تفسير سورة النازعات 01

  • 1995-03-17

تفسير سورة النازعات 01

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله رب العالمين، وأفضل الصلوات وأعطر التحيَّات على سيدنا محمدٍ سيد الأولين والآخرين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيدنا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وآله كُلهم وصحبه كُلهم أجمعين.


الحكمة من حلف الله تعالى للإنسان بالأيمان المُغلَّظة والمُقدَّسة والمُكرَّرة :
وبعد فنحن الآن في تفسير سورة النازعات؛ النازعات هي الملائكة التي تنزِع الأرواح من أجسادها، وهي النفوس القُدسية الربانيّة المُقرّبة من الله عز وجل كأرواح الأنبياء، وأرواح ورثة الأنبياء من العلماء بالله الذين وَرِثوا عن رسول الله أن يُعلّموا الناس علوم القرآن عِلماً وعَملاً، ويُعلموهم الحكمة، ويُزكون نفوسهم، فالله عز وجل حلف وأقسم بهذه النفوس الملائكية، وهذه النفوس النبويّة، وبنفوس ورثة الأنبياء الذين ينقلون الناس إرثاً عن نبيهم ينقلونهم من الظلمات إلى النور، وينتزعونهم من الجهل إلى الحكمة، وإلى حقائق العِلم النافع في دينهم ودنياهم، والذين ورثوا عن رسول الله قوة تزكيّة النفوس فيُزكونها، فينقلونها من رذائلها إلى فضائلها، ومن مساوئ أخلاقها إلى محاسنها، فهذه النفوس الملائكية، النفوس النبويّة، النفوس الوارثة لمقام النبوة في تعليم الناس ما يُسعدهم في دينهم ودنياهم، حلف الله بها خمسة أيمان، كشخص يقول لشخص: والله والله والله والله والله، من يحلف خمسة إيمان يجب أن يُصدّق أم يُرفض كلامه؟ ومن الذي يحلف لمن؟ الأدنى يحلف ليتقرب إلى الأعلى ، أو الأعلى من أجل أن يُسعد الأدنى، فالله يحلف للإنسان خمسة أيمان، لكن الله صادق ومُصدّق بلا أيمان مما يدل على كثافة وسماكة فهم الإنسان عن ربه، لا يفهم إلا بالأيمان المُغلَّظة والمُقدَّسة والمُكرَّرة، وهكذا كان الإنسان قبل النبوة على وثنيته، وعبادته الأصنام، وفي بحر من الخرافات والجهل والجاهلية، ومع ذلك كان القرآن له شفاءً، ورحمةً، وعزةً، وكرامةً، ومجداً، وحضارةً، وغُرةً في جبين ليس في تاريخ العرب بل في تاريخ العالم، وفي تاريخ الإنسانية.

الحلف واليمين في القرآن غايته زيادة الاهتمام وإيقاظ المشاعر:
الله يبدأ بالحلف وباليمين:

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
[ سورة النازعات]

أي أحلف بالنازعات وبما بعدها، ما المقصود؟ المقصود محذوف، إذا قال لك: والله ثم قال: والله، تقول له تكلم يا أخي ماذا تريد، ثم والله ما المقصود؟! مما يدل على أن المقصود من تثبيت الشيء بهذه الأيمان أنه أمرٌ عظيم ليس بالنسبة لحضرة الله، بالنسبة لسعادة الإنسان، ونجاحه، وتقدّمه، وارتقائه، فكان العرب في ذلك الوقت خرافيين، كانوا خرافيين، كانوا يعبدون الحجارة، إذا أراد أن يتبين له بعض مُهمات أموره يستشير الحجر الذي هو الصنم، مع أن القطط والكلاب لا تتنزل إلى هذا الشيء الذي انحط إليه عقل الإنسان، فيمين ثم يمين ثم يمين وجواب اليمين محذوف، لماذا حُذف؟ حتى السامع يسأل ويزداد اهتماماً، ماذا تريد يا الله بهذه الأيمان نحن نُصدقك؟ لماذا لا تُبين لنا ما تريد؟ لزيادة الاهتمام، وإيقاظ المشاعر، والإحساس في الإنسان بجواب القسم، وبجواب اليمين:

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
[ سورة النازعات]

أقسم الله وحلف بالملائكة، غرقاً أي التي تنزع الأرواح من أعماق وجذور البدن، من أعصابه، من عضلاته، من شعره، من جلده، من كل خليةٍ من خلاياه، فتنزِع الروح، وغَرقاً أي بالأعماق وبكل القوى، وبكل الإمكانات التي تحملها الملائكة النازعة لأرواح المخلوقات.
أُقسم بالملائكة، وكذلك أرواح الأنبياء أيضاً نازعة، تنزع الجهل من النفوس، وتنزع الخرافة إلى الحقيقة، وتنزع التخلف في مضمار الحياة، في مضمار العقل، في مضمار العِلم، في مضمار كل ما يُحقق للإنسان سعادته، فتأتي أرواح الأنبياء ونفوسها وورثة الأنبياء في حياتهم أو بعد وفاتهم كأصحاب رسول الله ومن تبعهم بإحسان، فهذه النفوس الكريمة الفاضلة التي ورثت عن رسول الله تعليم الناس كتاب الله، لا تعليمهم النطق بألفاظه، تعليمهم فهم حقائقه، والعمل بأحكامه، والتخلُّق بأخلاقه، والتحقيق لغاياته وثمراته، وحلف الله بنفوس الملائكة التي تنزع الأرواح من أجسادها، وبنفوس الأولياء والعلماء العارفين بالله، حلف بهم بصفةٍ من صفاتهم وهو أنهم ينزعون الجهل ويُبدلونه بالعِلم، ينزعون الحماقة والخُرافة ويُبدلونها بالحكمة، بالصواب، بالقول والعمل، ينتزعون رذائل الأخلاق، رذائل الأعمال، ويبدلونها بفضائلها، أُقسم بهذه النفوس النازعات للأرواح وللرذائل، والتي تُبدلها بأضدادها، النازعات غرقاً بكل قوةٍ، وبكل الطاقات، فأقسم الله بها لنتشبه ونقتدي بها، فنزع الأرواح من خصائص الملائكة أما نزع النقائص بالفضائل، والجهل بالعِلم.

{ طلبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ }

[أخرجه ابن ماجه]

أي يجب على كل مسلمٍ ومسلمة أن تكون نفسه من النفوس النازعات غرقاً، أي بكل شدةٍ، وبكل قواه يعمل لنزع النقائص بالكمالات في نفسه، وفي الآخرين اقتداءً برسول الله:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
[ سورة الأنبياء]


القرآن العظيم علينا أن نعلم أوامره لنمتثلها ونواهيه لنجتنبها ووصاياه لنتخلق بها:
يا ترى الذين حفظوا القرآن، أو يقرؤون القرآن كل يوم، لمّا يصل للنازعات ماذا يفهم منها؟ أنه عنوان لاسم السورة، ولو الآن فهمها كما تفهمونها هل نفكر ونعزم أن ننزع من نفوسنا نقائصها ورذائلها وجهلها وسفهها وحمقها لنبدلها بأضدادها من الفضائل والكمالات والعلوم والمعارف التي تُسعدنا في دنيانا وآخرتنا؟
عبدة الأصنام الأُميون لا يحملون ليسانس، ولا يحملون بكالوريا، القرآن والقرآن وحده، ولم يكن مجموعاً في حياة رسول الله إلى أن توفي، كان مكتوباً على الأحجار، وعلى أكتاف الأغنام وعظامها، وعلى أوراق النخيل، فهذا المصحف الذي هذه ورقاته المنظورة، ولكن ورقاته الحقيقية كان صفحات قلوبهم، وصفحات أحاسيسهم، وأرواحهم، وعقولهم، فكانت أرواحهم مَعدِةً هضمت كلمات الله عز وجل، وحولتها إلى أعمال، إلى أخلاق، إلى سلوك، وحولوها من قرآنٍ يُتلى باللسان، ويُسمع بالآذان، إلى قرآنٍ يُرى بالعيون وبالأبصار، يُرى أعمالاً، وأخلاقاً، وسلوكاً، ووحدةً، وإيماناً، ومحبةً، حتى أوصلوا الإسلام إلى نصف العالم ووحدوه مع اختلاف الألوان واللغات والعقائد، ومع العدالة والمساواة للجميع.
ما استطاع عمر أو أبو بكر أو النبي عليه الصلاة والسلام أن يبخس إنساناً حقه، لمّا ابن أم مكتوم والنبي مشغولٌ بزعماء وعظماء العرب يدعوهم إلى الله، وأتى وما قدّر ما يجب أن يفعله، النبي بأمرٍ عظيم، يُريد أن يُشغل النبي عن الأمر العظيم إلى أن يُشغل النبي بنفسه، علِّمني القرآن والنبي يُعلِّم الإسلام لعظماء قريش، فالنبي أعرض عنه، فهنا حقوق الإنسان، حقوق الإنسان الضعيف تجاه الإنسان العظيم، ما نظر القرآن والإسلام إلى عَظمة الإنسان، نظر إلى عَظمة القانون، وعَظمة الحق، ولو كان الحق مع الضعيف، فأنزل الله عتَباً، ودرساً خالداً أبدياً في نصرة حقوق الإنسان الضعيف الأعمى أمام العظماء وأمام الزعماء:

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
[ سورة عبس]

تعبس في وجه الأعمى وتُعرض بوجهك عنه لأنه أعمى!

أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
[ سورة عبس]

وما يدريك لعله يزكى، يكون فيه قابلية أكثر من العظماء، وأرضه خصبة للهداية:

أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
[ سورة عبس]

إذا لم يتذكر من الداخل يتذكر في الفكر، ويكون مقدمةً لتزكية نفسه من الداخل.

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
[ سورة عبس]

أما الأغنياء والزعماء فـأنت تُقبل عليهم.

وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)
[ سورة عبس]

أنت لست مسؤولاً عنهم إذا قبلوا أو رفضوا.

وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
[ سورة عبس]

جاءك مُسرعاً، ومُهرولاً إليك:

كَلَّا
[ سورة عبس]

لا تعد إلى مثل هذا العمل، فأقبل على من يُقبل على الهدى، وأقبل على من يُقبل على الله، وعلى رسالة الله.
فهذا القرآن العظيم، هذا الإسلام المجهول للمسلمين، هذا القرآن الذي نقرؤه لا لنفهمه، نقرؤه لا لنعلمه، نعلم أوامره لنمتثلها، ونواهيه لنجتنبها، ووصاياه لنتخلق بها، هذا القرآن لمّا تركناه تركنا الله عز وجل، ولمّا نسينا العمل به نسينا الله:

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
[ سورة التوبة]


تعريف بالنازعات:

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
[ سورة النازعات]

من هي النازعات؟ الملائكة التي تنزع الأرواح من أجسادها، والنفوس القدسية من أنبياء وورثة الأنبياء، من العلماء بالله القائمين بعد رسول الله بتبليغ رسالة الله إلى مخلوقات الله، ومن تَبِعهم، فكل إنسان يقوم بنزع النقائص إلى الكمالات، والجهل إلى العِلم، والفسق إلى التقوى في نفسه فهو نازع ونفسه نازعة، المرأة إذا نزعت من نفسها النقائص والرذائل وصارت تنزع من غيرها في الدعوة إلى الله نقائص الآخرين، فهي من النفوس النازعات، ففي توجيهنا لتكون ولتصير نفوسنا النفوس المُقدسة التي تنزع الشر لتضع مكانه الخير، وتنزع الجهل لتضع مكانه العِلم، جعلها الله له يميناً مُقدسة، فأنت يا نفس صرت مُقدسة، صار الله يحلف بك، فما رأيكم هل تحبون أن يحلف الله بكم؟ بنفوسكم؟ الشخص يحلف برأس الرجل أم بحذائه ونعله؟ جعلنا الله من الذين يحلف الله بهم، هل أنتم مستعدون؟ فالمسلمون في زمن رسول الله عاشوا كل أوقاتهم، عاشت نفوسهم نازعة تنزع الجهل، وتنزع النقائص والرذائل والأخلاق الدنيئة إلى الأخلاق الفاضلة في نفسها، وفيمن تصل إليه، فهذه صار الله يحلف بها، أي إذا الله صار يحلف بك فالدليل ماذا؟ هل سيضعك في جهنم أم في الجنة؟ يكون راضياً عنك أم غاضباً عليك؟ وإذا كان الشيطان يحلف بك؟ قال: إذا بلغ الإنسان من العمر أربعين سنة ولم يغلب خيرُه على شره، يقول له الشيطان: فديتك بروحي من نفسٍ لا تُفلح أبداً، الشيطان يصير يحلف برأسه إذا بلغ أربعين سنة وما غلب خيره على شره، ما نزع الشر وأبدله بالخير، ما نزع الجهل وأبدله بالعِلم، فهناك نازعات يحلف الله بها، ونازعات يحلف الشيطان بها، فكل واحد منكم يفتش في نفسه يا ترى من يحلف به الله أم إبليس؟ ويقول له أيضاً: فديتك بروحي، فديتك نفساً لا تُفلح، إذا بعد الأربعين لم يركز فهذا لن يفلح بشهادة رسول الله، فنسأل الله أن يجعلنا من الذين قال الله فيهم:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
[سورة المؤمنون]

لمّا يُصلي يتفهّم أوامر الله، يتفهّم حديث الله معه، أوامره فيمتثلها، وصاياه فيُحققها، محبوباته فيعملها، مكروهاته فيجتنبها، فهذا قد أفلح، وإلا فقد خاب وخسر، وأول ما يُحاسب به المرء صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت هذا صلى أم تارك صلاة؟ هذا مُصلّ، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وصلاح الصلاة بحسب المواصفات القرآنية:

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
[سورة المؤمنون]

يتفهم أمر الله فتخشع له نفسه، وإرادته، ورغباته، فينفذ أوامر الله كاملةً كما أمر الله، وكما يحب الله ويرضى، أحلف - من الذي يحلف؟ الله- بالنازعات، ما النازعات؟ الملائكة التي تنزع الأرواح من أجسادها، وبالنفوس المُقدسة كنفوس الأنبياء والأولياء وورثة الأنبياء التي تنزع الشرور والآثام والجهالات من النفوس، وتبدلها بأضدادها من الخير، والفضائل، والحكمة، والعِلم.

من ينزع من قلبه شهواته الخبيثة وغفلاته لا يبقى له مقصود أعظم من الله:

وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)
[ سورة النازعات]

إذا الروح في الجسد نُزعت من الجسد كانت محبوسة لا تستطيع أن تطير، لكن لمّا تُنزع من جسدها، وتُلقي بجسدها فترتفع في الفضاء إلى عالم الملكوت، وتنشط من عقالها مثل المُوثق إذا قُطّعت حباله فينشط أم يبقى مكتوفاً موثقاً في أرضه؟ هذا بالنسبة لنزع الروح.
يُذكر أن بعضهم بعد موته رآه بعض معارفه قال له: صف لي الموت كيف رأيته؟ قال له: وأنا على فراشي أتحسس آلامي، وتبرمت ومللت من حياتي، وإذا بي أرى من مخلوقات الله ما رأيت جمالاً كجمالهم، ولا وجوهاً مشرقةً كأنوارهم، ولا أُلفةً وإقبالاً عليَّ كإقبالهم، كأنهم أصدقاء لي كل الحياة، فقالوا لي: كيف أنت؟ شكا لهم ما هو فيه من أسقامٍ وآلام، فقالوا له: تعال معنا إلى النزهة فتذهب آلامك وأسقامك، فقال: ألا ترون عجزي وضعفي لا أستطيع، قالوا: أنت قل: بسم الله، قال: لا أستطيع، قالوا: هات يدك، قال: فأخذوا بيدي فشدوها قال: وإذا بي كالطائر الذي خرج من قفصه، في القفص لا يستطيع أن يخرج، ولكن لما خرج طار في الفضاء بنشاط أم بكسل؟ بقوةٍ أم بضعف؟ بعجزٍ أم بقدرة؟ قال: وإذا بي دهشت مما أنا فيه أين ضعفي؟! وأين قوتي؟! أين عجزي؟! وأين نشاطي؟! قال: فأخذوني إلى رياض، إلى جِنان يعجز اللسان عن وصفها، وأنا أمشي في تلك الجنان رأيت نوراً بين أشجارها، وسمعت الأذان، فشمّرت لأتوضأ في نهرٍ رأيته هناك، قال: فلمّا اتجهت نحو النهر إذا بي تقع عيناي على شابةٍ ما رأت عيني مثل جمالها، ولا دلالها، ولا أُنسها، ولا جاذبيتها، قال: فتذكرت قول الله تعالى:

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)
[ سورة النور]

قال: فوضعت ذراعي على وجهي غضّاً للبصر، وامتثالاً لكلام الله، قال: فصارت تضحك، وتقهقه، واتجهت إليّ، وأمسكتني من ذراعي ووضعته إلى أسفل، وقالت لي: أما علمت إلى أين صرت؟ أنت خرجت من الدنيا إلى عالم الآخرة، لم يعد قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ولكن قل للمؤمنين يُحدقوا بأبصارهم.
فالروح لمّا تصل بعد النازعات والنزع تصبح من الناشطات، تتنشط قوةً، تصير طائرة، تتنشط فرحاً وسروراً، بهجةً وانشراحاً، فحلف الله بها، وكذلك المؤمن والعارف بالله لمّا ينزع من نفسه شهواته الخبيثة، وغفلاته، وتعلقات قلبه بغير الله حتى لا يبقى له محبوب ولا مقصود أعظم من الله عز وجل، فينشط في العبادة، وتُفاض عليه بحار العلوم والحكمة ما يجعل عقله في منتهى النشاط في فهم الأمور الدينية والدنيوية، وينشُط في الدعوة إلى الله، وفي تعليم الناس، ونقلهم من الظلمات إلى النور، فالنفوس التي تحمل هذه الصفات من أنبياء، أو علماء بالله، أو دُعاة إلى الله، وهي نشطة فرحة مُتسابقة إلى مرضاة الله، ألا يحق لها أن تكون قسماً لله يحلف بها؟ وإذا كان من النوع الذي هو قسَم بإبليس إذا بلغ العبد أربعين سنة ولم يغلب خيره على شره قبّله الشيطان بين عينيه وقال: لا عدمت نفساً فديت نفساً لا تُفلح أبداً.
يا بني هذا كلام لا تسمعونه للتسلية، هذا كلام بالنسبة للموفق هذا مباشرةً حتى نُبدِّل شرنا بخير، وجهلنا بعِلم، وفسقنا بتقوى، وخفتنا وطفولتنا برجولة المؤمنين، حتى نكون قَسماً، ويحلف الله بنا، لا نكون قسماً للشيطان يحلف بنا، فمن يريد أن يكون الشيطان يحلف به؟ القول قول، والدين دين، لكن ليس على طريقة جحا، جحا رحمة الله عليه سألوه كم عمرك؟ قال لهم: أربعون سنة، وبعد عشر سنوات سألوه: كم عمرك؟ فقال لهم: ألم أقل لكم أربعين سنة، قالوا له: مضى عشر سنوات! فقال لهم: القول قول، والدين دين، كما أن الدين لا يتغير أنا كلامي لا يتغير، فالشيء الناقص يجب أن يتغير، والشيء المتخلف القذر الذي لا يُحبه الله يجب أن يتغير، والخير يجب أن يتغير بزيادته.

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
[ سورة النور]

من الذي يحلف والنازعات؟ هل الله يحتاج ألا تُصدقه حتى يحلف لك، بيتك خَرِب إذا لم تُصدقه، وإيمانك خرب، وأنت تعيس، وأنت شيطان من شياطين الإنس إذا لم تكن شيطاناً فأنت حِماره يركبك ويقودك إلى ما يُشقيك، وإلى ما يُتعسك، وإلى ما يُخزيك في الدنيا قبل الدار الآخرة.

قسم الله بالنفوس النشيطة المسارعة إلى طاعة الله:

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
[ سورة النازعات]

ما معنى غرقاً؟ بكل استغراق، بكل عِمق من أعماق أعماق جسدك سوف تُنزع الروح، من كل خلية من خلاياك، والنفوس الشريفة أيضاً تنزع من كل وجودها كل رَذائلها، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها، فلتكن نفوسنا من النازعات التي تنزع من الشر إلى الخير، ومن الجهل إلى العِلم، حتى تكون قسماً ويميناً يحلف الله بها، ولنحذر أن نكون من النفوس الخبيثة التي يحلف الشيطان بها، فقسَم لله أنتم أم قسَم للشيطان؟ قولوا: يا الله، يا الله ثبتنا بقولك الثابت، واجعل نفوسنا:

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
[ سورة الفجر]

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
[ سورة التوبة]

هذه النفوس النازعات غرقاً.

وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)
[ سورة النازعات]

فتصير طاعة الله إذا أردت أن تعملها، تعملها وأنت نشيط، لا كسل كالمنافقين، لا يقومون إلى الصلاة إلا وهم ناشطون؟ إلا وهم كُسالى.

وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
[ سورة التوبة]

وإذا تصدقوا ناشطين؟ (وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)، النبي يقول:

{ وجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ }

[صحيح النسائي]

يذكرون أن أحدهم ذهب إلى شيخه وقال: يا شيخي أرجوك كما أعطيتني طريقاً، وعلمتني، يوجد أشياء لا أقدر عليها أريد أن تساعدني، قال له: ماذا؟ قال له: عندي زكاة خمسمئة ليرة ذهب، ولا أستطيع إخراجها، وليس عندي نشاط وطاقة وقوة أن أُخرِج الزكاة، قال له: ماذا أستطيع أن أفعل؟ أنا عليّ أن أُعلّمك وأبلّغك، كيف أساعدك؟ فقال له: لا، يجب أن تساعدني أكثر، قال له: كيف؟ قال له: غداً صباحاً تأتي إليّ، وتُحضر معك عدداً من الشباب الأقوياء وأنا سأضع خمسمائة ليرة ذهب في الصندوق، في عتبة المحل، في صرة حمراء، وسأبقي الصندوق مفتوحاً، فبعد أن تتناولوا الطعام، وتشربوا الشاي والقهوة، تأمر الشباب أن يمسكوا بي ويربطوني، وأنت تفتح الصندوق، وتأخذ ليرات الذهب زكاة، وتنفقها في أعمال الخير، وتنقذني بذلك من نار جهنم، فأنا لا يوجد عندي نشاط، ولا يوجد عندي من السخاء ما أؤدي فريضة الله عليّ، وسأدخل جهنم لا يستطيع غيرك أن ينقذني، وعندما فعل الشيخ ما طلبه منه، والشباب الخمس يمسكونه، فتح الشيخ الصندوق، وأخرج الصرة، والرجل رغم أن خمسة شباب ممسكين به كان سيغلبهم كلهم، وطار عقله مع الصرة، وأُغمي عليه لما الشيخ ذهب، وقال له: دعهم يُمسكوا بي حتى تصل لبيتك لأني إذا أمسكتك في السوق سأستعيد الذهب، فهذا من الناشطات نشطاً في امتثال أوامر لله؟ لكنه على كل حال دبر نفسه، نسأل الله ألا يجعلنا من هؤلاء، يجعلنا من الذين قال الله فيهم:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
[ سورة آل عمران]

سارعوا؛ المُسارع نشيط أم كسلان أم مشلول؟

وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)
[ سورة النازعات]

أي وأقسم بالنفوس الناشطات نشطاً.

التسابق إلى الخير والتنافس في الفضائل:

وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)
[ سورة النازعات]

هذه النفوس المُقدّسة تسبح في علوم الله، في معارف الله، في أنوار الله، في بحار الأنوار، في بحار الحكمة، ما يجعلها تفيض على الناس خيراً وسعادةً وتقدّماً.

{ من أخلص للهِ أربعينَ يومًا تفجرتْ ينابيعُ الحكمةِ من قلبِه على لسانِه }

[إسناده ضعيف]

وعند خروجها من أجسامها تسبح في عالم الكون اللانهائي، وفي النعيم الربّاني:

{ في الجنةِ ما لَا عينٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلْبِ بَشَرٍ }

[الألباني صحيح الجامع]

في بحرٍ:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
[ سورة آل عمران]

وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)
[ سورة النازعات]

ففي حال الحياة يتسابقون إلى مرضاة الله عز وجل، النبي مرةً دعا الصحابة للإنفاق في سبيل الله، فأتى عمر، وأراد أن يسبق أبا بكر، فأتى بنصف ماله اعتقاداً منه أنه لا يأتي أحدٌ من الصحابة بنصف ماله صدقةً إلى رسول الله في الجهاد في سبيل الله، فقال له: ما تركت لنفسك وأهلك يا عمر؟ قال: تركت لهم نصف مالي، فأتى أبو بكر بكل ماله، وما سمع الحديث الذي دار بين النبي وبين عمر، قال له النبي: ما تركت لنفسك وأهلك يا أبا بكر؟ قال: تركت لهم الله رسوله.
هم يتسابقون فما أحلى التسابق إلى الخير! ما أحلى التنافس في الفضائل! التنافس في العِلم، التنافس في التقوى، التنافس في الصدقات، فقال لهما: ما بينكما كما بين كلمتيكما.

{ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أمرَ بالصَّدقةِ، فقالَ عمرُ بنُ الخطَّابِ: وعِندي مالٌ كثيرٌ؛ فقُلتُ: واللَّهِ! لأُفضلنَّ أبا بَكْرٍ هذِهِ المرَّةَ. فأخَذتُ نِصفَ مالي وترَكْتُ نِصفَهُ، فأتَيتُ بِهِ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ؛ فقالَ: هذا مالٌ كثيرٌ؛ فما ترَكْتَ لأَهْلِكَ؟ قالَ ترَكْتُ لَهُم نصفَهُ. وجاءَ أبو بَكْرٍ بمالٍ كثيرٍ، فقالَ رسولُ اللَّهِ ما ترَكْتَ لأَهْلِكَ؟ قالَ: ترَكْتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ }

[ابن كثير فيه ضعف]

نسأل الله أن يجعلنا من السابقين إلى كل خير بأبداننا، وبأفكارنا، وبمشاعرنا، إذا لم تستطع أن تعمل الخير فاسع لعمل الخير مع الغير:

{ الدالُّ على الخيرِ كفاعِلِهِ، واللهُ يُحِبُّ إِغاثةَ اللهْفانِ }

[ الألباني ضعيف الجامع]

وفاعله في الجنة.

قسم الله بالسابحات والسابقات:

وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)
[ سورة النازعات]

في بحار العلوم والأخلاق والفضائل.

فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)
[ سورة النازعات]

في الأعمال، وفي كل ما فيه خير وقُربةٌ إلى الله عز وجل، كم يمين هل صدّقتم الله؟ لكن الله لا نعرف لماذا يحلف، والله يا الله نحن نُصدقك بلا يمين، هذه أربعة أيمان، وهذه يمين خامس لأنه يوجد منكم من لا يُصدق الله، فما أعظم رحمته! يحلف لنا، إذا أحدهم قال لك: والله العظيم يا أخي أُصدقك لماذا تحلف؟ حاشاك أنت أن تكذب علينا فالله يحلف لنا، يوجد أناس الله يحلف لهم ولا يُصدقون، وأناس الله يحلف لهم ولا يستجيبون غفلةً، وجهلاً، وصَمماً عن سماع كلام الله، وفهم مضمونه، في غفلة مثل الدابة، مثل الحيوان، لا يعرف إلا الطعام والشراب والتناسل واللهو واللعب والطفولة وتضييع العمر والوقت في اللغو وفي الإثم.

تدبُر أمور الأمة حتى تصبح كالجسد الواحد:

فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
[ سورة النازعات]

ففي نهاية الأمر عليك أن تُدبر أمور الآخرين، فالنبي عليه الصلاة والسلام وهو أقدس نفوس البشر، وكان من النفوس النازعات من نفسه في حراء حتى صفت روحه حتى صارت كأرواح الملائكة، فرأى وتراءى له جبريل عليه الصلاة والسلام، وبلّغه رسالة الله عز وجل، فكان نشيطاً في طاعة الله، كان يُصلي في تهجده يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء في ركعةٍ واحدة صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله.
في الجهاد هل كانت نفسه من الناشطات نشطاً؟ في كل أوامر الله هل كان أحد يسبقه إليها؟ فهذا النزع إلى الخير، والنزع عن الشر، مع النشاط، مع السباحة في بحر الخيرات والعلوم والفضائل، مع التسابق ماذا أنتج ؟ أنتج:

فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
[ سورة النازعات]

دبّر أمر الأمة بعد أن كانت قبائل وعشائر تتعادى، وتتقاتل، وتسيل بينها الدماء، وتتقاطع الأرحام، فصاروا كالجسد الواحد بعد أن كانوا كالحيوانات في ضياع الصحراء، صاروا خير أُمة، وأعظم دولة، دولة تُمثل هيئة الأمم، ليست هيئة الأمم التي تكيل بالمكيالين، هيئة الأمم التي لا تكيل إلا بمكيال الحق والعدل والقسط، لا فرق بين ملك ومملوك وقوي وضعيف وغني وفقير، فما انتهت حياة رسول الله حتى دبر أمر العرب، ووّحد جزيرة العرب بلا سيارات، على الأقدام، بلا قطارات، ولا هواتف، ولا لاسلكي، ولا طباعة، ولا مطابع، ولا كل هذه الوسائل التي كل لو كانت في زمن رسول الله لجعل الكرة الأرضية الجزيرة العربية، والأمة الموُحدة، والدولة الموُحدة، والعائلة المُوحدة كالجسد الواحد وبعشر سنوات.
وبعده سيدنا أبو بكر كانت نفسه من المُدبرات أمراً؟ من النازعات غرقاً؟ من الناشطات نشطاً؟ من السابحات في العلوم وفي الفضائل والأعمال الصالحة العظيمة؟ من السابقات سبقاً؟ ما سبقكم أبو بكرِ بكثرة صلاةٍ ولا صيام ولكن بشيءٍ وقر في قلبه، أين يا بني ثقافة وقر في قلبه في الكُلِّيات الإسلامية؟ في الأزهر والجامعات الدينية يا ترى هل وضعوا مادةً لحياة القلب بذكر الله؟ إذا وضعوا كتاباً للقراءة هذا القرآن نقرؤه ولا نستفيد، قراءة الوصفة الطبية غير الذهاب للصيدلية، وأخذ الدواء، ودفع الثمن، وشراء الدواء، واستعماله حسب مواصفات الطبيب، الوصفة تنفع إذا مشينا في موضوعها إلى آخر مراحلها وكذلك القرآن هو الوصفة الطبية الإلهية ليكون النطق بحروفه علم التجويد إجادة فهمه، تجويد العمل به، يجب أن يكون وارثاً نبوياً، ووارثاً مُحمدياً.

{ العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ }

[أخرجه أبو داوود والترمذي وابن ماجه]

فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
[ سورة النازعات]

عمر ماذا دبّر من أمور البشرية والعالم؟ سيدنا عثمان وصلت جيوش العلم والتزكية والحكمة إلى الصين وإلى الأندلس، نزل الجيش الإسلامي في الأندلس في خلافة عثمان ولكن كان نزول استكشاف وليس نزول استقرار، هل جاهدوا للغنائم؟ هل جاهدوا لغصب الأموال؟ لإذلال الإنسان؟ كل البلاد الذي فتحها المسلمون الأولون صار الفاتح والمفتوح بلده في مرتبةٍ واحدة في العِلم صاروا علماء، في الحكمة صاروا حُكماء، في الإنسانية، في الأخلاق، في كل شيء المسلمون تتساوى دماؤهم، وتتكافأ دماؤهم، ويسعى بهمتهم أدناهم، الأدنى إمضاؤه مثل إمضاء الأعلى، إذا الجندي أعطى الأمان للعدو، وقائد الجيش لم يرض يسعى بذمتهم، نقول: ديمقراطية، أليس عيب علينا نحن العرب والمسلمون أن نقول ديمقراطية؟ ونخجل أن نقول إسلام لماذا؟ لأننا جهلنا الإسلام، ونفهم الإسلام من واقعنا المُتخلف، المُتردي، الغارق في الخرافات، في اللهو، الغارق في البُعد عن فَهم الحقائق، والعمل بمقتضاها، فشخص يكون أبوه ملك، ويقول ابن الملك: أنا ابن عامل التنظيف، ينتسب لعامل التنظيف أم للملك؟! لكن إذا كان عامل التنظيف هو أبوه ويعرف أنه أبوه، ويجهل من هو أبوه فيقول: أنا ابن من؟ ابن عامل التنظيف، فالدول التي تدعي الديمقراطية يا ترى هل وصلت إلى حضارة الإسلام التي كان عليها المسلمون الأوّل؟ في علوم زمانهم كانوا أرقى الأمم في الحضارة، في الأخلاق، في التضحية، في البذّل، في كل الفضائل الإنسانية، فدبروا أمور دنياهم في كل نواحي الحياة الجسدية، والروحية، والعلمية، والفكرية، والاجتماعية.

فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
[ سورة النازعات]


الغاية من الأيمان هي أن كل إنسان سيحاسب على عمله يوم القيامة:
هذه خمسة أيمان، نعم يا ربي أنت تحلف لنا ماذا تريد؟ والله والله والله والله والله أخي يمين واحد أُصدّقك بدون يمين أنت صادق لماذا تحلف؟ الله يقول: أنا سأحلف لكم لأنكم لا تصدقون يميناً واحدا، ومن دون يمين لا تصدقوني، لذلك سأحلف لكم خمسة أيمان، فغداً يوم القيامة إذا حاسبك وقال لك: حلفت لك خمسة أيمان ولم تُصدقني ماذا سيكون جوابك لله؟ نساءً ورجالاً؟
أحلف بالنازعات وبالناشطات وبالسابحات وبالسابقات وبالمدبرات، أحلف بأنكم بعد موتكم ستبعثون يوم القيامة، وسُترجِعون إلى الحياة بعد الموت، وأعمالكم مُسجلة في صحائف الملائكة، وستُدعون إلى محكمة الله أنتم وأخصامكم ومن اعتديتم عليهم، حقوق الخلق مع الخلق، وستُـسألون وتحاسبون عن حقوق الله وفرائضه التي فرضها الله عليكم، والله والله والله لتُبعثُنّ ولتُحاسبنّ ولتُحاكمنّ في محكمة الله.
النبي كان مع أصحابه فرأى شاتين - غنمتين - تتناطحان فقال النبي لأصحابه: هل تدرون فيم انتطحتا؟ قالوا: لا ندري، قال: أما الله فيدري فيما تناطحتا وسيقضي بينهما يوم القيامة للمظلومة على الظالمة.

{ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم كان جالسًا وشاتانِ تعتلِفانِ فنطَحَتْ إحداهما الأخرى فأجهَضَتْها فضحِك رسولُ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم فقيل ما يُضحِكُك يا رسولَ اللهِ؟ قال عجِبْتُ لها والَّذي نفسي بيدِه ليُقادَنَّ لها يومَ القيامةِ وفي روايةٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم رأى شاتينِ تنتطِحانِ فقال يا أبا ذرٍّ هل تدري فيما انتطَحَتا؟ قال: لا، قال: ولكنَّ اللهَ يدري وسيقضي بينهما }

[الهيثمي مجمع الزوائد]

يا ترى هل نحن نصدق بأن محمداً رسول الله؟ هل هذا الكلام ينقلب من آذاننا إلى أعمالنا، من آذاننا إلى أبصارنا لنشهد الكلام عملاً وخُلُقاً وواقعاً وسلوكاً؟ هذا هو الإيمان يا بني، نحن لسنا بحاجة إلى زيادة الفقه، الفقه بالقرون الخمس عشر شهد علماء أوروبا بأن الفقه الإسلامي هو من أعظم الفقه في العالم كله، لكن نحن في أزمة ضعف الإيمان، أو فقد الإيمان، لأنه لا يظهر الإسلام بصورته الوضاءة الحقيقة الجميلة التي تعشقها كل نفسٍ تراها، أو كل نفسٍ تسمع نغمها وموسيقاها، ولو رأينا وسمعنا الحقيقة فإن النفوس جُبِّلت على حب الجمال والكمال.

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
[ سورة النازعات]

ما جواب اليمين؟ أُقسم بالنازعات أنكم لتُبعثنّ يوم القيامة.

وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)
[ سورة النازعات]

أي أُقسم بالناشطات بأنكم ستحاسبون على أعمالكم صغيرها وكبيرها، خَفيِّها وعلنها.

وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)
[ سورة النازعات]

أُقسم بالسابحات لتُحاسبنَّ رجالاً ونساءً، ملوكاً ومماليك.

فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)
[ سورة النازعات]

أحلف بالسابقات لتُحاسبنَّ على أعمالكم صِغاراً وكِباراً، عُلماء وجُهلاء، وأُقسم بالمدبرات أمراً بأنكم ستبعثُنّ من قبوركم ولتُحاسبنَّ على أعمالكم.

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[ سورة الزلزلة]

فيا ترى أنتم الذين في الجامع صدّقتم الله بأيمانه التي حلفها؟ سيكون حماراً أو حتى يا ليته حمار، فالحمار لا يُحوج الله أن يحلف، الله قال له: سخرتك لبني آدم، قال له: على رأسي، تُحمِّله طهارة، تُحمِّله نجاسة، تُحمِّله فوق طاقته، تضربه، تشتمه، يقول لك: والله لولا أن الله سخرنني لضربتك وكسرت مخك، لكن الله أمرني وأنا ممتثلٌ لأوامر الله، فالله يأمرنا ويحلف لنا الأيمان ألا نُصدق الله؟! لا نمتثله! والحساب لتُبعثنَّ ولتُسألنَّ ولتُحاسبنَّ في كتابٍ لا يغادر لا يترك من أعمالكم صغيرةً من الأعمال والأخلاق ولا كبيرةً إلا أحصاها:

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
[ سورة الكهف]


حاجة المسلمين إلى فقه القرآن:
أين نحن من فقه القرآن يا بني؟ ما أحوج المسلمين إلى فقه القرآن، فقه السياسة، فقه العبادات الجسدية، كل الناس يعرفون الصلاة ويعرفون فرضيتها، مع معرفتهم بالفقه هل يمتثلون أوامر الله؟ هل يجتنبون محارم الله؟

{ الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فمَن تَرَكَ ما شُبِّهَ عليه مِنَ الإثْمِ، كانَ لِما اسْتَبانَ أتْرَكَ، ومَنِ اجْتَرَأَ علَى ما يَشُكُّ فيه مِنَ الإثْمِ، أوْشَكَ أنْ يُواقِعَ ما اسْتَبانَ، والمَعاصِي حِمَى اللَّهِ مَن يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يُواقِعَه }

[صحيح البخاري]

سياسة النبي، فقه سياسة النبي، فقه الخلفاء الراشدين، فقه سياسة الكُتب، كل هذا مذكور ومبين، نحن لا نعمل بأدنى درجات الفقه بسورة كما في سورة :

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
[ سورة الزلزلة]

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[ سورة الزلزلة]

هل المسلم يفقه هاتين الآيتين؟ إذا واحد قال لك: افقه، انتبه هذا عقرب، فهمت؟ هل فقهت؟ عندما تفقه أنه عقرب ما مقتضى هذا الفقه؟ الابتعاد، وإذا قال لك: هذا خاتم الألماس هدية مني لك، ما مقتضى هذا الفقه؟ تشكره وتقبّل يده، يا ترى هل نحن نفقه كلام الله كما ينبغي أن يُفقه؟ نسأل الله أن يرزقنا الفقه في القرآن.

الفقه في سنة رسول الله:
الفقه في سنة رسول الله حسب ما فهمه سلفنا الصالح على قلة الوسائل فيما بين عصرهم وعصرنا استطاعوا بخمسين سنة أن يجعلوا نصف العالم عالماً عربياً، عالماً علمياً، عالماً إسلامياً وليس ديمقراطياً، الديمقراطية الحكم للأكثرية، أما الإسلام فالحكم للحقيقة، والحق، والعدل، لو الأكثرية كلها كانت ظالمة والحق مع واحد فالإسلام مع من؟ مع الحق ومع الحقيقة، فأيُها أرقى؟
لمّا أراد عمر أن يُحدد مهور النساء بخمسمئة درهم، وبالإجماع الصحابة وافقوا، تكون حقوق المرأة ضائعة؟ الاستعمار هو من يريد أن يرد للمرأة حقوقها! الذي يأكل حقوق الشعوب ويمتص دماءها سيبحث عن المرأة؟! لكن حتى يُفسد على الناس دينهم، الإسلام انظر إلى حقوق المرأة في الإسلام، فقامت إحداهن وقالت له: ليس لك ذلك يا بن الخطاب، تُحدد مهور النساء فأنت غير مُحق فيما تعمل، يا ترى إذا امرأة في سويسرا والمجلس النيابي قرر تحديد المهر مثلاً، وامرأة سويسرية عارضت يا ترى الديمقراطية ماذا تفعل؟ ترفض ولا تستجيب للمرأة، في الديمقراطية الحكم للأكثرية، وإذ كانت الأكثرية مُخطئة يبقى الحكم للأكثرية، أما الإسلام الحكم للحقيقة والواقع، قالت له: أما قرأت قول الله تعالى:

وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (20)
[ سورة النساء]

الله حدد المهر قنطاراً من ذهب، أتدري ما هو القنطار ؟ كيف أنت تُحدد؟ فقال عمر: أصابت امرأةٌ وكذب عمر، أخبروني أي دولة كلينتون يقولها؟! أصابت امرأةٌ وكذب كلينتون، وكذب بوش؟! لكن هذا من جهلنا بإسلامنا يا بني، والحق على المشايخ فالمشايخ يُعلمون الوضوء، لا يوجد أحد لا يعرف الوضوء، يعلمون الاستنجاء، القطط تعرف أن تستنجي، يُعلموننا ما هو معلومٌ لنا، والأشياء المجهولة التي أكثر الناس يجهلونها وأعظم الجهل الجهل بالله.

حياة القلب بذكر الله:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[ سورة الحديد]

هل فقهتها؟

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
[ سورة النحل]

هل فقهتها؟

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
[ سورة العنكبوت]

بما تعملون خبير، بما تعملون بصير، هذه موضع فقهها القلب، والقلب الميت، الميت إذا أعطيته خمسمئة درس هل سيفهم شيئاً؟ القلب حياته بذكر الله، حياته ليست بحب بعشق الوارث برسول الله، إذا ما صار عندك العشق بحيث لا يصبح لك محبوب بعد الله ورسوله إلا من يدلك على الله لا تكون أتيت بشيءٍ مُبالغ فيه، أتيت بالشيء الطبيعي الذي بدونه لا يكمل إيمان المؤمن.

{ المرءُ على دينِ خليلِه فلينظرِ المرءُ مَن يُخالل }

[أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد]

فالذي يحب الحشاشين، المدمنين للمخدرات، حبه إلى أين يوصله؟ الحُب هو الرابطة، الرابطة رابطة الحُب توصله إلى كل ما يحبه المحبوب، نسأل الله أن يرزق المسلمين وجود النفوس النازعات غرقاً، والمدبرات أمراً، فكان العرب بالقرآن يُدبرون أمر نصف الكرة الأرضية من حدود فرنسا إلى حدود الصين:

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
[ سورة الصف]

وقف الفتح كدولة، قام الدعاة بالدعوة إلى الله، اجتازوا الهند حتى وصلوا إلى إندونيسيا، بلا جيوش، وبلا سلاح، وبلا معارك حربية، بالدعوة إلى الله، الإسلام لا يتوقف على الدولة أن تقوم بالإسلام، إذا وجد الدعاة يقوم الإسلام، فالمسلم يا ترى والذين أوصلوا الإسلام إلى إندونيسيا كانوا خريجي الكلّيات والجامعات؟ كانوا خريجي الجوامع، الجامع مذكر والجامعة أنثى.

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
[ سورة النساء]

إذا الجامعة لا يوجد فيها روح الجامع وإلا زوجة عقيم، نحن بأزمة شهادات الجامعات؟ الجامعات صارت بمئات الألوف في العالم الإسلامي، أين النِتاج؟ أين التقدم؟ إسرائيل كنا نسميها: زبالة وشذاذ الآفاق، فما هو حال العرب أمام إسرائيل من حيث القوة والعلم والسلاح إلى آخره؟

الدعوة إلى الله:
أنتم كل واحد منكم يجب أن يقوم بالدعوة إلى الله أولاً لنفسه، ينزع من نفسه بإغراق- والنازعات غرقاً- كل الأوصاف الناقصة، ينزع الجهل ويضع بدلاً منه العِلم، ينزع الأوهام ويضع الحقائق، والله يحلف لك أنه سيبعثك ويُحضرك إلى محكمته ويحاسبك على مثاقيل الذر، هذا كلام الله يا بني وليس كلام جرائد، يصح الخبر أو يُكذّب الخبر في اليوم الثاني.

فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
[ سورة النازعات]

أين جواب القسم؟ أقسم بالمُدبرات أمراً بأنكم ستبعثون بعد موتكم إلى الحياة الخالدة، وتُدعون إلى محكمة الله ليُحاكمكم على أعمالكم من حقوق الله، أو الحقوق فيما بين بعضكم بعضاً، النبي قال:

{ دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، ولَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِن خَشَاشِ الأرْضِ }

[صحيح البخاري]

محكمة الله انعقدت من أجل هرة، امرأةٌ حبستها حتى ماتت فلم تطعمها، ولم تتركها تفتش على رزقها، فماتت جوعاً، فأدخل الله امرأةً نار جهنم بسبب هرةٍ هذا جواب القسم.
وغفر الله لامرأةٍ أصابها العطش في الصحراء فرأت بئراً بلا دلوٍ ولا حبل، فنزلت البئر فشربت، ورأت كلباً يأكل الطين والثرى من العطش حول البئر، فقالت: مسكين هذا الكلب أصابه الذي أصابني، فملأت فمها ماءً وخُفها بذلك فسقت الكلب فالنبي يقول: فشكر الله لها صنيعها فغفر لها .

{ بيْنَا رَجُلٌ بطَرِيقٍ، اشْتَدَّ عليه العَطَشُ، فَوَجَدَ بئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا، فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقالَ الرَّجُلُ: لقَدْ بَلَغَ هذا الكَلْبَ مِنَ العَطَشِ مِثْلُ الذي كانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ البِئْرَ فَمَلَا خُفَّهُ مَاءً، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ له فَغَفَرَ له، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وإنَّ لَنَا في البَهَائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقالَ: في كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ }

[صحيح البخاري]

هذه محكمة الله، المُحاكمة ليست فقط على السيئات، المحاكم تُحاكم على الحسنات، أي إذا عملت حسنات تكافئك؟ لا، فقط على السيئات تُعاقبك، محاكمنا للعقوبة أما محاكم الله للعقوبة وللمثوبة، للإحسان وللقصاص وتأديب الجُناة.

فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
[ سورة النازعات]

فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)
[ سورة النازعات]

لتُبعثنَّ ولتُحاكمنّ فهيئوا أنفسكم، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا.

وقوف الناس للحساب بعد النفخة الثانية:
متى البعث قال:

يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)
[ سورة النازعات]

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
[ سورة الزلزلة]

تبدأ القيامة بالزلازل ثم:

وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)
[ سورة الحاقة]

وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5)
[ سورة القارعة]

وتموت الخلائق كلها، وبعد أربعين سنة تكون النفخة الأخرى فيُحيي الله الموتى كلهم، وبعد النفخة الثانية يكون الحساب ومحكمة الله عز وجل:

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
[ سورة المجادلة]

أنت نسيت ماذا فعلت لكنه مُسجل الله، والفيديو الإلهي صورةً وصوتاً ومكاناً وعمراً وسناً، فهذه التربية القرآنية تخرج منها أبو بكر، إذا في المجال السياسي أعظم إمبراطور ديمقراطي، نقول عنه: ديمقراطي، نكون أهنّا أبا بكرٍ الصديق، لكنه صدّيقٌ، لكنه مؤمنٌ، لكنه ينصر الحق والحقيقة مع أضعف خلق الله على الأمة كلها، فأيهما أفضل الحكم للأكثرية أم الحكم للحق وللعدل وللإنصاف؟ فالضعيف إذا الأكثرية حكموا عليه ضاع حقه، أما في الإسلام إذا كان صاحب حق ولو كان ضعيفاً فالإسلام يُناصره.
الآن نخجل أن ننتسب للإسلام لِمَ؟ لأن الإسلام الذي يظهر في أعمال المسلمين بعيداً عن حقائق الإسلام، والعدو يبث سمومه ليُشوِّه الإسلام، ولجهلنا بالحقيقة، فصار المسلمون في حالة ضياع في صحراء بيداء ومفازةٍ، الله عز وجل يُهيئ للمسلمين ورثة رسول الله ليوقظوا النفوس، ويوقظوا العقول، وتتلاقى قوى الأمة لتنهض بها، وتبعثها بعثاً محمدياً ربّانيّاً قرآنيّاً وبالحكمة والموعظة الحسنة، كما يبعث الطبيب الصحة في جسد المريض بالحكمة والرفق والرعاية والعناية، هكذا ينبغي أن تكون الدعوة إلى الله في كل من يتصدى للدعوة إلى الله عز وجل فقال:

يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)
[ سورة النازعات]

النفخة الأولى تبدأ بالزلازل، ثم دكدكة الجبال، ثم تتبعها النفخة الثانية وهي الرادفة، ثم يكون الحشر للمخلوقات أجمعين للحساب.

حشر جميع الخلق إلى الحساب وإلى محكمة الله:

قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
[ سورة النازعات]

قلوب المجرمين، قلوب الآثمين، قلوب الظالمين، قلوب الكافرين واجفة، مُمتلئةً رعباً، وخوفاً، واضطراباً، وحيرةً لمّا ترى أعمالها التي عملتها في دار الدنيا من كفرها بالله، وارتكابها لمعاصي الله، ومُخالفتها لأمر الله، قلوبٌ يومئذ اللص إذا أمسكوه وأخذوه للشرطة كيف يكون قلبه؟ هل يكون قلبه واجفاً أم مسروراً؟ مسروراً أم في ذهول؟ يرجف أم مُطمئناً؟

قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
[ سورة النازعات]

والمجرم لمّا يؤخذ بجرمه ويُساق رافع رأسه وعيونه مفتوحة أم أبصاره خاشعة؟ مُطأطئ الرأس وخافض الأجفان.

يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
[ سورة النازعات]

أي أإنّا لنرجع، كان يقول النبي: نرجع إلى الحياة الحافرة أي الحياة الأولى، والحالة الأولى نرد إلى الحياة بعد الموت:

أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)
[ سورة النازعات]

هل نرجع؟ إذا رجعنا.

قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
[ سورة النازعات]

إذا كنا سنرجع كما تقول قالوا: تلك إذاً كرةٌ وحياةٌ خاسرة، كانوا يقولون ذلك من باب الاستهزاء والتكذيب.

فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
[ سورة النازعات]

النفخة الثانية لمّا يُنفخ بالصور:

فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
[ سورة النازعات]

الساهرة وهي أرض المحشر، يُحشر الخلق جميعاً إلى الحساب، وإلى محكمة الله، لا يوجد ملك، ولا غني، ولا عظيم، ولا حقير، لا ينفعه ملكه، أو إلهه وماله، إلا من يعمل مثقال ذرةٍ خيراً أو شراً يرى، فهل صدقتم الله في أيمانه وفيما حدثنا به عن الواجفة وعن الرادفة وعن القيامة وأننا سنحاسب على أعمالنا صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها علنها وسرها؟
هذه التربية القرآنية هي التي أوجدت أعظم أجيال الإنسانية والعرب، أوجدت أعظم دولةٍ في العالم، أعظم عدالةٍ، أعظم مساواةٍ، أعظم حضارةٍ، أعظم العلوم في عصرها وزمانها.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وندعو إلى الله بأعمالنا وأقوالنا، وبكثرة ذكر الله، وارتباط قلوبنا بالحب الإلهي مع أحباب الله عز وجل.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الهدف من أعمالنا يجب أن يكون امتثال أوامر الله وابتغاء مرضاته:
الآن أنتم تعلّمتم هذه الآيات يجب أن تعلّموها للآخرين، النبي قال:

{ بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً، وَحَدِّثُوا عن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ }

[صحيح البخاري]

فكل واحد إذا رجع إلى بيته من رجل أو امرأة يعلّمهم سورة النازعات، وقبلها سورة النبأ العظيم المشهورة عند الناس بسورة عم وقبلها المرسلات.
اللهم اجعلنا علماء ومعلّمين وعاملين.

{ النَّاسُ هلكَى إلَّا العالِمون،والعالِمون هلكَى إلَّا العاملون، والعاملون هلكَى إلَّا المخلِصون، والمخلِصون على خطرٍ }

[الألباني السلسلة الضعيفة]

(النَّاسُ هلكَى إلَّا العالِمون)، والعِلم وحده لا ينجي إلا بالعمل، (والعالِمون هلكَى إلَّا العاملون)، ومع العمل أيضاً لا يوجد نجاة، قد تتعلم وتعمل لهدف أناني، وشخصي، ومنفعة دنيوية، أو لجاه، أو حتى يقول الناس عنك، أو جماعتك أكثر، جماعتي أقل، لتظهر بين الناس، يجب أن يكون إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي، ليس لك هدف من العمل إلا امتثال أوامر الله، وابتغاء مرضاة الله، (والعاملون هلكَى إلَّا المخلِصون، والمخلِصون على خطرٍ).
يا مقلب القلوب ثبت قلبنا على دينك، لا نغتر مهما بلغنا من الخير والتقى والعِلم والعمل حتى يخرج آخر نفس ونحن على الصراط المستقيم.
اللهم ثبتنا بقولك الثابت، ولا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
والحمد لله رب العالمين