبي يقول:

{ اللهمَّ لا يدركُني زمانٌ أو لا تدركوا زمانًا لا يُتبَعُ فيه العليمُ ولا يُستحيا فيه من الحليمِ قلوبُهم قلوبُ الأعاجمِ ألسنتُهم ألسنةُ العربِ }

[أخرجه أحمد والديلمي]

الأعاجم يعني أعداء العرب، فالذي يُعادي الإسلام هذا عدو العرب، الذي يُعادي القرآن هذا عدو العروبة، فلا يمكن أن يتفرق عروبةٌ عن إسلام وإسلامٌ عن عروبة، لكن المهم أن تكون العروبة أصيلة لا هجينة، وأن يكون الإسلام أصيلاً لا مُشوهاً، الله يجمع العرب الأُصلاء مع الإسلام الأصيل، والمسلمين الأُصلاء مع العروبة الأصيلة، كالجسد والروح، والروح والجسد، وعند ذلك يستعيد العرب أمجادهم والمسلمون عزتهم، والعالم يستعيد سلامه وأمنه بل وإخاءه وحبه، وينقلب هذا الكوكب إلى فردوس ينعُّم الإنسان بحضارته وبثقافته وبعلومه وتحت راية الإسلام الذي هو عدلٌ، وعلمٌ، وأخلاقٌ، وتعاونٌ، وتقدمٌ، في كل ميادين الحضارة والعِلم والأخلاق والفضائل لينتقل الإنسان من سعادة الدنيا إلى السعادة العُظمى.

وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
[سورة يوسف]


سعادة الدنيا والآخرة:
قال وتمام النعمة أن يصل ويربط الله للإنسان سعادة آخرته بسعادة دنياه، فإذاً الدين لتحقيق سعادتك في الدنيا والآخرة، فإذا كنت تمشي على الدين ولست بسعيد فقد يكون الدين المُقدَّم لك مغشوش أنت فيه.
مرةً كنا في نزهة وبعد أن أكلنا لحم مشوي، بعد الغذاء ماذا عندكم آخرة يا شباب قالوا: كنافة، واحضروا صينية قدّموها لي الله يعطيهم العافية، وأحضروا نوع آخر غير جيد وإذ كنافة من النخالة، والقشطة لبن والسكر ملح إنكليزي, فإذا كان إسلامنا مثل الكنافة المغشوشة لا ننجح، نحن بحاجة إلى وحدة في الأعماق ولكل الفئات ولكل الأفراد نحن بحاجة إلى الطفل الصغير، نحن بحاجة إلى الليرة السورية، نحن بحاجة إلى كل جهد من كل مواطن لنجمعها ونبني بها الوطن الموحد، الوطن المُتحابب، الوطن المتآخي، الوطن المتقدم، ولا مانع أن نقود العرب بل ونقود العالم، لأنه دمشق يوم من الأيام كانت قائدة العالم، كانت ما هي إحدى الدولتين العظيمتين، كانت هي الدولة العُظمى لكن بماذا؟ بالإسلام الصحيح.
فيا ابني انظر للناس كلها نظرة الخير ونظرة الإخاء ولو رأيت الشخص بعيد عن الإسلام ولو رأيتموه يُعادي الإسلام، لا يُعادي الإسلام عرض عليه الإسلام لكن المشوه فعادى المُشوه، عادى الزوجة التي عمرها تسعون سنة ورائحتها نتنة والذباب حولها وقال هذه ملكة الجمال ألا يكفر بالجمال وملكة الجمال؟! وإذا أحضرنا له ملكة الجمال التي يضعون برأسها التاج وعلى كل العالم هل يكفر؟ يا ابني أنا هكذا انظر إلى الناس، ولكن الله يُفهِم كل الناس الله يُفهمّنا، ويرزقنا الصدق في خدمة أوطاننا، ويرزقنا الصدق في خدمة أمتنا وعروبتنا، المسألة ليست بالدعاء المسألة بالإعمال والإنتاج.
وَكُلُّ يَدَّعِي وَصْلاً بِلَيْلَى وَلَيْلَى لَا تُقِرُّ لَهُمْ بِذَاكَا
{ }
القضية تحتاج إلى عِلم وإلى عمل وإلى صدقٍ وإخلاص، الله يجعلنا من العلماء العاملين المُخلصين ولا يجعلنا من المُعجبين بأنفسهم، يجعلنا من المتواضعين ويرزقنا الصبر لأنه لا بُدَّ من الصبر، نصبر على أمتنا، على جفوة الجافي، على جهالة الجاهل لأنه دائماً العجلة وعدم الصبر تأتي بالكارثة، دائماً الغضب وسرعة الغضب والجهل في سلوك الطريق المستقيم يؤدي إلى الكارثة، الله يُنقذ الأمة ويوحّد بين قلوبها ويُسيرها بنوره وبهدايته وبرحمته ويُرينا اليوم الذي تقرّ به أعيننا ونكون كما ورد حديثاً وورد من قول بعض السلف الصالح: " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها" فالصلاح الذي صلح عليه أولها بالإسلام الذي هو عِلمٌ وعملٌ وأخلاقٌ ووحدةٌ وتربيةٌ قائمة على دراسة وفقه في القرآن.
(وَالَّذِينَ هَاجَرُواّ) الآن الواحد يطالب نفسه كيف سيُحقق هذه الآية، فهاجر يا ابني لما فُتحت مكة النبي قال:

{ لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، ولَكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا }

[صحيح البخاري]

صار البلاد كلها بلاد إسلامية، المهاجر من هجر السوء، فاهجروا الجهل واهجروا الغفلة واهجروا الكسل، واهجروا عدم الثبات، واهجروا الجزع والفزع، واهجروا البغض، العداوة، الأحقاد، الأنانية، حظوظ النفس والشهوات الرخيصة الحقيرة، لا يمكن أن ينجح الإنسان كفرد ولا الأمة كمجتمع إلا بهذه المعاني التي كان عنوانها الإسلام.
الله يردنا إلى إسلامنا وإلى ديننا رداً جميلاً ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم اجعلنا هاديين مهديين ولا تجعلنا ضالين ولا مُضلين، اللهم أصلحنا وأصلح بنا وأصلح ذات بيننا وأصلح الراع والرعية وصلى الله على سيدنا وحبيبنا وقائدنا ومصدر عزتنا ووحدة كلمتنا محمدٍ وعلى أخويه سيدنا موسى وعيسى وعلى إخوته الأنبياء كلهم وآل كلٍ وصحب كلٍ أجمعين والحمد لله رب العالمين.
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) يجب أن تحفظوا القرآن كله ،هذا الدرس كله بآية واحدة بعض الأوقات آيتين ثلاث ومفسرين ومشروحين، يعني كونوا أصحاب هِمَم.
جدي رحمه الله والد شيخنا، أهله منعوه من طلب العِلم كانوا يسمحون لواحد من العائلة ليُصبح عالم اثنان لا يسمحوا من أجل أعمالهم، صبر حتى مات أبوه بعد أن مات أبوه وكان عمره ثلاثين سنة لا يقرأ ولا يكتب، دخل الكُتَّاب وذقنه تملأ صدره تعلّم القرآن والقراءة والكتابة وصار من كبار العلماء والأولياء، بدأ بعمر ثلاثين سنة وبالكتّاب وكثير من العلماء بهذا الشكل في القديم وفي الحديث، رأيت في مجلة أحد من انتسب إلى الجامعة كان عمره واحد و ثمانين سنة دخل الجامعة وأخذ الشهادة الجامعية بعد خمس وثمانين سنة، يوجد أناس نفوسهم شابّة لا تشيخ، ويوجد أناس وهم شباب مُتعبين مشلول يريد من يحمله من يديه، الله لا يجعلنا من الكسالى، اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل.