تفسير سورة النبأ 03

  • 1995-03-10

تفسير سورة النبأ 03

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلوات وأعطرُ التّحيّات على سيّدنا محمّدٍ المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى أهل بيته الطّيبين الطّاهرين، وعلى أصحابه المجاهدين، وعلى أبيه سيّدنا إبراهيم، وأخوَيه سيّدينا موسى وعيسى وجميع الأنبياء والمُرسلين، وبعد:

مقدمة:
مرّ معكم تفسير سورة النّبأ، والمُراد مِنَ النّبأ؛ الخبر الهائل العظيم وهو الخبر عن يوم القيامة، أو الخبر عن حياة الخلود وسعادة الأبَد لأناسٍ وشقاء وتعاسة الأبَد لأناسٍ آخرين، والخِيار في هاتين الحياتين للإنسان في هذه الدّنيا، فإذا اختار سعادة الأبَد وسَلَك طريقها وأدّاها حقوقها فإنّ الله عزّ وجلّ يُعطي للعبد ما اختاره وأراده واستجاب فيه لنداء ربّه، وإن اختار الشّقاء وسَلَك طريقه وصاحب أشقياءه وكانوا هم جُلساؤه وأصدقاءه وسُمارأه ففقد اختار ما اختار، والله يقول:

وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
[سورة الكهف]

وقال أيضاً:

لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
[سورة المدثر]

وقال:

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
[سورة فصلت]

فإذا زَرع المزارع شوكاً فهل له الحقّ أن يعتِب على الله لأنّه لم يُنبِت في أرضه ورداً أو قمحاً أو شعيراً؟ فالله يقول له: أنت اخترت بذار الشّوك فهذا حصاد ما زَرَعت:

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
[سورة إبراهيم]

يوم القيامة لمّا يقول النّاس: أضلّنا الشّيطان وأزاغنا، فالشّيطان نفسه يُكذِّبُهم، يقول الله في القرآن عن هذا الخطاب عن الشّيطان: (فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم) نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العقل الذي يُدرك الأمور بحقائقها، ويعمل على مُقتضى الحقائق.

نجاة الإنسان في الدنيا والآخرة:
إذا عرفت أن هذه جمرةٌ وتحقّقت مِنْ معرفتها وعمِلت بمقتضى المعرفة فلن تضع أصابعك عليها ووضعتها في المطبخ لتطبخ طعامك فقد انتفعت بها، وإذا عاملتها على عكس ما خُلِقَت؛ بأن وضعتها في جيبك أو تحت قميصك فما هنا موضِع النار! فاستعملتها في غير ما خُلِقَت له، فعاكست قوانين الحكمة وعاكست حكمة الله عز وجل في خَلْق الأشياء، فالملامَة على مَنْ؟ والمسؤوليّة على مَنْ؟
فسورة النّبأ وقبلها سورة المُرسلات وقبلها سورة الدّهر والإنسان وقبلها سورة القيامة وقبلها سورة المدّثر كلّها تدور-ونصف القرآن يدور- حول مستقبل الإنسان الأبَدي.. والقرآن لم يكتفِ بأن ذكَّر الإنسان بأمور الأخرة، لا؛ بل وضع له المخطّط لسعادته في الدّنيا ولسعادته الأبدية في الدّار الأخرة، فلمّا فهِمَ العرب وفقِهُوا وعلِموا القرآن العِلم النّافع، العِلم الذي يتبعه العمَل والتّطبيق والتّنفيذ كانوا في دنياهم أسعَد خلق الله وأعزّ خلقه وأغنَى خلقه وأعلَم خلقه وأعظَم الأمم تقدّماً ورِفعَةً ومكانةً وتاريخاً عالميّاً دنيويّاً أبَديّاً:

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
[سورة الصف]

(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) تقول: "الله يهدينا" فالله عز وجل يقول: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
إذا أخرَجت مقوَد السّيّارة عن طريق الإسفلت، وتقول: "اللّهمّ هيّء لي طريق الإسفلت" وأنت بمقوَدِك ومقوَد السّيّارة تُخرِجه عن طريق الاسفلت فيا تُرى هل يستجيب الله دعاءك؟ ودعاؤك دعاء المعتدين الذين ذكرهم الله عزّ وجلّ في القرآن العظيم:

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
[سورة الأعراف]

أي المعتدين في الدّعاء، بأن تطلب مِنَ الله شيئاً ومَلّكك أسباب الوصول إلى مطلوبك فتُهمِل الأسباب الموصلة وتعمل عكسها، كأن تعزِم على ألّا تتزوج ثمّ تسأل الله أن يرزُقك الولد، هذا ما اسمه؟ هذا "اعتداء" تقول: "اللّهمّ أعزَّنا" ولا تسلك طريق العزّ، أو أن تقول: "اللّهمّ انصرنا على القوم الكافرين وما تُهيِّئ الأسباب:

وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
[سورة الأنفال]

فهذا اسمه اعتداءٌ في الدّعاء، وإذا اعتديت في الدّعاء فهل يستجيب الله لك الدّعاء؟ شَرَط الله عزّ وجلّ لاستجابة الدّعاء أن نستجيب لدعائه:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
[سورة البقرة]

حتّى أستجيب لهم، وقال أيضاً:

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
[سورة البقرة]

ونقول: "انصرنا على القوم الكافرين" وقد قال الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
[سورة محمد]


مصير المتّقين في الآخرة:
فالآن نحن في آخر تفسير سورة النّبأ، النّبأ فمِنَ النّبأ يذكُر الله مصير مَنْ استجاب لله، ومَنْ أصغى إلى نداء الله، ومَنْ سارع إلى امتثال أوامره، ومَنْ أدّى الواجبات التي أوجبها، والذي اجتنب وابتعد عمّا حرَّمه، فهذه المعاني اسمها "تقوى الله"، فالمتّقون ما مصيرهم؟ ذكَرنا في الدّرس الماضي عن الطّاغين: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ تنتظِرك وتترصّدك حتّى تصل ولمّا تصل تُلقِي بمخالبها على عُنقك، فالذين تجاوزوا أوامر الله إلى نداء أهوائهم وطُغيانهم وفسادِهم وإفسادِهم، إنّ ﴿لِلْطَّاغِينَ مَآبًا﴾ رجوعاً إلى جهنّم ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (22) لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ يعني السّجن المؤّبد، نسأل الله أن يحمينا.
واللهِ الإنسان عاجزٌ أن يعذّب ولو أوقف ساعة واحدة، المسافر إذا عذّبوه وقالوا له: أنت موقوفٌ لساعتين، هل يتضايق أم لا يتضايق؟ فإذا كان في جهنّم لابثين وماكثين فيها أحقاباً، والحقب والحقبة: ثمانون سنة، والله لم يذكر عدد الأحقاب، ولكن قال في آياتٍ أخرى:

إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ ۚ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
[سورة الجن]

فو اللهِ ما نستطيع أن نتحمّل توقيف بالمخفر ساعةً واحدةً، وكلّ ما يوجب أن تتوقف في الشّرطة أو في السّجن تبتعد وتتحرّز مِنْ وقوعك فيه، فكيف بالله وهو يُنذِرك ويُحذّرك وهو جبّار السّموات والأرض، فهل تُعظّم الشّرطي أكثر أم أوامر الله أكثر؟ يا تُرى هل هذا إيمان؟ وهل هذا فهمٌ وعِلم؟ فنسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا التّوفيق ويرزقنا رعاية الله وعنايته.
والآن ذكر القسم الثّاني؛ وهم المتّقون ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ والتّقوى في الأصل: امتثالُ وتطبيقُ وعملُ كلّ ما أمَرَ الله به؛ في جوارحك وفي سرائرك وفي تفكيرك وفي أعمالك وفي بيعك وفي شرائك وفي أكلك وفي شربك وفي كلّ شؤونك، إذا كنت تراقب الله وتعمل حسب ما أمرك الله.. الشّرطي إذا امتثل أوامر الدّولة فلمصلحة الدّولة، أمّا إذا أمرك الله عزّ وجلّ بشيءٍ لا لمصلحته إنّما لمصلحة الإنسان، قال الله تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]

وفي الحديث القدسي:
((خلقتُ الخلقَ ليربَحوا علَيَّ ولم أخلُقْهُم لأَربَحَ عليهِم))(1)
{ قوت القلوب للمكي }
نسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا العقل، ولكن أيّ عقل؟ عقل الموفّقين السّعداء ولا يرزقنا عقل الأشقياء، ولا عقل الجرذان، فهل الجرذ له عقلٌ أم ليس له عقل؟ فمِنْ عقله يعرف عشَّه، ومِنْ عقله يعلم كيف يبحث على رزقه، إذا رأى شيئاً يضرّه يبتعد عنه وإذا رأى كلباً -والكلب يقضي على الجرذ- يفرّ منه، هذه دلالة عقلٍ أم بلا عقل؟ هذه الطّاولة ليس لها عقل، والذّبابة لمّا تمد أصبعك عليها ماذا تعمل؟ تطير لأنّها تخشى أن يُصيبها ضررٌ مِنْ هذه الحركة، فنسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا عقل الموفّقين.
والسّحليّة لها عقل والجرذ له عقل والكلب له عقل، والشّقي له عقل؛ عقل الشقاء، والسّعيد له عقل؛ عقل السّعادة، والمؤمن له عقل؛ عقل الإيمان، والفاسق له عقل؛ عقل الفسوق، والعقل بالأصل هو شيءٌ واحد، ولكنّك إمّا أن تُحسِنَ استعماله أو تسيء استعماله، فإذا أحسنت استعمال السّيارة إلى الحجّ تُوصلك إلى مكة والمدينة، وإذا أسأت استعمالها فتُوصلك إلى الهاوية أو توصلك إلى الآخرة، نسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا عقل التّوفيق ويحمينا من عقل المخذولين وعقل الخذلان.

مفاز المتقين:
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ المفَاز: مصدر ميمي يعني؛ إنّ للمتقين فوزاً عظيماً ونجاحاً كبيراً وعِزّاً مُستطيراً، وسعادة ًفي الدّنيا قبل الآخرة:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة الزمر]

في عِلم البلاغة والنّحو إذا قُدِّم الخبر على المبتدأ يُفيد التّأكيد والتّحقيق، فقوله تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ أبلَغُ مِنْ أن تقول: إنّ مفازاً للمتّقين، فهل تريد أن تفوز؟ وهل تريد أن تنجح؟ وهل تريد أن تسعَد؟ وهل تريد في الحروب أن تنتصر؟ وهل تريد في التّجارة أن تربَح؟ وهل تريد في حياتك أن تكون سعيداً عزيزاً مُكرّماً؟ اتقِ الله عزّ وجل:

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2)
[سورة الطلاق]

مِنْ كلِّ ضيقٍ فرجاً، ومِنْ كلّ هَمٍّ مخرجاً، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) إذا ضاقت الأمور عليه وانسدّ الحائط ووُجِدَت تقوى الله، فالله عزّ وجلّ سيخرق له الجدار ويُخرجك مِنْ ضِيقك ومِنْ عسرتك عندما تمشي على المخطّط الإلهي.. القطار ما دامت عجلاته على السّكّة يصل الرّكاب إلى حيث يريدون، وإذا خرجت عن السّكّة فهذا الخروج اسمه الفسق، فخروج العجلات عن السّكّة فِسق، وخروج الإنسان عن امتثال أوامر الله اسمه الفِسق.
والتّقوى:

اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم (6)
[سورة الفاتحة]

ٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)
[سورة البقرة]

القرآن هدًى لمن؟ (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) أمّا هدًى للفاسقين فقد قال الله عزّ وجلّ:

سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
[سورة المنافقون]

﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ الفوز والنّجاح والعزّ والنّصر والسّعادة:

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) أي الحياة الحسنة، والحديث النّبوي يقول:

{ ليسَ بخيرِكم منْ ترك دنياهُ لآخرتِه، و لا آخرتَه لدنياهُ، حتى يصيبَ منهما جميعًا }

[الجامع الصغير للسيوطي]

هذا دين، وهذه الحياة وهذا العزّ والمجد وحياة السّعادة، فلمّا آباؤنا الأُوَل على أمّيتهم لا يقرؤون ولا يكتبون ولكنّهم اتقوا الله حقّ تقواه فصار الله أستاذهم والتّقوى مدرستهم:

وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
[سورة البقرة]

ورُويَ عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنّه قال:

{ من أخلصَ للَّهِ أربعينَ صباحًا تفجَّرَتْ ينابيعُ الحكمةِ من قلبِهِ على لسانِهِ }

[أبو نعيم في الحلية]

(من أخلصَ للَّهِ أربعينَ صباحًا) كان مع الله طاعةً واستقامةً وتوبةً وإنابةً (تفجَّرَتْ ينابيعُ الحكمةِ من قلبِهِ على لسانِهِ)(2) وبالطّبع مِنْ قلبه على لسانه، واللّسان تُرجمان العقل والفكر يعني يظهر في كلّ أعماله، فهو في صوابٍ في أقواله وفي أعماله، والصّواب ما ثمراته؟ النّجاح والفلاح والأرباح وعزّ الدّنيا والأخرة، وإن عَكَسْتَ:

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
[سورة الصف]

فما رأيكم؟ قال الله مِنْ قبل: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ لا تظن أن تهرُبْ أو تُفلِت فجهنم مٌتهيّئةٌ في مكان لا تراه ما ترى وأنت تمشي إلّا انقضت عليه ﴿لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (22) لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾.
هل ستختارون هذه أم ستختارون ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ الفوز والنّجاح والعزّ وبياض الوجه، وأن تمتلئ أذناك في الدّنيا قبل الأخرة مدحاً وثناءً عليك مِنَ الأرض ومِنَ السّماء، أيّهما ستختارون؟

لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
[سورة المدثر]

﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾ هل مفازاً في الآخرة فقط؟ لا، في الدّنيا فقط؟ لا، مفازاً في الدّنيا والآخرة، مِصداق قوله تعالى:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة النحل]

ومِصداق قوله تعالى:

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2)
[سورة الطلاق]

فإذا التّقوى هي امتثالُ أوامر الله عزّ وجلّ، فهل تظنُّ أنّ الله يأمرك بما يسوُؤك أو يأمُرك بما يُؤذيك أو بما يُؤخّرك عن ركب السّعادة والنّجاح والنّصر؟ وهل يأمُرك بما يُشقيك؟ وهل يأمُرك بما يُتعِسُك؟ وهل يأمُرك بما يُؤذيك؟ فنسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا العقل الحقيقي، عقل الموفّقين عقل السّعداء ويحمينا مِنْ عقول المخذولين الأشقياء المحرومين ويُثبّتنا بقوله الثّابت.

بعض من نعيم أهل الجنّة:
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾ الحدائق والأعناب والبساتين والجِنان؛ هذا وصف مزروعات الجنّة بحسب ما كانوا يعرفون في زمانهم رضوان الله عليهم، ويوجد:

وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)
[سورة المرسلات]

تأكلون العنب وغير العنب.
﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾ الكواعِب: جمع كاعِب، وهي المرأة الشّابة في عمر أربعة عشر أو خمسة عشر سنة عند بلوغها مبلَغ النساء، فيتكعّب ثدياها، أي تبرز للأمام لا تتدلَّى للأسفل، فالمرأة التي ثدياها تبرز للأمام تسمّى كواعِب، كم يُدلّلنا الله عزّ وجلّ حتّى الثّدي ذَكَرَ لكم صفاته، فماذا تريد أكثر؟ أعطاكَ كلّ ما تميل إليه نفسك وكلّ ما تشتهيه رغباتك، نسأل الله عزّ وجلّ ألّا يجعلنا مِنْ حمير بني آدم، هناك حميرٌ تمشي على أربعة ولها ذَنَبٌ مِنَ الخلف وهناك حميرٌ تمشي على اثنين ولها ذَنَبٌ مِنَ الأمام، وفيه فائدةٌ أنّه يُبعد الذّباب عنهم، ويوجد حميرٌ لهم ذَنَبٌ مِنَ الأمام لكن لا يبعد الذباب وليس له فائدة إلا إذا أراد أن يُنشّف أنفه عند الحاجة للتنشيف، نسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا أن نكون تلامذة الله، ونتعلّم في مدرسة الله ليكون أستاذنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ونكون مِنَ الطّلاب النّجباء، والكواعِب: جمع كاعِب؛ المرأة الواحدة كاعِب، أمّا الثّلاثة فأكثر اسمهم كواعِب، بشرط ألّا يكون ثديهم متدليّاً، بل يكون ثديهم بارزاً، ﴿أَتْرَابًا﴾ متساويات في الأعمار وفي السّنّ، قالوا: أعمارهنّ في سنّ الثّالثة والثّلاثين وفي بعض الرّوايات سن السّادسة عشر.
﴿وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾ مَنْ الذي يُكلّمك؟ هل أنت تستحق أنّ مَلِك الملوك وخالِق الأكوان والمجرّات والسّدم والشّموس بعدد رمال الدّنيا وأكثر مِنْ ذلك؟ مَنْ أنت؟ إذا ذهبت للمخفر يمكن مدير المخفر ألا يُكلّمك ويقول لك: تكلّم مع الشّرطي، فالله عز وجل خالِق الكون بما نعلم ومالا نعلم يُخاطبك: هل تريد حلوىً؟ وهل تريد لعبةً؟ وهل تريد كواعِباً؟ هل تريد أتراباً؟ لا أحد يحسد الآخر فكلّهم أتراباً.
﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾ وهل تحبّ أن تشرب كأس خمر، فالكأس إذا ذُكِرَ في القرآن يقصد منه الخمر، أو الكأس المملوءة بالخمر، ﴿دِهَاقًا﴾ أي ممتلئة، أي كأسٌ مِنْ خمرٍ ممتلئة، لكن خمر:

لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ (19)
[سورة الواقعة]

(لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا) لا تصيب الرّأس بالصّداع (وَلَا يُنزِفُونَ) ولا تستنزف العقل، أمّا خمر الدّنيا فكلّها أقذارٌ ويتقيّأ شاربها ويبول في ثيابه ويصير مثل المجانين يركض ويُطرَح في الطّرقات، غير ما تعطيه مِنْ أمراضٍ وغير ما تعطيه مِنْ آفات..
﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا﴾ أيضاً الجلساء والأصحاب والأصدقاء والسّهرات والنّدوات لا يوجد فيها كلامٌ بطّال، كلامهم ونُطقهم ومسامراتهم كلّها كلامٌ راقٍ، والكلام الذي فيه السّرور والسّعادة، أمّا الكلام الذي لا فائدة منه ولا لذّة في سماعه، قال الله عزّ وجلّ عن الحديث في الجنّة: ﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا﴾ ولا تكذيباً، لا يوجد أحدٌ يُكذّب الثّاني ويقول له: أنت كذّاب، فأيّ مواطنين وأيّ رفاق وأيّ زملاء وأيّ أخلّاء وأيّ أسرة وأي حياةٍ تلك؟

الجزاء من جنس العمل:
﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾ ولا خبر سوءٍ ولا خبراً مُزعجاً ولا خبراً مُقرفاً، يوجد أناسٌ يتحدّثون معك فتقرف أن تسمع كلامهم، يجلس معك ساعةً بحديث أو ساعتين أو ثلاثة فلا تستفِد منهم ولا بحرفٍ واحد، هذا اسمه: كلام لغو، وآخر تسمع منه الحكمة والأخلاق والنّصائح والفضائل وما ينفعك وما يدفع الأذى عنك وما يجلِبُ الخير إليك، فكلامهم أيضاً مِنْ أرقى الكلام، ﴿جَزَاء مِّن رَّبِّكَ﴾ هذه العطاءات كلّها نتائجُ أعمالهم التي عملوها في دار الدّنيا:

وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
[سورة النمل]

فكما تزرع تحصُد، وكما تغرِس تقطُف وتجنِي:

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ۖ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
[سورة النحل]

فالآن نسمع ولنا الخيار لكن إذا أتانا الموت يتمنّى الإنسان أن يرجِع ليصلّي ركعتين، وإذا كان يملك الدّنيا وما فيها فيقدّم كلّ ما يملك مقابل أن تُكتب في صحيفة أعماله ركعتين مقبولتين، الآن يُخاطبنا الله ويُسمّعنا ويُعلِّمنا فيا تُرى هل تعلّمنا؟ وهل تقبّلنا؟ وهل أطَعنا؟ وهل انقَدنا إلى أوامر الله؟ وهل صدّقنا؟ وهل صار عندنا يقينٌ أنّ كلام الله كلّه صدقٌ وحقّ وواقعٌ وأنّه لنا الآن مسموعاً ولكن قريباً سيكون لنا مُشاهداً ومَنظوراً؟
ما الفرق بيننا وبين الصّحابة؟ هم لم يكن عندهم مصاحف، مصحفهم كان على حجارة الجبال يُكتب عليها آيةٌ وآيتين والثّاني يأخذ ورقة نخلٍ يكتب عليها سطراً أو سطرين، والثّالث يأخذ قطعةً مِنْ كتف الغنم يكتب عليها سورةً مِنْ صغار سور القرآن، ونحن الآن مصاحفنا يا ابني مذهّبةٌ ومجلّدةٌ وورقٌ مصقولٌ وتسمعه بالرّاديو وترى القارئ بالتّلفاز ولكن بقلوبٍ ميّتة، إذا أحضرت الميّت ووضعته بكلّيّة الطّب فيا تُرى هل يتخرّج طبيباً، وإذا أحضرت حماراً ووضعته بكلّيّة الصّيدلة، هل سيصير صيدليّاً؟ وإذا وضعت دبّاً بالأزهر هل يتخرج شيخاً يا تُرى؟! كذلك القرآن إذا ما تهيّأ له القلب:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ) قبل كلّ شيءٍ اذهب وابحث أين يوجد مستشفى القلوب؛ ليُعالجوا أمراض قلبك حتّى يستطيع هضم القرآن، فكما أنّ الجهاز الهضمي يُحوّل الطّعام إلى دمٍ والدّم يتحوّل إلى طاقةٍ والطّاقة تتحوّل إلى عملٍ نافع، كذلك القلب إذا كان صحيحاً يُحوّل السّماع إلى يقينٍ وإلى فهمٍ وإلى عملٍ وإلى نجاحٍ وإلى سعادةٍ، (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ) في القرآن (لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي كلّ فِكره وتفكيره بالقرآن لعلّه ينتقل مِنَ الفكر إلى القلب، وإذا لم يوجد قلب قال الله تعالى:

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
[سورة البقرة]

هذا فيه قلبٌ لكنّه مريض، وإذا لم يوجد قلبٌ أبداً:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

إشارةٌ إلى أنّ هناك أشخاصٌ لا قلوب لهم.

تعريف القلوب:
والقلب عرَّفه بعضهم بقوله:
قلوب متى منه خلت فنفوسُ لأحرف وسواس اللعين طروسُ
{ عبد الغني النابلسي }
(قلوب متى منه خلت) خَلَت مِنْ نور الله ومِنْ جلاله ومِنْ ذِكره، (فنفوسُ) نفوسٌ أمّارة بالسّوء، (لأحرف وسواس اللعين طروسُ) تصبح وسوسة الشّيطان هي التي تكتب في صفحات قلبه، ويصير قلبه دفتراً مؤلّفاً مِنْ عشرين أو ثلاثين مجلداً كلّ معلوماته وكلّ توجّهاته يأخذها مِنْ قلبه الذي صار كتاباً ودفتراً للشّيطان.
وإن مُلئت منه ومن نور ذكره فتلك بدورٌ أشرقت وشموس
{ عبد الغني النابلسي }
(وإن مُلئت) القلوب، منه: مِنْ ذكر الله ومحبّته ونور ذِكره.

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)
[سورة النور]

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
[سورة الحديد]

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم) نور إيمانهم، (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم) ماذا تقول لهم الملائكة؟ (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
وإن مُلئت منه: فالقلوب إذا مُلِئت مِنْ عظمة الله عزّ وجلّ ومِنْ نور ذكره، (فتلك بدورٌ أشرقت وشموس).

المكافأة والعقوبة:
(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم) هذا العطاء للمتّقين الذين لبّوا نداء الله عزّ وجلّ وامتثلوا أوامره، وأدّوا فرائضه ووقفوا عند حدوده فلم يتجاوزوها إلى محارِمه، هذا العطاء ﴿جَزَاء﴾ مقابل أعمالهم ومقابل إيمانهم ﴿جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء﴾ إشارةٌ لأنّ كلّ عملٍ تعمله له مقابلٌ مِنْ طرَفِ الله عزّ وجلّ:

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
[سورة الزلزلة]

فلو عملت مِنَ الخير مثقال ذرّة، ليس ذرةً، الذّرة إذا انقسمت سبعين قسماً فكلّ قسمٍ مِنَ السّبعين اسمه مثقال ذرّة، (يَرَهُ) أي يرى المكافأة عليه والإثابة عليه والمقابلة له بما يستحق:

وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)
[سورة الزلزلة]

كمن يرى العقوبة عليه في الدّنيا أو في الأخرة أو في كليّهما كما فعل الله بفرعون:

فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ (25)
[سورة النازعات]

الآخرة في جهنّم حرقاً، والأولى في الدّنيا غَرقاً، هل تتحمّلون؟ إذا كنتم تتحمّلون ادخلوها!.. نسأل الله عزّ وجلّ أن يُلهمنا التّوفيق، ويرزقنا صحبة الموفّقين، ويحمينا مِنَ الخذلان ويُبعدنا عن صحبة المخذولين، وعاءٌ فيه حليب إذا وُضِعَ فيه ملعقة لبنٍ رائب، ماذا سيصير بالحليب كلّه؟ سيصبح كلّه لبناً رائباً، هكذا صحبة الأبرار وهكذا صحبة الأشرار.
﴿جَزَاء﴾ مكافأةً ومقابلةً مِنْ ربّك، يا تُرى إذا عمِلَ الواحد منكم يوماً كاملاً عند معلّم وكان أجيراً أو عاملاً، فإذا كانت الأجرة في اليوم ثلاثمئة ليرة وأعطاه المعلّم ثلاثمئة ألف دولار، هل هذا جزاءٌ أم عطاء؟ في البداية قال: جزاء، ثمّ أوضح الأمر وقال: لا، هو: عطاءً تفضلاً، وقِسْ جهودك وعملك في الدنيا، ماذا تأخذ مِنْ ثمرة أعمالك فكلّه ذاهب لكن عطاء الله خالداً مخلّداً فيها أبداً، اللّهمّ إنّا نسألك رضاك والجنّة وما قرّب إليها مِنْ قولٍ و عمل، ونعوذ بك مِنَ النّار وما قرّب إليها مِنْ قولٍ وعمل.

العطاء الإلهي:
﴿جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء﴾ تعيش طول عمرك وتركض شرقاً وغرباً حتّى تقيم عشاً تأوي إليه أنت وأهلك، فإذا كان الله سيُعطيك جنّة عرضها السّموات والأرض كم عليك أن تعمل؟ هل مليون سنة أو مليار سنة أو ترليون سنة؟
﴿عَطَاء﴾ تفضُّلاً وإحساناً ﴿حِسَابًا﴾ معنى حساباً؛ يعني عطاءً عظيماً كافياً، وبعد الحساب مَنْ الذي سيُحاسبك؟ مَنْ لا تخفى عليه خافية، والذي يعلم ما تسرّون وما تعلنون، مَنْ هم الذين جعلهم يراقبونك؟

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

لا يفارقونك إلّا عند قضاء حاجتك في الاستنجاء، وعندما تكون مع زوجتك وأهلك في الفراش، في هاتين الحالتين يبتعدون، أمّا في كلّ الحالات مثل السّهرة فالرّقيب العتيد موجود، وفي الدّكّان موجود، وفي دائرة الشّرطة موجود، ومع القاضي موجود، ومع المتقاضيين موجود، فيا تُرى هل تُراقب مخابرات الله عزّ وجلّ كما تُراقب مخابرات الدّولة؟ إذا كنت تتكلّم بكلامٍ ما ودخل عليك عنصر مخابرات أو تظنّه مخابرات، ماذا ستعمل؟ الدّولة لها الحقّ أن تُراقب رعيّتها، والله أليس له الحقّ أن يُراعي مَنْ خَلَق؟ ويُراقبهم لأجل سعادتهم، ولأجل مصلحتهم، فنسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا أن نفهم على الله، ويرزقنا أن نفهم القرآن ونعلَم القرآن:

{ خَيرُكم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ (3) }

[صحيح البخاري]

ليس المقصود فقط أن تتعلّم تلاوته وقراءته، ماذا تستفيد مِنَ الشّيك إذا جاءتك مئة ألف دولار إذا قرأتها وأحسنت قراءتها وهي باللّغة الإنكليزيّة قلت لرجلٍ علّمني كيف أقرأها، فعلّمك كيف تقرأها باللّغة الانكليزيّة، وشعرت بالجوع وليس معك مال، وذهبت إلى المطعم وقالوا لك: أعطِنا ثمن العشاء، فقرأت لهم السّند أنّها مئة ألف دولار، فقالوا لك: نريد ثمن العشاء أعطِنا ثمن العشاء، فعدت وقرأت الشّيك مرة أخرى! وإذا ذهبت لسوق الحميديّة واشتريت لباساً وقرأت الشيك ماذا سيعتبرونك؟ بعد ذلك ألا يخلعون ما حاولت شراءه والاستفادة منه، فلا نكُن مع كتاب الله مثل هذا المثال، ونضحك على أنفسنا، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام وقد مرّ على مجلسه فالصّحابة الكرام قالوا: مجنون، قال:

{ لا تقولوا مجنون ولكن قولوا مريض، المجنون مَنْ يعصي الله(4) }

[تاريخ دمشق لابن عساكر]

يا تُرى إذا وضع أحدهم إصبعه على النّار هل هذا عاقلٌ أم مجنون؟ وإذا وضع أصابعه الخمسة؟! وإذا وضع أصابعه العشرة؟! لمدّة خمس دقائق، وإذا وضع نفسه في جهنّم:

فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
[سورة البقرة]


الخيار يكون للإنسان:
و: ﴿لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ و:أحقاباً، هذا ماذا سيكون؟ فهذا فوق الجنون، وكما يذكرون عن بهلول أنّه قال له هارون الرّشيد: لماذا لا تأتي لزيارتنا؟ -كانت النّاس تعتقد أنّه على البركة أو يُظهر نفسه أنه على البركة، الله أعلم بحاله- قال: لماذا أتي لعندك؟ أنا أعظَم منك، قال: كيف أنت أعظَم منّي؟ قال: أنت مَنْ تكون؟ قال: أنا خليفة أمير المؤمنين، فقال له: وأعلى مِنْ أمير المؤمنين ماذا يوجد؟ قال: لا أحد، قال: أنا لا أحد يعني أنا فوقك، فإذا كان هكذا عقلك أنّك "لا أحد" وأنت أعظَم العظماء فيلزم أن يضعوك في مشفى المجانين، نسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا العقل الرّبّاني والعقل القرآني وعقل السّعداء.
لمّا اللّص يسرق، هل يسرق بعقلٍ أم بلا عقل؟ هل فيه عقلٌ أم بلا عقل؟ يسرق بعقل؛ لكن بعقل السّارقين، والمجرم يُجرِم لكن بعقل المجرمين، والمتسوّل يتسوّل لكن بعقل المتسوّلين، لو استعمل عقله بعقل التجار ينزل إلى سوق التّجارة، وإذا استعمله بعقل الصّناعة يصير حدّاداً أو نجاراً أو دهاناً، أمّا بعقل المجرمين وبعقل السّارقين وبعقل الفاسقين وبعقل المنافقين.. نسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا العقل.
عندما تشتري نعلاً تبحث عن الأفضل وتختاره، فابحث عن عقلك وانظر إلى عقلك ما هي ماركته؟ هل هو عقل المناحيس الأشقياء أم عقل السّعداء، عقل العاملين أم عقل العاطلين، عقل الأعزّاء أم عقل الأذلّاء، عقل العلماء أم عقل الجاهلين، عقل السعداء أم عقل المخذولين؟
قال الله عز وجل لك:

لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28)
[سورة التكوير]

فالخيار لك، أمّا غداً بعد الموت لا يوجد خيار، فإذا اخترت جهنّم فهي المصير، وإذا اخترت الجنّة بأعمالك وإيمانك وعِلمك وحكمتك وبالمعلّم والمرشد والمزكّي بالحكيم، ولذلك لماذا كانت الهجرة فريضةً على كلّ مسلم؟ ليُعلّمهم الكتاب والحكمة ويُزكّيهم، فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا التّوفيق.. فإذا كنت تطلب مِنَ الله الدّعاء بالتوفيق ولست مِنَ المعتدين بالدّعاء فبعد الدّعاء تبحث عن مدرسة الموفّقين، أليس كذلك؟ وإذا أردت أن تطلب مِنَ الله أن تكون مِنَ العلماء، بأن قلت: "اللّهمّ اجعلني عالماً" فإذا كنت صادقاً بالدّعاء تبحث على مدارس العِلم فتنتسب إليها، وإن قلت: "اللّهمّ ارزقني ولداً" فإن كنت صادقاً تذهب وتخطب امرأةً فتتزوجها، فهذا الدّعاء الشّرعي، أمّا إذا طلبت مِنَ الله الولد وأنت عازِمٌ على ألّا تتزوج، ماذا سيكون دعاؤك؟

طلب النصر من الله تعالى:
المسلمون لمّا يقولون: "وانصرنا على القوم الكافرين" في هذا الزّمان يا تُرى دعاؤهم دعاء المعتدين أم دعاء المستقيمين؟ دعاء المعتدين؛ لأنّ الله عزّ وجلّ يقول حتّى أنصركم أولاً:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
[سورة محمد]

وثانياً يقول:

وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
[سورة الأنفال]

وثالثاً يقول:

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
[سورة الأنفال]

(وَلَا تَنَازَعُوا) فتنتصِروا أم فتفَشلوا؟ (فَتَفْشَلُوا) .

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
[سورة آل عمران]

فبعدما تطلب مِنَ الله النّصر، عليك أن تنظر في كتاب الله ما الشّروط التي ينصُرك الله بها؟ فإذا أدّيتها فيستجيب الله دعاءك ويحقّق طُلبتك، أمّا إذا كنت تدعو وآنت عازِمٌ ألّا تستجيب لمقتضيات الدّعاء فأنت تضحك على نفسك، والشّيطان لا يريد أناساً مؤمنين أكثر مِنْ هكذا لأنهم يكونون مغرورين، ولذلك المسلمين الآن في العالم الإسلامي أليس كلّهم يدعون بدلائل الخيرات وبالكنوز وبكذا وبكذا.. والله لا يستجيب، لماذا؟ لأنّهم لم يستجيبوا لله لمّا يدعوهم إلى ما يُسعِدهم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
[سورة البقرة]

أليس هذا دعاء، اللّهم معناها: يا الله، أيضاً:

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
[سورة الانفطار]

(يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ) وهذا أيضاً دعاءٌ مِنَ الله فهل تستجيب؟ (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ) لماذا تُقدِم على معصيته؟ ولماذا تتهاوَن في امتثال أوامره؟ تظنّ أنّ الجنّة تُنال بالأماني، لا! فهذه المسبحة لا تُنال بالأماني إلّا بثمنها، وهذا الدّفتر لا يُنال إلّا بثمنه، والمذياع بثمنه، فهل تريد الجنّة ورضاء الله بلا ثمن؟! هذا شأن المغرورين.
﴿جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء﴾ فلو عِشت مئة سنةٍ وأمضيتها في سجدةٍ واحدةٍ لم ترفع رأسك مئة سنة لاحتقرت عبادتك يوم القيامة عندما ترى ما أعدّه الله لعباده الصّالحين.

الله خالق كل شيء:
﴿جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا﴾ فمن هو ربّك؟ هل هو عيسى المسيح الذي عجَز أن يدفع عن نفسه شرّ اليهود، حسب معتقدات مَنْ اعتقد بألوهيّته؟ هل ربّك حجرٌ تنحته وتصنعه؟ وهل ربّك إنسانٌ يأكل ويشرب ويبُول ويتغوّط؟ وإذا ما بال وتغوّط يُلوِّث جسده وثيابه، فهذا الذي يخرج منه القذر هل يصلح أن يكون إلهاً؟ هذا الذي هو معمل للبول والغائط ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه أذى بعض النّاس هل هذا إله؟ الإله هو ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ﴾ الذي خَلق الكون ويُربيّه ويُدبّره ويُنظِّمه بحكمته ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ كلّ ما هو موجودٌ بين السّموات والأرض مِنْ عوالِم ومخلوقات وغازات وسحب.. إلى آخره، عالم الأثير.
﴿الرحْمَنِ﴾ فبتجلّي الرّحمة وُجِدْنا، وبتجلّي الرحمة نزَلت شرائعه علينا، ومدرسته فينا وأساتذته أرسَلهم إلينا، فمَنْ كان مِنَ الطلاب النّجباء أَخَذ السّعادة العاجلة قبل السّعادة الآتية، وليس الإيمان بالتّمنّي ولا بالتّحلّي ولكن ما وَقَر في القلب وصدَّقه العمل، كيف استقرّ في قلبك أنّ الأفعى لدغتها قاتلة، فمن هذا الإيمان المستقرّ في القلب هل تستطيع أن تضع إصبعك في فمها؟ بالطبع لا؛ لأنّ الإيمان وَقَرَ في القلب، وأي إيمان؟ الإيمان الذي يستقرّ بالقلب وصدّقه العمل، هذا الإيمان الذي كان عليه أصحاب رسول الله، هذا الإيمان الذي جعلهم يهزمون امبراطوريّة الفرس والرّومان، هاتان الامبراطوريّتان اللتان اقتتلتا ألف سنة ولم تستطع إحداهما أن تقضي على الأخرى وأن تهزمها، أمّا المسلمون البدو الأعراب في وادٍ غير ذي زرع، الأميّون، لمّا تخرّجوا مِنْ مدرسة الله، مِنْ مدرسة القرآن عِلماً وعملاً وتربيةً وأخلاقاً وإيماناً ويقيناً وسلوكاً هزموا الإمبراطوريّتين، ليس بألف سنة، بكم يومٍ هزموها؟ بعشرة أيام، فهزموا الإمبراطوريّة الرّومانيّة بمعركة اليرموك التي استمرَّت ستة أيام، وبالقادسية التي استمرّت أربعة أيام:

لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
[سورة القدر]

فهل أنت مِنْ مدرسة ليلة القدر؟ أحدهم ليلته خيرٌ مِنْ ألف شهر، ويوجد أحدهم ألف شهرٍ لا يساوي ولا ساعة ولا خمس دقائق، نسأل الله عزّ وجلّ أن يُبارك في أعمارنا وأيامنا وأعمالنا ويجعلنا مِنْ أهل القدر:

وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
[سورة الزخرف]

(وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ) لشرفٌ ومجدٌ لكَ ولقومك إذا فقِهوه وعملوا به وعلَّموه ونَشروه.

أنواع عقوبة الله عزّ وجلّ:
﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ﴾ لولا تجلّي الرّحمن.. فلو تجلى بتجلي العدل:

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
[سورة فاطر]

(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا) إذا المجرم عُوقِب بذنبه فهذا اسمه عدل، ولو عاملهم بعدله (مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ) أيضاً إذا ترك المجرم بلا عقوبة سيقع الفساد والخراب، ولكنّ لا يتركهم: (وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى) إلى وقتٍ محدّدٍ في الدّنيا أو في الآخرة، يوجد أناسٌ يُؤاخذهم الله عزّ وجلّ في الدّنيا، ومؤاخذة الدّنيا تارةً تكون سريعةً وتارةً تكون بطيئة.
السّريعة مِنْ نوع ما يقال: إنّ بعض الشّيوخ تهجّمت عليه امرأةٌ في المسجد وتكلّمت معه بكلامٍ غير لائق، فقام بعض المستمعين وأخرجها مِنَ المسجد، فقال له الشّيخ: اضربها على وجهها، ولكنّه شعر أنّه مِنْ غير اللّائق أن يضرب رجلٌ امرأةً على وجهها، فهذا كان مِنْ النّوع الذي عنده شهامةٌ فتركها بلا ضربٍ ولا عقوبةٍ إشفاقاً أو مروءةً أو شهامةً، فهل الشّيخ بلا رحمةٍ وبلا مروءةٍ وليس لديه تقدير؟ فعاد الرجل إلى الشّيخ فقال له الشّيخ: هل ضربتها؟ كذب وقال له: "نعم ضربتها"، لم يمضِ خمس أو عشر دقائق إلّا وسمعوا صيحةً وأصواتاً وجلبةً خارج المسجد، قال الشّيخ لأحدهم: اخرج وانظر ماذا يحصل خارج المسجد؟ فذهب ورجع وقال له: يا سيّدي هذه المرأة التي اعتدت وأطالت لسنانها عليك وقعت جثةً هامدةً بلا روح، فالشّيخ التفت للمُريد الذي قال له: اضربها وقال له: يا ابني الظّاهر أنت ما ضربتها؟ قال: سكت فقال له: تكلَّم، فقال: لا، لم أضربها، قال: لماذا لم تضربها؟ قال له يا شيخي هي امرأة ورجلٌ يتقوّى على امرأة! قال الشّيخ: هل فيك مروءة والشّيخ لا مروءة له؟ قال: يا بني أنا قلت لك اضربها حتّى لا يضربها الله كفّاً من كفوفه، حتّى يكون كفّك عقوبةً لها على فعلتها حتّى لا يُعاقبها الله عزّ وجلّ بكفّه، بكفّ القدرة الإلهيّة، فلعدم تنفيذك العقوبة التي هي حقٌّ لي قام الله بتنفيذ العقوبة فكان الذي كان، فذهبت بروحها وحياتها.
والعقوبة البطيئة: يقولون عن جحا رحمة الله عليه، أنّه اعتدى عليه أحدهم وأساء إليه فأغضبه واستثاره، فرفع حجا رحمه الله تعالى يديه وكان معه جماعة، قال لهم: ارفعوا أيديكم أريد أن أدعو عليه، فقال: اللّهمّ اكسر رجله بعد أربعين سنة -فجحا رحمه الله كلّ أموره تُضحِك- فضحكت النّاس كلّها، قالوا: ما هذه الدعاء؟ قال لهم: أليس مِنْ حقّي؟! أنا هكذا طلبت مِنَ الله، فلم يمشي هذا المعتدي على حرمات الله حتّى زَلَقت رجله بقشرة موز وكُسِرت رجله حالاً، جاء النّاس إليه وقالوا: الآن استجاب الله دعاءك! قالوا: أنت دعوت أن تكسر رجله بعد أربعين سنة وكُسِرت الآن، قال: لا، هذه ليست دعوتي، هذه دعوة غيري دعا عليه قبل عشر أو عشرين سنة، بدعوتي ستُكسر رجله الثّانية بعد أربعين سنة.
فلا تنغروا إذا أذنب أحدٌ ولم يتُب إلى الله عزّ وجلّ توبةً نصوحة، لا يظنّ أنّه سيُفلت مِنْ عقاب الله؛ لأنّ الله عزّ وجلّ يقول:

وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

ما معنى يره؟ يرى عقابه على فعل الشّرّ الذي فعله.
قال: ﴿جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا﴾ مَنْ ربّك؟ قال: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ إذا أمَر لأحدهم وقال لهم: خذوه إلى الجنة، هل يستطيع أحدٌ أن يقول: لا؛ هذا لا يستحقّ؟ وإذا أمر لآخر وقال: خذوه إلى جهنّم، هل يستطيع أحدٌ أن يقول: لا؟ فإذا النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يريد أن يشفع، هل يستطيع أن يشفع إلّا بإذنه؟ فنسأل الله عز وجل بفضله وإحسانه أن يجعلنا مِنَ الذين يُظلّهم في عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه، ويجعلنا يوم القيامة:

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
[سورة الزمر]

في حديثٍ وَرَد:

{ ليس على أهل لا إله إلا الله وحشةٌ في قبورهم ولا وحشةٌ عند بعثِهِم ونُشورهم كأني بهم يخرجون مِنْ قبورهم ينفُضون التراب عن رؤوسهم يقولون الحمد لله الذي أذهَبَ عنا الحزن(5) }

[القبور لابن أبي الدنيا]

﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا﴾ هذا يوم القيامة، وهذا النبأ العظيم: ﴿عَمَّ يَتَسَاءلُون (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيم﴾ مِن النّبأ العظيم: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا﴾، ومِن النّبأ العظيم: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾، ومِنَ النّبأ العظيم: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا﴾، فهل كلّ واحدٍ منكم تثقَّف بسورة عمَّ فقط؟ يعني صارت سورة عمَّ يقيناً في قلبه، وتنعكس في أعماله وفي أفكاره وفي تصرّفاته وفي بيعه وفي شرائه وفي حلاله وفي حرامه، فإذا أوقفتك السّورة ومعانيها وآيّاتها عند ما دلّتك ودعَتك إليه فأنت مؤمنٌ بسورة عمَّ، والمطلوب منّا أن نؤمن بالقرآن كلّه مِنْ ألفه إلى يائه، ولا تنغرَّ أنّك قرأت القرآن أو حفِظت القرآن أو قرأت القرآن على القراءات السّبع والعشر والأربع عشر، فما آمَن بالقرآن مَنْ استحلّ محارمه، وما آمَن بالقرآن مَنْ أهمل وترك فرائضه وأهمَل وصاياه ونصائحه.

يوم الجزاء:
﴿يوم يقوم الروح﴾ متى يكون الجزاء؟ ومتى يكون يوم الفَصل؟ ومتى يكون للمتقين مفازاً؟ ومتى تكون جهنّم مرصاداً للطّاغين يؤبون إليها ويصيرون فيها؟ يوم تقوم الرّوح والملائكة صفاً، لما تظهر محكمة الله لكلّ مخلوقاته، فمحكةٌ الله قاضيها والملائكة صفوفاً على حسب ما الإنسان يعرف مِنْ عظمة الملوك وعظَمة عروشهم وأحكامهم، هكذا القرآن علَّمنا على حسب مداركنا، وإلّا فالدّار الآخرة فالله عزّ وجلّ بحقائقها الواقعية عليم، فبحسب القرآن الحقيقة المدركة هي فوق وفوق ما يُدركه الإنسان.
﴿لاَّ يَتَكَلَّمُونَ﴾ إذا قال الله عزّ وجلّ: خذوه إلى الجنّة فهل يستطيع أحدٌ أن يُعارض؟ أو قال: خذوه إلى جهنّم فهل يستطيع أحدٌ أن يُعارض:

خُذُوهُ فَغُلُّوه (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه (31)
[سورة الحاقة]

هل يوجد أحدٌ يتكلّم بالمعارضة؟ ﴿لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ﴾ أن يتكلموا، فإذا أرادوا أن يشفعوا لا تُقبل شفاعتهم ولا يشفعون إلا بعد أن يأذَن الله لهم، والشّفاعة يا بني في الدنيا قبل الآخرة، فالذي يُقبل على مجالس العِلم وعلى مجالس التّقوى وعلى مجالس الإيمان فذاك تناله شفاعة الشّافعين فيما مضى مِنْ ذنوبه وأخطائه وخطيئاته، وإذا بقي مستمراً على أخطائه وخطيئاته فقد قال الله عزّ وجلّ:

فَمَا لَنَا مِن شَافِعِين (100) وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيم (101)
[سورة الشعراء]

إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
[سورة الواقعة]

يعيشون على أهوائهم وعلى لهوِهم وعلى سهراتهم وعلى خمورهم وعلى فسقهم، وقت الأذان وفي أوقات الصّلاة تلقاهم في التّرف ولذائذ الجسد واللّهو واللّعب..

فَمَا لَنَا مِن شَافِعِين (100) وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيم (101)
[سورة الشعراء]

﴿لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ فيُشترَط أن يكون قوله صدقاً فكيف ينبغي أن يكون عمله؟ فإذا الله اشترَط للمتقين أن يكونوا مِنَ الذين يقولون صواباً، فهل يصحّ أن يكون عملهم غير صحيح بأن يكون عملهم فاسداً ويكون عملهم عمل الفاسقين؟ فالشّفاعة لا تشمل حسب مقتضى القرآن -يعني في شفاعة مَنْ يريدون أن يشفعون له- ﴿لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ هذا اليوم الذي لا مفرّ مِنْ وقوعه وهو حقيقةٌ ثابتةٌ لا بدّ أن نراها وأن نشهَدها، فإذا استعددنا لنكون سعداء فيها قبل أن تظهر للعيان وتكون منظورةً للعيون نفَعَتنا، وإذا سمعنا وعصينا بدل أن نكون سمعنا وأطعنا سيكون حالنا كما قال الشّاعر:
سيحصد عبد الله ما كان زارعاً فطوبى لعبد كان لله يزرع
{ منقول }

الله عز وجل بين لنا الطريق:
﴿فَمَن شَاء﴾ لقد بيّنت لكم الطّريق:

وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن (10)
[سورة البلد]

﴿فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾ إلى رضائه وإلى طاعته وإلى الإيمان بكلامه وقرآنه وكتابه، ﴿فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ﴾ طريقاً يُوصله إلى مرضاته وإلى جنّاته وإلى سعادة الدّنيا والآخرة، وإذا أعرَضَ عن كلام الله وعن وصاياه وعن كلام أنبيائه وعن كلام وَرَثة رسول الله وأصغى إلى شياطين الإنس أو إلى شياطين الجن:

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس (5) مِنَ الْجِنَّةِ والنَّاس (6)
[سورة الناس]

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
[سورة الأنعام]

ذَكَر شياطين الإنس لأنّ ضررهم أكبر، فشياطين الإنس توسوس، تقول لهم: يجب أن تشرب معي، تقول له: "عليك أن تذهب معي إلى البار فيسحبك مِنْ يدك" أمّا شيطان الجنّ فإذا وسوس لك وذَكَرت الله خَنَس، الخنّاس هو الذي إذا ذُكِرَ الله ولّى وأدبر، أمّا شيطان الإنس فلو ذكرت الله خمسين مرة! نسأل الله عزّ وجلّ أن يحمينا منهما جميعاً، لذلك اختيار الصّديق والصّاحب والجليس والسّهرة والنّادي والاجتماع.. شجرة المشمش الرّديء نضع عليها لزقةً صغيرةً مِنَ شجرة المشمش البلدي أو الحموي النّوع الجيد، فلزقة صغيرة مع رابطة لا يتخلّل الهواء بين اللّصقة وبين الملصوق بها، تدب فيها حياة الشّجرة الجيدة، وإذ تنبت منها النّوع الجيد، وإذا نبت لا بدّ أن تقطع كلّ أغصان الشجرة مِنَ النّوع الرّديء ليقوى التّلقيح بالنّوع الجيد، وهكذا حياة الإنسان مثل اللّقاح في الشّجر:

{ المرءُ على دينِ خليلِه فلينظُرْ أحدُكم من يخالِلُ (6) }

[المستدرك على الصحيحين للحاكم]

والحبّ في الله مِنْ أعلى شُعب الايمان، نسأل الله عزّ وجلّ أن يجعلنا مِنَ المتحابّين فيه:

{ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ(7) }

[مسند أحمد]

كلّه في الله، اللّهمّ اجعلنا منهم يا أرحم الرّاحمين، وأبعِدنا عن مجالسة مَنْ لا تُحبّهم ولا يُحبّونك.
﴿فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾ هل تفهمون ما يقوله الله عزّ وجلّ؟

إنذار الله عز وجل:
﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ جهنّم بعيدةٌ لكن كلّ آتٍ قريب، وعندما تموت تدخل في عالم البرزَخ، هناك النّعيم مِنْ نعيم الجنة، ويوجد عذابٌ مِنْ عذاب جهنّم، لذلك النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان في كلّ صلاة يقول:

{ اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِن عذابِ القبرِ(8) }

[صحيح البخاري]

مرّ على قبرين وهو راكبٌ بغلته فجفلت به بغلته، فقال: إن هذه الحيوانات ترى مالا ترونه(9)، معنى الحديث: رأت صاحبَي القبرين يُعذَّبان في قبرهما، أمّا أحدهما: فكان لا يستنزِه مِنْ بوله- وسِخٌ وقذرٌ في النّظافة البدنيّة- وأمّا الآخر: فكان يمشي بين النّاس بالنّميمة- ينقل أخبار النّاس بعضهم إلى بعضٍ على طريق الفساد والتّفريق بين الأحبّة والأصحاب، كما وَرَدَ عن رسول الله وقد سُئِل عن خيار الناس فقِيل له: "مَنْ هم خيار النّاس يا رسول الله؟ " قال:

{ الذينَ إذا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ(10) }

[ابن أبي الدنيا في كتابه الإخوان]

مثل مفتاح تشغيل السّيارة عندما تضغط ترى المحرّك دار ودارت العجلات وسارت السّيّارة بسرعة مئة ومئة وخمسين كليو متراً بالسّاعة، ولولا هذا المفتاح ما وصلت إلى كلّ هذه النّتائج، بضغط زر الكهرباء تنوّر البلد كلّها.
(الذين إذا رؤوا ذُكِرَ الله) فإذا لم تبكوا فتباكوا وإذا لم تروا فتراؤوا، هل يوجد مانعٌ أن يتراءى الرجل زوجته أو أباه أو أمّه أو من إذا رؤوا ذُكِرَ الله، وإذا ذُكِرَ الله فلا مذكور ولا توجُّه إلّا إلى الله، ((قالوا ومن أشرار الخلق يا رسول الله؟ قال: المشاؤون بالنميمة، المفرِّقون بين الأحبة، الباغون للبراء العَنت، ينسب إلى الناس ما ليس فيهم بطريق الحقد وبطريق الإيذاء وبطريق الحسد بأمراضٍ حقيرةٍ مرذولة.
﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾. ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾.

واجبنا نحو إنذار الله عزّ وجلّ:
﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ في لحظةٍ يكون الواحد ماشياً؛ -أحدهم رحمه الله كان صديقاً لنا في عمّان عاد هو وصهره من المطار بعدما استقبلوا أحد الأصدقاء في المطار، حتّى وصلوا للبيت وهو يضع المفتاح بالباب وإذ به يسقط أمام الباب جثةً هامدة، جسداً بلا روح، وإذا لم يكن بهذا الشّكل هل هناك فرارٌ مِنَ الموت؟ وإذا متت فكلّ الذي جمعته وتعبت وركضت وشرّقت وغرّبت وعصيت الله فيه وأطعت الله فيه وفي لحظةٍ واحدةٍ شهاداتك لا تصلح إلّا لتُشعل بها الحطب سواءً كنت ملكاً أو كنت وزيراً.. كلّه يصير هواءً في هواء، أمّا الأعمال والإيمان، والمعاصي والكفران فهذه مادة السّعادة الأبديّة أو الشّقاء الأبدي.
﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ﴾ إذا قال الشّرطي: إذا مشيت على الشّمال سأكتب لك مخالفةً ويُنذرك، ماذا تفعل أنت بعد إنذاره؟ هل تصرّ أن تمشي على طرف الشّمال؟ عش النحل ومكتوبٌ على العش بخط غير عربي وغير فرنسي: ممنوع الدّخول، فإذا أردت أن تدخل عوداً صغيراً، مكتوب ﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ فيا تُرى بإنذار الدّبابير هل تتجرأ أن تخالف إنذارهم!.. هل نحن مؤمنون، الإيمان الذي وَقَرَ في القلب وصدَّقه العمل، هذا الإيمان المنجي، مِنْ هنا طريقك إلى الجنة، أمّا أن تؤمن بلسانك ولا يستقر في قلبك ولا ينعكس على أعمالك وحياتك؟ لا تكونوا كالذين:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
[سورة المائدة]

كم مرّةً ذَكَر الله القلب في القرآن؟

أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (22)
[سورة الزمر]

﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ قال أبو بكرٍ الصديق لرسول الله عليه الصلاة والسلام: "شِبْتَ يا رسول الله ولم تبلغ أوان المشيب"- ما زلت شاباً- فقال:

{ شيَّبتني هودٌ والواقعة }

[أخرجه الترمذي]

(شيَّبتني هودٌ) سورة هود لما فيها مِنْ إنزال العذاب الدنيا على مَنْ عصى أوامر الله وكفر بها- (والواقعة)(11) سورة الواقعة عندما ينقسم النّاس أصحابُ اليمين وأصحابُ الشّمال والمقرّبون، فهل فكرت مِنْ أيّ نوعٍ مصيرك، اطمأننت على نفسك في الدّنيا أنّك مِنَ المقرّبين أو مِنْ أصحاب اليمين، أم أنت مِنْ أصحاب الشّمال:

فِي سَمُومٍ وَحَمِيم (42) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُوم (43) لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيم (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِين (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيم (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُون (47)
[سورة الواقعة]

يعني يحلِفون الأيمان الكاذبة، ما معنى الأيمان الكاذبة؟ (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُون) يحلِفون أنّهم ليسوا بمبعوثين، يا تُرى واقع المسلمين في أعمالهم المخالفة لكلام الله ولكلام رسول الله، هل يدلّ على أنّهم مؤمنون بالآخرة؟ المؤمن بسمّ الأفعى فلا يضع يده في فمها، فإذا وضع إصبعه في فمها هل ينفعه إيمانه بلسانه؟ الإيمان باللّسان لا بدّ أن يكون ترجمةً عن إيمان القلب الذي يستلزم العمل، فنسأل الله عزّ وجلّ أن يجعل إيماننا مِنْ قلوبنا يا ابني، وتُصدّقه أعمالنا وأخلاقنا وتصرّفاتنا، ومَنْ الذي يقول لنا: ﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ الله مَنْ يقول ذلك، النحلة وضعت على عشها لافتةً مِنْ غير أحرفٍ ولا خطٍ ولكن يقرؤها الأميّ والقارئ أنّ اللّمس والتّحريك ممنوع، فهل يستطيع أحد أن يخالف أوامر النحلة؟ وخصوصاً إذا كان خارجاً مِنَ الحمّام ولم يرتدِ ملابسه بعد، دعه يجرّب ويُخالف الإنذار ويحرّك بالعصا قليلاً، من النحلة نخاف ألّا نخاف مِنْ الله؟! مِنْ إنذار البعوضة نخاف ونضع حجاباً ونضع على النّوافذ شريطاً، أليس كذلك؟ لأنّهم ينذورننا بإنذارٍ غير مسموع وغير مكتوب، مكتوبٌ في القلوب وفي صفحات العقول والقلوب، لذلك نتقبَّل الإنذار ونعمل بمقتضاه ونضع شريطاً وحجاباً أليس كذلك؟ وإنذار الله ماذا نفعل مقابله؟ هل وضعت حجاباً وشريطاً مِنْ تقوى الله حتّى لا تقع في غضبه وفي عقابه في الدّنيا والآخرة، وإذا لم تفعل فأنت لست بمؤمن، أنت مؤمن القول ولا تكونوا كالذين:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
[سورة المائدة]

السّبب لأنّه ليس لك قلبٌ وليس لك المعلّم الذي يُعلّمك الكتاب ويُعلّمك الحكمة ويُزكّي نفسك:

قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
[سورة الأعلى]

﴿إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا﴾ وكذلك ﴿قَرِيبًا﴾ كان أبو غنيم رحمه الله تعالى مِنْ إخوانكم بعدما أنهى الدّرس وصلّى الجمعة ذهب مع ابنه بسيّارته، مرّوا أمام محمصة، قال لابنه: أوقف السّيّارة واشترِ بعض الموالح، نزل ابنه واشترى كيلو موالح وعاد للسّيّارة وجد أباه ميّتاً بلا حركة، فمتى مات الإنسان فقد قامت قيامته الصّغرى، فيرى منزلته عند الله عزّ وجلّ، إن كان مِنَ المكرّمين وإن كان مِنَ المغضوبين، وقد يظهر عليه آثار في الحياة إذا سلَكَ سلوك المتقين أو سلوك الفاسقين فالله عز وجل يتوب على الفاسقين ويتقبّل مِنَ المتّقين ويُثبّتنا بقوله الثّابت على صراطه المستقيم.

موقف الإنسان يوم الجزاء:
﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ في محكمة الله يعرضون عليك أعمالك في شريط الفيديو الإلهي، والله يقول لك:

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
[سورة الإسراء]

يا تُرى القاتل إذا أُخِذَ له فيلم فيديو والخنجر في صدر الضّحية، هل يستطيع الجحود؟ وهل يستطيع أن يُنكر، وإذا أُحضِرَ لكَ الفيديو وأنت تشرب الخمر وأنت تسبّ الدّين، وأنت تأكل الحرام وتترك الصّلاة وتمنع الزّكاة: ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ كيف ستكون ردّة الفعل في نفسه؟
﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ أمّا الأتقياء فلهم: ﴿مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا﴾ فلو افترضنا غير كواعِب، لنفترض أثداؤهنَّ تتدلى للأسفل، هل يتمنّى أن يقول: ﴿يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ قولوا؟ وإذا كواعِب يقول: ﴿يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾؟ اصدقوا الله؟ فنسأل الله عزّ وجلّ ألّا يجعلنا مِنَ الذين إذا لقينا الله وعُرِضَت علينا أعمالنا أن نتمنّى أن نكون تراباً، الذين يصيرون تراباً هم الحمير، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول:

{ لتُؤَدُّنَّ الحُقوقَ إلى أهْلِها حتى يُقادَ للشَّاةِ الجَلحاءِ مِن الشَّاةِ القَرْناءِ }

[صحيح مسلم]

(لتُؤَدُّنَّ الحُقوقَ إلى أهْلِها) يجب أن تؤدوا الحقوق إلى أهلها في الدنيا قبل الآخرة قبل محكمة الله، (حتى يُقادَ) ويقتصّ (للشَّاةِ الجَلحاءِ مِن الشَّاةِ القَرْناءِ)(12)، إذا كبشٌ ناطَحَ كبشاً بغير حق فالله سيحشرهم يوم القيامة ويقول للمنطوح خُذ حقّك مِنَ النّاطح فينطحه، حماران إذا ضرب أحدهم الآخر أو عضه فيُحشران يوم القيامة، فالمحكمة تقول للمعضوض: عضّه كما عضّك، فلمّا يأخذ حقّه ثمّ تقول المحكمة للحمارين كونا تراباً، والبغلين أيضا كذلك وباقي الحيوانات كذلك.. هل النّبيّ يذكر الكلّ؟ ذكر النّبيّ نموذجاً ويُقاس عليه غيره.
﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ انظر أنت ماذا قمت مِنْ أعمالٍ وإذا لم تمحها أعماله بالتّوبة الصّالحة، والتّوبة النّصوح، فالتّوبة النصوحة: بألّا ترجع إلى الذّنب إلا إذا رجع الحليب إلى الضّرع والثّدي، التّوبة النصوح أن تتوب توبةً ولا ترجع إلى أعمالك النّاقصة والحقيرة والمغضبة لله عزّ وجلّ.
﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ الإيمان: أن نُؤمن بالله وملائكته وكتبه، وهل القرآن مِنْ كتاب الله؟ وهل سورة عمّ مِنْ كتاب الله؟ يا تُرى هل آمنتم بسورة عمّ؟ إذا ذهبت إلى الدّكّان أو البستان أو السّوق أو مع زوجتك أو مع زوجك أو مع أمّ الزوج أو مع امرأة الإبن أو مع الخادِم أو مع المعلّم أو في صلاتك أو في صومك، هل آمنت بالنّبأ العظيم؟ وهل آمنت بعمَّ يتساءلون؟ فدليل إيمانك أن تفتش نفسك بعد خروجك مِنَ الجامع، بالكلام آمنتم، نسأل الله عزّ وجلّ أن يجعلنا مؤمني القول والعمل واللّسان والقلب والظّاهر والباطن.
وصلّى الله على سيدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله ربّ العالمين.

الهوامش:
(1) قوت القلوب للمكي، (1/366)
(2) أبو نعيم في الحلية، 5/189، قال الخطيب في تخريج أحاديث الإحياء: " أخرجه أَبُو نعيم فِي الْحِلْية من حَدِيث أبي أَيُّوب «من أخْلص لله أَرْبَعِينَ يَوْمًا ظَهرت ينابيع الْحِكْمَة من قلبه عَلَى لِسَانه» وَلابْن عدي نَحوه من حَدِيث أَبُو مُوسَى، وَقَالَ: حَدِيث مُنكر" 1/536.
(3) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه، رقم: (5027).
(4)تاريخ دمشق لابن عساكر، (40/159)، الغيلانيَّات لأبي بكر الشافعي، (1/376)، بلفظ: ((إِنَّمَا الْمَجْنُونُ الْمُقِيمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَكِنَّ هَذَا رَجُلٌ مُصَابٌ)) وذكره الذّهبي في "تذكرة الحفّاظ" في ترجمة ابن أبي الدنيا، رقم: (699)، (2/182)، ونصه: ((عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "بينا النَّبي صلى الله عليه وسلم جالسٌ في أصحابه، إٍذْ مرَّ رجُلٌ، فقال بعضُ القومٍ: مجنونٌ! فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((إنّما المجنونُ المقيمُ على المعصية، ولكن هذا رجلٌ مصابٌ)).
(5) لفظ الحديث: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهِمْ، وَلَا مَنْشَرِهِمْ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُمْ يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُؤوسِهِمْ، وَيَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ» المعجم الأوسط، رقم: (9478)، (9/181). القبور لابن أبي الدنيا، رقم: (69)، (1/80).
(6) المستدرك على الصحيحين للحاكم، باب وأما حديث عبد الله بن عمرو، (4/189)، ورقم: (7320). قال الذهبي: "صحيح إن شاء الله".
(7) مسند أحمد، رقم: (22030)، (36/359).
(8) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، رقم: (1311)، صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر، رقم: (585)، صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر، رقم: (586).
(9) متفق عليه عن ابن عباس، صحيح البخاري، كتاب الوضوء: باب ما جاء في غسل البول، رقم: (218)، كتاب الجنائز: باب عذاب القبر من الغيبة والبول، رقم: (1378)، صحيح مسلم، كتاب الطهارة: باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، رقم: (292)، ولفظه: عن ابن عباس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» ثم أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، فغرز في كل قبر واحدة، قالوا: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا».
(10) أورده ابن أبي الدنيا في كتابه الإخوان مرسلاً، رقم: (42)، (ص: 94)، ولفظه: عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْأَصْحَابِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «صَاحِبٌ إِذَا ذَكَرْتَ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعَانَكَ وَإِذَا نَسِيتَهُ ذَكَّرَكَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنَا عَلَى خِيَارِنَا نَتَّخِذْهُمْ أَصْحَابًا وَجُلَسَاءَ قَالَ: «نِعْمَ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ».
(11) أخرجه الترمذي ولفظه: "قال أبو بكر رضى الله تعالى عنه: "يا رسول الله قد شبت" قال: ((شيّبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون وإذا الشّمس كورت))
قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه، سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ومن سورة الواقعة، رقم: (3297).
(12) صحيح مسلم باب تحريم الظلم (4/ 1997) ورقم 60-(2582). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ»