تفسير سورة التكاثر

  • 1996-06-14

تفسير سورة التكاثر

الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيِّدنا مُحمَّدٍ خاتَم النبيين والمرسلين وعلي أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخوَيه سيِّدَينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه مِنَ النبيين والمُرسلين وآلِ كلٍّ وصحْبِ كلٍّ أجمعين، وبعد:

تباهي النَّاس بالمال:
نحن في تفسير سورة التكاثر، دخل أحد أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فسمِعَه يتلو سورة التكاثر:

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
[سورة التكاثر]

(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر) ثم بعدما قرأها النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم سمِعَ ذلك الصحابي مِنَ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ يقولُ ابنُ آدمَ : مالي مالي ، وهلْ لكَ يا ابنَ آدمَ مِنْ مالِكَ إلَّا ما أكلْتَ فأفنيتَ ، أوْ لبِسْتَ فأبليتَ ، أو تصدقتَ فأمضيتَ (1) }

[صحيح مسلم]

وما سوى ذلك فهو ذاهبٌ وتارِكُه للناس.. كان العرب بل الإنسان في كلِّ زمانٍ يتباهى ويتفاخر النَّاس بعضهم على بعض بقوله تعالى:

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
[سورة الكهف]

يتباهون بكثرة الأموال والأولاد ويستهدفون مِنَ الحياة والعُمر الزيادة في الأموال ونِعَمِ الحياة التي لا بقاء لها، ما يُشغِلُهم عن الأمور الخالدة الباقية التي هي مصير كلِّ إنسانٍ ومستقبله الأبدي الخالد، فكانوا يتباهون وهذا في كلِّ زمان، يتباهى النَّاس أيُّهم أكثر مالاً ونفَراً.

الاهتمام بالأعمال الصالحة:
بينما القرآن يُنبِّهُنا أن يكون الاهتمام وعملية التكثير في الأعمال الصالحة، أن يكون معظم اهتمامنا في الأمور الباقية الخالدة، فمهما تمتَّع الإنسان بمالِه وأملاكِه وشبابِه وكثرة أنصاره وعشيرته فإنَّما هي عند الموت كلحظةٍ وحلمِ نائم، يفقدُها بلحظةٍ واحدةٍ ويبقى مُرتهناً بأعماله وما سُجِّل عليه في كتابٍ:

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
[سورة الكهف]

(لاَ يُغَادِرُ) يعني لا يترِك (صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) مِنَ الأعمال (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
فكان العرب في الجاهلية يتباهَون بآبائهم وأجدادهم الأحياء منهم والأموات حتى يذهب بعضهم إلى المقابر ويعدُّون آباءهم في القبور الذين كانوا يُعتزُّ بهم وكان لهم شأن، يتفاخرون ويتكاثرون حتى أنهم يتفاخرون بقبورهم وسكانها، وأيضاً يوجد تكاثرٌ وتفاخرٌ بالأموال والجاه، والله عزَّ وجلَّ في تعاليم القرآن أمرنا أن نكون بعيدين عن الأمور الزائلة مستمسِكين بالأمور الباقية الخالدة، يقول مثلاً القرآن العظيم:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
[سورة الحديد]

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ) في الطفولة لا يعرف الإنسان إلا اللعب، وعندما يكبُر ويصير في المراهقة (وَلَهْوٌ)، ولما يصبح شاباً (وَزِينَةٌ)، ولما يتجاوز العشرين والثلاثين والأربعين (وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ) واحدٌ يُرِي عضلاته والآخر بالمسابقة والآخر بحملِ الأثقال والآخر بكثرة الأموال (وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ).

خلاصة الأمور التي نهتم بها في الدنيا:
قال فكلُّ هذه الأمور التي هي موضع اهتمامكم ومشاغِلِكم في أعمالكم خلاصَتها:
(كَمَثَلِ غَيْثٍ) مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) الكُفَّار هم الزُّراع، ومنه تُسمَّى القرية كَفْراً مثل كَفَر سوسة وكَفَر بطنا، (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ) الزَّراع (ثُمَّ يَهِيجُ) في بداية خروج الزهر يخرج يفرح الفلاح ويُري أصحابه هذا الزرع، انظروا إلى الشجرات وكذا.. (ثُمَّ يَهِيجُ) ثم يصبح سَبلاً (فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ) يأتي الحصَّاد والدرَّاس والطحَّان والخباز والآكل ثم يصير إلى ما هو معلوم (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)، كذلك شبابك ومالك وجاهك وحُكمك وسلطانك ووظائفك، (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا) وهو لا يصبح مصفراً بل يصبح شعره أبيض، (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) في القبر، المصير الأبدي والحقيقي والخالد (وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) عذابٌ شديدٌ أبديٌّ مُخلَّدٌ (وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ) لمن تاب واستغفر (وَرِضْوَانٌ) لمن اتقى وأطاع وسابَقَ إلى مغفرةٍ مِنْ ربِّه، (وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) حياتك في هذا العالم (إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور) تتمتَّع بها قليلاً وهو متاعٌ يغرُّك عن تذكُّر عالَم الخلود والبقاء السرمدي والنعيم الخالد والشباب الذي ليس بعده هرمٌ، والصحة التي لا يُرافقها السَّقم ولا المرض، في نعيم:

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ (18)
[سورة السجدة]


في سورة التكاثر تحذير من أن تكون من المغبونين:
فهذه السورة سورة التكاثر هي تنبيهٌ مِنَ الله ودرسٌ أن احذروا أن يُلهيكم تتبُّع المال أو الحرص على كثرة الأنصار والأولاد، أن يُلهيكم عن الأمور الخالدة وأمور المستقبل الدائم الذي لا يزول ولا يفنى، فمن باع خالداً بمؤقتٍ ومن باع الجوهرة بالتراب هذا مغبونٌ وجَهول.
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر) سواءً بالآباء والأجداد ومفاخِرِهم، ما الفائدة إذا تفاخَرنا بآبائنا وأجدادنا وفتوحاتهم وانتصاراتهم وعُلومهم، المهم أين وماذا فعلت وماذا ستفعل، كأنَّ الله يقول: لا يُلهكم التكاثر بل كونوا في العمل المستمر المتواصل، (من استوى يوماه) إذا كان عملك اليوم كالبارحة (من استوى يوماه فهو مغبون) مثل الذي يشتري الشيء بأكثر مِنْ ثمنه أو باعه بأقلَّ مِنْ ثمنه فهذا اسمه مغبون.

{ من استوى يوماه فهو مغبون، ومن لم يكن يومه خيراً من أمسه فهو محروم (2) }

[حلية الأولياء لأبي نعيم]

ما معنى هذا الكلام؟ أن المسلم ينبغي أن يكون في كلِّ يومٍ بل في كلِّ ساعةٍ في زيادةٍ في العِلم والعمل الصالح والخُلق وتزكية النفس وفي عمل الخير، أما أن تبقى كما كنت ولو كنت على صلاحٍ وتقوى فالإسلام يدعوك دائماً إلى الزيادة، أيُّ دينٍ هذا يا بُني؟

التجويد الحقيقي للقرآن:
فتجويد القرآن هو تجويد النطق، فهل تعلَّمنا تجويد فهمِه؟ هل تعلَّمنا تجويد العمل به وكيف نُعلِّمُه للآخرين بأقوالنا وأعمالنا وإخلاصنا وصِدقنا لنكون خير أمةٍ أُخرجت للناس؟

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
[سورة السجدة]

(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) يعني قدوةً تقتدي بها الأمم والشعوب (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) بشرعنا وتعاليمنا ووحينا (لَمَّا صَبَرُوا) تحتاج صموداً وثباتاً واستقامة (لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا).. هل قال: "لا يؤمنون"؟! بل قال: (وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون)، لو أخبركم أحدٌ أن الشَّيخ في المسجد وهو صادقٌ تُصدِّقُ كلامه، فتصديقك لكلامه هذا إيمانٌ بالغيب، أما إذا أتيت المسجد ورأيت الشَّيخ في المسجد هذا إيمانٌ أم يقين؟ هذا يقين، فالقرآن يُعلِّمُنا أن لا نكون قدوةً وقادةً للناس إلا (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) أي يُعلِّمون، (بِآيَاتِنَا) بتعاليم الله، فمن أعظم علماً وحكمةً ورحمةً مِنَ الله عزَّ وجلَّ؟ وإذا كان الله أستاذك ومُعلِّمك ومُرشدك فهل تعلَّمت تجويد فهم القرآن؟ هل تعلَّمت تجويد العمل بالقرآن وتجويد معاني القرآن؟ الحديث النبوي:

{ ألا أخبرُكُم بالأجوَدِ الأجوَدِ اللَّهُ الأجَودُ الأجوَدُ وأنا أجوَدُ بني آدمَ وأجوَدُهم من بعدي رجلٌ علمَ علمًا فنشرَ عِلمَه يبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً وحدَهُ ، ورجلٌ جادَ بنفسِه في سبيلِ اللَّهِ }

[حلية الأولياء لأبي نعيم]

(ألا أخبرُكُم بالأجوَدِ) الأفضل الأكثر عطاءً، (اللَّهُ الأجَودُ الأجوَدُ وأنا) يعني النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم (وأنا أجوَدُ بني آدمَ)، فالله عزَّ وجلَّ لم يستأثر الجود لنفسه ولا لنبيه، ترك كذلك حصةً لما بعد الله ورسوله، قال: (وأجوَدُهم من بعدي) أجودهم بعد الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم (رجلٌ) يعني إنسانٌ ولو كان امرأةً (علمَ علمًا فنشرَ عِلمَه يبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً وحدَهُ) (3).

أثر الإسلام في حياة العرب:
ما هذا الدين الذي لما عرفه أبناء الصحراء والبادية وجوَّدوه وأجادوا عِلْمَه والعمل به ماذا كان عمَله فيهم؟ نقَلَهم مِنْ جياعٍ وعراةٍ ووثنيين ومُتحاربين إلى أباطرةٍ وملائكةٍ إلى أن صاروا جَمال الدنيا وجَمال عصرهم ودهرهم وجَمال الإنسانية والتاريخ، ولم يكن هناك مصحفٌ مجموعٌ فيه كلُّ السُّور، كانوا يحفظون بعض الآياتٍ وبعض السُّوَرٍ مكتوبةً على الأحجار أو على أوراق النخيل، لكن كان مُعلِّمهم وأستاذهم إمام الأنبياء والمرسلين، صحِبُوه وآمنوا به وأحبوه حتى كان أحبَّ إليهم مِنْ أرواحهم التي بين جنبيهم و:

{ المرءُ على دينِ خليلِه فلينظُرْ أحدُكم من يخالِلُ (4) }

[مسند أحمد]


تقديم الدنيا على الآخرة:
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر) هذا عتابٌ وتوبيخٌ وزَجرٌ للإنسان أن لا يٌلهيه العمل بالمال أو الجاه أو أمور الدنيا عن أمور الآخرة، أما إذا عمِلَ لدنياه ولم يُضيِّع آخرته بل جعل الآخرة:

وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4)
[سورة الضحى]

قدَّم الآخرة على الدنيا:

{ إنك لن تدَعَ شيئًا اتَّقاءَ اللهِ إلا آتاك اللهُ خيرًا منه (5) }

[حلة الأولياء لأبي نعيم]

نحن دائماً نقرأ سورة التكاثر فهل جوَّدنا النطق بها؟ القلقلة والمدود والإدغام بغُنةٍ وبلا غُنة.. لكن هل فهمناها كما نفهم الذهب والفضة فنحرِصُ على اكتسابهما والحفاظ عليهما؟ هل فهمنا هذه الآية لنعمل بمقتضاها والغاية مِنْ تلاوتها؟ لا نلتهي بالتكاثر ولا نُلهي قلوبنا وعقولنا بأمور الدنيا عن طلب الآخرة والعمل لها.

{ ليسَ بخيرِكم منْ ترك دنياهُ لآخرتِه، و لا آخرتَه لدنياهُ، حتى يصيبَ منهما جميعًا }

[ضعيف الجامع للألباني]

(ليسَ بخيرِكم) وأفضلكم (منْ ترك دنياهُ لآخرتِه، ولا آخرتَه لدنياهُ، حتى يصيبَ منهما جميعًا)(6)، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع عظيم مقامِه ومكانته كان نبياً وإمام مسجدٍ وخطيباً وقائداً للجيوش وسياسياً عظيماً ومُعلِّمَ الاجتماع وإنسانياً وربَّانياً و:

تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16)
[سورة السجدة]

وكانت الآخرة خيراً له ولأصحابه مِنَ الدنيا فأتتهم الدنيا على أقدامهم بكل ما تملك مِنْ ذهبٍ وفضةٍ ومُلكٍ وأباطرةٍ وذلَّل لهم ملوك المشارق والمغارب.

العمل بمفهوم ومطلوب القرآن:
فما أحوجنا نحن العرب والمسلمون لأن نتعلَّم تجويد القرآن، لا تجويد النطق بكلماته وحروفه، الشريط المسجل يجوِّد الكلمات أحسن تجويدٍ وبأحسن الأنغام، لكن هل المُستمع جوَّد فهم وأجاد فهم كلام الله؟ هل جوَّد وأجاد العمل بمفهوم ومطلوب القرآن؟ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر) هذا عتابٌ وزجرٌ ونهيٌ على أن لا تُلهِكم أموالكم ولا أولادكم عن ذِكْرِ الله:

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
[سورة طه]

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا (103)
[سورة النساء]

هل فهمنا تجويد هذه الآيات فهماً وعملاً ثم تعليماً وإرشاداً للآخرين؟ أي فائدةٍ إذا كنت فقيراً مفلساً وقُدِّمَ لك شيكٌ بمئة ألف دولار وأجدت النطق به فصرت تُقلقل حروف القلقلة وتمدُّ حروف المدود وتغنُّ حروف الغُنة والذي بلا غُنة لا تغنُّها وأنت جائعٌ عارٍ تنام في الشوارع والأزقة، وتقول أنا حفظت الشيك عن ظهر قلب، فمَنْ يسمعك ما تلفِظ وتنطِق ويراك نائماً على الأرصفة بالثياب الوسخة المُرقَّعة ويرى الشيك بيدك وأنت تُقبِّلُه ماذا يقول عنك؟ هكذا حال المسلم الذي يجيد قراءة أحرف وكلمات القرآن ولكن لا يُجوِّد ويُجيد فهمها ولا العمل بها ولا التعليم لها.
النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم علَّمنا أن نكون في الوقت نفسه مُعلِّمين ومُتعلِّمين:

{ ليس مِنِّي إلا عالمٌ أو متعلمٌ }

[ضعيف الجامع للألباني]

{ إنما النَّاس صنفان عالم ومتعلم ولا خير في من سواهما (7) }

[مسند الفردوس للديلمي]

والعِلم في الإسلام ما يشمَل أمور الدنيا والآخرة.
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر) أنا عندي أولادٌ وأموالٌ وأراضٍ أكثر، أراضيَّ أكثر مِنْ أراضيك وأولادي أحسن مِنْ أولادك، فأين تفاخُرك وتكاثُرك بالأعمال الصالحة؟

خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
[سورة المطففين]

رأيته يفعل الخير فافعل أكثر منه، رأيته يعمل الصالحات فاعمل أكثر منه، (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر) هذا عتابٌ وتوبيخٌ إلهي:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
[سورة المنافقون]

(لَا تُلْهِكُمْ) الأموال والأولاد وأمور الدنيا عن العِلم والتقوى والاستعداد للدار الآخرة وأداء ما فرض الله عليكم في أنفسكم وأهليكم وعشيرتكم ومَنْ حولكم، لا يُلهكم التكاثر عن العِلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو قرأنا السورة مليار مرةٍ ونحن يُلهينا التكاثر بالأموال والأولاد والأنساب والشهادات عن ذِكْرِ الله والدار الآخرة وأداء الواجبات في أخلاقنا وأعمالنا وحياتنا ودنيانا.

أهمية إعداد العدة :
ألهَتنا الدنيا عن التكنولوجيا التي تُعطينا القوة:

وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
[سورة الأنفال]

ما الفائدة أن نتباهى بمعركة بدر واليرموك والقادسية ونحن أمام حَفنةٍ مِنَ اليهود في الحالة التي كلنا يعلمها؟ سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه لما تولى الخلافة وجهَّز الجيوش لفتح الأردن وفلسطين ولبنان وسوريا ووزَّع المدن على قادة الجيوش، يقول لأحدهم: أنت أمير حمص، وأنت أمير الشام، وأنت وأنت.. مثلما يتقاسم الغرب الآن بلاد العرب والمسلمين، عقِب الحرب الأولى تقاسموا كل كنوزنا وخيراتنا، عكس ما كان أبناء القرآن وتلامذته النجباء الذين علِموا القرآن تلاوةً وفهموه عِلماً وطبَّقوه عملاً وعلَّموه بأقوالهم وأعمالهم.

موقف المسلم من هذه السورة:
فيا تُرى الآن ونحن في تفسير هذه السورة وبعد الدرس هل سيُلهيكم التكاثر عن الواجبات الإلهية أم ستُشغَلُون بالواجبات الإلهية وتُؤدُّونها أحسن الأداء بحيث لا تُلهِكُم أموالكم ولا أولادكم ولا التكاثر بالأموال والأولاد، هل أنتم مُستعدون أن تُؤمنوا بها؟ مَنْ يُؤمن بالسُّم يشربه أم يرميه؟ والذي يُؤمن بالأفعى هل يجعلها مسبحةً أم ربطة عنقٍ أم لفةً على قبعته يكون طولها متراً أو متراً ونصف؟ مُقتضى العِلم العمَل بما يقتضيه العِلم، مُقتضى الإيمان أن تعمل بما تُؤمن به، هذا آمنتَ أنه سُمٌّ فتبتعد عنه أو أنه عسلٌ فيه شفاءٌ للناس.

ضرورة قيام الإنسان بواجباته الإسلامية القرآنية الربانية:
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر) فما رأيكم هل ستُصِرُّون الآن أن تلتَهُون بأمور دنياكم عن واجباتكم الإسلامية القرآنية الربانية؟ لا، الله عزَّ وجلَّ جعل الإنسان يستطيع أن يؤدي واجباته بجسده، لدينه وأهله لأهل الحقوق عليه، لا يُضيع شيئاً مِنْ أجل شيءٍ آخر، فهل تُؤمنون بسورة التكاثر؟ لتلتهوا بالتكاثر أم عتبٌ مِنْ الله وزجرٌ ونهيٌ أن لا تلتَهوا بالتكاثر ولا تُضيِّعوا فرائض الله ولا واجباته في أبدانكم وأموالكم وعباداتكم وفي العِلم والتعليم والدعوة لله وذِكْرِ الله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
[سورة المنافقون]


أدب المجالسة والمُسامرة مع الأصحاب:
الآن سمعتم وفهمتم، ماذا ستفعلون بعد الخروج مِنَ المسجد؟ تستطيع إذا دخلت البيت أو ذهبت لمتجرك وعملك وفي سهرك يُلهِيك المجلس عن قوله تعالى:

لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
[سورة النساء]

(لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ) التناجي هو التحدث مع الأصحاب في المجالس والسهرات وغيرها، فالله يقول: أدب المجالسة والمُسامرة مع الأصحاب يكون بهذا الشكل: (إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) مَنْ فقيرٌ في العائلة والحي والبناء؟ (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ)ما هي النجوى؟ التناجي والتحدث للناس في مجتمعاتهم: في القهوة والسهرة .. (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) تُفكِّر في الفقير (أَوْ مَعْرُوفٍ) ماذا يوجد شيءٌ من الواجبات يتركها النَّاس فنتنادى في إحياء المعروف والواجبات وفي تذكير النَّاس بأدائها، ثلاثة: إذا أدوا الواجبات كلها قال (أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاس) مَنْ يوجد في الحي والبناء والعائلة والأصدقاء صارت بينهم جفوةٌ أو خصومةٌ أو زعلٌ أو كذا .. فيجب أن نُصلِح بينهم.

الإيمان الحقيقي بالقرآن:
القرآن أُنزِلَ ويُقْرَأُ وتشتري المصحف وتضع له الثوب المُطرز لتضعه على الجدار فقط أو تحفظ ألفاظه وتُجوِّد النطق بحروفه أم للعمل به والتطبيق له لتنقله مِنْ كلماتٍ تُكتب وألفاظٍ تُنطق إلى أعمالٍ تُبصَرُ وتُشاهد؟ هذا هو الإيمان بالقرآن وهذا هو الإسلام والإسلام معناه الاستجابة لأوامر الله والعمل بوصاياه والوقوف عند حدوده، فإذا كنت كذلك:

{ يوزَنُ مِدَادُ العلماءِ ، ودمُ الشهدَاءِ ، فيَرجَحُ مِدادُ العلماءِ على دمِ الشهداءِ }

[ابن حجر العسقلاني]

(مِدَادُ العلماءِ) حبرهم الذي يكتبون به، بدماء الشهداء، أيُّهم يكون أرجح في الميزان؟ (فيَرجَحُ مِدادُ العلماءِ على دمِ الشهداءِ)، مُعلِّم النَّاس الخير الأجود تعلَّم عِلماً فعلَّمه.
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر) هذا توبيخٌ وتأنيبٌ وزجرٌ لأهل اللهو والبطالة في مجالسهم وأحاديث سمَرِهم، يعني أيها المؤمنون لا تلتهوا بالتكاثر والأموال والأولاد عن واجباتكم العبادية أو الأخلاقية أو الربانية، فإذا أتيت واجباتك الإلهية ثم بحثت في الأمور المُباحة فلا يوجد مانعٌ أبداً، وإذا ارتقيت درجةً في مجالسك (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ) هي أحاديث النَّاس بعضهم مع بعض في القهوة والسهرة والنزهة.
أيُّ تربيةٍ في العالَم وتاريخ الإنسان رَقَتْ بالإنسان إلى مستوى القرآن؟ ماذا يُفيد الميت إذا قرأنا عليه هذه الآيات؟ (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ) هو لما كان حياً كانت كلُّ نجواه:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
[سورة المجادلة]

يسهرون بالغيبة أو النميمة أو بشيءٍ فيه معصية الله أو التعدِّي على بعض مخلوقات الله، فنحن أعداء القرآن ولو قرأناه ولو فتحنا الإذاعات على أجمل الأصوات، فالقرآن ليس للمغنى والموسيقى إنما القرآن للعِلم والعمَل والتعليم.

التكاثر يلهي الإنسان حتى موته:
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر) الله يُخاطبكم (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر) يبقون مستمرين بهذا الحال حتى تأتيه بطاقةٌ تقول تفضل يوجد زيارةٌ للمقبرة، إذا استلمه ملك الموت هل يتركه ليرجِع؟ أو إذا استلمه أنكر ونكير هل يتركانه ليرجع؟ زيارة ذهابٍ بلا إياب! فما موقفكم مِنْ خطاب الله لكم؟ هل يُلهيكم التكاثر عن واجباتكم في العبادات والمعاملات وحقوق المخلوقات؟

{ دَخَلَتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْها ، فلا هي أَطْعَمَتْها ، ولا هي تَرَكَتْها تأكلُ من خَشَاشِ الأرضِ (8) }

[صحيح البخاري]

أدخلها الله جهنم وهي إنسانٌ مِنْ أجل هرةٍ لا يضعها أحدٌ في الميزان ولا المكيال، فهل نبقى مُتلاهين غافلين وغير مكترثين بكلام الله لا فهماً، لما نقرؤه نقرؤه لنحاول فهم المقصود منه، وإذا فهمنا هل نُشمِّرُ لنحوِّله مِنْ فهمٍ وعِلمٍ إلى عَمل؟ وإذا عملنا هل نُشمِّر لنُعلِّمه للآخرين بأقوالنا وأعمالنا؟ حتى لا نقع تحت هذا العتاب الإلهي، (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر) لا يا ربي، نحن والحمد لله لا يُلهينا المال ولا الولد كما أمرتنا:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10)
[سورة المنافقون]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) والذي يُلهيه المال والولد والتكاثر (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ) يبقى في هذا اللهو (فَأُوْلَئِكَ هُمُ) الرابحون الفائزون المنتصرون؟

اجعل ما آتاك الله في سبيل الله:
(فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم)رَزَقك المال والشباب والعِلم أنفق منه، الزكاة وحُلَّ المشاكل وأصلِح بين النَّاس، جعلنا الله مِنَ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فأنتم ألهاكم أم لا؟ إذا قرأت هذه الآية تقول: لا يا ربي أنا لن يُلهيَني لا المال ولا التكاثر فيه.

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
[سورة الحديد]

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ) إلى أن قال(وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) لمن يلتهي، (وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ) لمن ينظر في كتاب الله نظرة الجِد والإيمان الصادق والعمل المُخلص، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) بشبابها وغناها وسلطانها (إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور) تتمتع بها قليلاً وتغتَرُّ بها وتظنُّ أنها خالدةٌ دائمةٌ فإذا في لحظةٍ واحدةٍ مثل تيار الكهرباء وتنطفئ كلُّ الأنوار فتبقى الأنوار والشوارع في ظلامٍ دامس.
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر) أجيبوا الله، والله نحن غافلون ولكن نُشهِدك على أنفسنا الآن فهمنا، كنا نقرأ ولا نفهم ولا نقصد الفهم، لكن الآن وُفِّقنا إلى أن لا يُشغِلَنا ويُلهينا عن ذِكرِك وعن أداء الواجبات لا التكاثر ولا أي شيءٍ في هذه الحياة.

زجر الله عزَّ وجلَّ للغافلين:
(كلا) هذا حرف ردعٍ وزجر، يعني استحِ على نفسك، أليس عيباً عليك وأنت لا زلت في هذا اللهو وقد ابيضَّ شعرك وانحنى ظهرك وقُلِعَت أسنانك! وقد يأتيك الموت قبل أن يبيضَّ منك الشعر وقبل أن تُقلَع منك الأسنان:
فكم صحيح مات قبل سقيم ذهبت نفسه النفيسة فلتـــا اغتنم في الفراغ فضل ركـوع فعسى أن يكون موتك بغتا
{ الشافعي }
(كلا) يعني انتهوا واتركوا هذا اللهو وهذه البطالة وهذا النسيان وعدم الاعتناء بأوامر الله ووصاياه وكتابه، تعلَّموها واعملوا بها وعلِّموها، مستعدون دائماً للنُّقلة التي لا رجعة فيها، (كلا) ما هي؟ يعني مثل شدة الأذن لا تلتهِ مرةً أخرى بالتكاثر، فليكن عملك بأداء فرائض الله، وما معنى ذلك أن نترك الدنيا ؟ لا..

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة النحل]

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
[سورة القصص]

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

ما أعظم القرآن يا بُني! غلادستون رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العالمية الأولى في مجلس البرلمان مجلس العموم، أخذ المصحف بيده وقال: ما دام هذا المصحف في يدِ المسلمين فلن نستطيع هزيمتهم، ليس المقصود مِنَ المصحف الورق تضعُه في يدك، بل أن تضع معانيه في قلبك غذاءً وطاقةً وتحوِّلَ النطق إلى قرآن العمَل والمسيرة والأخلاق.

المجنون من يعصي الله:
(كلا) يعني انتهوا عن هذا اللهو والبطالة، (سَوْفَ تَعْلَمُون) أنكم في غرورٍ في هذا اللهو وهذه البطالة، تمسَّكتم بالفانيات وأهملتم الباقيات، أصغيتم إلى نداء النفس والشيطان وأعرضتم عن نصائح الله ووصايا القرآن، (سَوْفَ تَعْلَمُون) أنكم بهذا العمل خسِرتم خسارةً كبيرةً وبِعتم الغالي الأعظم بالرخيص الأحقر، (ثُمَّ كَلاَّ) ارتدعوا يكفيكم غفلةً ولهواً وإضاعةً للعمر ولواجباتكم وإيمانكم وإيثاراً للجهل على العِلم، (ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون)، (كلا) استحوا على أنفسكم واخجلوا وارجعوا عن البطالة والغفلة، نقرأها ألف مرةٍ ولم نفهمها ولا مرة، قرأنا الشيك ألف مرةٍ في الأسواق والإذاعات أيضاً ويعطون هذا المتسول والكشكول معه وملابسه ممزقةٌ ويقرأ الشيك! ويبقى في البرد والحر، ما هذا المجنون؟
هذه مثل القصة التالية: يقال: سمِعَ رجلٌ أن الذي يأكل السمك ويشرب اللبن يوم الأربعاء يُجَنُّ، فقال لهم: هذا غير صحيح، فبعد النقاش قال: سأجرب بنفسي، فيوم الأربعاء اشترى السمك وأكل اللبن مع السمك، وذهب للحمام يوم الأربعاء، فلما انتهى خرج مِنَ الحمام بلا ثياب، يعني عارياً، وصار يمرُّ في الأسواق ليُثبِتَ لهم أن لا صحة لأن من يأكل السمك يوم الأربعاء مع اللبن ويدخل الحمام ويُجَنُّ، ها أنا ذا أكلت السمك وشربت اللبن ودخلت الحمام ويوم الأربعاء والحمد لله على سلامة العقل والدين وهو أمام النَّاس ربي كما خلقتني من الأمام ومن الخلف، هذه المصيبة، المجنون يظن أنه عاقل وفهيم، وقد ورد في الأثر أن: (المجنون من يعصي الله) (9).

التصديق بوعود الله:
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر) أليس عيباً عليكم؟ عن ماذا يُلهيكم؟ عن ذِكْرِ الله في غناك وغضبك ومطامعك وبيعك وشراءك، لما تقرأ كلام الله، لما تسمع كلاماً مِنْ شرطيٍّ تسمعه حرفاً بحرفٍ ولا تُضيع أي كلمة، ومِنَ الطبيب لما يُكلِّمك تسمع كلامه تأكل كذا وتترك كذا والدواء كذا والنوم كذا، تحفظه وتُطبِّقه بتمامه، فهل الله أرخص مِنَ الطبيب والشرطي في نظرك؟ هل هذا هو الإيمان الذي وعد الله أصحابه بجناتٍ تجري مِنْ تحتها الأنهار؟ يجب أن نستيقظ مِنْ رقدَتِنا وغفلتنا، وأرجو الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر)؟ لا يا ربي، بحولك وفضلك وكرمك كنت مِنْ قبل ألهو بالتكاثر لا بالمال ولا بالأولاد بل بالبطالة والكلام الفارغ والغيبة والنميمة والطَّعن بالنَّاس، بدل مِنْ أن يكون مجلسك مجلس عِلمٍ وذِكرٍ وفضائلٍ وأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكر.

تأثير فهم القرآن الحقيقي على المؤمن:
كيف صار العرب سادة الدنيا؟ بهذه التعاليم يا بُني، سورة التكاثر، لم يكتفوا بأحرفها أو النطق بكلامها وكلماتها بل حوَّلوها إلى أعمال، (أَلْهَاكُمُ) لا تلتهوا فلم يعودوا يلتهون، فكانوا:

تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ (18)
[سورة السجدة]

الله يسألنا، هل يُعامَلُ هؤلاء معاملةً واحدة؟ هذا مثل هذا؟ الطالب النجيب في آخر السنة الذي يُجيب على كلِّ الأسئلة مثل الذي لا يُجيب على أيِّ سؤال؟ هل يَستوون؟

أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
[سورة السجدة]

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) وخرجوا عن صراط الله إلى معصيته (فَمَأْوَاهُمُ النَّار كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّار الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُون).

مقتضيات الإيمان اليقيني :
(كلا) ما معناها؟ يعني استحيوا مِنْ أنفسكم وارتدعوا ويكفيكم لهواً وإهمالاً وتضييعاً لأوامر الله وفرائضه في العبادات والمعاملات والأخلاق والعِلم والذِّكر، (ثُمَّ كَلاَّ) استحيوا من أنفسكم، كم مرة؟ (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُون) أنكم مُخطئون وخاسرون في ممشاكم الذي تقضون به حياتكم، (كَلاَّ) ثلاثة مرات، هل فهمت؟ ثم هل فهمت؟ ثم هل فهمت؟ أنت لا تفهم شيئاً، (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين) والعِلم بمعناه الحي هو الذي يُعطي اليقين، إما أن تسمعه مِنْ مُخبرٍ لا يكذب فهذا إيمانٌ بالغيب لأنه صادقٌ مُصدَّقٌ صدَّقته، ولكن هو غائبٌ عنك -الخبر والمُخبَرْ عنه- وإما يقينٌ بأن تشهد الشيء الذي أُعلِمْتَ به، هذا ماذا يكون؟ اليقين، قال: (كَلاَّ) يعني ارتدعوا عن لهوكم بأمور البطالة عن الواجبات عِلماً وعملاً وتعليماً، (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين) لو صار علمكم يقينياً لا شكَّ فيه (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم) حتى تصير الدار الآخرة والوقوف بين يدي الله والحساب على الأعمال مثقال ذرةٍ خيراً وشراً.
(لَوْ تَعْلَمُونَ) لو تؤمنون بالقرآن الإيمان اليقيني (لَتَرَوُنَّ) كأن القيامة أمامكم تشاهدونها والنَّاس يدخلون واحدٌ يأخذ كتابه بيمينه إلى الجنة والآخر بشمالِه إلى جهنم، لما ترى هذا المنظر هل تستطيع أن تعمَل مِنْ معاصي الله ما يُخسِّرك الخسارة الأبدية؟ (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين) لو آمنتم الإيمان الحق بالقرآن لترونَ كأن الدار الآخرة أمامكم والميزان ومحاسبة الله لأعمالكم أمامكم، عند ذلك لا تستطيعون معصية الله ولا طرفة عينٍ لا بالقول ولا بالنظر ولا بالسمع ولا بالمال ولا بالجاه، (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين) المقصود مِنَ العِلم اليقين أم الشك؟ والله فهمنا لكن لم نعلَم، إذاً عِلمك ليس يقيناً بل هو شك، (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين) الإيمان الحقيقي يجعل الدار الآخرة كأنك تشاهدها، وفي الآخرة تشاهدها مشاهدةً عينيةً حقيقية، ترى جهنم بعينيك، المؤمن بإيمانه القوي يرى الجنة والآخرة بإيمانه الصادق أو بمرآة قلبه:

أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (22)
[سورة الزمر]


حقيقة الإيمان:
أتى أحد أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد سأله كيف أصبحت؟ فقال: مؤمناً حقاً، قال له: إن لكلِّ قولٍ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ توجد دعوى.. كأن تقول أنا مليونير هذه دعوى، وتوجد حقيقةٌ أن تكون تملك المليون أو المليار أو إلى آخره.. فما حقيقة إيمانك؟ قال: أصبحت كأني أنظر إلى ربي في عرشه، فإذا كان أحدهم أمام مدير المخابرات أو الشرطة أو يقود السيارة ويوجد شرطيُّ سيرٍ أو إثنان أو ثلاثة هل يستطيع أن يمشي على شماله؟ وإذا كان يعلم:

أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14)
[سورة العلق]

فإذا صار عنده عِلمٌ بأن الله يرى هل يستطيع أن يعصي الله؟ هذه تحتاج تربيةً قلبيةً وتحتاج صُحبة أولياء الله وصدق الارتباط بهم يعني صدق الحب، إذا لم تُحب لن تنتفع، النجار إذا لم يُحب مُعلِّمه لا يتعلَّم النجارة، لا يأتي لعنده يقول: لا أحبه، كيف سأذهب لرجلٍ لا أحبه؟ وإذا أحبه يصير يكنُس أمام دكانه ويحمل العُدة عنه وإذا سبَّه يتحمل وإذا ضربه يصبِر، رزقنا الله صحبة:
"لا تصحب من لا نهضك حاله أو يدلك على الله مقاله"
{ الحكم العطائية }

العلم الحقيقي يؤدي إلى اليقين:
(كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين) لو صار عندكم العِلم الحقيقي الصادق (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم) ترون الآخرة أمامكم مثل سيِّدنا حارثة لما قال له النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ما حقيقة إيمانك؟ قال:

{ كأني أنظرُ إلى عرشِ ربى بارزًا ؛ و كأني أنظرُ إلى أهلِ الجنَّةِ يتزاوَرون فيها ، و إلى أهلِ النارِ يتعاوَوْن فيها فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه و سلَّمَ : عرَفْتَ فالْزَمْ ، عبدٌ نوَّرَ اللهُ الإيمانَ في قلبِه }

[فتح الباري في شرح صحيح البخاري]

رزقنا الله هذا الإيمان، هذا ما يسمى بمقام:

{ الإحسانُ أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه }

[صحيح البخاري]

(كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين) تؤمنون بالآخرة الإيمان الحقيقي (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم) ترون أنفسكم كأنكم في الآخرة، كأنكم بين يدي الله يُحاسبكم في الدنيا قبل الآخرة، فإذا صار عند الإنسان هذا التصوُّر فهل يستطيع أن يعصي الله أو أن يُخالف أمره؟ ثم بعدما يصير عندكم عِلم اليقين في حياتكم الدنيا (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين) في الآخرة سترونها بعيونكم.

السؤال عن النعيم:
(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم) قال صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ لنْ يزولَ قَدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسأَلَ عن أربعٍ عن شبابِه فيما أبلاه وعن عُمُرِه فيما أفناه وعن مالِه مِن أينَ اكتَسَبه وفيما أنفَقه }

[المعجم الكبير للطبراني]

(لنْ يزولَ قَدَما عبدٍ يومَ القيامةِ) لما يدخل محكمة الله إلى القاضي الرباني الذي يعلَم ما تُسرِّون وما تُعلنون لا يخرج مِنَ الجلسة حتى يُسأل عن أربع، (لنْ يزولَ قَدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسأَلَ عن أربعٍ عن شبابِه فيما أبلاه)(10) شبابك أين أذهبته؟ لا يزال صغيراً جاهلاً! صار عمره ثلاثين سنةً ولا يزال صغيراً وجاهلاً، جاهل! هذا هل هو اسمٌ يُشرِّف وعذر؟ لا يوجد أحدٌ لا يعرف الحلال والحرام، الحيوان يعرف الحلال والحرام، القط إنسانٌ أم حيوان؟ إذا كان على المائدة وأعطيته اللحمة بيدك أين يأكلها؟ يأكلها أمامك لأنه يعرف أنها حلالٌ وهو ليس لصاً، اللص ستُلاحقه الشرطة وتضع القيود بيديه وتضعه في السجن، يقول هذا حلالٌ أنا لا آكل الحرام، وإذا خطفها يركض بقفزةٍ واحدةٍ على الدرج إلى السطح، فالحيوان يعرف الحلال من الحرام، رزقنا الله الإيمان.

{ إذا سرَّتك حسنتُكَ، وساءَتك سيَّئتُك فأنتَ مؤمِنٌ (11) }

[أخرجه أحمد]

(لن تزولا قدما عبد بين يدي الله حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن عِلمه).

تبليغ العلم:
الآن سمعتم الدرس سورة التكاثر، (وعن عِلمه ماذا عمل به)، فما رأيكم؟ يعني سماعكم لتفسير التكاثر ستربحون أم ستخسرون؟ إذا عملتم وطبَّقتم وانتبهتم مِنْ غفلتكم وذكرتم الله في أعمالكم ووقفتم عند حدوده فلم تتجاوزوا الحلال إلى الحرام وأدَّيتم فرائضه فلم تتقاعسوا وراقبتم الله في كلِّ شؤونكم صغيرها وكبيرها فلا يوجد شكٌ أن الله عزَّ وجلَّ إن شاء الله يشحننا برحمته، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعلنا اللهم هادين ومهديين:

{ لَإِنْ يَهدي اللَّهُ بكَ رجلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ }

[أخرجه أحمد]

(لَإِنْ يَهدي اللَّهُ بكَ رجلًا) وإنساناً (واحدًا خيرٌ لكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ)(12)، ألا يستطيع الواحد منكم أن ينقل صديقه بأسبوعٍ مِنَ الظلام إلى النور ومِنَ الجهل للعِلم ومِنَ الغفلة للذِّكر؟ ليلة الجمعة أو مساء السبت، يجمع أهله وجيرانه في البناء أو الحارة ويقرأ لهم سورة التكاثر ويكون تعلَّم عِلماً فعلَّمه فصار الأجود فيُحشر يوم القيامة أمةً وحده، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.

الحواشي:
(1) صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، رقم: (2958)، رقم: (2959).
(2) حلية الأولياء لأبي نعيم، (8/35).
(3) مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176).
(4) مسند أحمد، رقم: (8417)، (4/142)، مسند الطيالسي، رقم: (2696)، (4/299).
(5) حلية الأولياء لأبي نعيم، (1/253)، وفي مسند أحمد، رقم: (23074)، (38/170)، بلفظ: ((إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلَّهِ إِلَّا بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ)).
(6) تاريخ دمشق، لابن عساكر (65/197).
(7) مسند الفردوس للديلمي، (3/419).
(8) صحيح البخاري، كتاب المساقاة: باب فضل سقي الماء، رقم: (2365). صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب: باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها، رقم: (2242).
(9) القصة كما وردت عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ إِذْ مَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: مَجْنُونٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الْمَجْنُونُ الْمُقِيمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَكِنَّ هَذَا رَجُلٌ مُصَابٌ)) الفوائد الشهير بالغيلانيات لأبي بكر الشافعي، رقم: (400)، (1/376).
(10) المعجم الكبير للطبراني، رقم: (111)، (20/60)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (1648)، (3/278).
(11) أخرجه أحمد في مسنده، رقم: (22166)، (36/ 497)، المستدرك للحاكم، رقم: (33)، (1/ 58)، قال الذهبي في التلخيص: تابعه معمر وعلي بن المبارك وهو على شرطهما، المعجم الكبير، الطبراني، رقم: (7540)، (8/ 117)، شعب الإيمان، البيهقي، رقم: (5362)، (7/ 497).
(12) صحيح البخاري، 4210.