تفسير سورة النبأ 02

  • 1995-03-03

تفسير سورة النبأ 02

الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيدنا محمِّدٍ خاتَم النبيين والمرسلين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيدنا موسى وعيسى، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

يوم الفصل هو يوم القيامة:
يقول الله تعالى: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) يوم الفَصل هو يوم القيامة:

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
[سورة المطففين]

يقومون مِنْ قبورهم إلى محكمة الله؛ والله قاضيها وأعضاء الإنسان وجوارحه هم شُهودها والملائكة الكرام الكَتَبة يُقدِّمون ما كتَبوا إلى الله عز وجل أعمالَ الإنسان صغيرَها وكبيرَها:

الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
[سورة غافر]

وقال:

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
[سورة يس]

فالإيمان بالقيامة أحد أركان الإيمان؛ أن تُؤمن بالله وملائكته وكتُبه ورُسلِه واليوم الآخِر، فمَنْ لم يُؤمن بالقيامة والتي لها أسماءٌ كثيرة في القرآن فتارةً تسمى الواقعة:

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ (3)
[سورة الواقعة]

(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) يعني إذا قامت القيامة، (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ) حين تطلع الشمس هل يستطيع أحدٌ أن يكذِّب بطلوع الشمس؟ كذلك إذا وقعت القيامة فالذي كان كافراً بها هل يستطيع ذلك الوقت أن يجحَدها؟ (خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ) تخفِضُ أناساً لم يؤمنوا بها، أعمالهم كانت مُخالفةً للإيمان بها.
الإيمان الحقيقي بالقيامة يجعل المؤمن يؤدي فرائض الله كلَّها ويبتعد عن محارم الله كلِّها؛ بلسانه وعينه وأذنه ويده ورجله:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
[سورة آل عمران]

(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) فالجنة أيُّ عالَمٍ هذا العالَم؟ إذا كان عرضُها السماوات والأرض، (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) فالجاحد والمُنكر بقوله أو بعمله، والسارق حين يسرق هل يُؤمن بيوم القيامة؟ لو آمن لما سرق، وشارب الخمر هل يؤمن بيوم القيامة؟ الإيمان الحقيقي عصمةٌ مِنَ الذنوب، والزاني عندما يزني هل يؤمن بيوم القيامة؟ لذلك عليه الصلاة والسلام كان يقول:

{ لا يَزني الزَّاني حين يزني وهو مُؤمِنٌ (1). }

[صحيح البخاري]

لأنه لو آمن بالله وبأن الله لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.. ولو عَرَف الزاني أن طفلاً يُشاهده هل يمكن أن يقتحِم محارِمَ الله؟ والسارق لو عَلِمَ بأن شخصاً يُشاهده هل يُقدِم على السرقة؟ والكاذِب إذا عَلِمَ أن شخصاً يعلم كذبه وافتراءه فهل يكذب؟ فكيف يقترف الإنسانُ الذنوب ويقول أنا مؤمنٌ بالله وأنا مؤمنٌ بيوم القيامة؟! كيف يقول أنا مؤمنٌ والقرآن يقول:

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

الرقيب هو الذي يُراقب أعمالك وعتيدٌ هو الذي حاضرٌ لا يغيب وموكلٌ بتسجيل أعمالك، فالإيمان ليس بالتمني ولا باللباس بأن يلبس الإنسان الجبَّة أو العمامة ويُطيل اللحية، الإيمان "ما وَقَرَ في القلب وصَدَّقه العمل"(2). الإيمان نقلةٌ مثل ما يُنقل الفحم.. الألماس ما أصله؟ الألماس يكون مِنَ الفحم، فبين الفحم والألماس أيُّ فرقٍ؟ هكذا يكون الفرق بين المؤمن وبين غير المؤمن، والذي يُفرِّق بينهما هو العمل والسلوك وتزكيه النفس وأخلاقها إلخ..

العلم والمعلم:
ففي سورة النبأ والناس يقولون سورة عمَّ ويقرؤونها طوال العمر ولعلَّ الكثير مِنَ الناس حتى يموت لا يفهمها، ويقرأ الواقعة آلاف المرات ولا يتأثَّر بها؛ مثل الذي يُلقي حبَّ القمح على أرض صخرٍ أو على البلاط، لو ألقى مئة طن على أرضٍ مبلَّطة يحصد مِنْ أطنان القمح كم كيساً؟ ولاحبَّةً قال تعالى:

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
[سورة البقرة]

الإنسان هل يمكن أن يصير نجاراً بلا معلِّمٍ ولا مُدرِّب؟ هل يكون حداداً مِنْ غير معلِّم؟ وطيَّاراً هل يكون مِنْ غير معلِّم ولا مُدرِّب؟ كلمة مسلم بمعناها الحقيقي كيف تكون بلا مُعلِّمٍ ولا مُدرِّب؟ الصحابة قبل الإسلام كانوا مثل الفحم ولما صار لهم المعلِّم والمربِّي المزكِّي المدرِّب صاروا أغلى مِنَ الألماس، ولذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

{ طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ }

[صحيح الجامع]

طلب العلم يعني طلب المعلِّم، فهل يكون علمٌ بلا معلِّم؟

يوم الفصل له وقت محدد:
فالله يقول في سورة النبأ: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا)له وقتٌ محدَّدٌ بالساعة واليوم والدقيقة والثانية يُفصَلُ فيه بين الظالِم والمظلوم، وبين المؤمن وبين المنافق الذي يدَّعي الإيمان لكن أعماله ليست كأعمال المؤمنين ولا أعمال المسلمين؛ لأن كلمة مسلم والإسلام هو الاستجابة لأوامر الله وأن تنفِّذ أوامر الله وتجتنب محارِم الله، فإذا فعلت ذلك فأنت مسلمٌ يعني مُستجيبٌ لأوامر الله، وإذا ادَّعيت الإسلام ولم تُنفِّذ أوامِر الله وارتكبت محارِم الله بقولك أو بعملك أو بقدميك أو بأيِّ جارحةٍ مِنْ جوارحك وتدِّعي الإسلام فأنت مُنافقٌ، وإذا أعلنت جُحودك وإنكارك للإسلام فأنت كافرٌ، فليزِن كلُّ واحدٍ منَّا نفسه فتارةً يكون مؤمناً وتارةً يصير كافراً:

{ يُصبِحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا ويُمسي كافِرًا، ويُمسي مُؤمِنًا ويُصبِحُ كافِرًا(3) }

[صحيح مسلم]

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ودفنوه في ضريحه الشريف قالوا:

{ وما نفضْنَا أيدينا من دفنِه حتى أنكرنا قلوبَنا }

[سنن الترمذي]

(وما نفضْنَا أيدينا من دفنِه) أي لم ينتهوا مِنَ الدفن (حتى أنكرنا قلوبَنا)(4) قلوبهم تغيَّرت عمَّا كانت، يعني كانت في العُلا ونزلت درجةً أو درجتين على حسب كلِّ واحدٍ منهم، لذلك لأداء فريضة العِلم وليكون مسلماً عليه أن يدخل مدرسة الإسلام ليتلقى الإسلام مِنْ معلِّم ومِنْ مربِّي الإسلام الذي يُعلِّمه الكتاب والقرآن.
تسأل الذي صار عمره سبعون سنةً عن سورة عمَّ النبأ؛ فما النبأ؟ لا يفهم شيئاً، سبعون سنةً أو أكثر أو أقل وانظر إلى أعماله وإلى كلامه ونظره وإلى تصرُّفاته تجدها ليست على الإسلام، وليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي أي الحلية واللباس ولكن الإيمان ما وقَرَ بالقلب وصَدَّقُه العمل.

الاستجابة إلى الهداية:
فالله عز وجل يقول: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) الشرطيُّ إذا قال للسائق: سلوك هذا الطريق ممنوع فماذا يقول السائق؟ يقول: أمرك سيدي، والطريق مِنْ هنا، فالله عزَّ وجلَّ عندما يُبيِّن لك طريق السعادة وطريق الرضا وطريق التقوى والإسلام في كليات الأمور أو في جزئيَّاتها، فحين تقول:

هْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
[سورة الفاتحة]

القرآن يُبيِّن لك الصراط المستقيم، فأنت تترك الصِراط المستقيم -صِراط الله – إلى صِراط الشيطان ثم تكرر بالركعة الثانية: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) يقول لك الله أنا أهديك وأنت كذابٌ في طلبك؛ والعطشان إذا قال أعطوني الماء فإذا قُدِّم له الماء ورفضه فالناس ماذا تقول عنه؟ تقول عنه كاذبٌ وليس بعطشان، وإذا قلت (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) والله عز وجل يقول لك:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
[سورة النساء]

وما اتَّقيتَ ربك وهو هداكَ إلى لصراط المستقيم فإذا طلبت الهداية مرةً أخرى فالله يقول لك كذَّابٌ لأني هديتك ودللتُك فلم تهتدِ ورفضت دلالاتي.
فالله عز وجل يقول الآن: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) وما الفَصل؟ هو القيامة، ولمَ سُمِّيت بالفَصل؟ لأن الله يفصل في ذلك اليوم بين المؤمن الصادِق وبين المدَّعي الكاذِب، ويفصل الله عز وجل بين التَّقي:

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
[سورة الزمر]

الأتقياء زمراً زمراً:

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
[سورة الزمر]

فيُفرِّق الله فيه بين الظالِم والمظلوم، والله ينصر الظالِم وينتقم مِنَ المظلوم إلخ..

الحساب في الدنيا قبل الآخرة:
قال تعالى: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) له وقتٌ معيَّن، فهذا يوم الفَصل في القيامة الكبرى، ويوجد الفَصل في الدنيا وهي القيامة الصغرى، الله قد يُعاقب الإنسان على ذنبه في الدنيا، القيامة: هي محاسبة الناس يوم الحساب، وهناك ذنوبٌ الله عز وجل يُحاسِب صاحبها في الدنيا قبل الآخرة، ويُكافئ المؤمن على صالح أعماله في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة النحل]

(لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) أي مقابل أعمالهم الصالحة، (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) المكافأة في الآخرة أعظَم مِنَ المكافأة في الدنيا:

فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
[سورة غافر]

هذا في الدنيا ويوم القيامة العذاب الأكبر، كما قال في آيةٍ أخرى:

وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
[سورة السجدة]

(وَلَنُذِيقَنَّهُم) للمتمردين على الله، للخارجين على أوامر الله، (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ) يعني الدنيا (دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). فنسأل الله أن يرزقنا الإيمان بالقيامة في الدنيا ومحكمة الله في الدنيا، وأن يحمينا مِنْ محكمة الله في الدار الآخرة.

قصصٌ حصلت مع بعض الأنبياء والعبرة منها:
ذكرت لكم فيما مضى لعلَّ بعضكم ما سمع: أن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام كان على شاطئ نهر، وإذا برجلٍ راكباً فرساً يسقي فرسه وينزل ليستريح مِنْ سفره، حتى صار إذا وقت المساء ركب فرسه وذهب حيث يريد، ونسي خُرجَه المملوء بالذهب في موضع نزوله، فيأتي شخصٌ آخر -راعي غنمٍ- يرعى غنمه ويسقيهم من النهر فيرى الخُرج، فيحمل الخرج على حماره ويذهب به مع غنمه، ويأتي شخصٌ ثالث عجوز شيخ -والشيخ بالمعنى اللغوي الرجل الهرم- كسَّار حطب وثيابه تعصر من العرق، ويُخرِج زاده مِنَ الخبز والبصل، فيرجع الفارس صاحب الخُرجِ ولا يجد الخرج، ويجد كسَّار الحطب المنهَك مِنَ التعب، ويقول له: أنت أخذت الخُرج، فالفارس يأخذ السيف ويقطع رأس هذا الرجل الضعيف، وعلى مشهَد ومرأى مِنْ سيدنا موسى، وكان سيدنا موسى عليه السلام متحمساً ولم يتحمَّل فقال: يا ربي ما هذا؟! أنت الحَكَم العَدل، هذا الرجل الفقير يُقطَع رأسه وهو بريءٌ وذاك الراعي يأخذ الذهب بغير حق؟! وأنت بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ شهيد، وأنت السميع البصير.
ولكن هذه محكمة الله:

الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
[سورة غافر]

سيدنا موسى والخضِر لما اجتمعوا ببعضهم البعض، سيدنا الخضِر فعل ثلاثة أشياءٍ مخالفة للمشاهدة وللعقل والعدل، ولما كُشِفَ الغطاء وإذا بالأمور كلِّها كانت عدلاً وحقاً وصواباً، قال: يا ربي إما أن تكشف ليَ الأمور وإلا فالإنسان إنسان.. فكشف الله له الحقيقة فقال: خُرْج الذهب هذا سرقه الفارس يوماً مِنَ الأيام أو إغتصبه مِنْ والد الراعي، فكبُرَ الولد على الفقر وصار راعياً، فأتى وأخذ خرج أبيه؛ هذه هي (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) في الدنيا، يوجد قيامةٌ وحسابٌ في الدنيا يحاسب الله فيه الإنسان، ويوجد حسابٌ وفصلٌ يوم القيامة أيضاً. قال: وهذا العجوز المسكين الذي ظهره محنيٌّ لا يستطيع المشي، ويكسر الحطب حتى يأكل الخبز والبصل فما ذنبه حتى تُقطَع رأسه؟! قال: هذا العجوز حين كان شابَّاً قتل والد الفارس صاحب الذهب فأتى الابن فقتل قاتِلَ أبيه.
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) فحين يُقِيم الله قيامتك في الدنيا حيث قيامة الدنيا ويوجد قيامة الآخرة:

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
[سورة إبراهيم]

لكن لا يتركهم ويُهمِلهم:

{ إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ }

[صحيح البخاري]

(إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ) يُمهله ويُعطيه المهلة لكن لا يتركه، (حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ)(5) إذا صارت رقبته بين يدي القاضي الإلهي في الدنيا، وهذا في الدنيا.
يقال بأن إنسانا كَبُرَ والده عنده وصار مِنَ الشيخوخة والضعف والعجز إلى درجة كبيرة فملَّ من خدمة والده وتبرَّم وضجِرَ منها، فأخذه وحمله وأخرجه خارج المدينة إلى مكانٍ بعيدٍ ووضعه هناك، وقال له أنا ذاهبٌ لأحضر لك الطعام والشراب حتى نمضي النهار، ونيَّته أن يضعه هناك حتى يموت ويتخلَّص مِنْ خدمته وبِرِّه، ولكن الأب عَلِمَ الحقيقة؛ أن ابنه يريد أن يرميه هنا للوحوش ليتخلَّص مِنْ خدمته والتعب في رعايته، قال: يا بني أنا عرفت لماذا أتيت بي إلى هنا لتتخلَّص مني، لكن تعال -لنكمل الموضوع- اتركني عند تلك الصخرة على بعد خمسين متراً، فقال الولد ما الفرق بين هذا المكان وتلك الصخرة؟ قال: يا بني حين كنت شاباً وشاخَ والدي مللت مِنْ خدمته وتضجَّرت مِنْ رعايته فأخرجته مِنَ البلد إلى تلك الصخرة فتركته يموت جوعاً وعطشاً، فضعني حيث وضعت أبي ليكون القصاص قصاصاً عادلاً شبيه الكف بالكف. هذه القيامة الصغرى ويوم الفَصل الأصغر، أما يوم الفَصل الأكبر:

إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)
[سورة النبأ]

أنت يا مسلم وأنتِ يا مسلمة هل أنتِ مؤمنةٌ بسورة النبأ، يقول الله عنه النبأ العظيم يعني النبأ الهائل الهائل الهائل فيا تُرى هل آمنتِ به؟ وما دليل الإيمان؟
بعض الأشخاص نزلوا وسبحوا في ماء النهر وماء النهر باردٌ وشعروا بالبرد، وازرقَّت الشفاه، وخرجوا من النهر وهم يرجُفون، وإذا برجل يسأل: كيف هي ماء النهر؟ قالوا: دافئة؛ وشفاه زرقاء ويداه وجسمه كلُّه يرتجف، فأيهما أصدق لسانه أم جسده وشفتاه؟ فنسأل الله أن يرزقنا الإيمان ويتوفَّانا على الإيمان، إذا كانت كلُّ حياتك على الكفر بالله وبالقرآن وعلى العصيان والفسوق فلا تعلَّمت ولا قرأت ولا كتبت ولا دخلت إلى مدرسةٍ، وتقول اللهم اجعلني طبيباً أو أستاذ جامعة فهل الله طفلٌ صغيرٌ ليجعلك أستاذ جامعة بالدعاء؟ قال تعالى:

وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
[سورة الكهف]

فكلُّ واحدٍ منكم يُسائل نفسه هل أنت مؤمنٌ بيوم الفَصل؟ في غضبك عندما تغضب وتعرف أنك إذا ضربت إنساناً أو شتمته أو ذممته وانتقصته أن الملَك يُسجِّل كلامك؟!

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

عندما تريد أن تبيع وتغشَّ أو تحلِف يميناً كاذبةً عند بيعك أو شرائك فهل أنت مؤمنٌ بالله وملائكته؟ وبأن هناك ملَكٌ يسمع ويُبصِر ويكتب كذبتك في سجلٍّ لا تمحوه الأيام والسنون حتى تلقى الله عز وجل؟ وتشهد عليك أعضاؤك ولسانك وأنامِلك وكتابتك، هل أنت مؤمنٌ بيوم القيامة؟ هل قرأت سورة عم؟ هل تعلَّمتها؟ قال تعالى:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[سورة البقرة]

أما أن تقرأ القرآن ولا تفهمه ولا تنوي أن تفهمه ولا تنوي أن تعمَل به ثم تقول أنا مسلم! والله قولك كاذبٌ، ولست بمسلمٍ لأن كلمة مسلم تعني المستجيب لأمر الله والـمُطيع لشريعة الله، فأنت لست مُمتثلاً ولا مُستجيباً، وأنت مخالفٌ متمرِّدٌ تزداد يوماً بعد يوم بمعاصيك وتبتعد عن طاعة الله وعن تقواه، لماذا؟ لأنك ما ذهبت إلى المعلِّم، ما ذهبت إلى المربِّي، ما صار لك مَنْ يعلِّمك الكتاب والحكمة ويُزكِّي نفسك.

نتيجة تصديق الوعد الإلهي:
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) إذا كنت تريد السفر إلى حلب ومُصلِّح السيارة قال لك وهو يفحص السيارة: هذه السيارة لا تُوصلك إلى حلب، تحتاج إلى تصليح محرِّك أو تبديل بطارية فهل تصدِّقه أم لا؟ وحين يقول لك الله:(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) هل تُصدِّق الله أم لا تصدِّقه؟! أعمالك هي التي تُجيب الله بالتصديق الذي هو الإيمان ويظهر بالعمل أو بالتكذيب وهو الفجور و التكذيب الذي يظهر في العمل، فحتى تصير مسلماً لا بدَّ أن تهاجر وتفتِّش مثل العطشان الذي يفتِّش عن الماء حتى لا يقتله العطش، ومثل البردان كيف يُوقد المدفأة حتى يتخلَّص مِنَ البرد، هذا في القيامة الصغرى.. قال: ضعني على تلك الصخرة، الآن:

جَزَاءً وِفَاقًا (26)
[سورة النبأ]

هنا وضعت والدي فهكذا وضعني ولدي حيث وضعت والدي.
بذار القمح هل تنبت شعيراً؟ يذكر لي أحد التجار في الأربعينات قال: كان في الحجِّ وأنفَق في المدينة على الفقراء خمسة آلاف ليرة عثمانية إنكليزية، ومِنْ حديثٍ لحديثٍ ذكر لي برَّه بأبيه، ماتت أمه فتزوَّج أبوه- وهذا شيءٌ طبيعي- فقام بخدمة خالته خيرَ خدمة، قال حين أعود مِنْ بيروت إلى دمشق فالهدايا لمن؟ للخالة حتى يكسب رضاها مِنْ عطورٍ وغيرها، ومرةً مِنَ المرات قال يا أبي أريد منك حاجةً صغيرة، ولكن أخاف ألا تُلبِّي طلبي، قال الأب ولدٌ بارٌّ فهيم يجعل روحه بين قدمي والده، لو طلبت روحي ومالي فكلُّه لك قال: أريد أن تحلف لي يميناً بالله أنك سوف تحقق طلبي ولا أرضى حتى تحلف، فحلَف الأب يميناً أن يُحقق له مطلوبه وما يريد، قال أريد أن أغسل رجليك وقدميك وأشرب ماءها وهذه ليست لها قيمة! تستطيع أن تكسب رضا أبيك بشيءٍ ينفعه، أما شيءٌ لا ينفعه وقد تتضرر به!! فقال الأب: أعوذ بالله، قال له أنت حلفت يميناً ووعدتني، قال الأب: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال الأب لزوجته هيِّئي لي الحمَّام فاغتسل وغسل يديه ورجليه حتى صارتا نظيفتان، ونادى ابنه أن تعال وافعل ما طلبت فقال له ابنه أنا طلبت ماء غسل رجليك فقال له والده هذا ماء غسل رجليَّ.. فالله أكرمه أن جعله مِنْ أتقياء الناس وكانت مكانته بين الناس في غاية الاحترام، والله جعله مِنْ كبار الأغنياء حتى وصلت صدقاته في حجِّه بالمدينة (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا).
وأعرف رجلاً- لا أريد ذكر اسمه ذهب إلى رحمة الله- رأيته بعيني وأنا طفل ضرب أمه- حماقةً وجهلاً وقلة دينِ- وكَبُرَ وصار شابَّاً وأقبلت الدنيا عليه وصار عنده سيارةٌ خاصة وأكثر مِنْ سيارة وصار له بيتان وزوجتان لكن كما يقولون الآخرة يا فاخرة- ويوجد مَثَلٌ أخر يقولون: ثعلب بَلعَ مَنجل، قالوا أرأيتم رجولته؟ بلع منجلاً! وهل هناك أعظم من ذلك! فقال انتظر حتى يقضي حاجته لتسمع صراخه- فهذا الرجل سلبه الله النعمة شيئاً فشيئاً وكان له أكثر مِنْ دارٍ وبيتٍ فسلبه الله بيوته وسيارته وأمواله ونِعمه، حتى لم يبقَ له إلا غرفةٌ مستأجرة في بيت خربٍ في حي الأكراد- وأنا شخصياً كنت أساعده بقدر إمكاني إلخ.. ولم تنتهِ الأمور هنا وعند موته بقي ثلاثة عشر يوماً وهو في الاحتضار والنزع، والرغوة تخرج مِنْ فمه ولا تخرج روحه، هذه القيامة الصغرى :

وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
[سورة السجدة]

فالموفَّق بكلمةٍ واحدةٍ يصلُح وغير الموفق:

سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
[سورة البقرة]

(غِشَاوَةٌ) يرى الأبيض أحمر ويسمع صوت المطرب صوت حماٍر وصوت الحمار يسمعه حجازاً وبياتاً وهذا نهاوند، وهو يكون نهيق الحمير لأنه حمار، مَنْ يستلذ بنهيق الحمار؟ الحمير، مَنْ يستلذ بصوت الغراب؟ الغربان، مَنْ يرافق الجرذ؟ هل رأيتم عصفوراً وجرذاً يمشون مع بعضهم البعض؟! فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإيمان.

تعامل الإنسان مع نعم الله تعالى:
هل أنتم مؤمنون بسورة النبأ، هل أنتم مؤمنون بكلام الله؟ (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) إذا غضبت وإذا طمِعْت في بيعك وشرائك وفي معاملاتك وسهرتك ومع زوجتك ومع زوجك ومع حماتك ومع الكنَّة والصانعة ومع الأجير وفي البيع وفي الآجار والاستئجار تقول شيئاً لتغشَّ وتخدَع:

أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14)
[سورة العلق]

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
[سورة الأنعام]

(جَرَحْتُم) أي ما عملته جوارحكم يعني أعضاؤكم، واليد اسمها جارحة والعين جارحة، ومن الإيمان بكتاب الله هل آمنت بجملة إن يوم الفَصل كان ميقاتاً؟ وقتٌ محدَّدٌ لا بدَّ مِنْ وقوعه، ويوم الفصل لا بدَّ من الحساب والمحكمة وهناك لا يوجد محامٍ ولا كذبٌ ودجلٌ على الله:

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
[سورة يس]

له ووقته بالساعة وبالدقيقة والثانية، وإذا قال لك الله: ألم نجعل لك العينين ولساناً وشفتين؟ أما أعطيناك النِّعم؛ والأولاد والزوجة والقوة والشباب والعقل والدماغ؟ فماذا فعلت فيما ائتمنتُك عليه، هل استعملتها في رضائي وطاعتي؟ ماذا سوف تقول لله، هذه المدرسة وهذه التربية هي التي أنتجت خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي هزم الاستعمار العالميَّ الشرقيَّ والغربي، الاستعمار الأوروبي الغربي هزمه في معركة اليرموك في ستة أيام، وكان الرومان مع العرب الخونة ربع مليون، فالذين تخرَّجوا مِنْ سورة النبأ ويوم الفَصل كان عددهم حوالي أربعين ألفاً وكانت المدة ستة أيام، والنصر كان للقليل أم للكثير؟ كانوا من البدو لا يقرؤون ولا يكتبون، والرومان بحضارتهم ومدنيَّتهم التي كان قد مضى عليها ألف سنة وخريجو مدرسة القرآن هزموهم بستة أيام.
يا تُرى المسلمون الآن هل يفهمون القرآن؟ يفتحون المذياع على القارئ عبد الباسط عبد الصمد فهل فهموا مِنْ تلاوته كلمةً واحدة؟ يسمع موسيقا ونغم، وإذا رئيس الوزراء أو الرئيس تكلَّم معك فهل يجب أن يغنِّي لك حتى تفهم؟ الكلام لا يحتاج نغماً، النغم هو نغم الفهم والإيمان، والإيمان الذي يُصدِّقه العمل، أما إذا كان هززت جسمك وصرخت وقلت الله الله ولم تفهم ما عملت ولم تعمل، فأنت لا سمعت ولا قرأت ولا آمنت، نسأل الله أن يحمينا بحماه ولا يجعلنا مِنَ المنافقين، الذين هم صمٌّ: آذانه تسمع كلَّ شيء، أما الحق فلا تسمعه ولا تفهمه، بُكمٌ: يعرف الحق ولا يناصره ويسكت على الباطل ولا يستنكره، عميٌ: لا يرى الطريق المستقيم فيتركه إلى أهوائه.
هذه قصة سيدنا موسى مع الحطاب والراعي والخيّال وقصة العاق-قال له لا تضعني هنا، ضعني عند تلك الصخرة –

الجزاء من جنس العمل:
يُذكَر عن رجلٍ مِنَ الصالحين- وهنا يوم الفصل الصغير- كان يعمل في سوق النساء صائغاً وكانت عنده امرأةٌ صالحة، ففي يومٍ من الأيام جاءته بعض النساء إلى الدكَّان تريد شراء حليٍّ، وكانت المرأة -والظاهر أن المرأة عندها بعض الحركات وفي هذه الأعمال يجب أن يكون الإنسان حذراً فإن لم يكن حذراً فالبعد أفضل له - طلبت المرأة أحد الأطقم الذهبية، وأرادت ارتداءها فلم تستطع فقالت له: ساعدني، فساعدها فلمسها ورأى يديها وأحسَّ بنعومتها – ونفسه الله أعلم ماذا دار في ضميره الداخليِّ- أولاً لا يجوز لمس المرأة الأجنبية، ومع النية الغير البريئة صار الأمر اثنين، وفي بيته السقَّا يحضر له الماء كلَّ يوم، ويدق الباب ليضع الماء في البرميل.. والسقا رجلٌ مِنَ الصالحين، وبالعادة عندما يأتي السقا يأخذ الإذن ويسأل، فجاء السقا حسب العادة ففتح الباب بلا إذن ولا استئذان فترك الراوية وجاء إلى زوجة صاحب البيت وأمسكها مِنْ يديها وصار يتغزَّل بها، والزوجة تعرفه أنه رجلٌ صالحٌ والمرأة صالحة، لكن ما تجاوز الأمر أكثر مما حصل في الدكان، ثم تركها وأفرغ الراوية، وفكرت المرأة طوال النهار أن هذا الأمر لا بدَّ أن يكون مِنْ ورائه شيء، فقالت لزوجها قل لي ماذا فعلت اليوم، قال لم أفعل شيئاً إنما نزلت وبعت، قالت ماذا فعلت مع الله مخالفةً، لا بدَّ أنك فعلت شيئاً:

وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

لا بدَّ أن يرى العقوبة على الشرِّ، مثقال ذرة محكمة الله لا تضيِّعها، وإذا عملت الخير مثقال ذرة أيضاً ستُكافأ عليها، قالت له أبداً إلا أن تكون فعلت شيئاً، قال: كلامك صحيح وفراستك في محلِّها لكن كيف عرفتِ؟ قالت قل لي أولاً ثم أقول لك، فقال لها القصة والأمر مثل المرآة فإذا نظر الرجل لوجهه هل تكذِّبه المرآة؟ هل تريه عيناً بدلاً مِنْ عينين؟ إذا عينان فعينان وإذا وجه أبيض فماذا يظهر؟ قال لها هكذا حدث معي، قالت له: أنا اليوم صار معي كذا وكذا ودقة بدقَّة ولو زدت لزاد السقَّا.
فهل فهمتم أنتم الذين في الجامع والذين هم خارج الجامع؟ فهمتم تنسون أم تذهب معكم إلى البيت فهل تصل إلى اليوم الثاني والثالث؟ إن شاء الله أن يرزقنا الإيمان بكلام الله حتى نطبِّق القرآن سورة سورة وآيةً آية وجملةً جملة وكلمةً كلمة، وبذلك تكون مسلماً وتكونين مسلمةً وإلا لا تغترَّ "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي لكن ما وَقَرَ في القلب وصدَّقه العمل".

رضا الله تعالى يكون بالتقوى:
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) ميقات اللقاء مع الله ليُحاسبك على أعمال في كتابٍ:

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
[سورة الكهف]

(لَا يُغَادِرُ) يعني لا يترك (صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) ستُشاهد بعينيك ويُقال لك:

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
[سورة الإسراء]

إذا أحضروا له الفلم وهو يمسك الخنجر ويضرب الضحية حتى لفظت أنفاسها، (اقْرَأْ كِتَابَكَ) ماذا يقول عن نفسه؟ بريءٌ وغير مستحقٍّ للإعدام ويطلب الرحمة؟! فنسأل الله أن يرزقنا الإيمان ونطلب مدرسة الإيمان وأستاذ الإيمان وصحبة أهل الإيمان، أما لا مدرسة الإيمان ولا معلِّم الإيمان ولا صحبة أهل الإيمان إنما صحبة الفجَّار والفسَّاق والجَهلة والمغضوبين لله ولرسوله ولقرآنه ونريد أن نصبح مِنْ أهل التقوى؟!
تَرجو النَجاةَ وَلَم تَسلُك مَسالِكَها إِنَّ السَفينَةَ لا تَجري عَلى اليَبَسِ
{ أبو العتاهية }
قال عبدٌ لسيده وكان سيِّده من أهل الفسق ولا حلال ولا حرام عنده فكلَّما قال له: اتَّق الله خذ- وكان العبد رجلاً صالحاً- يقول له: إن الله غفورٌ رحيم، فعندما أراد أن يزرع أعطى السيد عبدَه مئة كيسٍ من القمح ليزرعها فعندما حان الحصاد باع العبد القمح وزرع بدلاً عنها شعيراً، فعند الحصاد جاء سيده وشاهد الحصاد، وطار عقله لأن النتاج كلُّه شعير قال: ماذا زرعت وأنا ماذا أعطيتك؟ قال العبد: كذا، قال من أجل ماذا؟ قال كي أزرع قمحاً، قال له: ماذا اشتريت؟ قال: شعيراً، قال: أنا ماذا قلت لك؟ قال: قلت لي اشتري قمحاً، قال: هل تضحك عليَّ فقال العبد: اصبر ولا تستعجل حتى تسمع، قال: ماذا أسمع؟ قال العبد: أنت ألا تقول دائماً أن الله غفورٌ رحيم، قال: بلى، قال فترجو مغفرة الله بمعاصي الله! وترجو رضاء الله بغضب الله فهل هذا يُعقَل؟ تريد أن يرضى الله عليك وأنت تفعل ما يُغضِبه هل هذا يصحُّ؟ تريد دخول الجنة وأنت تعمل عمل أهل جهنم!!
يعني هل هذا يمكن؟ الله عز وجل قال:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
[سورة الحجر]

هل قال إن الفسَّاق في جناتٍ وعيون؟ قال: أنا اشتريت شعيراً وزرعته على نية أن الله قادرٌ أن ينبته قمحاً، فقال السيد إذا زرعنا شعيراً هل سيُظهره الله قمحاً؟ قال العبد: يا سيدي انظر لنفسك تقوم بالمعاصي ليلاً ونهاراً وتريد الجنة، فإذا كان الشعير لا ينبت قمحاً فهل أعمال الضلال والفسق وغضب الله ستعطيك رضاء الله وجنة الله ويحشرك الله مع الصالحين من عباد الله؟! قال السيد: نعم المعلِّم والأستاذ، أنت لست عبداً يجب أن أكون أنا العبد وتكون أنت سيدي وأستاذي، وأنا تائبٌ إلى الله عز وجل. نسأل الله أن يجعلنا مِنَ النفوس الطيبة التي تقبل الكلمة الطيبة ولا يجعلنا مِنَ النفوس الخبيثة التي تركض وراء الخبائث وتفرُّ مِنَ الطيبات.
الجرذ إذا أدخلوه قصر الملوك هل يجلس على عرش الملك ليلاً إذا كان فارغاً أو في صالون الملك وغرفة الملك؟ أين يجلس؟ يفتِّش ويشتم الرائحة حتى يجد المجاري القذرة فينزل إلى الأسفل ليصل إليها إلخ.. فالخبيثون للخبيثات والخبيثات للخبيثين، وعلامة الرجل الصالح أن يكون قرناؤه ورفاقه صالحين ومجالسه مع الصالحين، والعكس بالعكس:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
[سورة لقمان]


النفخ في الصّور:
هل آمنتم بيوم الفَصل وبالقيامة الصغرى؟ أكثر الناس يخافون مِنْ انتقام الله في الدنيا، وقال تعالى:

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
[سورة فاطر]

(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا) لو عَجَّل (مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ) فهناك أناسٌ يؤاخذهم الله في الدنيا وأناسٌ يرجع عذابهم إلى الدار الآخرة، ومنهم مَنْ يُعذِّبهم ويُؤاخذهم في الدنيا والآخرة.
النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ إذا أسأْتَ فأحْسِنْ (6) }

[مسند أحمد]

{ يَا أَبَا ذَرٍّ، اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُ كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ(7) }

[المستدرك على الصحيحين للحاكم]

(وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ) يعني بالحسنة (تَمْحُهَا) إذا فعلت ذنباً فاستعجل بعملٍ صالحٍ يمحو لك الذنب.
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) كيف يُنفَخ في الجيش في البوق وكل نفخةٍ لعلامة فنفخةٌ لعلامة الاجتماع، ونفخةٌ لعلامة التفرق، ونفخةٌ لعلامة الاستراحة، فالله ذكر النفخ بالصور كمثالٍ لجمع الخلائق يوم القيامة للحساب وللثواب والعقاب.
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) أي جماعاتٍ جماعات.

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
[سورة الزمر]

جماعاتٍ جماعات:

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
[سورة الزمر]

أيضاً جماعات، فنسأل الله أن يجعلنا مع زمرة الصالحين مِنْ عباد الله فعلى حسب مَنْ تجتمع بهم في دنياك ستكون في زمرة مَنْ تجتمع بهم يوم القيامة.

بدء المحكمة الإلهية:
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ) لنزول الملائكة والعَرض الأكبر وفتح المحكمة العظمى لمخلوقات الله أجمَع، حتى يُقتصَّ للشاة والنعجة التي ليس لها قرون من الشاة التي نطحتها بقرونها، هكذا قال نبيكم صلى الله عليه وسلم، حتى الحيوانات يُؤخَذ الحق مِنْ ظالمِها لمظلومها(8). فهل آمنتم بكلامه ومشيتم على هديه ونُصحه؟ الطبيب عندما يقول للمريض يلزمك حمية فلا تأكل الحلويات والدهن فمتى يُفيد كلام الطبيب؟ إذا حُوِّل إلى التطبيق والتنفيذ، وإذا قال المريض له شكراً يا دكتور وخالف فلم يستفِد مِنَ الطبيب ولا مِنَ الدواء!! اللهم اجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
يُقال أن رجلاً أراد أن يشتري عبداً فذهب إلى سوق العبيد ووجد رجلاً طويلاً ذو عضلات وهيئة فسأل عن ثمنه، قالوا ثمنه خمسون ليرة سورية لكن هذا العبد يعادل خمسين ليرة ذهبية فكيف تطلب خمسون ليرة سورية! قال البائع نحن مسلمون لا نغشُّ، وهذا فيه عيبٌ ولذلك أنا أبيعه لك على عيبه، وعلى عيبه لا يساوي أكثر مِنْ خمسين ليرة سورية، قال في نفسه طويلٌ عريضٌ والأكتاف مثل الجدار ولو كان حماراً صغيراً يكبر والجرو كذلك يكبر ويصير كلباً – نسأل الله أن يحمينا مِنْ هكذا كبر- فالصوص الذكر إذا كبِر يصير ديكاً، نسأل الله أن يجعل كبرتنا صالحة ويجعل صغرنا صالحاً- فاشتراه وهو فرحانٌ بخمسين ليرة، وهذا مِنْ عيبه أنه يقضي الحاجة بحاجتين فقال هذا جيد وهذا يجب أن يساوي مئة ليرة ذهب، فقال البائع: مَنْ غشَّ فليس منا، والناس يقولون مَنْ غشَّنا فليس منا، وهذا خطأ فالحديث:

{ من غشَّ فليس منَّا(9) }

[صحيح مسلم]

يعني لا يجوز أن تغشَّ لا مسلم ولا غير المسلم عليك أن تكون الناصح مع كلِّ الناس، وفي يومٍ من الأيام مرض سيده فقال له يا عبد الله أحضر لي الطبيب الفلاني مِنَ المكان الفلاني فذهب العبد ورجع مع الطبيب وأحضر أيضاً حفَّار القبور وكفناً وكافوراً وقطناً، فقال له السيد: ما هذا!! قال يا سيدي من باعني لك قد غشَّك ولم يقل لك أني أقضي الحاجة بحاجتين، وهذا الطبيب جئت به حتى يعالجك، فإذا شُفيت فالحمد لله، وإذا لم تشفى أحضرت لك حفار القبور والكفن حتى لا نضيِّع الوقت. نسأل الله أن يحمينا ويُوفقنا ويجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول ويحوِّلونه إلى العمل، كلمة الخير إذا سمعتها عليك أن تحوِّلها إلى عمل.
(فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ) لنزول الملائكة، والرئيس أو الملِك إذا حضر ألا يصطفُّ الجنود! هذا كلُّه تمثيلٌ للإنسان لعظَمة ورهبة ذلك اليوم العظيم، والذي هو القيامة.

سواد الدنيا وسواد الآخرة :
(وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ) لنزول الملائكة (فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا).

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
[سورة طه]

وربما لا تكون القيامة في هذه الأرض:

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
[سورة إبراهيم]

(إِنَّ جَهَنَّمَ) فهنا العذاب والإعدام، (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) تنتظرك، وخزنة جهنم ينتظرونك، وبقي خمس دقائق أو عشر دقائق وإذا يُؤتى بك:

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)
[سورة الرحمن]

وجهٌ أسود:

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
[سورة آل عمران]

والآن لو أردت أن تذهب إلى حفلةٍ وقد شحَّروا لك وجهك بالسواد وهذا بالماء دون الصابون هل يذهب؟ وإذا كان بدهانٍ فإنه يحتاج إلى القليل من المحروقات أليس كذلك؟ وإذا صبغ الله وجهك بالسواد؟ سواد الغضب الإلهي؟ أما سواد الدنيا:

{ لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ ، ولا لأبيضَ على أسودَ ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقوَى }

[صحيح الألباني]

وفي الدنيا لا تفاضُل بالألوان إنما التفاضل بالأعمال، لكن يوم القيامة العلامة بين الأشقياء والسعداء بياض الوجوه وسوادها، نسأل الله ألا يسوِّد وجوهنا عند لقاء الله، ولا يسوِّد وجوهنا في الدنيا وليس السواد الذي هو لون الجلد، السواد الذي هو العمل القبيح والعمل الرديء الناقص.

مصير الطاغين الأبدي:
(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) خزنة جهنم ينتظرونك، عندما تأتي كيف سيستقبلونك! نسأل الله أن يحمينا مِنْ هكذا استقبال، (لِلطَّاغِينَ) الطاغي: هو العاصي المتمرِّد الذي لا يتوب مِنْ ذنبه ولا يقبل نصيحة الناصحين، ولا يستجيب لكلام الله ولا للقرآن، والله يُخوِّفنا فلا نخاف ويُرغِّبنا فلا نرغب، ويُنادينا فلا نستجيب، والشيطان يُنادينا -شيطان الإنس وشيطان الجن- نستجيب له، فهؤلاء جهنم تنتظرهم لحظةً بلحظة عندما تراهم، مثل الباشق إذا شاهد العصفور ينقضُّ عليه انقضاضاً ويُمزِّقه شرَّ ممزَّق.
(لِلطَّاغِينَ مَآبًا) مصيرهم الأبديُّ أن الطاغين في جهنم، (لَابِثِينَ فِيهَا) كم الإقامة؟ هنا أكثر شيء خمسة عشر سنة ويقولون مؤبَّد، يعني مدى الحياة، والحقبة ثمانون سنة، وأحقاباً فالله ما حدد ثلاثة أحقاب أو أربعة أحقاب أو خمسة أحقاب أو خمسة آلاف؟ نسأل الله أن يحمينا، والله إذا أوقِف أحدنا في المخفر ساعة واحدة فإنه يُذلُّ فأمام رب العالمين وأمام سعادة الأبد وشقاء الأبد وأمام الأنبياء والمرسلين وأمام المخلوقات أجمعين وهذه بالقيامة الكبرى، وإذا قامت قيامتك في الدنيا قبل الأخرة، يعني كان مِنْ أشقياء الدنيا والآخرة، فأين عقلك يا بنيَّ والحيوان يعرف ما يضرُّه من ما ينفعه.
مرة كان رجلٌ يربي قرداً بدكانه، وإذا ذهب إلى الصلاة يتركه ليحرس الدكان، وجاء لصُّ يريد أن يسرق الدكان وكلما أراد الاقتراب هجم عليه القرد ليعضَّه، فدخل عليه بالحيلة، فوقف أمام القرد وصار يتناعس ويُغمض عينيه ويرخي رقبته، ومِنْ قوة الرابطة والتوجه -مَنْ جالَس جانَس- اصحب الصالحين، واصحب مَنْ هو أفضل منك وإذا ما صار فمَنْ هو مثلك بالخير، وإذا صحبت الشرير الأكثر أو المثل يزيد شرُّك.. فبعد خمس أو عشر دقائق نام القرد فدخل السارق وفتح الدكان وأخذ المال وهرب، وجاء صاحب الدكان وشاهد القرد نائماً وفتح الدكان فوجد المال قد سُرِق، فأخذ الكرباج وضرب القرد ليؤدِّبه وبعد حوالي ستة أشهر جاء السارق ليُعيد الكرَّة ووقف أمام الدكان وحاول التناعس فلم تنطلِ الحيلة على القرد، فإذا كان القرد قد فهم مِنْ مرةٍ واحدة فالإنسان الذي لم يفهم مِنْ مئة مرةٍ هو أحسَن أم القرد؟ هو أسوأ أم القرد؟ نسأل الله ألا يجعلنا قرود بني آدم، وأن يجعلنا نفهم على كلام الله:

وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30)
[سورة الشورى]


الحميم والغساق:
(لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا) جهنم والتي حرارتها سبعون ضعفاً من حرارة نار الدنيا، (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا) الماء المغلي (وَغَسَّاقًا) الغسَّاق هو الدم والعمل الذي يخرج مِنْ أبدان الجهنميين، وهذا شرابهم الذي يتبرَّدون به وهذه سقياهم.. هذا كلام من؟ إذا كنت تشكُّ بهذا الكلام واحداً بالمليون تخرج مِنَ الإيمان إلى الكفر، هل صدَّقت؟ فهل تستطيع أن تعصي الله؟ تقرأ القرآن لكن لا تعمل به لأن إيمانك ضعيفٌ، يلزمك أستاذ الإيمان، يلزمك الذكر، وكان الصحابة ينادي بعضهم إلى بعض تعالوا نؤمن ساعةً فيجلسون ويذكرون الله تعالى حتى إذا انقضى مجلسهم قالوا هذا مجلس الإيمان .. عندك مجلس الذكر ومعلم الذكر ومعلم الإيمان، الحلال والحرام كلُّ الناس تعرفه، وهل هناك من لا يعرف أن الزنا حرامٌ والسرقة حرامٌ والظلم حرامٌ والصلاة فرض، هل أحدٌ يشكُّ؟
فالعِلم موجود لكن التطبيق غير موجود، وإذا العِلم وحده لم يُفِد، لأنه نقَصه ونقصَ صاحبه مع العِلم الإيمان، القط عنده عِلم؛ أعطِه قطعة لحمٍ على المائدة، أين يأكلها؟ لأنه عرف أنه لم يسرقها فيأكلها بالحلال، وإذا خطفها يأكلها على السطح، فهل هذا عالمٌ أم جاهل؟ فقيهٌ ونفعه فقهه، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً.

الجزاء الرباني على الأعمال:
(جَزَاءً وِفَاقًا) لا يوجد هروبٌ مِنَ الله:

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
[سورة النمل]

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
[سورة الإسراء]

ما أعظَم هذه التربية في القرآن! والصحابة كانوا يقولون: أوتينا الإيمان قبل القرآن، وكانوا يقولون للجيل الذي بعدهم: أنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان. مِنْ أين أوتوا الإيمان؟ مِنْ صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل أنت تبحث عن صحبة وارِث لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتتلقى الإيمان مع القرآن؟ وهذا صار في هذا الوقت مِنْ أندر ما يكون، فنسأل الله أن يوفقنا لما يحبُّه ويرضاه.
(إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا) لا بدَّ من التطبيق الموافق للعمل، لماذا؟ لأنهم (كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا) وما كانوا مؤمنين بيوم الحساب والفَصل، (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا) إذا قلت لهم أن الله موجودٌ والآخرة موجودةٌ يقول لك اتركنا مِنَ الله وأنا أضرب باب الجنة برجلي وأكسره، -فالبِغال لا تدخل الجنة- والجنة أُعدَّت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء، ويجب أن تنفق في الحلال لا أن يكون مِنَ الحرام، زَنَت ثم تصدَّقت وليتها لم تزنٍ ولم تتصدق!! إذا أردت أن تتصدَّق تصدق مِنْ عَرَق جبينك ومِنَ المال الحلال.

مقتضى الإيمان الحقيقي:
(وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) كلُّ شيءٍ مِنْ أعمالك مسجَّلةٌ ومحصيَّةٌ فهل تُصدِّق الله؟ هل تؤمن بكلام الله؟ إذا أمنت بالأفعى فما هو مقتضى الإيمان؟ هل تجعلها ربطة عنق على رقبتك وداخل قميصك؟! مقتضى الإيمان أن تبتعد عنها، والعقرب أين تضعه؟ هل تضعه في كفك؟ تدوسه بنعليك، فالإيمان إذا لم يقتضي العمل فهذا إيمان ميِّت لا خير ولا نفع فيه.
( َكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) الشرطيُّ إذا قال لك سأسجِّل المخالفة، تقول له أرجوك، الله لا يُدفَع له رشاوى، الآن أنتم في الدنيا اعملوا ما شئتم، أما غداً فيوجد حسابٌ على كلُّ شيءٍ؛ كلامك مسجَّل وسمعك مسجَّل وبصرك مسجَّل وبيعك وشراؤك وغضبك وخيانتك واستقامتك واعوجاجك. (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا) مع مرور الوقت يزداد العذاب، هذا ليس شرطياً يتكلَّم ولا قاضٍ يتكلَّم ويستأنف، كلام الله لا يُستأنَف، نسأل الله عزَّ وجلَّ بفضله وإحسانه أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسَنه.
والحمد لله رب العالمين.

الهوامش:
(1) صحيح البخاري, كتاب المظالم والغصب, باب النهبى بغير إذن صاحبه, رقم: (2475), صحيح مسلم, كتاب الإيمان, باب بيان نقص الإيمان بالمعاصي. ., رقم: (57).
(2) ورد عن الحسن: ((ليس الإيمان بالتَّحلِّي ولا بالتَّمنِّي ولكنَّ الإيمان ما وَقَر في القلب وصدَّقه العمل)) شعب الإيمان، البيهقي، رقم: (65)، (1/158).
(3) صحيح مسلم، كتاب الإيمان: باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، رقم: (118).
(4) سنن الترمذي، كتاب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (3618)، سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم، رقم: (1631)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (13336)، (3/221).
(5) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وكذلك أخذ ربك...}، رقم: (4686)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم: (2583).
(6) مسند أحمد، رقم: (21573)، (35/452).
(7) المستدرك على الصحيحين للحاكم باب وأما حديث سمرة بن جندب (1/ 121) ورقم (178).
(8) صحيح مسلم باب تحريم الظلم (4/ 1997) ورقم 60-(2582). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ»
(9) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، رقم: (102).