تفسير سورة الطارق 02

  • 1995-10-27

تفسير سورة الطارق 02

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصَّلاة وأتم التسليم على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّدٍ سيِّد الأولين والآخرين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخوَيه سيِّدينا موسى وعيسى، وآل كلٍّ وصحْبِ كلٍّ أجمعين، وبعد:


زهد عمر رضي الله عنه:
(1)يعني شيء يسلق البدن، لما وصل والطين إلى منتصف ساقيه وهو ممسكٌ نعله بيده اليسرى والرَّسَنَ باليد الثانية، قال له: ما هذا يا أمير المؤمنين، خير ماذا ما هذا؟ قال له: عظماء الروم والبلاد والاستقبال، فقال له: يا أبا عبيدة لقد كنتم أضلَّ النَّاس وأجهلهم وأذلَّ النَّاس وأفقَرهم فأعزَّكم الله عزَّ وجلَّ بالإسلام، أتريدون العِزّة بغيره، ومهما تريدون العِزّة بغيره يُذِّلُّكم الله عزَّ وجلَّ، فصكَّه في صدره مع عبارته التي وجهها إليه، فهذا القرآن الكريم العظيم الذي يُعلمنا ويهذِّبنا ويُسعدنا بكل الوسائل وبالدلائل والبراهين وبالحكمة والمنطق وبالإقناع والإيمان.

قسم الله بمخلوقاته العظيمة :
﴿وَالسَّمَاءِ﴾ أحلِفُ بالسماء وما فيها ﴿وَالطَّارِقِ﴾ النجم، لما يخرُّ فيثقب الظلام بضيائه، ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ خالِق الكون لم يهملك ولم ينسَك فجعلك بشرًا بعد أنْ خلقك مِنْ ذرةٍ لا تراها عيونك مِنَ الحيون المنوي مِنَ الرجل والبويضة مِنَ المرأة، أين كان الحيون المنوي؟ كان دمًا وقبل أنْ يكون دمًا كان خبزًا وجبنًا وزيتونًا فتحوَّل إلى دمٍ وتحول الدم إلى المني وجُعِلَ المني في مستودعه في الحويصل المنوي في البروستات في الأوعية والمخازن المتعددة؛ ثمَّ جمع بينها وجعل البويضة في المرأة، أيضًا فيها أجهزة وأليات تحيِّر العقول، فمَن صممها ومَنْ ركبها ومَنْ اختار مواضعها ومَنْ علَّمها وظائفها ومَنْ حدد أوقاتها لتقوم بعملها التقليدي الذي يُصنَعُ منه أنت وأنا؟

وضع الله تعالى علينا حفظة:
قال تعالى:

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)
[سورة الانفطار]

الحفَظَة قسمان: قسمٌ يحفظ عليك أعمالك ويُسجِّل عليك حركاتك وأقوالك ولفتاتك يمينًا ويسرةً ونظراتك وكلامتك وما تسمعه أذنك وينطقه لسانك وتنظره عينك:

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

أحدهم مراقبٌ كلَّ كلامٍ ويسجِّل كلِّ كلامٍ تقوله، فأحدهم يكتب الحسنات والآخر يكتب السيئات، وهذا كلام الذي:

وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3)
[سورة النجم]

وعلَّمه الوحي الذي يوحى، فسمعك عليه حافظ، ونظرك عليه حافظ، وما تُسِرُّه سرائرك في نفسها عليها حافظ:

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
[سورة الإسراء]

لكلِّ ما تسمعه يوجد حافظٌ ورقيبٌ وعدادٌ يُسجِّل ما تسمع إنْ خيرًا أو شرًا، وإنْ طاعةً أو إثمًا، وإنْ كان ممَّا يُرضي الله عزَّ وجلَّ أو ممَّا يُغضِبه.

مجالسة مَنْ لا يرضى الله عنهم :
قال الله عزَّ وجلَّ:

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
[سورة المائدة]

هناك مَنْ يحفظ هذا السماع ويُسجِّله أنَّك سمعت الكذب وسمعت البُهتان وسمعت الكلام الذي لا يرضي الله عزَّ وجلَّ:

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
[سورة الأنعام]

(يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا) الذين كانوا يتكلمون في حقِّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ كاهنٌ وشاعرٌ وساحرٌ لإحباط الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا) أيها المؤمن (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) عن مجلسهم وعن سماع أقوالهم، وإنْ أصغَيت وسمعت:

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
[سورة الإسراء]

فمجالسة مَنْ لا يرضى الله عزَّ وجلَّ عنهم، مجلسهم أقل المساويات إذا كان لغوًا ليس حرامًا ولا واجبًا، أكلنا وشربنا وذهبنا وأتينا هذا لغو؛ وقد وَصف الله عزَّ وجلَّ المؤمنين:

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
[سورة المؤمنون]

فوَصف مجلس الإسلام والمسلمين بأنَّه مجلس عِلمٍ وحكمةٍ وتعاونٍ على الخير وأمرٌ بمعروف ونهيٌ عن منكر، ما ترك له دقيقةً ولا ثانيةً إلَّا في اكتساب عِلمٍ وارتفاع ورقيٍّ أخلاقيٍّ ونفسٍ وفكر.

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
[سورة الإسراء]

يوجد عليه حفيظٌ يُسجل ما تسمع، والبصر:

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
[سورة النور]

تنظر إلى الحرام، وتنظر نظرة الاحتقار، وتنظر نظرة الحسد، وتنظر نظرة الحقد:

وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
[سورة طه]

المخابرات الإلهية التي تُسجِّل عليك ليس فقط حركات أعضائك الظاهرة بل تُسجِّل عليك سرائرك وواردات خواطرك فكلُّها مُسجَّلةٌ ومحميةٌ في كتاب:

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
[سورة الكهف]

(لَا يُغَادِرُ) يعني: لا يترك ، فهؤلاء الحفظة مِنَ النوع الأول.

حفظ الله لحياة الإنسان بأجهزة عظيمة داخل جسمه:
والنوع الثاني؛ عندما تقوم معدتك بعملها الهضمي كقطعة لحم فيا تُرى مَنْ ثقَّفها ومَنْ علَّمها، مَنْ أوحى لها كيف تُدير وتستعمل هذا الجهاز؟ تُفرز الحموضة في وقتٍ معين، وتفتح أبوابها إلى الأمعاء عندما ينتهي الهضم، وتتم العملية، الكليتان: من علمها أنْ تُصفِّي دمك مِنَ السموم ومِنَ الأقذار؟ الذي يسمونه غسيل الدم، يُفصَلُ البول عن الدم، يأتي البول كلَّه مع الدم إلى الكليتين، ما هو عمل الكليتين؟ تفصِل البول وحده وترسله إلى المثانة إلى الخارج وإلى البول، وتستبقي الدم ليدور دورته، في أقل من ساعة، يعني بثلاثة أرباع الساعة؛ ثمَّ يُغسل الدم مرةً أخرى، بعد ثلاثة أرباع الساعة يُغسل أيضًا مرةً أخرى؛ ثمَّ بعد ثلاثة أرباع الساعة؛ ففي الأربع والعشرين ساعة كم مرةً تغسل الكليتان دمك؟ ستًّا وثلاثين مرةً وبجهازٍ كم حجمه؟ يعني بحجم البرتقالة الصغيرة، فكم حجم جهاز غسل الدم في المستشفى؟ بحجم البراد الكبير، فلو لم يخلق الله عزَّ وجلَّ لك كليتين وقال لك خذ جهاز غسل الدم الأمريكاني أو الياباني واحمله على ظهرك لتغسل دمك، فكان يلزم كلَّ واحدٍ منكم بحجم هذا الجامع، بحجم الجامع الأموي ولن يكفيكم، كلُّ واحدٍ قادمٌ وحاملٌ معه براداً كبيراً مِنْ أجل ماذا؟ فقط من أجل غسل الدم وإفراز البول وسموم الدم إلى المثانة ومجرى البول إلى الخارج، فمَنْ يحفظ هذا الجهاز؟
السيارة كل جمعة أو جمعتين تلزمها اختصاصي يرى ماذا فيها مِنْ خلل أو نقص، هل البراغي يلزمها شد وزيتها وكذا.. فكلُّ المعامل لها مهندسين لصيانتها ولمراقبة عملها فلا يكون فيها خلل، فيا تُرى جسمك بهذه الأجهزة؛ قلبك وأعصابك ودماغك والعروق هي الطرقات وتعبيد الطرقات للدم، قالوا لو وصلت عروق الدم بعضها ببعض لأصبح طولها مئات الكيلو مترات، كلُّها مجموعةٌ بشكلٍ هندسي وبخريطةٍ إلهية، شيءٌ للذهاب أوتوستراد، أليس كذلك؟ الذي مِنَ القلب إلى آخر البدن اسمها الشرايين، والتي تعيد الدم مِنْ آخر أصابع يديك وقدميك ما اسمها؟ هذا أوتوستراد يصل للقلب وإلى أين يضخها القلب؟ إلى الرئة أولاً، فالدم ماذا يحمل مِنْ أوساخٍ ومِنْ أقذار وسموم يضعه في الرئتين، وتخرج السموم مِنَ الرئتين بطريق الهواء، فمَن يحفظ هذه الأجهزة لتقوم بعملها بكل دقة حتَّى لا يقع فيها خلل؟ مصلح السيارات بالتزييت والتشحيم، ومراقب الكهرباء، فالحافظون هناك مَنْ يحفظ الحياة ونظامها نظام السمع والبصر والعرق الذي تعرقه ببدنك هذا أيضًا نوعٌ من أنواع غسيل الدم، السموم والتكلُّسات في الدم تخرج مِنْ طريق مسامات الجلد، أليس هذا الحِفظ مِنْ الله عزَّ وجلَّ؟ والحِفظ يقوم به الحافظون.

أجفان العينين والغدد اللعابية:
﴿وَالسَّمَاءِ﴾ أقسم بالسماء وما فيها مِنْ عوالِم تعجَز عقولكم عن معرفة عددها، وأقسِم بـ ﴿الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ﴾ الذي يخرُّ فيثقب الظلام بنوره، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ﴾ أو النجوم التي تظهر في الليل وتختفي في الظلام وتسمى كذلك طارق، يعني أقسم بالنجوم وبأنواعها، ﴿النَّجْمُ الثَّاقِبُ﴾ أقسم وأحلف المقصود: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ فالحافظ الذي يحفظ عينيك عندما تنام تنطبق الأبواب على عينيك أتوماتيكياً، متى ما فقدت الوعي لا توجد حاجة إلى العيون والنظر فلا ترى إلَّا الأغلاق تنطبق لوحدها أوتوماتيكيًا وعندما تستيقظ وتحتاج إلى النظر تُفتح هذه الأبواب كذلك؛ فمَنْ الحافظ على هذه الأبواب فتحًا وإغلاقًا؟ ومَنْ الذي يُزيِّتها؟ هذه الأشكال والعين لو كانت مِنْ فولاذ مع الاحتكاك لكان أحدها سيُذيب الآخر، ما الذي يحدث بآلات السيارة الفولاذية مع الاحتكاك؟ تذوب، الفولاذ أم الجفن؟ فمن يحفظ الجفن مِنَ التآكل والذوبان؟ ومَنْ يُغذيه ليبقى دائمًا في شبابه وقوته.
ومَنْ يحفظ الغدد التي في فمك تُخرج اللعاب والريق بحسب ما تحتاجه، إذا كان خبزًا يابسًا يلزمك أنْ تعلكه، والمضغ كالمضخة بكل مضغة تُخرج قَدراً محدودًا مِنَ الريق إلى أنْ ينجبل الناشف بالماء، ومَنْ يُقلِّب الذي طُحن ويضع الذي لم يُطحن؟ اللسان، مَنْ علَّمَ اللسان؟ ومَنْ المراقب للسان حتَّى يقوم بعمله ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾، بولك وغائطك؛ مَنْ جعل لك جهازاً يُشعِرك عند الامتلاء للخروج، فلو لم يكن لديك حارسٌ وجرسٌ كهربائي يرِنُّ لكنْ مِنْ غير أنْ يسمعه أحدٌ غيرك، فلو كان يسمعه غيرك وامتلأ البول أو الغائط وأنتم جالسون فلا ينتبه أحدٌ مِنْ كثرة الأجراس:

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
[سورة المؤمنون]

هل فكرنا عندما نرى هذا الياسمين أوتوماتيكياً نعلم أنَّ هناك مَنْ قطفها، وهناك مَنْ ربطها، وهناك مَنْ أتى بها؛ أمَّا لوحدها قطفت ورُبِطت ووُضِعت ها هنا! وكأس الزهورات هذه لوحدها صارت! وهذا الكون صار لوحده! والذي صنعه عالِمٌ أم جاهل، حكيمٌ مبدعٌ كاملٌ أو ناقصٌ وبفوضى؟

سبب قسم الله هو التذكير:
فيحلِفُ الله عزَّ وجلَّ بهذه المخلوقات لتتذكَّر خالقها وليُثبت لك هذه الجملة ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ فالحافظ هو الذي يحفظ الأعمال، كاتب السيئات لتَحفظ نفسك مِنْ غضب الله عزَّ وجلَّ وعقابه وعذابه، وكاتب الحسنات لتشكر الله عزَّ وجلَّ أنَّ عملك مِنَ الخير مهما كان قليلاً فهو مكتوبٌ ومحفوظ لتلقى مكافأته مِنَ الله عزَّ وجلَّ في دنياك أو في أخراك أو كليهما:

وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
[سورة النحل]

أي لإبراهيم عليه السَّلام، فالمقصود مِنَ السورة أنْ يكون همَّك التجويد والقلقلة والإدغام والمدود؟ هذا شيءٌ لا بد منه؛ ولكنَّ الأهم والحقيقي أنْ تفقه غاية السورة والهدف منها، الهدف: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ يحفظ لك الهواء والنفس؛ جهاز التنفس، جهاز السمع بملائكة لا تراها، ويوجد حفظةٌ يحفظون عليك أعمالك لتُكافأ على حسنها وتُعاقب على سيئتها، فهل فقهت وفهمت ما يُخاطبك الله عزَّ وجلَّ به؟ الولد صغير إذا طلب منك شيئاً ستفهم، فهل نفهم يا تُرى كلام الله عزَّ وجلَّ وننتبه لنفهمه مثلما ندير عقلنا لنفهم كلام الطفل؟ يا تُرى هل الطفل أعظم في قلبك مِنَ الله عزَّ وجلَّ حيث تعطي كلَّ مداركك لفهم ماذا يريد الطفل؟ ولـمَّا يكلمك الله عزَّ وجلَّ بكلامٍ عربيٍّ فصيحٍ مبينٍ لا تفهمه ولا تتأثر به، فهل أنت حيٌّ أم ميت، وهل أنت أصمٌّ أم سميع، وهل أنت عاقلٌّ أم بلا عقل، وهل أنت مؤمنٌ أم غير مؤمن؟

إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ۩ (109)
[سورة الإسراء]


انعكاس القرآن الكريم في أعمالنا :
كان أحد الصحابة رضي الله عنهم عندما يسمعون مثل هذه الآية فمِنْ تأثُّره والشعور بمسؤوليته أمام الله عزَّ وجلَّ يمرض أيامًا مِنْ مخافته ومِنْ تأثُّره بما يسمع؛ بأنَّ أمامه حسابٌ محصيٌّ عليه كبار أعماله وصغارها وظاهرها وباطنها، هذا يا بنيَّ هو الإيمان، ومِنْ أجل هذا يُقرأ ويُسمَع القرآن الكريم، وهذه تحتاج إلى القلب الذاكر، يُشترى السجاد من مخازنه، والحديد مِنْ سوق الحدادين، والسمن مِنَ البزورية، والقلوب لها أسواقها ولها صُنّاعها، فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا صُحبة أرباب القلوب:
ألا كُن لأرباب القلوب مصاحبًا وفي قربهم حصِّل لك القلب سالماً
{ منقول }
هل ينعكس في المرآة المتسخة ما يقابلها وتتوجه إليه؟ ولذلك يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً نُكِتت في قلبِهِ نُكْتةٌ سوداءُ، فإذا هوَ نزعَ واستَغفرَ وتابَ سُقِلَ قلبُهُ، وإن عادَ زيدَ فيها حتَّى تعلوَ قلبَهُ، وَهوَ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ اللَّه كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(2) }

[سنن الترمذي]

(إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً نُكِتت في قلبِهِ نُكْتةٌ سوداءُ) مثل المرآة إذا صار عليها نقطةٌ سوداء، (فإذا هوَ نزعَ واستَغفرَ وتابَ سُقِلَ قلبُهُ، وإن عادَ زيدَ فيها حتَّى تعلوَ قلبَهُ)؛ حتَّى يُسدَّ كلُّ وجه المرآة، فإذا ذكرك الله عزَّ وجلَّ لا ينعكس فيها.
لا بدّ لكي نكون مسلمين.. ومعنى المسلم أي المستجيب لأوامر الله عزَّ وجلَّ، استجابة المسارعين، واستجابة المسابقين الراكضين:

ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
[سورة ص]

(مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ) يغسل الله عزَّ وجلَّ ذنوبك، (وَشَرَابٌ) يَذهب منك الظمأ والعطش المنذر للهلاك وترتوي بري الإيمان والمعرفة وحكمة القرآن الكريم.

بداية خلق الإنسان:
﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ بعد أنْ ذكَّرنا بالحافظ الذي يسجل الحسنات، ويسجل السيئات قال تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ يريد الله عزَّ وجلَّ أنْ يُذكِّرنا بنعمه، ما هو أصلك إما فجلة وخبزًا يابسًا ومعفنًا إذا أكلها ماذا يصير؟ دمًا، وماذا يصير الدم؟ منيًا، ويذهب المني للحويصل المنوي؛ ثمَّ يذهب إلى حويصل البويضة، وهناك أيضًا لا يصير الحيوان المنوي إنسانًا، ولا تصير البويضة إنسانًا، وكل واحد ببلد، فواحد في اليابان والثاني في أمريكا فمَنْ يصنع لهما جواز السفر ويجعلهم يعبرون الحدود ومَنْ غير توقيف، وكيف يُعرِّفهما ببعضهما البعض، وكل الطريق مُعبَّد، ولا يوجد من يخطئ في طريقه ولا توجد خريطة ولا درسوا جغرافيا؛ حتى يلتقيا ويتعانقان ويصيران كائنًا واحدًا.

إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
[سورة الإنسان]

(أَمْشَاجٍ) مختلطة (نَّبْتَلِيهِ) نريد أن نمتحنه هل يشكرنا على نعمة الخلق، وعلى نعمة السمع والبصر، والوجود، والهواء، والشَّمس، والقمر، والماء، والثمار، والورود؟ ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ﴾ يعني فليدرس، ابحث مِنْ أي شيءٍ وكيف خُلقت، الحمار أيضًا أصله حيوان منوي وبويضة يعني مِنْ ﴿مَاءٍ دَافِقٍ﴾ والبغل أيضًا مِنْ ﴿مَاءٍ دَافِقٍ﴾ والسلطعان أيضًا ﴿مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ يا تُرى لو جعلك الله عزَّ وجلَّ مِنْ ذوي الآذان الطويلة فكلُّه ﴿مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
[سورة التين]

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
[سورة البقرة]

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
[سورة الإسراء]


وجوب شكر النعم:
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ ثمَّ إلى ماذا انتهى خلقه؟ جعله الله عزَّ وجلَّ خليفته في أرضه:

وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
[سورة الجاثية]

فما معنى ﴿فَلْيَنْظُرِ﴾؟ هل شكرت ربك على العينين؛ على السمع، على الوجود، على الحياة، على الهواء، على الشَّمس، على القمر، على الأنبياء، على الرسل، على الوحي، وعلى المعلِّم، وعلى الرزق ﴿مِمَّ خُلِقَ﴾ على اللعاب الذي في فمك، أتتني إحداهن ربما مِنْ عشرة سنوات تشكو أنه منذ عشرين سنةً ريقها جفَّ، يعني غددها اللعابية تعطلت عن العمل ولم تجد في الطب ما ينقذها من محنتها، كلما تريد أنْ تتكلم يجب أنْ تأخذ جرعة ماء، أو تريد أنْ تأكل وإنْ لم يوجد لديها ريق فماذا سيلزمها لتبلع اللقمة؟ فألهمني الله عزَّ وجلَّ أنْ قلت لها: صومي الصوم الطبي وفي نهاية الصوم الطبي فُتحت الغدد وعاد الوضع طبيعيًّا كما هو عند كل النَّاس، فهل تشكر الله عزَّ وجلَّ على نعمة اللعاب؟ والشفاه: لو لم يخلق الله عزَّ وجلَّ لكم الشفاه لكان لعابكم جميعًا يسيل على صدوركم وعلى ثيابكم، أليس ذلك صحيحًا؟ عندما تُغلق الجفون عند النوم إن سقط ترابٌ من الأعلى وأنت نائمٌ تكون العيون مغلقةً بمغلاق حديدي لا يُفك حتَّى تستيقظ.

تعرف الإنسان على صانعه العظيم:
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ لماذا؟ ليبحث، لماذا؟ ليدرس وليتعرَّف على الصانع وعلى المبدع، على المصمم، هذا العطاء الذي قدَّمه الله عزَّ وجلَّ لك بهذا الجهاز ماذا قدَّمت له مِنْ ثمن، وعندما يحدث قليلٌ مِنَ الخلل في عينك ستدفع الكثير عند الأطباء، أحدهم يقول لك: اذهب إلى الأردن، وآخر يقول لك: اذهب إلى بيروت، وثالثٌ يقول لك: اذهب إلى ألمانيا، بعملية بسيطة صارت في جهازٍ من مئات الأجهزة في جسدك، فكيف بالذي وضع لك مهندساً رقيبًا يصون كلَّ أعضاءك ولو استعملت جسدك حسب المخطط الإلهي فكان أكلك وشربك:

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
[سورة الأعراف]

فلا تُسرف بالكمية ولا بالنوعية فتأكل أدهانًا أكثر مِنَ الحاجة؛ أو سكرًا أكثر مِنَ الحاجة، ولحومًا أكثر مِنَ الحاجة:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)
[سورة البقرة]

في كلِّ شيء، وأعطاك أيضًا كتابًا وخريطةً كيف تستعمل الجهاز وتستعمل الحياة في هذا الكوكب، فإذا مشيت على التخطيط الإلهي تصل إلى العالَم الأرقى وأنت في غاية الراحة والسعادة والهناء، وإنْ أخطأت؛ قد يعطوك خريطةً مِنْ هنا إلى بغداد فإنْ خالفت الخريطة فإمَّا أنْ تقع في صحراء قاحلة، أو بين جبال ووديان، أو بيد قطاع الطريق، أو إلى آخره.. فيكون الهلاك؛ أو يكون الأذى والعَنت.
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ يا تُرى هل استجبتم لله عزَّ وجلَّ عندما قرأتم هذه الآية؟ وهل فكرتم فيمَ خُلِقتم؟ وإذا فكَّرتم أنَّنا نطفةٌ مِنَ الأب ونطفةٌ مِنَ الأم، فلماذا يجب أنْ نُفكر؟ لنعرف فقرنا إلى الله عزَّ وجلَّ وعظيم منّة الله عزَّ وجلَّ علينا؛ ثمَّ إذا عرفنا محبته لنا وعنايته بنا وعَظَمته التي شمِلت وجود هذا الكون كلّه فهل يمكن إذا نادنا ألَّا نُلبي؟ وإذا أمرنا ألَّا نمتثل؟ وإذا نهانا ألَّا ننتهي؟ فإذا نظرنا كما أمر: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِق﴾ ليعرف الخالِق وعظمته، وبطشه وعِلمه وحكمته، وإنعامه ورحمته وحنانه، فصدق الله العظيم كلامه كلُّه صدق وكلُّه واقع؛ عند ذلك لن تستطيع أنْ تعصي الله عزَّ وجلَّ ولو بخطرةٍ مِنْ خطرات فكرك، فضلًا عن أنْ تعصي الله عزَّ وجلَّ بأعضائك وأعمالك وجوارحك، ومع ذلك أيضًا فإذا نظرت ﴿مِمَّ خُلِق﴾ تتعلم علم التشريح وعِلم الطب وتتسع معرفتك بالله عزَّ وجلَّ وبما في نفسك:

وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
[سورة الذاريات]

ادرس نفسك لتعرف مِنْ صُنعها أنَّ الله عزَّ وجلَّ هو الصانع العظيم.

إخبار النبي الكريم عن الماء :
قال تعالى: ﴿خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ الماء الدافق في الرجل يظهر ويعرفه الرجل ومعروفٌ للإنسان؛ أمَّا الماء الدافق في المرأة قد لا تعرفه المرأة وأكثر النَّاس لا يعرفونه؛ كذلك ماء المرأة يكون دافقًا لـمَّا يتكون في الحويصلة التي يتخلَّط فيها البويضات، وتكون البويضات ضمن سائلٍ أصفر، المني هو سائلٌ أبيض وأمَّا السائل الذي تعيش فيه البويضة هو سائلٌ أصفر، لـمَّا سئل النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم حول هذا الموضوع وحول وجوب الغسل قال:

{ ماءُ الرَّجُلِ غليظٌ أبيضُ، وماءُ المرأةِ رَقيقٌ أصفرُ (3) }

[مسند أحمد]

ومع أنَّ هذا لا يُرى بالعين ولا يخرج إلى الخارج، فمَنْ علَّم النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما علِمه الإنسان بعد أربعة عشر قرنًا؟
قال تعالى: ﴿خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ فالدَّفق في الرجل معروف، والدفق في المرأة يندفع الحويصل وهو الوعاء الذي فيه البويضات ينفجر ويتدفَّق بقوة فتتجه البويضة للقاء الحيوان المنوي في طريق فالوب فيلتقيان ويتعانقان، ليس عناقًا بعده فراق؛ بل عناقٌ بلا فراق، وتتشكل من هذا اللقاء البويضة الملقحة بالحيوان المنوي، فمَنْ مِنَ الفجلة والبصلة والثومة وحبة البطاطا أخرج الدكتور والمفتي والوزير، والملوك والعظماء؟ إمَّا فجلة أو حبة بطاطا أو رأس كرمب، الآن إنْ أكل المرء الكرمب لأربعين يومًا ألا يصير دمًا؟ يصير دمًا، وإنْ أكل البطاطا فأيضًا يصير، وإنْ أكل نباتاً يخرج العلماء والأطباء والمشايخ والأنبياء، فكيف سننسى يا بنيَّ؟
مِنْ مدةٍ أتاني رجلٌ نسيت مَنْ هو وقال لي: ما هو الدليل على وجود الله عزَّ وجلَّ؟ وكنا نشرب الشاي، فقلت له: كأس الشاي، هذه هي الدليل على وجود الله عزَّ وجلَّ، قال لي: وما علاقة كأس الشاي بالله عزَّ وجلَّ؟ قلت له: هل لهذه الكأس صانع أم ليس لها صانع؟ والسكر الذي فيها له صانعٌ ومصانع ومهندسون، والشاي له صانعٌ ومزارع، والزجاج له صانع والذي طبخ؟ حسنًا، فكأس الشاي هذه لها خمسمئة صانع، وأنت وهذا الكون ليس له صانع؟ قال لي: الإيمان بالصانع العظيم واجب.

الإلحاد اليوم بسبب الأديان الباطلة:
قاموا وجعلوا الصانع إنسانًا مثل بوذا ومثل سيِّدنا المسيح عليه السَّلام، عندما كان الإنسان مغمضًا عينيه يقولون له عن هذا الثوب أسود فهل يستطيع أنْ يقول أنَّه أبيض؟ يجب عليه أنْ يقبل، أصفر فهو أصفر؛ أو أخضر فهو أخضر؛ أمَّا الآن فلقد فتح عيناه فلمَّا قالوا له عن هذا الثوب أسود فماذا رآه؟ أبيض، فسيُلحد بالسواد أم لن يُلحد؟ فإنْ لم يُلحد فلنْ يكون إنسانًا، لذلك وُجد الإلحاد هو مَنْ ألحد بما يُعاكس الحقيقة والواقع؟ أنا لا أخاف مِنَ الملحد، أنا في الكريملين الذي هو كعبة الشيوعية والإلحاد ناظرت وحاورت أكبر رجالات الشيوعية في موسكو وفي الكريملين، وأحدهم كان بمنزلة رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي وبعد ساعتين سألته: هل يوجد الله أم لا يوجد؟ فلم يستطع النفي، قلت له: هل هذا أبيض أم أسود؟ وأزلت الغطاء؛ فكان مثلما أقول وليس كما يقول هو، وأراد أنْ يقول أبيض؛ ولكنَّه خاف ممَّن هم حوله فسكت، ذهب وفد برلماني ومعهم الأخ مروان شيخو ألقى كلمةً في الكريملين؛ فلمَّا أنهى كلامه، قال له: أشمُّ مِنْ كلامك رائحة مفتي سوريا، وعندما ودَّعهم في المطار أخذه جانبًا وقال له: قل للمفتي أنا مؤمن، عندما سكتت وتجاهلت فلا يظن أنَّني جاهل ولست فاهمًا؛ بل أنا فاهم؛ لكنِّي كنت خائفًا ولا أستطيع أنْ أقول الحقيقة بسبب تسلُّط الشيوعية إلى آخره..

الذكر والفكر:
الشاهد يا بنيَّ أنَّ الله عزَّ وجلَّ مرئيٌّ لكلِّ إنسانٍ إذا أراد أن يستعمل أدوات الرؤية والمعرفة سماع الأذن للقرآن:

قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (101)
[سورة يونس]

تدلُّك إلى الله عزَّ وجلَّ؛ ولكنَّ الفكر لا يكفي وحده، فالكهرباء سالب وموجب يلزمها فكر وذكر، بالتيارين الكهربائيين الذكر والفكر يكون النور ويذهب الظلام، انظروا ما أعظَم القرآن الكريم:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
[سورة آل عمران]

فجَمَع الفكر مع الذكر، وهؤلاء هم الكهرباء: الذكر والفكر، هل يصح أنْ تستفيد من الكهرباء بدون مهندسين وخبراء ومختصين؟ وهل تصنع معمل كهرباء بمجرد أنْ تقول سالب وموجب؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا اللقاء بـ:

{ العلماءُ ورَثةُ الأنبياءِ (4) }

[سنن أبي داود]

الذين يجمعون فكرًا وذكرًا وعِلمًا وحبًا وخشيةً لله عزَّ وجلَّ ومعرفةً به.
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ هذا أمرٌ إلهي مثل:

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
[سورة البقرة]


عظمة خلق الإنسان من نطفة صغيرة:
إذاً قُم يا مسلم وادرس، العِلم ماذا وضح مِنْ هذه الآيات وفسرها تعلَّمها على ضوء العِلم الحديث لأنَّ الإنسان يحب الشيء الجديد دائمًا والفكر الجديد والاكتشاف الجديد فيفضل السيارة الحديثة على السيارة القديمة، قال تعالى: ﴿خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ أثبت العِلم الحديث الآن أنَّ للمرأة ماءً، وكما وصفه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قبل أربعة عشر سنةً ماء أصفر رقيقاً وكما قال القرآن:

إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
[سورة الإنسان]

متلاقياً وممتزجاً أحدهما بالآخر وتستقر في الرحم وتتغذى بدم الحيض ولذلك المرأة عند الحمل ينقطع دم حيضها ليكون غذاءً لمن؟ للجنين والمولود الجديد.
﴿يَخْرُجُ﴾ هذا الماء الدافق ﴿مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ الصلب: فقرات الظهر، والفقرات السفلى وإلى جانبيها يوجد جهازٌ يسمى غلف يتخلَّق فيه أجهزة التناسل في الذكر وفي الأنثى وفي الأسبوع السادس أو السابع من الحمل يُكوِّن الله عزَّ وجلَّ جهاز التخليق للحيوان المنوي والبويضة والمبيض في الأنثى، والخصيتين في الذكر، وكل الأجهزة العصبية والدموية واللمفاوية التي تُغذِّي هذين الجهازين أين يكون مركزهم؟ بين الصلب والترائب؛ ثمَّ تنزل الخصية مِنَ الصلب إلى جلدة الخصيتين التي يسمونها الصفن، فأين يكون الصفن؟ ﴿بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ وينزل المبيض مِنَ المرأة إلى الحوض النسائي وهناك تكون الأجهزة التي فيها حويصلة البويضات والحويصل المنوي الذي يأتي من الخصيتين اللتين كانتا بين الصلب والترائب عند تخليق الجنين، فمَنْ رتَّب هذا الترتيب ومَنْ صنع هذا التصنيع؟ ومَنْ خطط هذا التخطيط؟ ومَنْ يُشغّل هذه المصانع؟ هل تستطيع أنت أنْ تصنع حيوانًا منويًّا؟ وهل تستطيع أنْ تصنع بويضةً؟ وهل تستطيع أنْ تُغذي البويضة بالحيوان المنوي؟ وهل تستطيع أنْ تجمعهما وتجعل منهما جسمًا واحدًا؟ وهل تستطيع أنْ تُحول هذه الذرة إلى دم ثمَّ إلى علقة ثمَّ إلى عظام وإلى عضلات وإلى شرايين إلى سمع وبصر وخلايا المخ؟ مَنْ صنع؟ ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ مَنْ خلَق، وكيف خلَق؛ فهل عرفت الخالِق؟

شكر الله عزَّ وجلَّ على خلقه:
إذا أهداك شخص حمالة ورد وقلت له: شكرًا، وبعد ذلك تقول لامرأتك وإذا صارت مناسبةٌ له اصنعي له حمالة ورد مثلما هو أهداها حمالة ورد:

هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
[سورة الرحمن]

هل ستعطي لله عزَّ وجلَّ عيونًا؟ فالله عزَّ وجلَّ سميع بصير ولم يطلب الله عزَّ وجلَّ منك مقابل ذلك إلَّا أنْ تجتهد وتمتثل أوامره ليزيدك سعادةً على سعادة ونجاحًا على نجاح وسرورًا على سرور وعطاءً على عطاء، فإنْ صليت فلن تنفع الله عزَّ وجلَّ وإنْ لم تصلِّ فلن تنفعه أيضًا:

إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
[سورة الزمر]

إذا ذهب الولد إلى المدرسة يقول لوالده: انظر يا أبي أنا ذاهبٌ إلى المدرسة مِنْ أجلك وقد يكون أباه رئيس الوزارة فإنْ ذهب إلى المدرسة فهل سيصبح والده رئيس جمهورية؟ يا بنيَّ شكرًا خذ هذه أيضًا خمسة ورقات أو عشرة أو كذا لأنَّك استمعت إلى الكلام، ويذهب وقد جعل والده ممتناً له بأنَّه ذهب إلى المدرسة:

وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)
[سورة النحل]

ووَرد في الأثر أن النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:

{ لو أنَّ عبدًا من حين وُلِدَ مِنْ أمه سَجد سجدةً واحدةً مئة سنة لاحتقر عمله يوم القيامة لما يشاهد مِنْ أهوالها وعطائها }

[ورد في الأثر]

فأين نحن يا بنيَّ معشر الإنسان مِنْ فهمنا لعَظَمة الخالق المحسن والكريم المبدع والمعلِّم.
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ حوَّلك مِنْ ماءٍ دافق، تخجل لو كان في بنطالك أو معطفك ملوثاً بهذا الماء الذي فيه أبوك وجدك وجدتك وأنت والعائلة، ألا تخجل؟ فمِنْ شيءٍ يُخجَل منه يصير أبوك وزيراً وأخوك أميرًا وأنت صانع كذا، وفلان العالِم الفلاني.

نعمة فهم آيات الله عزَّ وجل:
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا العِلم بكتاب الله عزَّ وجلَّ:

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
[سورة البقرة]

فحقُّ التلاوة آيةً آية تتفهمها وتتعظ بها وتعتبر بها وتفتِّش نفسك هل عملت بمقتضاها؟ إذا للعبرة هل اعتبرت، وإنْ كانت أمرًا هل استجبت؟ وإنْ كانت للنهي هل انتهيت؟ وإنْ كانت للمسارعة هل ركضت؟ وإنْ كانت للتوقف هل وقفت؟ هكذا يُقرأ القرآن، قراءة الأربعة عشر روحها هي هذا، إذا قرأت على الأربعة عشر ولم تطبق روح القراءة.. وصف الله عزَّ وجلَّ اليهود بأنْ قال:

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
[سورة الجمعة]

قرأوا التوراة وأسفارها قال: لكنْ مثلهم (كَمَثَلِ الْحِمَارِ) الذي حُمِّل الكتب فهل تعلَّم مِنْ حملها شيئًا؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسَنه.
﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ الترائب قالوا: عظام الصفن أساسها عند الصلب، فمجمع خلق الإنسان في بطن أمه بما فيه الخصيتين والمبيض كذلك وأول ما يخلقون في بطن الأم في الجنين بين الصلب والترائب؛ ثمَّ بحكمة الله عزَّ وجلَّ تنزل إلى أين؟ إلى كيسهم، فيبقى المبيض في حوض المرأة، فمَنْ ينقلهم؟

يوم انكشاف الأسرار:
فالذي خلقه مِنْ ماءٍ دافقٍ ثمَّ سيموت ويفنى لكنْ ثمَّ ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ ثمَّ سيُعيد خَلقه كما كان مِنْ قبل:

هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1)
[سورة الإنسان]

فإذًا خلقه مِنَ عدم أليس قادرًا على أنْ يُعيد الخلق مرةً أخرى؟ اللبنة كانت ترابًا فإنْ صببناها وصارت ثمَّ إنْ نزل المطر وعادت ترابًا فمَنْ صبَّها أول مرة ألن يعرف أنْ يضعها في الآلة ويصبها لبنًا مرةً أخرى؟ ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ﴾ الذي خلَقه مِنْ ماءٍ دافق ألا يقدر أنْ يُرجعه كما خلقه في الدنيا بصورته الكاملة، فمتى يُرجعه؟ قال يرجعه: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ خفايا نفسك التي تُخبِّئها بنفسك وتخفيها عن النَّاس لأنَّك إنْ أظهرت عداوتك أو حقدك أو خديعتك أو غشك التي ستخدع بها النَّاس فستُفضح وستُهان فتُخبأها لئلا تُهان، لكنَّك لن تستطيع أنْ تُخفيها عن الله عزَّ وجلَّ وسوف يُظهرها الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة لكلِّ الخلائق، كل سرائرك وكل خفاياك وكل مكرك وخداعك وكذبك وكل نفاقك تكون أنت قد فعلتها سرًّا وتُخبئها عن النَّاس ﴿يَوْمَ تُبْلَى﴾ وتُكشف وتظهر ويُرفع الستار وتنفضح بإظهار سرائرك.
فإنْ كانت سرائرك الإيمان والتقوى وحبّ الآخرين:

{ لا يُؤمِنُ أحَدُكم حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه (5) }

[صحيح البخاري]

بلا خداع كلُّه صدق وإخلاص، فما أحلى أنْ يكشف الله عزَّ وجلَّ سرائرك الفاضلة المحبوبة لله عزَّ وجلَّ ولمخلوقات الله، وما أشنع ذلك اليوم الذي يكشف الله عزَّ وجلَّ سرائرك وفضائحك وخزاياك وما يُسوِّد وجهك أمام الله عزَّ وجلَّ وأمام رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وأمام مَنْ يعرفوك يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ يُنْصَبُ لِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ يَومَ القِيامَةِ، وإنَّا قدْ بايَعْنا هذا الرَّجُلَ علَى بَيْعِ اللَّهِ ورَسولِهِ، وإنِّي لا أعْلَمُ غَدْرًا أعْظَمَ مِن أنْ يُبايَعَ رَجُلٌ علَى بَيْعِ اللَّهِ ورَسولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ له القِتالُ، وإنِّي لا أعْلَمُ أحَدًا مِنكُم خَلَعَهُ، ولا بايَعَ في هذا الأمْرِ، إلَّا كانَتِ الفَيْصَلَ بَيْنِي وبيْنَهُ }

[صحيح البخاريُّ]

(لِواءٌ) عَلم، وماذا يكون مع العَلم؟ عصا والعَلم بالرأس، يوضع لكل غادرٍ يوم القيامة لواءٌ عند أُسفِه يعني عند لواياته هناك يُغرز والعَلم مِنْ أعلى رأسه يُكتب عليه: (هذه غدرة فلان الفلاني)(6) هذا إذا كانت غدرةً واحدةً وإذا كانت غدرتان كأنْ يكون قد غدر بشخصٍ آخر إذا كان ماكرًا فالمكر غدر، ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ﴾ إنَّه؛ من هو؟ الله عزَّ وجلَّ، إنَّ الله عزَّ وجلَّ ﴿عَلَى رَجْعِهِ﴾ رجع مَنْ؟ ورجع إلى ماذا؟ إلى الحياة يوم القيامة.
قال: الذي خَلَقه ﴿مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ متى؟ ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ يرفع الله عزَّ وجلَّ الستار والحُجب عن الذي كنت تخفيه مِنَ النَّاس لكي لا يتكلموا عليَّ الآن ينتبهون إليّ وبعدها سأُفضَح فضيحةً أمام النَّاس أخاف منها؛ ألست خائفًا أمام الله عزَّ وجلَّ والأنبياء عليهم السَّلام وأهل الدنيا كلهم؟ فلو كنت مؤمنًا حق الإيمان لم تكن لتُسِرَّ إلَّا السريرة الصالحة يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ مَن أسَرَّ سَريرَةً ألبَسَه اللهُ رِداءَها (7) }

[المعجم الكبير للطبراني]

مهما خبأت مِنْ نفاقٍ أو كذبٍ أو خديعةٍ إلَّا وسيظهر في يومٍ مِنَ الأيام خداعك ومكرك وكذبك وتُفضح في الدنيا قبل الآخرة، فهل آمنت بهذه الآيات؟

كل آتٍ قريب:
﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ متى؟ ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ وتنتشر وتُفضح مخازيك ونقائصك، فإذا كانت سرائرك أنْ تُحب للناس ما تُحبه لنفسك وأنْ يمتلئ قبلك مِنْ خشية الله عزَّ وجلَّ ومحبته وطاعته ومحبة أنبيائه عليهم السَّلام وأحبابه فما أحلى أنْ تُكشف الستائر عن هذه السرائر، وكل آتٍ قريب يا بني عندما كنَّا أطفالًا لم نكن نظن أنْ نُصبح شيوخًا شبابًا، وقد صار والآن ويقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ ونراها بعيدة:

إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
[سورة المعارج]

فهل آمنت بكلام الله عزَّ وجلَّ؟ وهل آمنت بالأفعى بأنَّ لدغتها تقتل لذلك ما هو مقتضى الإيمان؟ تعمل منها ربطة عنق منها؟ أم تلف المرأة شعرها بها؟ فهل هكذا الإيمان؟ هذا كفر في الحقيقة، فهل نحن مؤمنون بكتاب الله عزَّ وجلَّ؟ كلمة إيمان يا بنيَّ.. النجار يتعلَّم عشر سنين ليُصبح نجارًا والحداد والطبيب؛ فلكي تصبح مؤمنًا.. فما هو الذي خلَّد أبا بكر رضي الله عنه ومَا الذي خلَّد عمرَ رضي الله عنه في أعلى أمجاد الأرض والسماء؟ الإيمان.

الإيمان ليس كلامًا بل هو قوة ربانية:
ومَنْ الذي أوصَل المسلمين الآن إلى أسفل درجات الأمم؟ نقص الإيمان، والسبب فقد مهندسي الإيمان، والذين يتقنون صناعة الإيمان، فالإيمان ليس كلامًا الإيمان نور، والإيمان قوةٌ ربانية، والإيمان بحقيقته عِلمٌ وحكمةٌ وتزكيةٌ للنفوس، فإنْ كان إمام المسجد عنده هذه الكفاءة فهذا لو دفعنا له مليون ليرة بالشهر ولو دفعنا له أرواحنا والله يستحق؛ لأنَّنا نعطيه فانٍ ويعطينا الباقي، نعطيه ما ينفعنا في الدنيا ويُعطينا ما ينفعنا في الدنيا والآخرة، أزمة المسلمين بفقد إمام الجامع الحقيقي الذي هو وارث النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ورِثَ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[سورة البقرة]

إمام الجامع لا يُعلِّمنا القرآن فالشريط يقرأ كلمات القرآن بالتجويد وبصوتٍ جميل ومن أجمل ما يكون، حسنًا نريد مَنْ يُعلِّمنا المعاني وتتحقق في قلوبنا وعقولنا لكي تُهضم وتتمثَّل أعمالًا وسلوكًا وخشيةً ومخافةً مِنَ الله عزَّ وجلَّ ومسارعةً إلى إرضاءه وتوبةً صادقةً قبل أنْ يُفاجئنا الموت ونقع تحت التهديد وهذا المصير الحتمي الرباني.

اسم المؤمن يجب أن ينطبق عليك حقيقة:
﴿يَوْمَ تُبْلَى﴾ ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ﴾ على رجع الذي ﴿خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ هل يستطيع أنْ يُعيده إنسانًا كما كان؟ ومتى يرجِع مرةً ثانيةً؟ ﴿يَوْمَ تُبْلَى﴾ يعني تنكشف وتظهر حقائقك الداخلية، إذًا فالأعمال الظاهرية تكون مسجلة وتنكشف الخفية:

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
[سورة آل عمران]

إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)
[سورة النبأ]

لا تظن أن الكافر هو الذي يُقال عنه كافر فإذا لم تكن مؤمنًا بهذه الآيات بأن تظهر في أعمالك وسلوكك وتُخالط قلبك فأنت كافرٌ بها، إنْ لم تؤمن بآيتين مِنَ القرآن فكيف تزعم أنَّك آمنت بالقرآن؟ تؤمن به إنْ فهمته كله وطبَّقته كله فحينها تكون مؤمنًا به، فإنْ لم تفهم آيةً واحدةً منه ولم تعمل بها فكيف تقول عن نفسك أنَّك مؤمن؟ يُطاوعك لسانك لأنْ تقول أنا ملك، وكلمة مؤمن فيُطاوعك لسانك أيضًا لتقول أنا مؤمن؛ لكنَّ الواقع إنْ قلت أنا رئيس وزارة وأنت عاملٌ بسيط وتريد أنْ تدخل إلى السرايا وتقول للشرطي لماذا لا تضرب لي تحيةً فأنا رئيس الوزارة سيُطاوعك لسانك لتقول أنا رئيس وزارة ولكنْ يا تُرى ماذا تكون نتيجة رئيس الوزارة؟ يأكل بضع ضرباتٍ بالعصا أليس كذلك؟ وإنْ أصرَّ يضعونه في مشفى المجانين أليس كذلك؟ فيا تُرى الذي يدَّعي أنَّه مؤمنٌ وما زال لم يشمّ رائحة الإيمان، صار حدادًا لأنَّه تخرج مِنَ سوق الحدادة، وطبيبًا لأنَّه تخرَّج مِنْ كلية الطب، والمؤمن ما هي مدرستك التي تعلَّمت فيها الإيمان ومَنْ هو أستاذك الذي علَّمك الإيمان، هل الإيمان بالقول؟ لا قال الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
[سورة المائدة]

الذي يقول آمنت بالأفعى بلسانه لا بقلبه يلعب به مثل الطفل، فالطفل يقول الطفل هذه أفعى؛ لكنْ هل فهم ما هي؟ أمَّا الكبير بلسانه وبقلبه، لذلك فبمقتضى الإيمان القلبي يبتعد ويحذر مِنَ الأفعى إلى آخره..

انكشاف الحقائق بعد الموت:
﴿خُلِقَ مِنْ مَاءٍ﴾ هل تتذكرون أنفسكم عندما كنتم في الماء الدافق؟ عند تدفق المني يخرج بالدفقات مئات الملايين مِنَ الحيوانات المنوية ولربما بعدد سكان العالَم، هل تعرف أنت يا دكتور؟ يعني مجموعهم بشكل وسطي في الدفقة عند اللقاء ثلاثمئة مليون، يعني هؤلاء بعدد سكان إندونيسيا، بخروج المني يخرج بعدد سكان، فكم مِنْ عالَم يوجد فيك مِنْ أول شبابك لآخر موتك؟ آلاف المليارات، يا الله، مَنْ خَلق مِنْ هذه الأشياء العُظماء والأنبياء والعُلماء، يُبيّن القرآن ثم يشرح العِلم وبعد كلِّ هذا فما أعظم جهالتنا وجاهليتنا وما أعظَم خسارتنا والموت قريبٌ منَّا وستنكشف لنا الحقائق بعد الموت، ما كان كلامًا وقرآنًا سيكون مشاهدةً وعيانًا، نسأل الله عزَّ وجلَّ ألَّا يجعلنا مِنَ الخاسرين.
﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ﴾ متى رجعه ويرجعه؟﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ إنْ كُشِفَت مخازيك وأعمالك التي تُسوِّد الوجه فهل توجد عندك قوةٌ تخفيها أو تتملَّص منها أو تنجو مِنْ هذه الفضيحة؟ ﴿فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ﴾ تُنجيه مِنْ هذا الموقف ﴿وَلَا نَاصِرٍ﴾ يأتي أناسٌ في هذا الموقف يدافعون عنك ويُناصرونك يُنقذونك مِنْ سوء المصير.

السَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ:
﴿فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ حَلَف الله عزَّ وجلَّ بأول السورة بالسماء والطارق وفي آخر السورة عاد وحلَف بالسماء، فالسماء الفوقية بما فيها مِنْ نجومٍ وكواكب والسماء الثانية سماء الدنيا، سماء الغيم، وكلُّ ما هو فوق رأسك فهو سماء، ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ التي تُنزل المطر كلَّ شتاء وثاني سنة عندما ترجع وتُنزل المطر مرة أخرى، لتكرار المطر كلَّ سنة، وكلَّ موسم، فسُميت ﴿ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ والمقصود منه الغمام أو السماء المعروفة، مِنْ حيث تظهر النجوم تارةً وتختفي تارةً أخرى، على كل حال المقصود مِنَ القسَم ما وراءه: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ مَنْ يُشقق الأرض لبذرة التين، ومَنْ يفلِق الصخر للأعشاب والأشواك ينبت ويخرج مِنْ بين الصخر يُصدِّعه ويُشققه ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ يعني خالِق ﴿وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ﴾ وخالِق ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾.

إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ:
﴿إِنَّهُ﴾ القرآن الذي يُخاطبكم به ﴿لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ ليس كلامًا فارغًا وليس للتسلية ولا للمرح، كلام الله عزَّ وجلَّ كلامٌ فصلٌ بين الحق والباطل، وبين الحقيقة والعدم، وهذه حقيقةٌ سترونها أمامكم فلا تظنوا أنَّ هذا وهمٌ و خيال أو أنَّه لا حقيقة له ولا وقوع، ﴿وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ لا يمزح الله عزَّ وجلَّ معكم مزحًا، هذا كلامٌ قطعي.
﴿إِنَّهُمْ﴾ مع كلِّ هذا كفار قريش ﴿يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ قابلوا كلَّ كلام الله عزَّ وجلَّ وكلَّ هدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالإعراض وبالتشويه، قالوا عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ساحر وكاهن ويقولون عن القرآن هذا خرافات وحكايات العجائز:

إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
[سورة المطففين]

﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ مقابل كلِّ مؤامراتهم وهزئهم ومحاربتهم الإيمان يزداد ولا ينقُص ويتقدَّم ولا يتقهقر ويقوى ولا يضعُف حتَّى صارت كلمة الله عزَّ وجلَّ هي العليا، وهكذا كلُّ إنسانٍ يمشي على هدي الله عزَّ وجلَّ بعد فهمه واستعماله كما يأمر به فدائمًا هو في رفعةٍ في كلِّ زمانٍ ومكان.

لا بد للمسلمين من عودة إلى القرآن:
الآن والله لو يرجع المسلمون إلى الإسلام وقبل كلِّ شيء إسلام الفهم فتفهم على الله عزَّ وجلَّ، الآن عندما يقرأ المرء المصحف فمن كلِّ المصحف هل فهِمَ آيةً واحدةً فهمَ عِلمٍ وعملٍ وتطبيق؟ سورة الطارق وهذه مِنَ السور الصغيرة لمَّا يقرأ المسلم بصلاته أو بمصحفه هل يفهم ما هو المقصود منها؟ وإنْ فهِمَ أن هذا صندوق ألماس وقالوا هذا هدية لك، فإنْ قالوا له بالتركية فلن يفهم شيئًا ولو وضعوا له الألماس فيقول هذا الآن إنْ ذهب منه شيء سأُتَّهم فيه، فيذهب لئلا يُتَّهم وهو هدية له؛ فلماذا حُرم الفائدة منه؟ لجهله بالكلام الذي وُجِّه إليه، فنحن عندما نجهل كلام الله عزَّ وجلَّ ولا نريد أنْ نفهمه فنقرأه لا لنفهمه، قراءة القرآن إلى هنا نحفظ القرآن فماذا استفدنا مِنْ حفظه؟ وهل المراد مِنَ القرآن حفظ الكلمات أم فهم المعاني لتُحوَّل إلى أعمال؟ ما هو المطلوب مِنَ السيارة الحديثة إنْ اشتريتها؟ فقط أنَّك اشتريتها، وهذا دفتر التسجيل؟ لم تركبها وعندك حمار أعرج وآذانه متهدلة وراكب على حمار مِنْ غير بردعة، وواضعٌ قدميك على جانب واحد وعندك سيارة حديثة فماذا استفدت مِنَ الملكية وماذا استفدت مِنْ دفع القيمة؟ وإذا أردت الذهاب إلى بيروت على حمارك الأعرج يلزمك عشرة أيام لتصل؛ وإنْ نزل عليك الثلج ستموت أنت وحمارك؛ فهكذا هي حقيقة مجتمعنا الإسلامي العالمي إلَّا مِنْ رحِمَ الله عزَّ وجلَّ.

الإيمان هو الدافع:
لذلك كان أصحاب رسول الله رضي الله عنهم يقولون وهم يُخاطبون الجيل الذي أتى بعدهم: "نحن أوتينا الإيمان قبل القرآن"؛ لأنَّ الإيمان هذا كلام الله عزَّ وجلَّ، فإنْ أتتك ورقةٌ صغيرةٌ مِنْ رئيس الجمهورية أنَّك يجب أنْ تكون غدًا في قصر الجمهورية في تمام الساعة العاشرة صباحًا فهل تستطيع أنْ تأتي في العاشرة والربع أو العاشرة وعشرة دقائق؟ وفي تلك الليلة إذا كان نومك ثقيلًا فماذا ستصنع بنفسك؟ تقول لمرأتك إياك ثمَّ إياك والله سيخرب بيتي والله سيضربونني، والله أنا مطلوب للمخابرات، فهذا هو الإيمان بالكلام يا بنيَّ، وإنْ رميت الورقة ولم تقرأها، أو قرأتها ولم تفهم ولم تفكر أنْ تُطبِّق فهل أنت مؤمن؟ يا تُرى هل نحن مؤمنون بسورة الطارق؟ فهذه تكفي وحدها يا بنيَّ، إنْ آمنت.
﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ﴾ يفصل بين الحق فيُقدِّمه إليك، والباطل:

أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
[سورة الرعد]

﴿وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ يوجد أعداءٌ للحق والحقيقة، وأعداءٌ للإيمان، وأعداءٌ لوحي السماء ﴿وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾:

يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
[سورة التوبة]

(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) هكذا يريدون وماذا يريد الله تعالى: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ) فهل سينزل الله عزَّ وجلَّ بجلاله ويُطفئ نار المشركين وينفخ عليها؟ أنت مَنْ يجب أنْ يُنفذ أوامر الله عزَّ وجلَّ لتطفئ نار أعداء الله عزَّ وجلّ،َ ﴿وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ بواسطة جهاد النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتعاليمه وهديه، النبي كان يرى بلالًا تحت العذاب، والخباب بن الأرت رضي الله عنهما والنَّار تشتعل بشحمه، "إلى متى يا رسول الله، ألا تدع لنا؟" فيقول لهم:

{ كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ (8) }

[صحيح البخاري]

ويقول: (صبرًا آل ياسر فإنَّ موعدكم الجنة) معناه يلزمها عملٌ ويلزمها صبرٌ، ويلزمها مداأبة وتلزمها موعظةٌ وحكمة، وموعظةٌ حسنة وبالحب.

عند النَّاس قابلية للخير:
والنَّاس كلهم بخير، ما رأيت إنسانًا في حياتي لم يستجب للدعوة، وما رأيت إنسانًا يقول عن الثوب الأبيض أنَّه أسود، وإنْ كان عليه منديل فأنا بلطف وبرفق أنزع المنديل عنه وبعدما أزيل المنديل أقول له: ما هو لون الثوب؟ وإنْ كنت يضع نظارةً صفراء فسيقول أنَّه أصفر، وأرفع بلطف النظارة الصفراء ليرى الأمور على حقيقتها، فهكذا يجب أنْ نُعلِّم النَّاس ونرشد النَّاس:

{ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا }

[الزهد والرقائق]

إنْ هدى الله عزَّ وجلَّ على يدك إنسانًا واحدًا رجلًا أو امرأةً؛ صغيرًا أو كبيرًا فيُكافئك الله عزَّ وجلَّ مكافأةً (خَيْرٌ لَكَ) هذه المكافأة (مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)(9)،
"إلى متى يا رسول" قال تعالى: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ﴾ لا تستعجِل:

فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35))
[سورة الأحقاف]

فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
[سورة مريم]

إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
[سورة المعارج]

عشر سنوات انتقل النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم للمدينة وإذا بالعرب جميعا يدخلون في دين الله أفواجاً، ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾ يعني إمهالًا قليلًا وليست مدةً طويلة؛ فإنْ شاء الله ربي وبوقت قريب أن يُرجع المسلمين إلى دينهم، وإذا كانت السيارة تريد أنْ ترجع لتعمل جيدًا فماذا يلزمها؟ ومِنْ غير مصلح السيارات، وإنْ كانت الأرض تريد أنْ تُرجع محصولها وإنتاجها فيلزمها فلاح وتلزمها سقاية وبذار وتلزمها حراثة؛ أمَّا شيءٌ لوحده! إذا أراد الله عزَّ وجلَّ شيئًا هيَّأ أسبابه، لذلك واجبٌ على كلِّ واحدٍ منَّا حمل الأمانة، الآن حملتم الأمانة يا بنيَّ فبلِّغوها، وكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ بلِّغوا عني ولو آيَة (10) }

[صحيح البخاري]

ماذا تريدون أنْ تُبلِّغوا الآن امتثالاً لكلام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟

تعليم سورة الطارق:
سورة الطارق يجب أنْ ترجعوا وتعلِّموها لأهلكم بسهرتكم عوضًا عن أنْ تقول أكلنا وشربنا والمازوت والغلاء والسيولة النقدية قُل: ﴿وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ﴾ هل صارت لغة الله عزَّ وجلَّ الآن لا يستطيع النَّاس الكلام بها؟ وأيهم أنفع لكم في الدنيا وفي الآخرة، فارجع لأهلك ولزوجتك ولأبنائك وبناتك ولأبيك ولأمك ولأخيك ولعمك فأنت مسؤولٌ عن ذلك، فهل عمِلَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كلَّ شيءٍ لوحده؟

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
[سورة الأنفال]

والآن هل فهمتم السورة مثلما أفهمتها صحيح؟ هل تكلمت معكم بالتركي أو بالكردي أو بالإفرنجي؟ بالعربية وقد أتكلم بالعامية قليلًا للتسهيل على ضعاف اللغة العربية؛ لذلك إنْ صدقنا الله عزَّ وجلَّ وعليكم أنْ تذكروا الله عزَّ وجلَّ ويجب أنْ تُحبوا أحباب الله عزَّ وجلَّ، والحبُّ في الله من أعلى درجات الإيمان قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: الإمَامُ العَادِلُ، وشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّهِ، ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، ورَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ اجْتَمعا عليه وتَفَرَّقَا عليه، ورَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ، فَقَالَ: إنِّي أخَافُ اللَّهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ، أخْفَى حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ (11) }

[صحيح البخاري]

الآن لو لم تحبوا الشَّيخ فهل كنتم ستأتون إلى هنا؟ قولوا إذًا هل تحبون الشَّيخ في الله؟ وأنا أحبكم في الله، ولعلَّ الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا في ظلِّ عرشه، وعلى ماذا نجتمع؟ على مائدة كتاب الله عزَّ وجلَّ، وإنْ حوَّلناها إلى عملٍ وواقعٍ وزرعنا الشجرة وأزهرت وأثمرت وإنْ أخذنا مشمشًا مِنْ سوق الهال مِنَ الواجهة الأمامية، وإنْ ذهبت إلى البيت في السهرة مع أصدقائكم أو مع إخوانكم:

{ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (12) }

[الزهد والرقائق]

وبالحكمة والموعظة الحسنة، كونوا أطباء مع المرضى ولا تكونوا كقضاةٍ مع المجرمين، أنت كافرٌ وأنت قاتلٌ وأنت إلى جهنم تُخرِج أحكامًا مِنَ المحكمة الميدانية فورًا إلى الرمي بالرصاص لا يا بنيَّ.
اللَّهم اجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّدٍ وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين.

الهوامش:
(1) تبدأ المحاضرة من هذا الكلام, ولعله يوجد لها بداية في تسجيل آخر والله أعلم.
(2) سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ومن سورة ويل للمطففين، رقم: (3334)، سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، رقم: (4244).
(3) مسند أحمد, رقم: (2514), (4/310), المعجم الكبير للطبراني, رقم: (13012), (12/246).
(4) سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، رقم: (3641)، سنن الترمذي، كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682)، سنن ابن ماجه، كتاب المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223).
(5) صحيح البخاريُّ في كتاب الإيمان، باب من الإيمان أنْ يُحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، رقم: (13). ومسلم في الإيمان، باب الدَّليل على أنَّ من خصال الإيمان أنْ يُحِبَّ لأخيه..، رقم: (45).
(6) صحيح البخاري في الجزية، بَابُ إِثْمِ الغَادِرِ لِلْبَرِّ وَالفَاجِرِ، رقم (3186) ومسلم في الجهاد والسير باب تحريم الغدر رقم (1736).
(7) المعجم الكبير للطبراني، رقم: (1702)، (2/ 171).
(8) صحيح البخاري: كتاب فضائل الصحابة: باب ما لقي النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه من المشركين بمكة، رقم: (3639)، كتاب الإكراه: باب: باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، رقم: (6544).
(9) الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 484) ورقم (1375).
(10) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم: (3461).
(11) صحيح البخاري, كتاب الزكاة, باب الصدقة باليمين, رقم: (1423), صحيح مسلم, كتاب الزكاة, باب فضل إخفاء الصدقة, رقم: (1031).
(12) سبق تخريجه.