تفسير سورة النَّاس

  • 1996-10-25

تفسير سورة النَّاس

الحمد لله رب العالمين، وأعطر التحيات وأزكى الصّلوات الطيبات المباركات على سيِّدنا مُحمَّد خاتم النبيين والمرسلين، والمبعوث رحمةً للعالمين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم وعلى أخويه سيدنا موسى وعيسى، وجميع اخوانه من النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ وصحبِ كل أجمعين.


المقصود بالمغضوب عليهم والضالين في القران الكريم
نحن الآن في ختم نهاية كتاب الله عزَّ وجلَّ ونهاية تفسيره في آخر سورة من سوره، وتقدم معكم بأن النَّبيّ عليه الصلاة والسلام، كان بعد نزول المعوذتين وقل هو الله أحد، كان لا ينام حتَّى يقرأها ثلاث مرات جامعاً لكفيه، ثم يمسح بكفيه ما أقبل من وجهه وما أمكن من جسده، ومرَّ معكم تفسير سورة الفلق، فجعل فاتحة القرآن الكريم:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ(٧)
[سورة الفاتحة]

والمغضوب عليهم تشمل كلّ من عرف الحق وحاد عنه، وعمل على مقاومته والكفران به، فالضالون هم من جهلوا الحق ولم يعرفوه حق المعرفة،
والله عزَ وجلَّ دعا المسلم لكيلا يكون مغضوباً عليه، يعرف الحق ويحيد عنه،
أو يجهل الحق فلا يعمل على معرفته والمشي في ظلال الحق والحقيقة.

مرض الروح والقلب
المؤمن لا يكون مغضوباً عليه مقاوماً للحق، ولا يكون جاهلاً للحق حتَّى يضيع في صحارى الباطل والأوهام وحظوظ النفس والأنانيات، ولأقل مرض كالرشح يركض الإنسان للطبيب، وعندما يكتب الوصفة يركض إلى الصيدلي، وعندما يأخذ الدواء يستعمله أيضاً حسب تعاليم الطبيب، فيحصل الشفاء بإذن الله، فمرض الأجساد أمره سهل، وفي غالب الأمراض يشفى الإنسان إذا استعان ولجأ إلى الأطباء وإلى الدواء، وكما قال صلًّى اللَّه عليه وسلَّم:

{ تداووا عباد الله، فما أنزل الله داءً إلا أنزل له دواءً( ١) }

[رواه مسلم]

أما مرض الروح والقلب الذي ذكره الله عزَّ وجلَّ في آيات متعددات:

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(١٠)
[سورة البقرة]

فهو لا في أيديهم ولا في أرجلهم وبطونهم وأمعائهم، وهم المنافقون كانوا يُظهرون الإسلام ويبُطنون الكفر، وكانوا يبذلون جهدهم لتهديم الإسلام ومعاداة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

النصر للحق والهزيمة للباطل
ولكن كما قال تعالى:

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(٣٢)
[سورة التوبة]

وقال أيضاً:

أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ(١٧)
[سورة الرعد]

والزَّبَدُ أي الرغوة ، وقال أيضاً:

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(٨١)
[سورة الإسراء]

إذا أشرقت الشَّمس، ففي الحال يذهب ظلام الليل ولا يمكن أن يلتقيا، عندما يجتمع الحق والباطل فالنصر للحق والهزيمة للباطل ولو بعد حين.

الاستعاذة بالله عزَّ وجل
فالمعوذتين تفسيرها مر معكم في أكثر من درس:

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١)
[سورة الفلق]

فالله يأمرنا أن نستعيذ ونستجير ونلوذ ونستعين برب الفلق الذي خلق هذا الكون من شُموسه وأقماره وأمطاره ومخلوقاته من بحار العَدم، فانفلقت تلك البحار عن هذه الموجودات وأوجدها ربهم رب الفلق، فيا نور كل شيء وهداه، أنت الذي فلق الظلمات نوره، فإذا كان قلبك في ظلمات، فاستعن برب الفلق بذكره، لتنفلق أنوار الإيمان عن ظلمات الغفلات والمعاصي والآثام والبطالة والجهالة.

الاستعاذة العملية و الاستعاذة القولية

مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(٢)
[سورة الفلق]

الشرور والأشرار لا تعدُّ ولا تُحصى، لذلك استعذ من الكل، والاستعاذة ليست قولية، عندما تستعيذ من المرض بالطبيب، تقوم بما يطلبه منك، فتخلع ثوبك، وتقلب جسدك، وتفتح فمك ، ويُدخل الطبيب الإبرة، ويشق بطنك، ويقطع من أعضائك، وتتألم، وتتعقد من المرض، لكن ما التجأت إلى الملجأ الحقيقي للإنقاذ، فتكون العاقبة الشفاء بإذن الله، أما إذا قلت أعوذ بالطبيب من الحمى، ولو قلتها مليون مرة هل تستفيد شيئاً؟ وإذا قلت أعوذ من الجوع ووجع البطن من قلة الأكل هل تشبع؟ وإذا قلت أعوذ بالعطش من جفاف الفم ..، كذلك أعوذ برب الفلق، فكما استعذت بالطبيب بالدواء والمعالجات والعمليات، فتستعيذ عملياً مِن ما ومِن مَن تستعيذ منه.

مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(٢)
[سورة الفلق]

أي من إنسانٍ وحيوانٍ ومنظورٍ ومستور.

الاستعاذة من ظلمة القلب

وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ(٣)
[سورة الفلق]

المجرمون يستغلّون الظلام، ويقومون بجرائمهم، وأما أعظم الظلام ظلام القلب بفعل المعاصي، والآثام، والغفلات، وصحبة الغافلين الجاهلين المنحرفين عن الله وطاعته، فليلهم، وظلامهم، وظلماتهم، أكثر شراً وأعظم خطراً من ظلمات الليل في عدوان السارقين والمجرمين على الآمنين والمسالمين.

وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(٤)
[سورة الفلق]

وهم الذين ينفثون الشرور بين المجتمع بالنميمة، وتخريب أعمال الآخرين بدافع من الحسد أو اللؤم أو الحقد أو الجهل بشريعة الله وبأحكام الإسلام، فكذلك استعذ بالله منهم.

الكتمان من الاستعاذة
ومن جملة الاستعاذة، كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمةٍ محسود }

[ رواه الطبراني]

ومن جملة الاستعاذة تعيذك من الأشرار إذا أساؤوا إليك فأحسن:

وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(٢٢)
[سورة الرعد]

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
[سورة آل عمران]

إذا أغاظوك، املك غضبك وكن حليماً، فكان الحليم أن يكون نبياً، ولا تقابل السيئة بالسيئة لوجه الله عزَّ وجلَّ، هذه تعاليم الله وأعتقد أن لا أحد منكم يعتقد أن الله يغشنا أو يتكلم بشيء لا حقيقة له.

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا(٨٢)
[سورة الإسراء]

إذا مريض ومنعه الطبيب من البقلاوة والنمورة وهو معه إسهال، فإذا أكلها وهي من أعلى أنواع المغذيات ولكن مع ضعف الجهاز الهضمي يُقلب الغذاء إلى داء وزيادة فيه، فيحتاج الحمية واستعمال الدواء ولو كان مُرّاً أو تعافه النفس.

الاستعاذة من شر الحسد

وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(٥)
[سورة الفلق]

الحسد أعظم أنواع الرذائل في نفس الإنسان، المحسود يكون بذل جهده، تعبه، ليله، نهاره، سفره، حضره، هذا المحسود الأول، والحاسد كسول، وجهول، وغبي، ولا يريد أن يُسعد ويَنفع نفسه إلا من طريق المجدّين المجتهدين، يظن أنه إذا حسدهم ستنقلب نعمتهم إليه وهذا منتهى الغباء والحَمق، وفوق ذلك يكسب غضب الله وسخطه، ولا ينال مما أوحى إليه الشيطان لا قليلاً ولا كثيراً، إلا أن بُغض النَّاس له يزداد ، لأنه إذا تكلم وصل الكلام إلى المتكلِّم عنه، إذا عمل شيئاً من الإيذاء يظهر فعله الخبيث الخسيس، كمثل إبليس حسد آدم عندما أسجَد الله الملائكة له، فهل نفعه حسده فسجد مع الملائكة ؟ أو استجاب الله له فأمر ملائكته أن يسجدوا له؟ فلو سَجد مع السَّاجدين، لبقي في زمرة الملائكة المقربين ولكن اختار الحسد على تقسيم الله عزَّ وجلَّ وحكمته.

حكمة الله في العطاء والمنع
الله يُعطي إنساناً ويُغني آخر ويُفقر آخر لحكمة، هذا قانون الله منه ما نعلم حكمته، وأكثر الأشياء لا نعلم حكمتها، فنُسلم الأمر لله، ولكن ينبغي للمؤمن أن يجدَّ، ويجتهد، ولا يكون كسولاً، نجدُ المحسود مجداً، مجتهداً، صاحياً، يؤدي الحقوق بتمامها، ونجد الحاسد كسولاً، خمولاً، فضولياً، يتدخل فيما لا يعنيه، ولو فكر ما هدفه من كل هذه الأمور؟ تجده دائماً صفته الغضب والقهر، كلما رأى المحسود ونعمة الله عليه يكاد يتفطَّر من الغيظ، لا ربح في الدنيا ولا عند الله ولا في الدار الآخرة.

وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(٥)
[سورة الفلق]


الاستعاذة في سورة النَّاس وسورة الفلق
ثم الآن نحن في تفسير سورة النَّاس:

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس(١)
[سورة النَّاس]

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(١)
[سورة الفلق]

التعوذ بالله مرةً واحدة ًمن شرورٍ كثيرة:

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(١)
[سورة الفلق]

الشر الأول:

مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(٢)
[سورة الفلق]

بالجملة وبالشكل عام.

وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ(٣)
[سورة الفلق]

الثالث:

وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(٤)
[سورة الفلق]

أهل الشر الذين يعملون على الفتن، والفساد، ونشر العداوة، والبغضاء، والتفريق بين الأصحاب والأحباب، وتُهم البرآء، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم لما سُئل عن شِرار النَّاس قال:

{ الذين يفرقون بين الأحبة، الباغون بالبرآء العنت( ٢) }

مسند أحمد

يلصق بالبريء ما ليس فيه حسداً وأنانية وحباً للذات ولا يصل لشيء، لو أن إبليساً بعدم سجوده لآدم سجدت له الملائكة لكان عمله مفيداً، لكن لم تسجد الملائكة له ولا أنزل استكباره من منزلة آدم عند الله عزَّ وجلَّ سوى أنه صار ملعوناً إلى يوم القيامة.

وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(٥)
[سورة الفلق]

كل هذه الشرور الله عزَّ وجلَّ ذكر التعوذ منها بمرة واحدة برب الفلق.

الاستعاذة من شر الوسواس الخناس
أما السورة الثانية:

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس(١)
[سورة الناس]

هذا أول تعوذ

مَلِكِ النَّاس(٢)
[سورة الناس]

وأستعيذ بملك النَّاس أيضاً وبـ:

إِلَهِ النَّاس(٣)
[سورة الناس]

من شر واحد قال:

مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس (٦)
[سورة النَّاس]

فمعنى ذلك: أن الوسواس الخناس شره كثير وعظيم، لذلك أمرنا الله أن نستعيذ منه ثلاث مرات: أعوذ برب النَّاس، وملكهم، وإلههم، من شر ٍواحدٍ وهو:

مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (٤)
[سورة النَّاس]

الوسوسة: هي إلقاء معانٍ في القلب من غير صوتٍ يُسمع، فلا ترى إلا وقد وقع معنى من المعاني، وفكرةً في نفسك من أفكار الشر والسوء، ما رأيت أحداً ألقى هذا الشيء ولا سمعه أحد ولا أنت أيضاً سمعته، لكن أحسست به وتقبلته وسرى في نفسك، ثم قادك إلى أن تعمل عملاً ما ممّا لا يرضي الله عزَّ وجلَّ، فهذا هو عمل الوسواس، ألقى في نفسك وأوحى إليك بعمل الشر كما قال تعالى:

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(١٢١)
[سورة الأنعام]

هل يوجد أناسٌ في هذا الزمان ينزل عليهم الوحي؟ هل انقطع الوحي؟ من آدم إلى قيام الساعة، فأنتم يوحى لكم أم لا؟ فوحي الشيطان لا ينقطع.

اجتناب زخرفة الشيطان للباطل

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(١١٢)
[سورة الأنعام]

يُزخرفون ويُزينون الباطل، فبإطاعتك للشيطان، وقبولك لوحيه ووسوسته، وبعد يومين، ثلاثة، أربعة أو خمسة إلا أن تنكشف الحقيقة ويسود وجه ذلك الشيطان الموسوس أو المؤمن به الموَسوَسُ له، فأمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نكرر لا مرةً بل اثنتين وثلاث.

الاستعاذة بمالك كل شيء

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس(١)
[سورة النَّاس]

أجرنا يا رب النَّاس، ويا مُرتبً هذا الكون، وخالقه من العدم، يا من تملك النَّاس وحياتهم وأرواحهم وسمعهم وبصرهم:

قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(٢٦)
[سورة آل عمران]

فأعوذ برب النَّاس، رب العالمين وقال مرة أخرى:

مَلِكِ النَّاس(٢)
[سورة النَّاس]

فبقوتك يا مالك الملك، ومالك هذا الكون، أجرنا من شر الوسواس.

إِلَهِ النَّاس(٣)
[سورة النَّاس]

المعبود في الأرض والسماء، فتكرار الاستجارة والاستغاثة بالله أكثر من مرّة مما يدل على خطر الوسواس والموسوسين سواء كانوا من شياطين الإنس أو الجن، شيطان الجن أمره سهل، الله يقول:

وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
[سورة الأعراف]

إذا نغزك الشيطان، كيف إذا نغز الإنسان الدابة تسارع في مشيها، فإذا نغزك لتسارع إلى غضب الله ومعصيته وأن يلقيك بنار جهنم:

وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
[سورة الأعراف]

استجر والتجئ واطلب الحماية من الله.

التعوذ بالله لا يكون بالقول فقط
فالتعوذ بالله ليس قولاً، عندما يكون الحريق بمكان ما بمن نستعيذ؟ فوراً إلى الهاتف رقم الإطفاء ونقول: نستعيذ بكم فالنَّار قد اشتعلت، فالإطفاء كذلك تأتي وتعمل واجبها فتعيذك مما استعذت منه، إذا جعت، تستعيذ من الجوع بماذا؟ بـ "أعوذ" بالله من الجوع؟ تستعيذ ببعض الطعام فتكون قد استعذت تعوذاً صادقاً فيفرُّ الجوع ويُهزم، وإذا تعبت بماذا تستعيذ؟ بالراحة والنوم، إذا مرضت بماذا تستعيذ؟ بالطبيب ودوائه واستعماله، كذلك عندما يقول الله عزَّ وجلَّ:

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس(١) مَلِكِ النَّاس(٢) إِلَهِ النَّاس(٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس(٤)
[سورة النَّاس]

لا يوحي لك إلا بما فيه الشر، والشرور، والآثام، والتهلكة، وما يضرك في دنياك قبل آخرتك، فليس المقصود أن نقرأها بل أن نهضمها عقلاً وفهماً ونفساً، ثم نُمثلها في أخلاقنا وأعمالنا فنبتعد عن شياطين الإنس والجن.

الإعراض عن شياطين الإنس
من شياطين الإنس:

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(٦٨)
[سورة الأنعام]

في زمن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا بمجالسهم ويطعنون بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وينقصونه، ويقفون مشوشين ومخربين لأعمال النبوة:

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(٦٨)
[سورة الأنعام]

وإذا ذَهلت وصارت الجلسة:

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(٦٨)
[سورة الأنعام]

الله ذكر بأن الشيطان قسمان: شيطان الجن وأمره سهل، فبالاستعاذة الحقيقية والعملية سماه الله الخناس، ومعنى الخناس أنك إذا ذكرت الله عزَّ وجلَّ خَنَسَك، وتقهقر، وتراجع، وانهزم، وابتعد عنك، وإذا غفلت عن الله، التَقم قلبك، وألقى فيه ما يناسب وضعك ونفسك وقابليتك.

القرآن رسالة الله عزَّ وجلَّ
القرآن ليس شريطاً تكرره ولا يَفهم ما ينطق ولو حرفاّ واحداً، كذلك الكثير من الناس يقرأون القرآن كما يقرأه الشريط، اسأل الشريط ماذا فهمت؟ واسأل من سمع القرآن أو قرأه من المصحف ماذا فهمت؟ القرآن رسالة الله ومدرسته، الله هو المعلم، والأستاذ، والمربي، ولكن مع وجود القرآن أرسل إنساناً رسولاً نبياً هو الذي يَطبخ لك القرآن ويهيئ في نفسك أدوات الهضم والترتيل لمعانيه لتتحول طاقةً وقوةً وتياراً وأعمالاً صالحة.
هجرة المسلم كانت إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم تكن للمدينة، لو ذهب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى إسطنبول أين تكون الهجرة؟ إلى إسطنبول، وإذا ذهب إلى باريس ذهبنا معه، وإلى المدينة نهاجر إلى المدينة، لماذا؟ ليُعلّمنا الكتاب والحكمة، ويُزكي نفوسنا، قال الله:

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ۚ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)
[سورة الأنعام]

في علوم القرآن كل ما يسعدك كإنسانٍ فرد، وعائلة، ومجتمع، غني، أو فقير.

نتاج خريجي مدرسة القرآن
إذا دخلت مدرسة القرآن، وحظيت بالأستاذ والمعلم والعارف بالقرآن، وتخرجت من مدرسة القرآن، خريجو مدرسة القرآن وقد كانوا أميين لا يقرؤون ولا يكتبون، أخذوا شهادةً من نطق ولسان وفم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قائلاً: ((حكماء)) يعني فلاسفة، ليسوا كما نعرف من الفلاسفة كأفلاطون وفيثاغورس .. الذين كانوا فلاسفة كلام ، بل كانوا فلاسفة أعمالٍ وبطولاتٍ وعلى مستوى عالم، عُمر بائع الجِمال، صار قاهر القوتين العالميتين الأعظم: الفرس والرومان، بقيت دولة الرومان ألف سنة وهي تحكم نصف العالم، سيدنا عمر وسيدنا أبو بكر أنهيا الرومان في معركة الأيام الستة، معركة اليرموك استمرت ستة أيام، وكان عدد المسلمين لا يتجاوز الأربعين ألفاً، أما جيش الرومان فكان مئتان وخمسون ألفاً وبالعدة الكاملة، المسلمون سيف أحدهم بلا غمد، والآخر معه رمحٌ بلا سيف، وآخر ربط ست أو خمس ثمراتٍ بخصره هنَّ فطوره وغداؤه وعشاءه، ووعلى الجانب الروماني المطابخ والدولة والعظمة، وستة أيام!

لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(٣)
[سورة القدر]

دولة كسرى كانت مثل الاتحاد السوفييتي في أيامنا والرومان مثل أمريكا، الرومان أنهاهما الإسلام في ستة أيام، وفي القادسية انهزم الفرس في أربعة أيام فتلك عشرةٌ كاملة، هناك لديهم الكليات والأكاديميات والعسكريات والنظام والغنى والأموال، وهؤلاء أتوا من البرية وكانوا قبل الإسلام بدواً، ولكن بعد دخول مدرسة القرآن وعلومه وحكمته، حكماء عُلماء، الله وصفهم من قبل:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢)
[سورة الجمعة]

أُميين، فكيف انتقلوا إلى علماء؟ كانوا فوضى كيف انتقلوا إلى حكماء؟ كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء.

مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم لم يُرسل لأمة واحدة
من هو النَّبيّ وما هي مواصفاته؟ النَّبيّ هو الذي يبني الأمة الفاضلة، لكن سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يُرسل لأمة واحدة بل أُرسل:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(١٠٧)
[سورة الأنبياء]

وبعد سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم قام أبناؤه بجهاد الطغاة المستعمرين للشعوب، السالبين لأموالهم، الزارعين فيهم الذل والقهر والسلب والنهب، حررهم الإسلام وشرع قانوناً لهم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ويقول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أيضاً:

{ مَن آذَى ذِميًّا فأنا خصْمُهُ، ومَن كنتُ خصْمَهُ خصَمْتُهُ يومَ القيامةِ (٣) }

[تاريخ بغداد للخطيب البغدادي]

من المحامي عن الشعوب التي فُتحت بلادها؟ من الراعي والوصي عليهم لحفظ حقوقهم وكرامتهم؟ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بتعليم الله، لأن الله لما أرسل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أرسله للملائكة؟ لا، وإنما أرسله للكفار، ولقطّاعي الطرق، والمجرمين، ولمن يئدون بناتهم، ويَقتلون من الجوع والفقر صبيانهم وأطفالهم الصغار، فكيف تحولوا وصاروا وهم أُميون حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء؟ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يسلم على يديه عشرة وعشرون وبعضهم يقتلونهم.
قال سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إنَّ اللَّهَ زَوَى لي الأرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أُمَّتي سَيَبْلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي مِنْها(٤) }

[صحيح مسلم]

الله كشف له عن فلمٍ من صنع السماء الإلهي، تلك هي الجغرافيا الإلهية الربانية.

موقفُ الإسلامِ من الظَّاهرة القوميّة
القرآن وتعاليمه وهديه مع أستاذه ومعلمه جعل من الأميين رُسلاً ينشرون العلم، والحكمة، والأخلاق والإنسانية، والعدالة في مشارق الأرض ومغاربها، يقتصّون من أجل قبطيٍّ من مصر ضربه ابن فاتح مصر بالقضيب، فاستدعى عمر عمراً بن العاص فاتح مصر وقائد جيشه وابنه، وأعطى القضيب للقبطي وقال له: اضرب ابن الأكرمين، أي حكمٍ في قرن العشرين قرن التقدم والثقافة والعلوم واكتشاف الفضاء والوصول للقمر؟ أمريكا أو روسيا أو فرنسا أو أوروبا أو اليابان، هل بلغ العدل للضعيف أن يأخذ أضعف الضعفاء من أقوى الأقوياء حقه وبيده؟ لم يضربه الشرطي، لا، بل قيل للمظلوم اضرب ظالمك وقاهرك، قال فضربه حتَّى اشتفى وبحضور الصحابة، ولم يقل أحدٌ أنه كافرٌ ويضرب مؤمناً، لا توجد عصبية، العصبية للحق والعدل وللضعيف إذا ظلمه وجار عليه القوي، ثم التفت وقال: اضرب بالقضيب رأس أبيه.
مهما حاول كتاب الروايات أن يكتبوا رواية عن العدالة من المخيلة وتخيلوا يا ترى هل يصل الخيال بهم إلى هذه الحقيقة العملية المشاهدة؟ هذا هو الإسلام، هذا الإسلام المجهول والمزهود به والذي فقد من يصنعه في النفوس إيماناً، وفي العقول حكمةً، وفي الواقع عدالةً وتعاوناً وحباً وإخواناً، فالقبطي قال لا، أنا ضربت من ضربني، فقال والله لو ضربته ما منعك منا أحد، فقال عمرو رضي الله عنه: ما ذنبي؟ قال: إن ابنك ضرب القبطي بسلطانك وجاهك، أي قاضِ عادل في أمريكا أو فرنسا أو إيطاليا أو في الدنيا كلها أو من بداية خلق الله للدنيا يطبق العدالة هكذا؟ القبطي غير مسلم وغير عربي، فلا تعصب للدين ولا للقومية تجاه الحق وتجاه العدل وحق الإنسان الضعيف تجاه القوي، يقولون حقوق الإنسان لا يستعملونها إلا لمآربهم الاستعمارية، ولتنفيذ خططهم لوصولهم إلى مطامعهم في الشعوب الضعيفة.

الاستعاذة يجب أن تكون صادقة

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (١)
[سورة النَّاس]

لكن إذا كنت صادقاً من قلبك وتريد أن تستعيذ برب النَّاس، التعوذ برب النَّاس أن تدخل مدرسته، وتتعلم ثقافته، وتمتثل أوامره، وتجتنب محارمه، فإذا كان عندك حريقٌ واتصلت بالإطفاء ولديك آلة الإطفاء وقالوا لك: الآلة بالغرفة الفلانية واستعملها تطفئ الحريق، ألا توجد آلات بالبيت؟ أما لو اتصل بالهاتف وقال: أعوذ بكم من النَّار، وقالوا له: استعمل آلة الإطفاء يُطفأ الحريق، فرد وقال: أعوذ بكم من النَّار، أليس هذا واقع الكثير من المسلمين في زماننا الحاضر؟

خاصية المسجد في العلم والتعليم والتزكية
السبب أننا فقدنا المعلم، والمساجد التي هي المدارس التي خرَّجت أباطرة الإنسانية والتاريخ أصبحت الآن صحارى، المسجد يكون بستاناً وجِناناً إذا وجد فيه من يُعلم الكتاب والحكمة ويُزكي النفوس، وأما مسجدٌ لا معلم ولا حكيم يُعلّم الحكمة ولا مُزكي يزكي النفوس فهذا صحراء، للصلاة، وقد قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ فُضِّلْنا علَى النَّاسِ بثَلاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنا كَصُفُوفِ المَلائِكَةِ، وجُعِلَتْ لنا الأرْضُ كُلُّها مَسْجِدًا، وجُعِلَتْ تُرْبَتُها لنا طَهُورًا، إذا لَمْ نَجِدِ الماءَ وذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى }

[صحيح مسلم]

فما خاصية المسجد؟ العلم، والعقل الحكيم، وتهذيب النفوس حتَّى تتحول من نفوسٍ أمارة بالسوء إلى نفوسٍ فاضلة.

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
[سورة التوبة]


حديث السوء في النفس

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس(١)
[سورة النَّاس]

وأعوذ أيضاً بملك النَّاس وإلههم، فهذا أمرٌ عظيمٌ فظيع، هناك برب الفلق من خمسين شيئاً، وهنا خمسون استعاذةً لشيء واحد.

مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(٤)
[سورة النَّاس]

الذي يلقي في نفسك الشرور، والآثام، والغش، والخداع، والإضرار بالنَّاس، وفعل المَحارم، وترك الفرائض، هذا اسمه وسواس، ولكن مع وجود الوسواس هل أعطاك الله عزَّ وجلَّ مضاداً لهذا الجرثوم والفيروس؟ أعطاك وهو ذكر الله عزَّ وجلَّ، فإذا ذَكرت الله وتَذكّرت أنه يراك وأنه عليمٌ بذات الصدور.

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦١)
[سورة يونس]

عندما تتفاوض وتتآمر وتتكلم بالسهرة أو الاجتماع الفلاني، هل علمت أن الله معك يسمعك ويراك ويعلم ما في نفسك؟

وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرّ وَأَخْفَى(٧)
[سورة طه]

ماذا تعني وأخفى؟ هو السر الذي ستخفيه غداً أو بعده ولا تعلمه الآن، يعلم أسرارك الآن وفيما ستُسِره في الأيام الآتية، فإذا عرفت أن الشرطي يُراقب سيارتك ويمشي خلفك، هل تستطيع أن تخالف؟ وإذا كنت في جلسةٍ ودخل رجلُ أمن، فوراً تحذرون بعضكم البعض مع أنه لا يوجد شيء، ولكن مراقبةً وخشيةً من أن تخطئ خطأ من غير قصد أو يفهمها فهماً غير صحيح، لذلك تنتقي الكلام انتقاءً، فإذا كان الله عزَّ وجلَّ العليم بذات الصدور الذي:

يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (١٩)
[سورة النحل]

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)
[سورة هود]

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(٢٣٤)
[سورة البقرة]

لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)
[سورة الشورى]

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ(٥)
[سورة آل عمران]


ذكر الله عزَّ وجلَّ يقيك شر الخناس ووسوسته
فإذا جاءك الوسواس فذكرت أن الله معك ويسمع قولك ويُبصر عملك، إذا أردت الظلم فذَكرت الله، إذا أوحى الشيطان لك بالظلم فذكرت أن الله سيُقاصصك، حتَّى رأى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم شاتين أي غنمتين فقال لأصحابه:

{ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال:يا أبا ذر، هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهم }

[رواه أحمد]

هاتان الشاتان هل تعلمون لماذا ينطحون بعضهم البعض؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: إن الله يعلم فيما انتطحتا، معنى الحديث وسيُجري القصاص فيما بينهما حتَّى يَقتصَّ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، يعني الماعز إذا اعتدت على ماعزٍ أخرى فأمامها محاكمة، وأنت أيها الإنسان عندما تظلم الإنسان من غنيٍ وضعيف، وحاكمٍ ومحكوم، ومن مُتَسلطٍ قويٍ على متسلطٍ عليه ضعيف هل تظن:

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
[سورة المؤمنون]

فهل خُلقتَ عبثًا وأعمالك مهدرة!

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)
[سورة ق]

ينتظر أي عملٍ ليسجل، حاضرٌ لا يغيب، لا توجد مأذونية، لا يفارقك إلا عند الغائط أو عند الجماع، لكنه معك في السيارة والطائرة والسوق وفي الدكان وعند الشجار.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦)
[سورة ق]

هل آمنت بهذه الآية؟ آية واحدة:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ(١٧)
[سورة ق]

جعل الله علينا شرطيين، واحدٌ عن اليمين والآخر عن الشمال، يتلقيان ما تعمله وما تقوله:

إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ(١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ(١٩)
[سورة ق]

إلى آخر الآيات.

الوسواس قسمان
هل عندما تقول أعوذ برب النَّاس من شر الوسواس، هل تحسب حساب الوسواس؟ والوسواس الموسوس الذي يوحي بالشر في نفوس النَّاس على قسمين: قسمٌ من البشر ومن النَّاس، وقسمٌ من الشياطين والأبالسة، فجعل الله من يوحي بالشر للآخرين في عداد الأبالسة والشياطين، فتجد إنساناً يثير الزوج على زوجته، رجلٌ باع بيعةً فيقول له آخر: كيف بعتها وهي تساوي أكثر من هذا؟ هل كتبتم سند بيع؟ هذا وسواس، مهما ما قلت بعت فانتهى، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:

{ البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا( ٥) }

[صحيح البخاري]

لكن متى ما كنت في المجلس ولم تخرج وما تفرّق المجلس فلك الخيار في البيعة، أما إذا تفرّق المجلس ثبت البيع، أو تشترط الخيار ويكون لثلاثة أيام، تقول له: أخي أنا من الآن لثلاثة أيام لي الخيار أتمم البيعة أو لا، ويوجد أناسٌ ينكرون بعد السند والأيام والشهور والأعوام، هذا لا يؤمن بالقرآن ولا برسول الله ولا بالآخرة ولا بأي شيء، من آمن أن النَّار محرقةٌ هل يضعها في كفه! من يؤمن أن الأفعى قاتلةٌ هل يضع إصبعه في فمها!

وَمِنَ النَّاس مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ(٨)
[سورة البقرة]

عند العمل، تجده لا يؤمن بالله ولا يقبل كلامه ولا يمتثل أمره ويتجرأ على محارم الله،
وقال الله تعالى:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(٩)
[سورة البقرة]

هل يُكذب على الله يا بنيّ؟ و يخدع المؤمنين.

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
[سورة البقرة]

المريض إذا لم يبحث عن الطبيب ولم يستعمل الدواء مُراً أو جِراحةً أو النوع الذي يشفى به فسيموت.

إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ(٨٠)
[سورة النمل]

هل كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يذهب إلى لمقابر ويلقي المواعظ هناك؟ يُحضر الأموات ويدرسهم؟

الاستماع للموعظة وعدم الانتفاع بها
المقصود من الأموات هم أموات القلوب، يَسمعُ أمر الله فلا يفهمه ولا يُفكر أن يمتثله، يَسمعُ نهي الله ولا يُفكر أن ينزجر ويتركه، هذا ميت القلب:

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(١٢٢)
[سورة الأنعام]

كيف أحييناه؟ أصبح يركض ويتكلم؟ قال:

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(١٢٢)
[سورة الأنعام]

ظلمات الشهوات، حب المال، الدنيا، الجاه، الاستعلاء، والتغلب على الضعفاء.

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(١٢٢)
[سورة الأنعام]

يُزين له حب الظلم والعدوان والآثام ومعصية الله، غافلٌ عن الله واليوم الآخر وعن القيامة والملائكة، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلِّي، تعمل لحيةً وعمامةً وجبةً وناس جيدون بحسب الصورة، ختم الله لنا بالإيمان، جعلني الله وزيراً، بمجرد الدعاء هل صرت وزيراً؟ جعلني الله مليونيراً، بمجرد الدعاء هل صرت مليونيراً؟ إذا دعوتَ ستعمل لتحقيق ما دعوت، جعل الله لنا هذه الأرض عنباً ورماناً، إذا لم تُحضر الشتلة وتزرعها وتسقيها وتصبر عليها لن تقطف ثمر الرمان.

لا ينال الطلب بالأماني
فدعاءٌ بلا قصد التنفيذ والعمل هذه أماني، والله قال:

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(١٢٣)
[سورة النساء]

رضا الله ودخول الجنة والمغفرة لا تُنال بالأماني:

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(١٢٣)
[سورة النساء]

كائناً من كان، لما جلس النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع كبراء قريش لوعظهم وهدايتهم، ودخل ابن أم مكتوم الأعمى الفقير: علمني يا رسول الله، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم إذا ترك الأغنياء والزعماء لهذا الفقير تقوم نفوسهم عليهم، فأعرَض عنه، وفي الحال نزلت السورة، هذه هي حقوق الإنسان، حقوق الإنسان زعماء وعظماء ووزراء:

عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦)
[سورة عبس]

تركض خلفهم.

وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى(٧)
[سورة عبس]

أنت لست مسؤولاً عليك أن تلقي البذار.

وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (٨) وَهُوَ يَخْشَى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ(١١)
[سورة عبس]

لا ُتكررها، فما قام النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من مجلسه من كثرة بكائه حتَّى رمدت عيناه، وما وصل إلى داره إلا وهو يتلمس الجدران من شدة تأثّره بعتابِ الله عليه، هل كانت النية سليمةً أم لا؟ هداية الزعماء مفضلة، أما بالنسبة لله فلا يوجد عنده زعماء ولا أغنياء ولا فقراء، الإنسان والإنسان فقط.

الاستعاذة برب النَّاس

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس(١)
[سورة الناس]

فلما تستعيذ برب النَّاس كيف ستستعيذ؟ تستعيذ برب النَّاس بكتابه وتعاليمه وورثة أنبيائه، عندما تستعيذ من المرض، تركض إلى الأطباء والصيادلة وتحليل الدم والتصوير الإشعاعي ليتبينوا أين مرضك، فيا ترى عندما تريد الاستعاذة من المرض بكلام الصحة تعرف كل الأسباب لتتخلص مما تستعيذ منه والمستعاذ به لينقذك وتنال صحتك وعافيتك، وعندما تستعيذ من شر الوسواس الخناس،وقد دلَّك الله على ما يعيذك ويحميك من الوسواس، فهل سوف تطبّق الوصفة وتستعمل الدواء؟ سئل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن خيار النَّاس وأفاضلهم، فقال:

{ الذين إذا رؤوا، إذا نظرت إليهم، الذين إذا رؤوا ذُكر الله( ٦) }

[السنن الكبرى للنسائي]

والوسواس إذا ذكر الله خَنَسَ وفرَّ وانهزم، الذي كان في أسر الشيطان عندما التجأ إلى خِيار النَّاس أما تخلص من الشيطان؟ من وساوسه وسمومه وسلب إيمانه وتقواه؟ والذي بقي يستعيذ بالأقوال الحريق الحريق، يقولون له استعمل الآلة التي بجانبك واكبس الزر، لا يكبس الزر ولا يستعمل الآلة فقط يستعيذ بأصحاب الإطفائية، كذلك كثير من النَّاس لا يفقهون ما يقولون، ولا يقصدون أن يفهموا، ولا أن يُنقذوا ويُشفوا من أمراضهم، عندما يأتي المريض للطبيب يحتاج عملية، فيقول سأخدرك، يعني سأفقدك سمعك فلا تسمع، وبصرك فلا تُبصر، ورجليك فلا تمشي، ويديك فلا تتحرك، وعقلك فلا يدرك، هل ترضى أن أسلب كل حواسك؟ ثم سأشق بطنك وأقطع شبراً من أمعائك لأنقذك من الورم، هل يقبل؟ ويقول له ستدفع تكاليف ذلك، لماذا؟ لأن الطبيب جاء من فرنسا، أو من أمريكا، إذا جاء أحدهم لينقذك من الورم الذي يهلكك في الدنيا قبل الآخرة، هل تستسلم له؟ تدع عينه تنظر بدل عينك، ورجله تمشي بدل رجلك.

مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٧)
[سورة الحشر]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(٥٩)
[سورة النساء]

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١)
[سورة التوبة]


بذكر الله ينقلب الوسواس إلى خنَّاس
فإذا أتاك الوسواس وذكرت الله عزَّ وجلَّ، ذكرت أنه معك، أنه شاهد عليك، وأنه سامع لك، وأن الملائكة تسجل عليك، فإذا ذكرت الله هذا الذكر، فينقلب الوسواس إلى خناس، من مهاجم إلى مُنهزم، من قاتل إلى مقتول، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ إنَّ المؤمنَ يُنضي شيطانَه كما يُنضي أحدُكم بعيرَه في سفرِه }

[تخريج الإحياء]

إذا سافرت سفراً طويلاً في الصحراء كيف يأتي الجمل على آخر نفس، حر وحمل وعطش وكذا، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: هكذا شيطان المؤمن يحلُّ به ما يحلُّ بذلك الجمل في السفر الشاق البعيد، وشيطان المنافق الذي لم يهاجر لا إلى الله ولا إلى رسوله ولا إلى ورثة رسوله، هناك من يقول سأزور النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، يا ترى بزيارة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هل التقى بالنبي وصاحَبَه وسمِع منه، وهل قام النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بتزكيته؟

ورثة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم
النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم انتقل إلى الفردوس الأعلى إلى جوار الله ولكن قال:

{ العلماء ورثة الأنبياء ( ٧) }

سنن ابن ماجه

الزيارة مقبولة ومقدسة ومحبوبة لكن الأعظم الأهم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول هذا نائبي ووارثي، ما تريده مني فخذه منه، وما تمتثله مني فامتثله مني، نفهم على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ونزوره ونحن نعرض عن كلامه، نزور النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وندفع تكاليف باهظة، والله لم تزره، لم ترَ غير النافذة والجدران والأبواب، الحب أمر جيد والزيارة فيها بركة، لكن التعليم الأهم الأعظم، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول لك: هذا نائبي ووارثي، أنا خلقني الله لأعلمك الكتاب والحكمة وأزكيك، إذا ذهبت للمدينة هل تتعلم الكتاب والحكمة وتتزكى؟ ليس مرادي الحط أو التنقيص من زيارة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، الزيارة من أعظم ما يُكرم الله عزَّ وجلَّ الزائر بها، لكن ما هو الأهم الأعظم؟ أنت تخالف كلام النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: هذا نائبي، إذا زرت قبر الطيار هل تطير الطائرة؟ وإذا زرت قبر الطبيب الجراح هل يعمل لك عملية؟ أمّا أن تزور قبره تكريماً لعمله وجهاده وخدماته شيءٌ جميل، ولكن الغاية من وجوده أن ينقلك من المرض إلى الصحة، ومن الخطر إلى الأمان، ومن شاطئ الموت إلى الحياة، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بذاته يقول:

{ العلماء ورثة الأنبياء ( ٧) }

سنن ابن ماجه


العالم الذي قصده رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
من العلماء الذين قصدهم؟ العلماء بالله الذين يغرسون في قلبك محبة الله، وخشيته، وتقواه ويعلمونك الحكمة والدنيا والآخرة:
فالعلم ما اورث القلب الزكي تقى وخشيةً عند أهل اللّه كلهم
{ الجوهر المحبوك بالحلي المسبوك في طريقة السلوك للشيخ علوان الحموي }
العالم إذا لم يملأ قلبك من التقوى وخشية الله ومحبته والمسارعة إلى رضا الله، إذا لم يعطك قوة لتقف عند حدود الله فلا تتجاوزها إلى محارمها، هذا قارئ وحمل ورقة اسمها شهادة، أما الذي ينقذك من المرض إلى الصحة، ومن العمى إلى البصيرة، ومن ظلام القلب إلى أنواره، هذا هو العالم الذي قصده رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

التخلّص من الوسواس

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس(١)
[سورة الناس]

لكن اسألوا أنفسكم عندما تستعيذون برب النَّاس هل تستعيذون من قلبكم وتفهمون ماذا تقولون وماذا تطلبون؟ أم مثل الببغاء، تتكلم بما لا تفهم ولا تعقل ولا تدري شيئاً مما تنطق؟

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (١) مَلِكِ النَّاس( ٢) إِلَهِ النَّاس( ٣)
[سورة الناس]

لا يخلصك من الوسواس إلا ذكر الله، والذكر لا يُنال بالكلام، الخبز من أين يؤخذ؟ من الحدادين؟ الدواء من أين يؤخذ؟ من بائع الأحذية؟ تدخل إلى بائع الأحذية وتقول له بطني يؤلمني وهذه هي الوصفة ! فهل تفهم وتعي ما تنطق عندما تقرأ القرآن؟ فإذا كنت تريد الخلاص من الوسواس، فالتجئ إلى ورثة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
سيِّدنا أبو بكر لما التجأ إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هل تخلص من الوسواس؟ وماذا انقلب وسواسه؟ انقلب إلى خَناس، فرَّ الشيطان، لأنه التجأ إلى الملجأ الحقيقي، استعاذ برب النَّاس وملكهم، كيف استعاذ؟ بالهجرة إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، حتَّى كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إنَّ الشَّيطانَ ليخافُ منكَ يا عمرُ }

[صحيح الترمذي]

فشيطان عمر وسواس أم هراب أم منهزم؟ كان في بيت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم جوارٍ صغار يدقون على الدف، دخل سيِّدنا أبو بكر وهم يدقون، ودخل عثمان وهم يدقون، فلما دخل عمر رضي الله عنه، الجارية خبأت الدف أسفلها، فضحك النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقال: يا عمر إن الشيطان لَيَفر من ظُلك، صلَّى الله عليه وسلَّم.
فالمقصود أن نعي ما نقول، أن نتلو القرآن لننتفع منه ويكتب الله لنا بكل حرفٍ عشر حسنات، فإذا استعذت برب النَّاس من شر الوسواس، فمَن الذي جعل الشيطان يفر من سيِّدنا عمر رضي الله عنه، بعدما كان في أحضانه وكان متحكماً به؟ فمن أنقذه من الشيطان وجعل الشيطان يفرُّ من عمر؟ هو الذي علمه الكتاب والحكمة وزكّى نفسه.

البحث عن المعلم
ويا ترى بفقد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هل انقطع المعلم الذي يعلم الكتاب والحكمة ويُزكي؟ وإن كان أصبح وجوده أندر من النادر، مولانا خالد النقشبندي المدفون في سفح الجبل وله قبته ومزاره، كان رئيس علماء العراق، أي شيخ مشايخ العراق، فبعد العلم والكتب وطلبة العلم والمدارس التي أنشأها، فَقِه بأنه لا بد له من المعلم الذي يعلمه الكتاب والحكمة ويزكيه، فذهب إلى الحج حيث يتواجد خيار المؤمنين، لعلّه يلتقي بهذا الوارث، ففي المدينة المنورة التقى ببعض الصالحين وبالمذاكرة قال له: والله أنا قدمت إلى الحج لعلّي ألتقي بالشَّيخ المربي الذي يُعلم الكتاب والحكمة ويُزكي نفسي، قال أنا أوصيك بوصية: مهما رأيت من شيءٍ لا تفهمه من أحد الصالحين فلا تعترض عليه، تأنَّ ولا تستعجل، قال بينما هو يطوف حول الكعبة وجد شيخاً يقرأ القرآن وقد أسند ظهره للكعبة، قال: فنَظرتُ له وقلت يا شيخ تأدب، تسند ظهرك للكعبة؟ قال فرفع الشَّيخ رأسه وقال: ما أسرع ما نسيت من وصاك في المدينة بوصيته! ما مضى عليها أيام فوراً نسيت! ألم يقولوا لك لا تعترض؟ فألقى بنفسه على يديه يقبّلها ويلثمها وقال له: أنت بغيتي وضالتي، فمن كان هذا الشَّيخ ؟ الشَّيخ عبد الله الدلهوي، قال له: تأتي إلى دلهي بعد الحج، ماذا سيعلمه نحواً أم فقهاً أم أصولاً أم تفسيراً أم حديثاً أم مصطلح الحديث؟ شيخ الشيوخ مولانا خالد، عندما أتى الهند ماشياً على حمارٍ أو دابةٍ أو بغلة، فأدخله الشَّيخ الخلوة بقي فيها ثمانية أشهر، لا كتاب ولا درس إلّا ذكر الله والتوجه لله عزَّ وجلَّ، وخرج من الخَلوة بعد أن أمره الشَّيخ بالخروج فنوّر الشرق الأوسط بالطريقة النقشبندية، وهي العلم بالله، والصلة به، والعشق له، والخشية له، النفس المزكّاة والمزكّية، وإلى الآن خلفاؤه في مشارق الأرض ومغاربها، مولانا خالد بعد دخوله في المدرسة والمستشفى هل انتهى من الخناس؟ صار الخناس يفرّمنه ومن أحبابه، منه ومن تلامذته.
قال صلى الله عليه وسلم :

{ إيهًا يا ابْنَ الخَطَّابِ، والذي نَفْسِي بيَدِهِ ما لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ، إلَّا سَلَكَ فَجًّا غيرَ فَجِّكَ }

[صحيح البخاري]

أينما جاء عمر الشيطان يهرب.

شيطان الإنس

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (١) مَلِكِ النَّاس( ٢) إِلَهِ النَّاس( ٣)مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (٤)
[سورة الناس]

فشيطانكم أنتم وسواس أم خناس؟ أصل وظيفته وعمله وسواس، وأنت وظيفتك أن تذكر الله عزَّ وجلَّ لتقلبه إلى خناس، وفي الحديث الشريف :

{ أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ خَرَجَ مِن عِندِهَا لَيْلًا، قالَتْ: فَغِرْتُ عليه، فَجَاءَ فَرَأَى ما أَصْنَعُ، فَقالَ: ما لَكِ؟ يا عَائِشَةُ أَغِرْتِ؟ فَقُلتُ: وَما لي لا يَغَارُ مِثْلِي علَى مِثْلِكَ؟ فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أَقَدْ جَاءَكِ شيطَانُكِ قالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، أَوْ مَعِيَ شيطَانٌ؟ قالَ: نَعَمْ قُلتُ: وَمع كُلِّ إنْسَانٍ؟ قالَ: نَعَمْ قُلتُ: وَمعكَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عليه حتَّى أَسْلَمَ. }

[صحيح مسلم]

والشيطان كما ذَكر القرآن:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(١٢٢)
[سورة الأنعام]

وشيطان الإنس أدهى وألعن، شيطان الجن إذا ذكرت الله انتهى، أما شيطان الإنس: يذكرون عن أحدهم سمع في درس بعض الشيوخ أن الذي يتصدق صدقة يفك فم سبعين شيطان، فذهب إلى البيت وليس لديه نقود، فدخل بيت المونة وأخذ القليل من الدبس والبرغل والعدس من مونة البيت ليتصدق بها على الفقراء، وهو خارجٌ من بيت المونة، رأته زوجته، ما الذي تضعه بيدك؟ قال لها: والله سمعت من الشَّيخ كذا وكذا، فأخذت القليل من الموجود لنعطيهم للفقراء، قالت له: هل الشَّيخ لعب بعقلك؟ ارجع وأعد كل شيءٍ لمكانه، بدأت المعركة فارتموا على الأرض وشقت ثوبه ورجع إلى الدرس والشَّيخ رآه ووجهه عليه آثار الهزيمة، فقال له: إن شاء الله فكيت فم سبعين شيطان؟ قال له والله يا شيخي فكيت ولكن أم الشياطين فكت فمي.

طريق الهداية في القرآن الكريم
فانتبهوا أن نقرأ القرآن على طهارة لا طهارة الجسم بل القلب:

لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(٧٩)
[سورة الواقعة]

فإذا قلنا اللهم أعذنا من شر الوسواس يعيذك الله ويدلُّك على طريق الحماية من الشيطان، فإذا أخذت:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(٦)
[سورة الفاتحة]

ماذا يوجد في سورة الفاتحة ؟ سورة الفاتحة أين توجد في المصحف؟ في الأول أم النصف أم الآخر؟ بأوله، فما السورة التي تليها؟ البقرة، فبالفاتحة أنت تطلب من الله أن يهديك الصراط المستقيم، فيُجيبك الله بأول آية من سورة البقرة:

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(٢)
[سورة البقرة]

تريد الهداية خذ هذه هي، الهداية في هذا الكتاب، هدىً لمن؟ للمتقين، من هم المتقون؟

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
[سورة البقرة]

الجنة والقيامة والحساب وجهنم والعذاب غيب.

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(٤)
[سورة البقرة]

هل تشكّون الآن بوجودي معكم وأني أتكلم معكم؟ هل هذا إيمان أم يقين؟ يقين، قال:

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(٤)أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)

أجابك الله، أنت قلت اهدنا الصراط المستقيم جملة واحدة، فجاوبك الله بكم جملة؟ قال لك: الهداية هذه هي كتابي:

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(٢)
[سورة البقرة]

كله صدق ويقين لا باطل فيه، هُدىً إلى ما تطلبه من الصراط المستقيم، ما هي التقوى؟ هي امتثال أوامر الله واجتناب محارمه، فإذا تقبّلتَ التقوى وامتثلت الأمر الإلهي واجتنبت النهي الإلهي، فقد قبلت هداية الله عزَّ وجلَّ، اللهم اهدنا فيمن هديت.

الالتزام بتعليم الآخرين
وإذا طلبت الصراط المستقيم مئة ألف مليار مرة، إذا طلبت الوصفة من الطبيب وقدمتها للصيدلي وأعطاك زجاجة الدواء، ولكن أخذت الزجاجة ولم تستعملها، هل تشفى من مرضك؟ جعلنا الله ممن طهرت قلوبهم حتَّى تهضم القلوب الطاهرة القرآن فَهماً وعملاً وخُلقاً ثم تعليماً وإرشاداً للجاهلين.

مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(٤)
[سورة النَّاس]

فنريد أن نقولها قولاً بلا عمل أم قولاً وعمل، ثم لم تنته، ستقوم وتعلم الآخرين:

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١)
[سورة التوبة]

النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: رحم الله امرءً قال: يا أختاه يا ابناه يا عماه يا جاراه، معنى الحديث أن تكون مُعلماً:

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(٢١٤)
[سورة الشعراء]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(٦)
[سورة التحريم]

القرآن ليس بلفظٍ تكرره على لسانك بل يجب أن يكون حقيقةً في أعمالك ونفسك والآخرين.

عقد العزم على الاستعاذة الحقيقية
من شر الوسواس الخناس، فهل أنتم نويتم أن تستعيذوا بالله بصفاته الثلاث ربِ النَّاس وملكهم وإلههم؟ يا رب النَّاس يا ملك النَّاس يا إله النَّاس أعذنا من شر الوسواس الخناس، مثل الذي في داخل البئر ويقول أرجوكم أنقذوني، أنزلوا له حبلاً وبالحبل يوجد صندوقٌ صغير مثل الكرسي ليجلس عليه، تفضل اركب لنحملك، أرجوكم أنقذوني، لقد أنقذناك وقدمنا لك عدة الإنقاذ، أرجوكم أنقذوني، لو كررها مليار مرة ولم يركب حتى يُسحب من أسفل إلى أعلى هل يستفيد من الإعادة شيئاً؟

مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(٤)
[سورة النَّاس]

هل لديكم عزم ٌعلى تحقيق الحديث:

{ إنَّ المؤمنَ يُنضي شيطانَه كما يُنضي أحدُكم بعيرَه في سفرِه }

[تخريج الإحياء]


ترك الدنيا بمفهومه الصحيح
يقال: مرة بعض المريدين أتوا لشيخهم وقالوا: يا شيخنا هذا الشيطان متى سننتهي منه؟ نصلي فيوسوس بالصَّلاة، يوسوس بأعمال الشر كذا وكذا، وأنت ملاذنا وملجأنا، قال لهم يا بنيّ ما هذا الكلام؟ الشيطان جاء إلي قبل ساعة يشتكي عليكم، ماذا يشتكي علينا؟ خرّب بيوتنا ثم يشتكي علينا! قال الآن كان يشتكي عليكم، ماذا؟ قال: هؤلاء المريدون خطبوا ابنتي، من ابنتك؟ قال الدنيا وحبها، ووضعوها في قلوبهم وأنا أبوها وهي ابنتي، وهل من الممكن ألا يزور الأب ابنته؟ وعندما أريد أن أزورها في قلوبهم وأعشش وأوسوس وأخرب وأخربط أيضاً يزعلون، فإما أن يطلقوها فلا آتي لهم:

{ حب الدنيا رأس كل خطيئة ( ٨) }

[أبو نعيم في الحلية]

ما داموا هم أصهرتي، فالعم سيرى صهره وابنته، ليس المقصود أن تترك الدنيا لتكون فقيراً، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:

{ كاد الفقر أن يكون كفراً }

[ورد في الأثر]

لكن لا تضعها في قلبك، لا تكن عبداً للدينار والدرهم والبطن والفرج، كن عبداً لله تتلقى أمورك من الله، سيرك في ظل أوامر الله ووصايا وكتاب الله.

الاستعاذة من شر شيطان الإنس

مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (٤ )الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس(٥)
[سورة النَّاس]

فالوسواس قسمٌ منهم قال:

مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)
[سورة النَّاس]

هؤلاء إذا ذكرت الله، خَنَس وهرب.

مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)
[سورة النَّاس]

يأتيك صديقك يريد أن يسهر عندك سهرة كلها لغوٌٌ وكثير منها آثام، ومنها الغيبة، والنميمة، والتكلم على النَّاس، والتعاون على الإثم والعدوان، كيف تفتح بيتك للشيطان؟ الله يقول هذا شيطان:

مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)
[سورة النَّاس]

قد يكون أباك أو أخاك أو أقرب النَّاس إليك، فأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يلهمنا رُشدنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الآن انتهى تفسير القرآن كاملاً وهذه المرة الثالثة، فأكثروا من ذكر الله، فإذا صار معكم قلب يُغذى بذكر الله، هذا القلب الذي هو معدة الإيمان، فإذا قُدّم له طعام العٍلم يهضمه فيتحول إلى عملٍ في الجسم، وعملٍ في القلب، والنفس، والعقل، والفكر، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.

مخارج الأحاديث:
(١) سنن ابن ماجه، كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، رقم: (3436)، ومسند أحمد، رقم: (18455)، (30/398).
(٢) مسند أحمد، رقم: (17998)، (29/521)، بلفظ: «خيار عباد الله الذين إذا رءوا، ذكر الله، وشرار عباد الله المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون البرآء العنت».
(٣) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، (12/367).
(٤) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، رقم: (2004)، صحيح مسلم، كتاب العتق، باب الصدق في البيع والبيان، رقم: (1532).
(٥) سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223). وأبو داود، أول كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، رقم: (3641). والترمذي، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682).
(٦) سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223). وأبو داود، أول كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، رقم: (3641). والترمذي، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682).
(٧) أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 388)