تفسير سورة الزلزلة

  • 1996-05-03

تفسير سورة الزلزلة

الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيِّدنا مُحمَّدٍ خاتَم النبيين والمرسلين وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخوَيه سيِّدَينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه من النبيين والمُرسلين وآلِ كلٍّ وصحْبِ كلٍّ أجمعين، وبعد:

تركز سورة البينة على عدم التفرق
لقد مرَّ معكم في سورة البينة تركيز الآية على وحدة الأمة، وأن لا تتفرَّق بعد نبيِّها كما تفرَّق أهل الكتاب بعد أنبيائهم، ولا تكون الوحدة والوقاية والصيانة من التفرُّق إلا إذا غلَبت التقوى على الهوى وغلبت الحكمة والتفهُّم والإذعان للحقيقة على الأنا والهوى والمصلحة الشخصية، فكلمة لا إله إلا الله يقولونها والآلهة كثيرة.. الأصنام كانت تُتخذ آلهة، وسيدنا المسيح عليه السَّلام ألَّهه من ألَّهه، وعُزير ألَّهه من ألَّهه، فهناك آلهةٌ هي أخطر الآلهات وهي أن تعبد هواك وأنانيَتك فتقدم طلباتها ورغباتها على طلبات الله ورغباته، فعند ذلك إذا قُلت الله أكبر فأنت لستَ بصادق، وإذا أردت أن تكون صادقاً فقل: هوايَ أكبر وأنانيَتي أكبر ومصلحتي أكبر، أما المؤمن الحقيقي لو وُضِعَت الدنيا كلها ذهبها ولآليها جبالاً في كفةٍ ورضا الله في الكفة الأخرى لما رجَّحَ على رضا الله شيئاً لا ذهباً ولا فضة، ويُؤثِرُ الموت مع رضا الله على الحياة في سخَطه.

سورة البينة للتطبيق وليست للحفظ الشكلي فقط
فهذه السورة قراءتها ليست للحفاظ على أحكام التجويد بأن تُجيد النطق بكلماتها وأحرفها ومُدودها وأن يُطرَبَ المستمع كما يُطرَبُ بسماع المطربين، لعل قارئ القرآن إذا لم يكن صوته جيداً فالمستمع يُطرَبُ بصوت بعض المطربين ولا يُطرَبُ للقرآن مع أنه ليس موالاً ونغماً للطرب:

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
[سورة ص]

(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) يعني كثيرٌ خيره وعطاؤه، يُعطيك خير الدنيا والآخرة، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) تقف عند الآية وتُفكِّر فيها وتتدبَّرها.. ما معناها وهدفها وما هو واجبك نحوها، لنفسِك أو الآخرين، علِمتَها فهل علَّمتها لغيرك؟ هذا هو معنى التدبر، (وَلِيَتَذَكَّرَ) وإذا نسيت فحواها ومعناها وطلباتها بقراءتها تتذكَّر الأوامر فتمتثِل والفرائض المتروكة فتؤدَّى، لهذا أُنزِلَ القرآن ومن أجل هذا يُقرأ ويُستمع القرآن.

سورة الزلزلة سورةٌ جامعةٌ
الآن نحن في تفسير سورة الزلزلة، أتى رجلٌ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسول الله أقرئني شيئاً مِنَ القرآن، فقال: اقرأ ثلاثاً مِنْ ذوات الراء- الر- التي يوجد في أوَّلها حرف الراء، قال له اقرأ ثلاثة سور، فقال: كَبُرَ سنِّي وضَعُفَ قلبي وغلُظ لساني وكلامي، صار في كلامه يوجد ضعف، قال: فاقرأ من ذوات الحماميم، حَم، توجد الكثير مِنَ السور مبدوءةٌ بحم، فقال: مثل مقالته الأولى، فقال: اقرأ ثلاثاً مِنَ المُسبِّحات:

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
[سورة الحديد]

أو:

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
[سورة الجمعة]

فقال مثل مقالته، ما مقالته؟ كَبُرَ سنِّي وضَعُفَ قلبي وغلُظ لساني وكلامي، ولكن أقرئني يا رسول الله سورةً جامعةً مُختصرة، فأقرأه: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ) هذه كانت قراءة عِلمٍ ودراسةٍ وإيمان.

قراءة اليوم للقرآن :
إذا أعطاك شيكاً وقال لك هذا بمئة ألف وآمنت بما يقول وآمنت بما هو في الشيك مكتوب، فما مقتضى هذا الإيمان؟ وأنت بحاجةٍ إلى طعامٍ في المنزل، وإلى ثمن فاتورة الكهرباء والبقال والخباز يُطالبانك بالحساب الشهري، فدُفِعَ لك الشيك وقرأته بأن تقبض مئة ألف، ما مقتضى الإيمان؟ هل تضعه في جيبك وتقرؤه ليلاً نهاراً، وتأتي بمن يُعلِّمَك التجويد: ادفعوا إلى.. ما هذا الحكم؟ مدٌّ منفصل، إلى حامل هذا الشيك كذا: هذه قلقلة، لا أنت لم تُقلقل، فإذا ضيَّع عمره بالمدود والغنَّة والقلقلة فماذا يُقال عنه لمن يراه أو يستمِعُ حواره؟ أليس المسلمون الكثير منهم يقرأ القرآن كهذه القراءة؟ فكما أن ذاك لا يستفيد مِنَ الحوالة البنكية شيئاً، وظلَّ يعاني الفقر والجوع والعِري والخِزي والضعف، كذلك المسلمون ما داموا يقرؤون القرآن هذه القراءة، القراءات الأربع عشر هذه قراءةٌ بعد الأربع عشرة، وهي القراءة التي قرأ اليهود فيها التوراة فذكر الله أن تلاوتهم:

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
[سورة الجمعة]

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ) حُمِّلوا تلاوتها والعمل بها والتعليم والدعوة إليها، (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) يعني كتباً، الحمار إذا حمَّلناه مكتبةً فيها مئة كتاب، هل يصير عالماً أو ينتفع بعلوم هذه الكتب؟ ذكر الله لنا اليهود ومرضهم مع التوراة لنحذر أن يُصيبنا جرثوم مرضهم فنقرأ القرآن كما قرؤوا هم التوراة، أليس المسلمون الآن يقرؤون القرآن كما كان أولئك يقرؤون التوراة؟

الإيمان بالقرآن الكريم:
هذا أعرابي وبدوي وابن البادية لا يعرف شيئاً، يأتي إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ويعرف لماذا يقرأ القرآن، يعلَم أن القرآن يُقرأ للعِلم به وبأوامره لتُنفَّذ، ومحرَّماتِه لتُجتنب، وبأخلاقه ليتخلَّق بها قارئها، وبأحكامه في ما إذا رأى تاركاً لها أن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، وهؤلاء الذي قال الله عنهم:

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
[سورة البقرة]

يتلوه ويقرؤه بحق، بحقٍ أن تفهمه وتقرأه لتعمل به وحق أن تُعلِّمه لمن يَجهله، وأما أوراقٌ ثقيلةٌ وملساء وسميكة وكرتونٌ مُذهَّب وغلاف المصحف مُطرَّز ويُتلى بأصوات القُرَّاء العذبة كما يكون في المقاهي لمغنٍ أو مُغنية، فلم ينزل القرآن لأجل هذا ولا لأجل هذا يُتلى ويُستمع، فلنتُبْ إلى الله مِنَ القراءة التي وبَّخ الله قارئيها من الأمم قبلها، ولنقرأه ونتلوه حق تلاوته لننال شهادة الإيمان بالله وملائكته وكتبه.
فقال: أقرئني سورةً جامعة، فأقرأه (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا )، فهذا البدوي يطلب مِنَ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم سورة ليفهمها ويعمل بها ويُحوِّل كلماتها إلى أعمالٍ وإلى أخلاقٍ وسلوكٍ يكتبها بقلم أعماله وحياته وأخلاقه، هذا هو معنى الإيمان بالقرآن.

قراءة القرآن تحيي القلب:
كان أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولون للجيل بعدهم أي التابعين: نحن -الصحابة- أُوتينا الإيمان قبل القرآن، وأنتم أُوتيتم القرآن قبل الإيمان.
شيخنا رضي الله عنه مع أنه كان من كبار العلماء وكان حافظاً لكتاب الله كنت أسمع منه كثيراً يقول: ما عرفت قراءة القرآن إلا بعد أن حيَّ قلبي بذِكر الله بصحبة شيخه الذي أحيا قلبه الميت وحوَّله إلى قلب حيٍّ بالله وبذِكره وبمحبَّته، قال: فعُدت لقراءة القرآن فوجدت أني في قراءتي السابقة كنت لا أقرأ ولا أفهم، أكثروا من ذكر الله وتوبوا إلى الله توبةً نصوحاً حتى تُغسَل ظلمات الذنوب مِنْ مرآة القلب؛ حتى إذا قرأنا القرآن تنتفِشُ أنواره ومعانيه وروحانياته في صفحات القلوب، وهي معدة المعاني فتهضِمها وتُحيلها وتُمثِّلها أعمالاً صالحةً وعظيمةً وأخلاقاً كريمةً وروحانية ملائكيةً ربانية، وبذلك ننتقل من ذلٍ إلى عزٍ، ومن ضعفٍ إلى قوةٍ، ومن فقرٍ إلى غنى، ونُؤتى في الدنيا حياةً حسنةً :

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة النحل]


الزلزلة حال من أحوال القيامة:
نقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا )، في سورة الواقعة:

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا(4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا (6)
[سورة الواقعة]

(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) أي القيامة، إذا وقعت وحصلت (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ) يعني نفسٌ كاذبة، الآن يوجد مَنُ يُكذِّبُ بالقيامة، لكن إذا قامت ورآها وقد نُسِفَت جبال الأرض وكُسِفَت شمسها وذهب نور قمرها وتناثرت نجومها وفُجِّرت أرضها فصارت تتفجَّر بالنيران عندئذ (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا) نفسٌ (كَاذِبَةٌ) والناس فيها على قسمين: (خَافِضَةٌ) يوجد أناسٌ يصيرون في أسفل السافلين، وهناك مَنْ يكون في أعلى عليين (خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ)، متى؟ قال: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا)، عندما يحصل الزلزال نسمع في باطن الأرض رجَّاً، (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) الجبال تتطاير (فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) مثل الغبار المُنبث في الفضاء:

لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
[سورة طه]

لا يبقى جبلٌ مرتفعٌ ولا وادٍ منخفض، هنا الله يقول: (إِذَا زُلْزِلَتِ)، هذه مقدمة القيامة وخراب هذا الكوكب والانتقال إلى عالمٍ آخر :

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
[سورة ابراهيم]

تظهر أمامك محكمة الله قاضيها الله لا يوجد محامون ووكلاءٌ ولا رشوةٌ ولا قرابةٌ ولا شفيع، والأعمال كلها مسجلةٌ تشهد عليك الملائكة الحفظة، وأعضاؤك وجوارحك وبقاع الأرض التي عمِلت فيها ما عمِلت مِنْ خيرٍ ومِنْ شر.

المنهج الإلهي التربوي :
ما هذا المنهاج الإلهي التربوي الذي يَبني الإنسان الفاضل والعائلة الفاضلة والمجتمع الفاضل والأمَّة الفاضلة والدولة الفاضلة وقد بناهم الإسلام، ثم الدولة العالمية.. عشرات الأمم أصبحت كلها في أمَّةٍ واحدةٍ وجنسيةٍ وجوازٍ واحد، ابن إندونيسيا هو ليس رفيقاً أو مواطناً لابن مراكش في المغرب بل هو أخٌ له وجزءٌ من جسدٍ واحد، فأي نظريةٍ أو فلسفةٍ في حياة الإنسان مِنْ أول الدنيا وإلى الآن أتت عقلياً وعِلمياً وواقعياً وتاريخياً حققت ما حققه القرآن؟ لكن ببركة المُعلِّم الذي لا ينطق عن الهوى، وببركة الطبيب الذي عالج أمراض النفوس والعقول، فهل مِنْ عودة؟
لقد جُرِّب القرآن فأعطى أعظم وأضخم النتائج في أقل الأوقات وبأقل النفقات وفي أمَّةٍ كانت في أسفل الدركات، العرب لم يكونوا أمةً بل كانوا في الصحراء، أما المدن كلها كانت مستعمرةً إما مِنَ الروم أو الفرس، وفي الجنوب الحبشة، حتى الأفارقة استعمروا العرب فلم ينجو مِنَ الاستعمار إلا أبناء الصحراء، والصحراء لا يوجد فيها مصلحةٌ للمستعمر فتركوهم يعيشون على الأشواك والحشائش، فأتى القرآن ومُعلِّمه، كتابٌ واحد، ولم تكتمل كتابته إلا في ثلاثٍ وعشرين سنة، ليته أتى مِنْ أول يوم، نحن يأتينا مِنْ أول يومٍ مطبوعاً طباعةً أنيقة، وبالراديو والتلفاز والأنغام الشَّجية، ولكن ماذا يُفيد صوت المطرب وموسيقاه؟ والمطرب إذا قام بحفل غناءٍ في مقبرة أموات هل تسمع أحداً منهم ينطرِب؟ ما لجرحٍ بميت إيلام، ولو أحضرت أطيب المآكل إلى المقابر هل يقول لك أحدٌ من المقابر شكراً ؟ لا يشعرون بك ولا يحسون ولا يتذوقون الطعم، توجد قلوبٌ مع القرآن أشبه ما تكون بهذا المثال.

تذكُّر يوم زلزلة الأرض:
(إذَا زُلْزِلَتِ) إذا ظرف زمان، يعني اذكر أيها القارئ يوم تزلزل الأرض زلزالها، الزلزلة إيذانٌ بأن وقت المحاكمة قد حان، وأتى القاضي على قوس المحكمة فتفضل إلى المحاكمة، اذكر هذه الساعة إذا فاجأتك ماذا يكون مصيرك؟ هل تكون مِنَ السعداء والناجحين وهل تُبرّئك المحكمة وهل تخرج منها أبيض الوجه، والله راضٍ عنك وأنت راضٍ عن نتيجة المحكمة؟ (إِذَا زُلْزِلَتِ) يعني اذكر، هل ذكرت إذا وحين (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)).

يوم البعث من الرقاد:

قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
[سورة يس]

من القبر، بعد فناء الجسم يُعيد الله الجسم كما كان، وتُشقُّ الأرض وتخرج الأجسام وترجع لها أرواحها، ويُنادي المنادي إلى محكمة الله والعرض الأكبر.
فيا تُرى عندما يقرأ المسلم والمسلمة هذه السورة هل يتذكرون معنى كلماتها وما هو المقصود من كلماتها بالنسبة للقارئ والمستمع؟ هل تهيَّأت وهل ضمِنت سعادتك ونجاتك وفوزك في ذلك اليوم؟ ذلك يومٌ إما سعادة الأبد وإما شقاء الأبد، شبابٌ لا هَرَم فيه، وصحةٌ لا طبيبٌ ولا صيدليٌّ ولا مستشفى، وزواجٌ لا يوجد به مهرٌ ولا كُلفٌ ولا نفقات، الحور ينتظرنك :

قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)
[سورة الرحمن]

المهر مدفوعٌ سلفاً في الدنيا بتنفيذ ما فرض الله عليك.

ذكر الزلزلة يستوجب تقوى الله:
(إِذَا زُلْزِلَتِ) يعني اذكر، هل نذكر أحوال القيامة حين نقرؤها؟ في سورة الحج يقول الله:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
[سورة النساء]

التقوى أن تُؤدي فرائض الله تامةً غير منقوصة، كلُّ ما أمرك الله به تمتثِله وتُنفِّذه وتعمله، أمرك بغض البصر فإن غضضت بصرك فهذه تقوى، حذرك مِنْ أن تستعمل أذنك ونظرك ولسانك في غير طاعته، فقال:

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
[سورة الإسراء]

لا يكون في قلبك حقدٌ وغلٌ وغشٌ ومكرٌ وخداع، (إِنَّ السَّمْعَ) لا تسمع مِنَ الكاذبين والدجالين والنمامين، إذا أحضر لك أحدهم خبراً، فقال لك: فلانٌ شتمك، فالقرآن يقول لك أن تسمع له أم أن تُعرِض عن سماعه؟ مثلاً يقول له: قل لي ماذا قال هذا الفاعل التارك؟ هل قرأت هذه الآية (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ)؟ أو كلام لغوٍ في مجلس، اللغو هو ما لا ينفع ولا يضر، فالله وصف المؤمنين الذين :

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
[سورة الكهف]

وصفهم بأنهم :

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
[سورة الفرقان]

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
[سورة المؤمنون]

هذا اللغو هو الذي لا نَفع ولا ضَرر منه، أما الحرام يجب أن تُعرِض عنه فهذا لا يوجد فيه مسامحة، إذا كانت نفسك كريمةً تترفَّع عن سماع كلام اللغو، أما إذا كان حراماً كتقديم إذا كأسٍ من الخمر لك فشربه حرام، وسماع هذا الكلام أيضاً حرام.

ترك العِلم والمعلم:
فالمسلمون حُرِموا العِلم والمُعلِّم، ومزكي النفوس وتزكيتها، وينتسبون للإسلام ليشوهوا الإسلام في عقول وأفكار الآخرين، فيقول الآخرون: هؤلاء هم المسلمون، إذا قلنا للناس أن الأطباء نراهم بين البغال والحمير يُصلِّحون حوافرها ونعالها، تعالوا تعلموا الطب فتفرُّ الناس، إذا دلَلناهم على الحدادين وقلنا هؤلاء أطباء ينفُرون من هذا الطب الذي هذا منظر أصحابه، وهكذا لو كانت أعمال المسلمين وأخلاقهم وعقلهم إسلاماً، عقل الإسلام هو الحكمة، عقلٌ وعملٌ ومنطقٌ حكيم، لا يُخطئ في قول، إذا قال لا يقول إلا بتفكرٍ وتدبر، وإذا عمِلَ لا يكون عمله إلا صواباً وصحيحاً، فهل المسلمون على مختلف المستويات يحملون هذه المواصفات؟ والله لو حملوها فكلُّ مَنْ يراهم سيعتنق الإسلام مِنْ غير أن يُدعى له بقولٍ أو كتابٍ أو دعايةٍ أو إعلام، كما قال الله تعالى:

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
[سورة السجدة]


اليقين يستدعي الفعل:
من يُوقِن بأن هذه نارٌ فهل يضع يده فيها؟ من يتيقَّن أن هذه أفعى هل يضع إصبعه بين أنيابها؟ فيصبح النظر إليه مدرسةٌ وعِلمٌ وتعليم، فما أحوجنا إلى مَنْ يصنع هذا الإنسان، يصنعه العالِم الوارث النبوي:

{ العلماء ورثة الأنبياء }

[سنن أبي داود]

وهناك علماءٌ مِنْ صنفٍ آخر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال عنهم:

{ أشدُّ الناسِ عذاباً يوم القيامة عالِمٌ لم ينفَعه الله بعِلمه }

[شعب الإيمان للبيهقيُّ]

الآن أنتم الآن أصبحتم عُلماء، الذي أقوله لكم هل تفهمونه أم لا؟ علِمتموه أم لا؟ فهنا إيمانكم إذا كان حياً يهضم هذه المعرفة وهذه الكلمات كما تهضم المعدة الطعام وتحوِّلُه إلى دمٍ والدم يتحوَّل إلى طاقةٍ والطاقة تتحوَّل إلى أعمالٍ نافعةٍ للإنسان، وهذا يحتاج إلى التوبة الصادقة وكثرة ذكر الله والارتباط الإيماني والحبِّي بوارثٍ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، بالعلماء ورثة الأنبياء، وبدون ذلك أمانٍ باطلةٌ وأضغاث أحلام ، ومراوحةٌ في المكان.

إذا تفيد التحقق والحقيقة:
(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) معنى إذا أي اذكر، هل تتذكر يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين ليحاسبهم ويروا أعمالهم، هذه أعمالكم، (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا)، ما الفرق في علم النحو بين إذا وإن؟ تقول إن جاء فلان فافتحوا له الضيافة، يعني هذا قد يأتي وقد لا يأتي، أما إذا قلت: إذا جاء فلان فهذا مُحقق المجيء، فإذا للتحقق والحقيقة، وإن للشك والشبهة، لم يقُل الله إن زلزلت بل قال: إذا، يعني الزلزال مُحقق الوقوع، (إذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)) تُشقُّ الأرض ويُعيد الله الأجساد الفانية كما كانت في طبيعتها الأولى:

قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
[سورة يس]

(قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) هل هذا معقول؟ صارت تراباً؟ انظر إلى المنطق العقلاني في القرآن، أجابهم ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)، الذي صبَّ اللّبنة، فإذا نزلت عليها المطر وفرطت وصارت تراباً فاللَّبان وصانع اللِّبن ألا يستطيع أن يجعلها لبِنةً مرةً أخرى؟ قال: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) كلُّ مخلوقٍ في هذا الوجود هو عليمٌ بخلقه وصنعة الله وحِرفته نقولها بتجاوز:

أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
[سورة يس]

الذي خلق الكواكب والعوالم وبما فيها، والله أعلم بما فيها (بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ).

قدرة الله على الإحياء ثم البعث ثم الإحياء:
فما أنت يا إنسان؟ إذا كان الله قادراً أن يخلق مثل السماوات ألا يستطيع أن يخلق مثلك ومليارات المليارات؟ فلماذا تُكذِّب بالأشياء البديهية عقلاً وواقعاً ومنظوراً ومشهوداً؟.
دود الربيع الذي يسمونه أبا فروة وأبا عبيد، هذا متى يظهر؟ يظهر في الربيع، في الصيف كلُّه يموت، فعندما تهطل الأمطار ويأتي الربيع وإذ به يُبعَثُ مرةً أخرى، هذا موتٌ ثم بعثٌ ثم نشور.
ثم هذه العقيدة ماذا أنتجت لمصلحة الإنسان عندما آمن العرب بها، وآمنوا بالرسالة كاملة ماذا كانت نتيجتها وثمرتها ومردودها بالنسبة للأمة العربية؟ هل كانت متقدمةً فتخلَّفت، وهل كانت عقلانيةً فخرِفَت، وهل كانت متحدةً فتمزَّقت، وهل كانت قويةً فضعُفَت، وهل كانت عالمةً فجهُلت وصارت خرافيةً، أم كان الأمر على العكس؟

نعم الله تعالى:

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8)
[سورة الضحى]

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) ألم يحوِّل الضعيف للقوي؟ (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) جاهلاً (فَهَدَى) فعلَّمك؟ (وَوَجَدَكَ عَائِلًا) فقيراً (فَأَغْنَى)، فالإسلام تقدمٌ مِنَ الجهل للعِلم، ومِنَ الفقر للغنى، ومِنَ الضعف إلى القوة:

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
[سورة الأعراف]

كان عددهم مئتي ألف أو ثلاثمئة ألف، الآن أصبحوا أكثر مِنْ مليارٍ وهم أمةٌ واحدة، على اختلاف الألسن واللغات والقارات وهم كالجسد الواحد، فهل هناك مبدأٌ في الدنيا مضى أو مهيأٌ للتنفيذ يصنع كما صنع الإسلام والقرآن؟

الحاجة إلى المعلم:
الطائرة ولو كانت مِنْ نوع بوينغ تحمل خمسمئة راكب، ولم يأتِ طيَّارها فالدراجة أفضل منها، في أقل الدرجات توصل الإنسان وتوفر مساحة خمسة عشر كيلو متراً، أم البوينغ تحمل خمسمئة راكب ولا يوجد طيار كصخرةٍ لاصقةٍ في جبل، فالقرآن يحتاج لمُعلِّمه الذي يُعلِّمهم الكتاب والحكمة حتى لا يقعوا في الأخطاء، لا في أقوالهم، نقول هذا اليوم قولاً فنندم عليه غداً، ولا يخطئون في أعمالهم، دائماً هم في تقدمٍ إلى العز والمجد والخير والقوة والحكم، ويُزكيهم ويُطهِّر نفوسهم مِنْ عيوبها وينقلهم مِنْ بخلٍ إلى سخاء، ومِنْ كذبٍ إلى صدق، ومِنْ حسدٍ وحقدٍ إلى حبٍ وتآلفٍ وتعاون.

التصرف بميزان من وضع الخالق:
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ) ما هي التقوى؟ أن تنفذ كل أوامر الله من أصغرها إلى أكبرها، قصُّ الأظافر له برنامجٌ نبوي يجب أن تتعلم كيف تقصُّ أظافرك، الشارب له برنامجٌ نبوي، وتنظيف الأسنان والأكل:

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
[سورة الأعراف]

قم بنظامٍ للأكل، هذه الآية وحدها تُغني عن الطب، كلوا واشربوا هذا معروف، أما ولا تسُرفوا فإذاً ستأكل بميزان، إذا أسرفت في السكريات فإن البنكرياس الذي يهضم السكر يُجهد ويتعب مِنْ كثرة العمل، فيتعطل فلا يحرق السكر، فيبقى السكر في الدم، فيُصاب بمرض السكر لمَ؟ لأنه خالَف القرآن، القرآن قال: (وَلَا تُسْرِفُوا)، خذ سكريات.

وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21)
[سورة الحجر]

وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)
[سورة الرحمن]

(وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) لماذا؟ لنُزيِّن به الأشياء، لمَ نتعامل بالفوضى بلا وزنٍ ولا نظامٍ؟ (وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) لمَ وضعه؟ (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) حتى لا يكون في معاملاتكم وأكلكم وشربكم وبيعكم وشراؤكم طغيانٌ لأحدٍ على أحد.

العدل في الميزان:
ثم أكَّد فقال:

وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
[سورة الرحمن]

إذا استعملتموه يكون بالعدل، تأخذ ما لك وتؤدي ما عليك، (وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) لا تطغى في الميزان لمصلحتك ولا تُخسِره لغيرك، هذا ما كان الصحابة يقرؤونه لتزكية نفوسهم مِنْ ظُلمات الذنوب، وعِمارة قلوبهم بنور الله عملاً وسلوكاً وواقعاً، ليس المهم الدواء والصيدلية، بل المهم أن يضع الطبيب المنهاج كيف تستعمل الدواء، وتُطيع الطبيب، إذا كان الدواء مُراً ويوجد منع لك عن ما تشتهيه النفس أن تُطيع وتَمتثِل، فمنعُك عن ما تشتهيه وإجبار النفس على ما تكرهه فيه خيرُك وصلاحك، فإذا أطعت هواك ونفسك وخالفت الطبيب تكون لنفسك ناصِحاً أم غاشَّاً؟

من مقدمات القيامة:
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) أي اذكروا وقت القيامة التي من مقدماتها:

إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)
[سورة الواقعة]

(وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) تطير الجبال:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
[سورة الحج]

(إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) عندما نرى الجبال تتطاير وتصبح هباءً لا صخوراً وأحجاراً (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) كم هو الرضيع غالٍ على أمه؟.
نُقِل لي مؤخراً قصة رآها الناقل في عين الخضراء في الوادي، وقع رضيعٌ في نهر بردى في وقت الربيع في مثل هذه الأوقات والنهر يكون متدفقاً، فالنهر يأخذ جملاً، فالأم لما رأت النهر أخذ رضيعها، والمرأة يقولون أنها جبانة والرجل أشجع، وعلى كلِّ حالٍ النهر في هذا الوضع إذا كان سباحاً ماهراً فعليه خوف، أما الذي لا يسبح يغرق ويأخذه النهر، ولكنها أمٌ لا تسبح وامرأة ويغلُب عليها ما لا يغلُب على الرجل، فألقت بنفسها في النهر وأخرجت ولدها ولم ترَ نهراً ولم تشعر بعظَمته ولا قوة جريانه بدافع الحب والحنان والعاطفة.
أما يوم تُزلزل الأرض زلزالها تذهل المرضعة عن ما أرضعت، الله يخوِّفُنا فهل نخاف؟ ويُحذِّرنا فهل نحذر؟ ويُباعدنا عن معصيته فهل نبتعد؟ يحثُّنا على طاعته فهل نُسابق ونُسارع؟

تحصل التقوى لمن كان له قلب
هكذا يُقرأ القرآن وهذا لا يكون إلا:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

هل تعرف ما معنى القلب؟ هل تحصل على قلب؟ أين سوق القلوب الذي اشترى منه القلب؟ القلب الذي يضخ الدم موجودٌ في الخراف، أما القلب القرآني هو الروح والنفس العاشقة لله والذاكِرة له:
أخي كن لأرباب القلوب ملازماً وفي قربهم حصل لك القلب سالماً وإن رمت من خل قديم جمالـــه فقلبــــك مـــرآة وقابله دائـمـاً
{ [منقول] }
الخِلُّ القديم هو حبيبك الحقيقي وهو الله ، لتتنعَم بجماله، نظِّفها مِنْ أوساخها، فإذا كانت مرآتك نظيفةً وقابَلته دائماً ينعكس في مرآة قلبك شعاع نوره وحرارته، عندما تكون المرآة مقابل الشمس تعكس النور والحرارة، لكن هل هي مثل الشمس؟ لا، فأرباب القلوب أصبحوا أندَر مِنَ النادر، الذين يدرسون في الأزهر وكلية الدعوة والشريعة إذا لم يدخلوا مدرسة القلوب قد يأتي وقتٌ عليهم يقولون فيه: يا ضيعة الأيام تمضي سبهللاً! لا ينفَع ولا ينتفِع، وإذا صار له قلب.. الشهادة أربع وخمس سنين وقبلها اثنا عشر سنة كم صاروا؟ ستة عشرة سنة، لعلَّه إذا صَدَق الله عزَّ وجلَّ بإشراف عالِم القلوب وارتبط به برابطة الحب الصادق، أكثر ما يُحب الرضيع مرضعته والبخيل مالَه، إذا ارتبط برابطة هذا الحب وأدمَن الذِّكر، الذِّكر يُدمِنه لعل الله يفتح عليه في شهرٍ واثنين وأربعة ولو كان سنة.
مولانا خالد بعد ثمانية أشهرٍ خرج من المدرسة شمساً:

وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)
[سورة الأحزاب]

مئةٌ وخمسون سنة ومئتا سنة ومدارسه في كلِّ الشرق الأوسط في دراسة ثمانية أشهر تحت نظر شيخه الشيخ عبد الله الدانوي، فكم غباء طالب العِلم الذي يركض خلف شهادة ورقٍ تُلصق على الحائط ويجهل الشهادة التي تُلصَق في القلب والروح وتتوجَّه إلى الله، فينعكس فيها عِلم الله وحكمته وقدسيته، فمَنْ توجَّه إليها بتوجه الحب ينعكس فيه ما انعكس فيها، جعلنا الله مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.

الاستعداد ليوم الزلزالة:
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)) هل أنتم مستعدون ليوم الزلزال؟ هل تزوَّدتم وفتَّشتم حقائبكم وأغراضكم؟ كلُّ ما يحتاجه المُسافر في سفره، (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) يخرج الله الأموات ويُحيي أجسادهم مرةً أخرى وترجع إليها أرواحها، هل هذا كثيرٌ على الله؟.
ماذا كنت أنت؟ القليل مِنَ الفجل والبطاطا هُضِموا فصاروا دماً، فذهب الدم إلى الخصيتين فجعلتهم الخصيتان حيواناتٍ منوية، ثم ذهبوا إلى الرحم فجاءت البويضة مِنْ مبيض المرأة فتلاقيا نطفةً أمشاجاً فصرت إنساناً:

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
[سورة الإنسان]

فالله قادرٌ على أن يخلُق مِنَ العدم وجوداً ومِنَ الموت حياةً، (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) الكافر يقول:

قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
[سورة يس]

فتقول الملائكة: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)، والمؤمنون:

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
[سورة الأنبياء]

فهنيئاً لكم.

أهل لا إله إلا الله في قبورهم:
النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ ليس على أهلِ لا إله إلا الله وحشةٌ في قُبورهم، ولا وحشةٌ عند مَبعَثهم }

[شعب الإيمان للبيهقي]

مِنَ القبر يعيد الله جثته وروحه، والملائكة تُقابِله ويُرحبون به، جعلنا الله منهم، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ تَقيءُ الأرضُ أفلاذَ كبِدِها أمثالَ الأُسطوانِ مِن الذَّهَبِ والفضَّةِ قال : فيجيءُ السَّارقُ فيقولُ: في هذا قُطِعْتُ ويجيءُ القاتلُ فيقولُ: في هذا قتَلْتُ ويجيءُ القاطعُ فيقولُ: في هذا قطَعْتُ رحِمي ويدَعونَه لا يأخُذونَ منه شيئًا }

[صحيح ابن حبان]

تخرج أحجار الذهب مثل الصخور الكريمة، ولكن قامت القيامة ماذا ستستفيد مِنَ الذهب والفضة؟ فيمر القاتل فيقول: بسبب هذا قتلت نفساً بريئةً فوقعتُ في غضب الله، ومانِعُ الزكاة يقول: بسبب هذا وحرصي عليه منعتُ الزكاة، وقاطِع الرحم يقول: بسبب هذا قطعتُ رحِمي، والسارق يقول: بسبب هذا قُطِعَت يدي، ثم يتركونه ولا يأخذون منه شيئاً.

دهشة الإنسان حين حدوث الزلزلة
(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)) يقع الإنسان في الدهشة، الجبال تتطاير مثل السَّحاب ثم تتفتَّت فتصير مثل الهباء المنثور:

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
[سورة الحج]

(تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ) من الرعب والخوف (كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) مِنَ الهول والخوف مِنَ المشاهد (وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)، أما:

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا (14)
[سورة الأحقاف]

هل تُحبون الانتساب لأي حزب؟ في الآخرة توجد الحزبية ولكن هناك حزبان فقط: السعداء والأشقياء، (وَقَالَ الْإِنْسَانُ) مِنْ دهشته ورُعبه وهَولِ ما يرى ويُشاهد (مَا لَهَا) ما هذا وأين أنا وما هو المصير؟ (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) تُذيع الإذاعة الإلهية (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) أمرها بما أمرها.

الناس يوم القيامة فريقان:
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) يخرجون مِنْ هذا الموقف (أَشْتَاتًا) أنواعاً منوَّعة:

فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
[سورة الواقعة]

(أَشْتَاتًا) أي أشكالاً وألواناً:

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
[سورة آل عمران]

فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)
[سورة القارعة]

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) بالأعمال الصالحة، (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) يهوي في نار جهنم على أمِّ رأسه.

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
[سورة الانشقاق]

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)
[سورة الحاقة]

(هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) انظروا إلى علاماتي كلها عشرةٌ من عشرة (إِنِّي ظَنَنْتُ) كنت مُؤمناً ومُتيقناً (أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) كنت قبل أن أعمل أي عملٍ أُقدِّرُ أن الله سيحاسبني عليه، لذلك كنت لا أعمله إلا على الشكل الذي إذا حُوسِبْتُ عليه أنال فيه رضا الله، إذا غضب وطمع وإذا صار حاكماً قوياً وإذا خلا بنفسه في مالٍ أو عرضٍ أو إذا غضِب مَلَكَ لسانه، ولا يستعمل جوارحه في محارِم الله.

أصحاب العيشة الراضية:

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
[سورة الحاقة]

يا سلام! بعد العيشة الراضية هل ينتقل لعيشةٍ ساخطة؟ قد تكون غنياً في الدنيا وبعد مدةٍ يصير فقيراً، يكون وزيراً وبعد مدة يصبح في السجن، (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا) أغصانها لا تحتاج السلالم ليقطُف، (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) يقطُفها وهو جالس، ولما يقطُفه أوتوماتيكياً يرتفع الغصن إلى علوِّه.

فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
[سورة الغاشية]

وإلى آخر الآيات..
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) يخرجون مِنْ قبورهم، وَرَدَ في الحديث القدسي يقول الله تعالى:

{ إنما هي أعمالُكُم أُحصِيها علَيكم ثمَّ أُوفِّيكم إيَّاها }

[صحيح مسلم]

الذي زرع الفستق ماذا يحصُد؟ الفستق، والذي غرس العنب يقطُف العنب، والذي زرع الشوك سيقطُف الشوك، ومَنْ ربَّى الدجاج حصد البيض، ومَنْ ربَّى الثعابين والأفاعي ماذا حصد؟.

تزرع السيئات وتريد حصد الحسنات
يقال أن عبداً كان عند سيِّده، وسيِّدُه كان مزارعاً، ففي وقت الزرع أعطاه مئة كيس قمحٍ ليزرعهم في مزرعته، وكان السيِّد من الفُسَّاق لا توجد لديه تقوى ولا إيمانٌ ولا مُعلِّمٌ ولا مُرشدٌ ولا مُربٍ، من ليس له شيخٌ فشيخه الشيطان، فهذا العبد بدَّل أكياس القمح بالشعير وزرع الشعير، ولما كان العبد من الأتقياء وسيده كان من الفساق فكان العبد ينصح سيِّده ويقول له يا سيدي هذا حرامٌ ولا يجوز فيقول الله غفورٌ رحيم، الله يغفر لنا ويُدخلنا الجنة وماذا يضرُّه، من الكلام الغثائي، فماذا زرع؟ وماذا أعطاه سيده؟ قمحاً، لما صار وقت الحصاد خرج سيِّدُه ليرى المزرعة فرك السبَل وماذا خرج بيده؟ والثانية والثالثة، والأرض الثانية والثالثة، فقال للعبد: أنا ماذا أعطيتك؟ قال: أعطيتني قمحاً، قال: أنت ماذا زرعت؟ قال: شعير، قال: لماذا فعلت هذا؟ فقال: أنا بِعتُ القمح وأخذت الشعير وأخذت الفرق لنفسي، وقلت مثلما تقول أن الله غفورٌ رحيم، وعلى الأعمال الفاسقة يُدخلني الجنة، وأنا أيضاً قلت: الله قادرٌ قدير، فهو قادرٌ على أن يُخرج من الشعير قمحاً، أنا اقتديت بك وتعلَّمت مِنْ مدرستك، قال له: يا كذا وكذا! تزرع الشعير وسيَخرج قمحاً؟ قال له: أنت يا سيدي أيضاً تزرع السيئات وتريد حصد الحسنات؟ تزرع غضب الله وتريد قطْف رضاه؟ تبني في جهنم وتريد أن تسكُن في الجنة؟ أنا عملت نفسي مرآةً لما تعمل لعلَّك تصحو قبل أن يُوقظك مَلَك الموت، فقال له: والله نعم العبد الحكيم والناصِح الحليم، فكان سبب توبته، وكان العبد سيِّداً والسيِّد هو المملوك بحسب العِلم والحقيقة.

القرآن يحيي فيك الشعور والإحساس بالمسؤولية
(يَوْمَئِذٍ) فيوم ذلك الزلزال ويوم القيامة (يَصْدُرُ النَّاسُ) يخرجون مِنْ قبورهم (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) صحائفهم.

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (19)
[سورة الحاقة]

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ (25)
[سورة الحاقة]

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
[سورة الكهف]

كتاب وصحائف أعمالك، (لَا يُغَادِرُ) يعني لا يترك ولا ينسى، (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً) مِنَ الأعمال ولو كانت كلمةً صغيرةً فهي مُسجَّلة، والنظرة مسجلةٌ والسَّماع مُسجَّلٌ والخطوات مُسجَّلة.
(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) لو عمِلت خيراً بمقدار ذرةٍ يراه مُسجَّلاً في صحيفته ويرى مكافأته على عمله مهما كان حقيراً ولو كان مثقال ذرَّة، ما أعظم القرآن.. كيف يُحيي فيك الشعور والإحساس بالمسؤولية، أعمالك وبتقدير الخير مهما كان قليلاً، فالقرآن يُربِّي الإنسان على أن يعمل الخير مهما صَغُر ودقَّ ومهما كان حقيراً وبسيطاً.
اعْمَلْ الْخَيْرَ مَا اسْتَطَعْـــتَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَلَنْ تُحِيطَ بِكُلِّهِ وَمَتَى تَفْعَلُ الْكَثِيرَ مِنْ الْخَيْرِ إذَا كُنْتَ تَارِكًا لِأَقَلِّــــــــــهِ
{ [أبو العباس المبرد] }

الفهم بروح النص:
سيدتنا عائشة رضي الله عنها أتاها سائلٌ فأعطته حبة عنب، قالوا: ما هذا يا أم المؤمنين؟ حبة عنب؟ فقالت: ما أسرع ما نسيتم كلام الله، الله يقول: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)، أتدرون كم ذرةً توجد في حبة العنب؟ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فتات الخبز مِنَ المائدة كان يجمعُه ولا يُضيعه ويُعلِّمنا أن نحرص أن لا نُضيع شيئاً نافعاً مهما كان قليلاً وتافهاً.
المسلمون حفظوا النص بالحرف، وهذا خطأ، يجب أن نفهم كلام النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بروح النص، تُشعِلُ ضوء الكهرباء ولا يُنتفع مِنَ الإضاءة، أليس هذا مثل فتات الخبز؟ الصنبور يُنقِّطُ قليلاً، أليس هذا مثل فتات الخبز؟ ثوبٌ لا يزال في نصف عمره لا تلبسه، لم؟ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ يا عائشة لاَ تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ }

[سنن الترمذي]

لا تعتبريه عتيقاً حتى يكون مُرقَّعاً، أما أن تخلعه لتعطيه للفقير وتلبس الجديد فهذا شيءٌ حَسَن.

الحفاظ على النعم:
فالإسلام يقول لك: فتِّش عن مثقال الذرة مِنَ الخير، الأمم المتقدمة تدرُس قيعان البحار لتدرُس الحشرات والديدان، فما تَرى فيها نافعاً تستفيد منه، وما تراه ضاراً تجتنبه، تخرج للفضاء وتدور حول الكواكب لتفتِّش عن شيءٍ نافعٍ قليلاً كان أو كثيراً، فالقرآن يُعلِّمنا أن نفتِّش عن الخير مهما كان حقيراً ودقيقاً ولو كان مثقال ذرَّة.

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)
[سورة الأنبياء]

أسمع في بعض البلاد العربية نصف الطعام يرمونه في القمامة، التَّرف والبطَر وتضييع النعمة، كانت الأضاحي قبل ثلاثين وأربعين سنةٍ تُذبَح وتُدفَن، هل هذا يتناسب مع فتات الخبز التي رفعها النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من الأرض ووضعها على عينه وقال:

{ يا عائشةُ أحسِني جِوارَ نِعَمِ اللهِ فإنَّها قلَّما نفَرَتْ عن أهلِ بيتٍ فكادت أنْ ترجِعَ إليهم }

[المعجم الأوسط للطبراني]

المرأة يكون لديها زوجٌ صالحٌ فتستهتر به، والزوج تكون له زوجةٌ صالحةٌ فيستهتر بها، فإن النعمة إذا فرَّت قلَّما ترجع، إذا كانت لديك زوجةٌ صالحةٌ فلو وضعت قدمها على رأسك فلا مشكلة، لأنَّها ستصنع لك الولد الذي ينفعُك في حياتك وبعد موتك، أما أن تستهتر بها وتشقَى بصحبتها معك، وكذلك المرأة يكون لها الزوج الصالح فتستهتر به لا تُعطيه حقه، الزوجة الصالحة إذا دخل زوجها البيت تقول: مرحباً بسيِّدي وسيِّد أهل بيتي، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال:

{ لو كنْتُ آمِرًا أحدًا أنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ ، لَأَمَرْتُ المرأةَ أنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِها }

[سنن الترمذي]

هذا ليس إذلالاً لها ولكن ليُعلِّمها النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كيف تملِكُ قلب زوجها.
وأنت يا حضرة الزوج إذا بعث الله لك زوجةً مِنْ هذا النوع لا تكن فرعوناً ولا حجراً، راعِ عواطفها وكرامتها ولا تكسِر خاطرها، خاطبها بأحسن الألفاظ التي تدخل السرور عليها وعاملها مثلما قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ استوصوا بالنساء خيراً }

[شعب الإيمان]

{ رفقاً بالقوارير }

[رواه البخاري]

القارورة هي الزجاجة الرقيقة، يعني أقل شيءٍ يكسِر خاطِر المرأة، فما أجمل الزوج أن يكون حافظاً لآية: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)ويُطبِّقها في تعامله مع زوجته فيصبحون كجسدٍ واحدٍ وكنفسٍ واحدةٍ وينقلِب البيت جنة، هي حوريته وهو مِنْ أهل الجنة، وإذا كان لا يعرف إلا الرَّفس والضرب ولا يعرف المعاملة الحسنة، يوجد الكثير مِنَ الرجال هؤلاء دون البلوغ، عمره سبع سنين ولكن لديه شوارب ومضت عليه عشرون وثلاثون سنة ولم يبلُغ، يعني لم يبلُغ عقله مبلغ الرجال، لا بالعِلم، قال الله:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
[سورة النساء]

والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ خَيرُكم خَيرُكم لأهلِه، وأنا خَيرُكم لأهلي }

[سنن الترمذي]

كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول لعائشة رضي الله عنها:

{ إنِّي لَأَعْلَمُ إذا كُنْتِ عَنِّي راضِيَةً، وإذا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قالَتْ: فَقُلتُ: مِن أيْنَ تَعْرِفُ ذلكَ؟ فقالَ: أمَّا إذا كُنْتِ عَنِّي راضِيَةً، فإنَّكِ تَقُولِينَ: لا ورَبِّ مُحَمَّدٍ، وإذا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لا ورَبِّ إبْراهِيمَ قالَتْ: قُلتُ: أجَلْ واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، ما أهْجُرُ إلَّا اسْمَكَ }

[صحيح البخاري]

الإنسان يتعلَّم الحياة الزوجية مِنَ الطيور والحمام، لا يتعلَّمها مِنَ البغال والحمير بالضرب والعض وهرسِ اللحم والجلد والدم وجرحٍ بحجم أربع أصابع، هل هذه حياة بني آدم وحياة القرآن والإسلام؟ (فَمَنْ يَعْمَلْ) في كلِّ شيء: مع الأهل والأعداء والجيران والأصدقاء وفي البيع والشراء (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)، والله في الدنيا إذا عملنا لله وعاملنا الأعداء والأهل والجيران لله، راقبنا الله في كلِّ شؤوننا:

هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
[سورة الرحمن]


الحرص على العمل الحسن
هل يقول الله: فمن يعمل قنطار خير يَره؟ لا بل مثقال ذرة، فأكثروا مِنْ عمل الخير واعملوه لله لا لكي تُمدحوا ولا لأجل أن تُكافؤوا إلا مِنَ الله عزَّ وجلَّ:

إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
[سورة الإنسان]

لا مكافأةً بالعمل ولا بمقابله ولا مَدحاً ولا ثناءً ولا أيَّ شيء، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي، يدخل الزوج البيتَ ليُدخل الفرح والسرور على أهل بيته، والمرأة كذلك تكون مع زوجها لتُدخل الفرح والسرور على قلبه، وهذه الآية تدخل في كلِّ شيء: الحاكم والمحكوم والكبير والصغير والقوي والضعيف.
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، فقد ترى الخير والمكافأة للخير في الدنيا والآخرة وقد ترى المكافأة على الشرِّ في الدنيا والآخرة.

قصة في العقوق:
يقال أن ابناً كان عاقاً لوالده، وقد كبر والده وصار عاجزاً وملَّ خدمة والده، ولم يكُن مِنَ الأولاد الموفَّقين، حمانا الله مِنَ الشقاء والعقوق، فقال لوالده يوماً: سآخذك في نزهة، فأركبه وخرج به وقطع عشر كيلو متراً أنزله بقرب صخرةٍ وأدارَ ظهره وعاد، ليتخلَّص منه ويموت جوعاً وعطشاً وضياعاً، الوالد عرَفَ بذلك، فلما أدار الولد ظهره ورجع ناداه وقال له: يا بنيّ أنا عرفت ما تُريد وأنا راضٍ بقضاء الله، لكن هل تُكمِلُ معروفك وتضعُني عند تلك الصخرة التي بيني وبينها عشرون متراً، فقال له: ما الفرق بين هنا وهنا، فقال له: لأنني في الماضي فعلت هذا بوالدي لكن وضعته عند تلك الصخرة ليكون جزاءً وفاقاً.

جزاء السيئة مثلها:
(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ويقال أيضاً: بأن شخصاً صالحاً وكانت له زوجةٌ صالحة، وكان يستقي الماء بواسطة السقاء، يُحضر لهم الماء على ظهر الدابة إلى بيتهم، وصاحب البيت يبيع النسائيات: الحَلَق والأشياء النسائية والأساور وكذا.. فصاحب الدار -بائع الأشياء النسائية- أتت إليه امرأةٌ وطلبت بعض الأسوار فأعطاها، أتت لتلبسهم فوجدتهم ضيِّقين، قالت له: هلّا ساعدتني، فجاء يريد أن يلبِّسها، فرأى أيديها طريةً فصار يعصُّ ويكبِس لكن بنيَّةٍ مغشوشة، في الأصل لا يجوز أن يعمل الإنسان هكذا عمل، الخلاصة: حتى أنهى عمله، لكن بنفس الوقت في البيت السقاء كان رجلاً صالحاً وأميناً وبعيداً عن كلِّ سوء ظن، في العادة يطرق الباب فيفتحون له طريق فيُفرِّغ القُربة في البرميل وكذا.. فبحسب العادة دقَّ الباب ودخل بلا استئذان وأمسك بيدي صاحبة البيت وصار يلمسهم مثلما فعل زوجها بالزبونة المشترية، على غير العادة عشر سنين وخمس عشرة سنة لم أرَ مِنَ السقاء إلا كلَّ استقامةٍ وورعٍ وتقوى واحتياط، فقالت: إلا يكون زوجي قد عمِلَ عملاً ما.. جاء الزوج في السماء فقالت له: اصدُقني هذا اليوم ماذا فعلت؟ قال: بعتُ واشتريت، فقالت ليس عن البيع والشراء، ماذا فعلت مع الله مِنْ ما يُحب وما لا يُحب؟ قال لها: صلينا الظهر والعصر والمغرب، فقالت: ليس عن هذا أسألك، ماذا فعلت مِنَ الطرف الثاني، لم أقُم بشيء، قالت: لا، تكلم الصدق، لأنني قد اطلعت، قال: والله جاءتني امرأةٌ واشترت أساور وقالت لا تستطيع أن تلبسهم فصرت ألمسها ولكن بشهوة نفسٍ ونيةٍ غير سليمة، قالت: إذاً دقةً بدقة ولو زدت لزادَ السقا، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
من يزنِ يُزنى بِه ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهَمِ
{ [الإمام الشافعي] }
والله عزَّ وجلَّ لا يستعجل في محاكمة المُذنب والمُجرم:

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
[سورة فاطر]

إذا حان وقت التنفيذ (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا) يعرف ذنبك وجريمتك ويعرف متى وكيف يُقاصصك ويُعاقبك.

سورة الزلزلة سورة جامعة
فلنقرأ سورة الزلزلة والتي سمَّاها الأعرابي الجامعة، لما قرأها النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الأعرابي قال: كفَتني كفَتني يا رسول الله، لا أريد الحواميم ولا الراءات ولا المُسبحات، هذه السورة المختصرة تكفيني، فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ أفلَح َالرُّويجل أفلَحَ الرُّويجل إن صَدَق }

[رواه الإمام أحمد]

فهل تكونون أنتم مثل هذا الأعرابي؟ تفهمون القرآن وتعزِمون على فهمه كما أراد أن يفهمه؟ تعزِمون على قراءة القرآن كما أراد هذا الأعرابي أن يقرأه؟ مع أننا إذا سألناه عن حروف القلقلة والمد المنفصل والمتصل والإدغام الناقص والكلمة المثقلة والحرف المثقل والقراءات السبعة والعشرة فهل يعرف؟ لكن يعرف كيف يفهم القرآن ويعمل به، فهل يا تُرى نُوطِّن أنفسنا على أن نتفقَّه في الدين هذا الفقه الذي كان أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يتفقَّهون على أساسه وقاعدته:

{ ومن يُرِدِ اللهُ به خيرا يفقههُ في الدينِ }

[صحيح البخاري]

هذا الفقه ماذا كانت نتيجته؟ الأغنياء ضمِنوا الفقراء، فلا فقيرٌ عارٍ ولا فقيرٌ جائع ولا سجونٌ لأنه لا جناة ولا مجرمين، ولا شرطة ولا رجال أمن ولا مخابرات لأن الناس تزكَّت نفوسهم وطَهُرَت قلوبهم وامتلأت بالحكمة عقولهم ورؤوسهم.

الحاجة إلى العلماء :
نحن بحاجة إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء؟ لا علماء أشدُّ الناس عذاباً وهو عالم لم ينفعه الله بعِلمه، إذا لم ينتفِع فهل يستطيع أن ينفَعَ الآخرين؟ فكونوا يا إخواني وأخواتي ذلك الإنسان الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام:

{ ألا أخبرُكُم بالأجوَدِ الأجوَدِ اللَّهُ الأجَودُ الأجوَدُ وأنا أجوَدُ بني آدمَ وأجوَدُهم من بعدي رجلٌ علمَ علمًا فنشرَ عِلمَه يبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً وحدَهُ ، ورجلٌ جادَ بنفسِه في سبيلِ اللَّهِ }

[مسند أبي يعلى]

(وأنا أجوَدُ بني آدمَ) يعني النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
تعلَّم مثل هذا الأعرابي سورةً واحدةً قال: كفَتني كفَتني، وسماها السورة الجامعة لكل الخير، فما أجمل أن يرجع كلُّ واحدٍ منكم لأهله مساء الجمعة أو أي ليلةٍ مِنَ الليالي، يجمع أهله وجيرانه ويُعلِّمهم سورة الزلزلة، وإذا علَّمهم الذِّكر ثم أتى بهم إلى مدرسة الذِّكر ومجلس العِلم يا تُرى هل يكون سلَكَ طريق الوصول إلى الأجود؟ وإذا حصل على الأجود يا تُرى أليس هذا أعظم مِنْ أن يحصل على مليار؟ لأن المليار سيتركه، أما الأجود إذا صدق فيه سينفعُه ويُلازمه ولا يُفارقه لا في الدنيا ولا في الآخرة، اللهم اجعلنا مِنَ الأجود.

الاجتهاد في التطبيق والتعليم
هل تعاهدونني على أن تجتهدوا ليكون أحدكم وكلُّ واحدٍ منكم الأجود؟ الذي عاهدني فليرفع يده، لا يوجد أحدٌ منكم لا يريد الأجود؟ قولاً وعملاً؟ في الجامع أم خارجه؟ يوم الجمعة أم كلّ الأسبوع؟ إن شاء الله، اللهم اجعلنا مِنَ الأجود فضلاً منك وكرماً نساءً ورجالاً وصغاراً وكباراً، تولَّى الله عزَّ وجلَّ رئيسنا برعايته وعنايته، إنه في معركةٍ ما بقيَ فيها بحسب الظاهر غيره، ينافِحُ عن شعبه ووطنه ودينه وإسلامه، وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبِه.
والحمد لله رب العالمين.