تفسير سورة النبأ 01

  • 1995-02-24

تفسير سورة النبأ 01

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين، فاطر السماوات والأرض باعث النبيين والمرسلين لإسعاد العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّدٍ خاتَم النبيين والمرسلين وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه المجاهدين المناضلين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين؛ وبعدُ:


مقدمة عن سورة النبأ:
فنحن في تفسير سورة النبأ المشهورة بين الناس بسورة عمَّ، واسمها ليس سورة عمَّ إنما اسمها سورة النبأ، والنبأ في اللغة العربية هو الخبر العظيم الخطير، وكلُّ خبرٍ له شأنه وله خطورته يُقال له النبأ ولا يقال له الخبر، فسورة النبأ يعني الخبر الهائل الخطير العظيم، ما هو هذا الخبر الهائل الخطير العظيم؟ هو الذي تتوقَّف على تصديقه والعمل بمقتضاه سعادة الإنسان في الدنيا -الحياة المؤقتة المحدودة- وسعادة الإنسان في حياته الروحية البرزخية بعد مُفارقة الجسد، وفي الحياة الأخروية يوم القيامة وإلى أبَد الآباد، فهل يستحق هذا الخبر أن يسمَّى بالنبأ؟ والقرآن لم يكتفِ بتسميته بالنبأ الذي هو الخبر العظيم وإنما زاد على تسميته بالنبأ العظيم، يعني النبأ العظيم العظيم العظيم، فهو عظيمٌ في نظر الله، وفي نظر نبيِّ الله وأنبياء الله، وفي نظر المؤمنين الصادقين الذين عملوا بمقتضاه فقيَّدوا أنظارهم وأسماعهم ونطقهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة، لماذا يقول الله تعالى:

هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
[سورة آل عمران]

يعني راقِب نواياك لتكن نيَّتك إذا اطلع الله عليها أن تكون نيَّة صالحة يرضى الله عنها، لماذا يقول الله:

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
[سورة النحل]

لتَجعل علانيَتك صالحةً وسريرَتك صالحة.
الإيمان الحقيقيُّ حين تؤمن بالأفعى ماذا يقتضي إيمانك في التعامل معها؟ مقتضى إيمانك الحقيقي أن تتجنَّبها وتبتعد عنها، أما إذا قلت: أنا آمنت بسمِّها ولدغتها القاتلة ثم جعلتها تحت قميصك أو في ملابسك الداخلية، أو جعلتها ربطة عنقٍ أو عمامةً على رأسك وأنت تقول أنا مؤمنٌ بها، فبقولك أنت مصدِّقٌ أما في عملك فأنت بعملك جاحدٌ وكافرٌ ومُكذِّب، وأيُّهما أصدق الأقوال أم الأعمال؟ وقيل:
فإذا المقال مع الفِعال وزنته رجح الفِعال وخفَّ كلُّ مقالِ
{ ابن العربي }

الإيمان محلُّه القلب:
لذلك كثيراً ما كان يقول عليه الصلاة والسلام:

{ يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ (1) }

[سنن الترمذي]

فالإيمان إذا ما دخل القلب.. والإيمان نور الله المقدَّس فإذا كان القلب وسخاً ونجساً؛ الله تعالى قال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
[سورة التوبة]

ولم يعنِ نجاسة أبدانهم إنما عنى نجاسة قلوبهم، فالإيمان نور الله عز وجل وفي ذلك قال تعالى:

أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (22)
[سورة الزمر]

(أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) أينما كانوا هذا النور معهم، والله تعالى قال:(فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ) الويل والهلاك، ويلٌ للمشركين :

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
[سورة المطففين]

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
[سورة الهمزة]

ويلٌ للمكذبين.
(فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ) لا تُليَّن ولا تُروَّض بذكر الله، ولم يقل ويلٌ للقاسية ألسنتهم، إشارةً إلى أن الذكر مُستقرُّه في القلب ويُترجمه النطق باللسان، ولذلك يقول الله في آخر سورة الأعراف:

وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (205)
[سورة الأعراف]

(وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ) الذكر النفسيُّ والقلبيُّ (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً) التضرع والخفية والخشية مِنْ أعمال القلب وتعني حضور القلب مع الله عز وجل، فإذا حيَّا القلب واستنار بنور الله فعند ذلك قال: (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) والعطف يقتضي التغايُر، أولاً أحيِ قلبك ونفسك بذكر الله، وبعد ذلك انتقل إلى أن يترجم لسانك ما عليه واقع قلبك وهو الذكر الخفيُّ في الطريقة النقشبندية، والله ماذا قال؟ قال:

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
[سورة المزمل]

ما هو اسم ربنا؟ الله.. فاذكر الله بقلبك اسماً مع ملاحظة عظَمة وقدسيَّة المسمى في مرآة القلب، ومقدمةً لها نفِّذ الحديث النبوي عندما سُئِل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عن خيار الناس: مَنْ هم خيار الناس يا رسول الله؟ قال:

{ الَّذينَ إِذَا رُؤُوا، ذُكِرَ اللهُ تَعَالَى (2) }

[مسند أحمد]

فاحرص أن تتراءى ولياً مِنْ أولياء الله وعارفاً مِنْ العارفين بالله تنفيذاً وتعلُّماً مِنْ حديث رسول الله:

{ ابْكُوا، فإنْ لم تَبْكوا فتَباكُوا(3). }

[سنن ابن ماجه]

هناك أناسٌ يُنكرون الرابطة مع أن هؤلاء في صلاتهم يرابطون، أحدهم يُرابط زوجته والآخر يُرابط دكانه وصديقه وبعضهم يُرابط حماره عندما يقول: وجهت وجهي للذي فَطَر السماوات والأرض فصورة حماره هي التي يتوجَّه إليها بالشكل العمليِّ، ويكذب بتوجهه إلى الله بلسانه، فيكذب على الله في صلاته، نسأل الله أن يجعلنا مِنَ الصادقين مع الله في الصلاة وخارج الصلاة ودائماً..

سبب نزول سورة النبأ:
فسورة النبأ بعد بسم الله الرحمن الرحيم: كان النبي عليه الصلاة والسلام حين يُخبر العرب عن القيامة وأن الإنسان إذا مات جسده لا تموت شخصيته، إنما الجسد كقشرةٍ تتجرَّد الروح منها، وثوبٌ بَليَ وصار قديماً تخلعه وترميه وتنتقل إلى عالَم السماء، ثم يوم القيامة تعود الأرواح فتلبِس جسداً جديداً ليس مِنْ إنتاج مصانع المنسوجات، وإنما هو مِنْ نسيج أعمالك وإيمانك وأخلاقك وذنوبك:

وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
[سورة النمل]

ليس هناك تمايزٌ بين الناس في أمور الدنيا؛ ملكٌ أو رئيسٌ أو وزيرٌ أو غني.. إنما تتفاوت المخلوقات بإيمانها وأعمالها الصالحة المقبولة، فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحدِّثهم بأنهم سيَحيون بعد الموت، وسيُحاسبون بعد الموت، وهناك سعادة الأبد وشقاوة الأبد، وهنالك القصاص والحساب حتى قال عليه الصلاة والسلام:

{ لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ (4) }

[صحيح مسلم]

(لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ) التي لا قرون لها، فإذا نطحتها بغير حقٍّ تأخذ حقها فتنطحها ثم يُقال لهما كونا تراباً:

إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)
[سورة النبأ]

فالإخبار عن القيامة في معظم سور القرآن حتى يكاد نصف القرآن أن يكون حديثاً عن القيامة، ولذلك وَرَد بأن سورة الزلزلة تعدِل نصف القرآن، وكنا نظنُّ مع أن علماءنا ومشايخنا أن قارئها يحصل له ثواب نصف القرآن، وما كانوا يقولون أن نصف القرآن يبحث كلُّه ويوضِّح ويُعلِّم الإنسان القيامة في مختلف أحوالها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ شَيَّبَتْني هُودٌ وأخواتُها (5) }

[الشمائل للترمذي]

فالله عز وجل كيف عذَّب وقاصص الذين كذفروا بأنبيائهم في الدنيا، هذه القيامة الصغرى، مقاصصة الإنسان على ذنوبه في الدنيا هذه القيامة الصغرى، والقصاص والحساب على أعماله في يوم القيامة هذه في القيامة الكبرى، (هُودٌ وأخواتُها) وأخواتها: سورة النبأ وسورة المرسلات وسورة إذا وقعت الواقعة، إذا زلزلت الأرض زلزالها، لكن المسلم ليته يقرأ القرآن كما يقرأ الجريدة، عندما يقرأ الجريدة يقرأها للعِلم والتأثر، فإذا قرأ عنواناً في الجريدة أن غداً سيُوزَّع السُّكَّر بسعرٍ منخفض والتوزيع في الساعة العاشرة، فيا تُرى مكان التوزيع هل سيكون فارغاً أم مزدحماً؟ هل هناك إيمانٌ بالخبر وتصديقٌ بقول الجريدة؟ هل تخلّف أحدٌ ممن قرأ عن الحضور ليأخذ حصته من السكر؟ يا تُرى هل بلغ إيمانك بكلام الله والقرآن العظيم كما تؤمن بخبر الجريدة.

الحاجة إلى المعلم:
الإيمان ليس بالكلام، وَرَد في الأثر:

{ ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وَقَر في القلب وصدقه العمل (6) }

[ورد في الأثر]

هل يمكن للنجَّار أو الطيَّار أو الغوَّاص أو الحداد أن يتعلَّم صنعته بمجرد قراءتها مِنَ الكتب بلا تدريب ولا مدرب ولا تعليم ولا معلِّم؟ فمَن الذي علَّمك الإيمان؟ ومَنْ درَّبك على الإيمان ومَنْ بنى شخصيَّتك الإيمانية؟ مِنْ أجل هذا المعنى كانت الهجرة فريضةً على المسلم مِنْ مكة إلى المدينة، رجالاً ونساءً وأطفالاً ومرضى وأصحاء ليكونوا تحت إشراف المعلِّم المدرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يُعلِّمهم الكتاب والحكمة، ويُنمِّي العقل حتى لا يعمل ولا ينطق خطأً ويكون صائباً ومصيباً بالقول والعمل، وأن يفعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي، ويُزكِّيهم: فمَن أستاذك في تعلُّم علوم القرآن؟ مَنْ أستاذك الذي علَّمك الحكمة حتى تكون أعمالك وأقوالك صحيحة؟ مَنْ أستاذك الذي زكَّى نفسك:

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
[سورة الشمس]


الارتباط بالمعلم:
كان أكبر العلماء يصلون إلى مولانا خالد الذي كان رئيس العلماء في العراق على ما بلغ مِنْ مقامه العلميِّ كان يبحث عن الشيخ المزكِّي الذي يُعلِّم الكتاب والحكمة حتى عثر على شيخه في مكة المكرمة وطلب إليه أن يدخل مدرسته فقال له تعالى إلى دلهي في الهند فأقام عنده ثمانية أشهر في الخلوة.
والخلوة هذه سُنَّة حِراء، والنبي عليه الصلاة والسلام قبل النبوَّة هَجَر الخلق وخلا بالخالق:

{ أَدَّبَنِي ربي فأَحْسَنَ تَأْدِيبِي (7) }

[الجامع الصغير للسيوطي]

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
[سورة الرحمن]

بعد ذلك كان بقوة رابطة الحب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالتدريب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:

تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16)
[سورة السجدة]

فتخرَّجوا مِنْ مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلِّم المربِّي المزكِّي الحكيم.. تخرَّجوا علماء فقهاء أدباء كادوا مِنْ فقههم أن يكونوا أنبياء، والنبي الذي يصنع أمَّةً، الآن يتخرَّج من الأزهر أو غيره ويفتِّش على عملٍ وظيفيٍّ ليأكل منه ويشرب ويلبس ويتزوج، هل يفكر بأكثر من ذلك؟
مولانا خالد بعد ثمانية أشهر رجع فأحيا الشرق الأوسط والبلاد العربية والدولة العثمانية، أحيا فيها الطريقة النقشبندية وكلُّ التصوف يُختصر في قوله تعالى:

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
[سورة يس]

فلو أنَّ المسلمين الآن على تقصيرهم في إسلامهم وإساءة الكثير في إسلامهم فهل يتحمل الإسلام أخطاءهم وإساءتهم في الإسلام؟ فيُقال أن الإسلام مرفوض؟ كذلك التصوُّف إذا وُجِدَ مَنْ انحرف أو مَنْ أدخل عليه شيئاً مِنَ البدع فهل التصوف هو المسؤول؟ إذا قاد أحدهم سيارة جديدة وما أحسن قيادتها وحصل معه حادثٌ فأيهما المسؤول القائد أم السيارة؟ كذلك نلصق أخطاءنا بإسلامنا، وغير المسلمين ابتعدوا عن الإسلام لسوء فهمهم بأن الإسلام هو عمل المسلمين وهو سلوك وتخلُّف المسلمين.

تساؤل الكفار عن القيامة:
لندخل إلى الموضوع، بسم الله الرحمن الرحيم، كان الكفار يتساءلون عن القيامة وعن الحساب وعن محكمة الله والله هو قاضيها وأعضاؤك:

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
[سورة النور]

إذا أُخِذَ للمجرم فِلم فيديو عن جريمته لما طعن ولما هجَم وسبَّ وشتم، فحين يُعرَض عليه في المحكمة أمام القاضي هل يحتاج إلى شهودٍ مِنَ الناس يشهدون عليه؟

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
[سورة يس]

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ) لا يستطيع أن يتكلَّم، (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). هل فِلم الله أعظَم أم الذي هو مِنْ الصنع الإنساني؟ فإذا غداً عَرَض الله عليك أعمالك في فِلمٍ:

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
[سورة الكهف]

(لَا يُغَادِرُ) أي لا يترك، (صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا):

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
[سورة المجادلة]

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة الكهف]

فهذه المدرسة الربَّانية القرآنية ماذا صنعت بطلَّابها الأميين، لا حضارة ولا دولة ولا نظام، قبائلٌ يُحارب بعضها البعض؛ أهل المدينة الأوس والخزرج في اقتتالٍ وعداءٍ، فبمدرسة القرآن وأستاذها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاروا:

{ مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى (8). }

[صحيح مسلم]

وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
[سورة الحشر]


أثر الإيمان في حياة المؤمنين:
لما عَزَل عمر رضي الله عنه خالداً في اليرموك، في أثناء المعركة وصل كتاب عمر في اليوم الثالث من المعركة، ومعركة اليرموك كم يوماً؟ ستة أيام، في معركة الستة الأيام العروبة مع الإسلام هزمت أعظم دولةٍ في العالَم الغربي أي هزمت الغرب كلَّه في أثناء المعركة، في أثناء المعركة أتاه الأمر مِنْ عمر بعزل خالد عن قيادته، والجيش كلُّه بيد خالد- شكري القوتلي رحمه الله عندما أصدر قراراً بعزل حسني الزعيم وأُبلِغ مساء، وما أصبح الصباح حتى قام بانقلابٍ على شكري القوتلي- فلولا التربية القرآنية والتربية المحمدية فقد كان الجيش كلُّه بيد سيدنا خالد لقام بانقلابٍ وجعل نفسه خليفةً، لكنه حبَس الرسول حتى لا يحصل تشويشٌ في الجيش حتى انتهت المعركة، وقدَّم الكتاب لأبي عبيدة وكأن شيئاً لم يحدث، وكان يقاتل أكثر مما كان يقاتل وهو قائد، هذا مِنْ آثار تربية النبأ العظيم، فما رأيكم أنتم يا بني؟ أمرٌ يكون بسيطاً جداً فإذا أمرك الشيخ بشيءٍ فيه كثيرٌ مِنَ الأنا!! اللهم ثبِّتنا بالقول الثابت، أما إذا رسخ الإيمان في القلب فلا يُبالي إن كان قائداً أو كان خادماً، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي.

موقف الكفار من إخبار النبي الكريم بالقيمة:
فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم عن القيامة في سورة الواقعة أو في سورة عمَّ أو في سورة القيامة، ومعظم سور القرآن ونصف القرآن في هذا الموضوع، فكانوا أصنافاً في موقفهم تجاه القيامة؛ فمنهم مَنْ كان يجحَد ويكفر الكفر الكليَّ، ويقول:

وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
[سورة الجاثية]

إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
[سورة المؤمنون]

يعني هم كالحمير يعيشون ويموتون ولهم الحياة الدنيا ويُهلكهم قانون الله في الدَّهر، وماهم بمبعوثين؛ لا فالحمير سيُبعثون، وإذا الحمار ضرب حماراً بغير حقٍّ فلابد أن يُضرب منه ثم يُقَال لهما كونا تراباً، فوصل الإنسان في انحطاطه الإيمانيِّ إلى مستوىً أن يكون دون الدواب.

أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (38)
[سورة القيامة]

مِنْ حيوانٍ منويٍّ لو غرست الإبرة في النطفة لعلِقَ في رأس الإبرة خمسون ألف حيوانٍ منويٍّ، فلما كنت بهذه الحقارة وهذا الصغر وصار لك شاربٌ وحملت شهادةً وتثقَّفت.. ولكن صرت أجهل الجاهلين بحقيقتك الأبدية المستقبلية الخالدة:

أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ (40)
[سورة القيامة]

أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
[سورة يس]

فإذا كان سيُعيدك للحساب وعَرض الأعمال، يا تُرى أنت الآن تمشي على هذا المخطط حتى إذا دخلت محكمة الله؛ قاضيها وشهودها جوارحك وأعضاؤك المصوَّرة بالتصوير الإلهي الذي لا تمحُوه الدهور، فهل أعددت نفسك لهذه المحاكمة؟!

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

هذه التربية وهذه المدرسة ماذا أنتجت مِنَ العظماء؟ مِنْ عباقرة؟ ماذا أنتجت مِنْ انتصارات؟ وماذا انتجت في تاريخ الإنسان؟
نابليون قال مندهشاً كيف أن العرب استطاعوا أن يوحِّدوا نصف العالَم القديم بأقلَّ مِنْ قرنٍ أو نصف قرنٍ؛ فكيف وحَّدوا مِنَ الهند إلى حدود فرنسا؟ جعلوها أمَّةً واحدةً مع اختلاف اللغات والقوميات والحضارات، ومع التخلُّف المريع، وجعلوها خير أمَّةً بمدرسة القرآن، والمدرسة وحدها إذا لم يكن فيها الأستاذ فإنما هي جدرانٌ وإسمنتٌ وحديد، فالإسمنت لا يصنع الإنسان ولا يصنع العقول ولا يصنع الحكمة ولا يُزكِّي النفوس، فهذا الإسلام المجهول لأكثر المسلمين، مَنْ استجاب يستجيب إلى بعض جزئياته لكن قد يجهل أو يتهاون في الكثير مِنْ كلياته وجزئياته!! فكان منهم الجاحد المنكِر:

وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
[سورة الأنعام]

ومنهم الشاكُّ الذي بين القبول والتغلُّب، وكان يقول:

وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
[سورة الجاثية]

وبعضهم يقول:

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
[سورة مريم]

وقال إذا كانت هناك قيامة:

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
[سورة مريم]

وبعضهم كان يقول: إذا كانت هناك قيامة سيشفع في ذنوبنا وأخطائنا أصنامُنا وأوثاننا وهؤلاء هم شفعاؤنا عند الله، وكان كلُّ واحدٍ بحسب عقله القاصر يبحث القيامة مِنْ هذه النافذة فأنزل الله في حالتهم ومواصفاتهم: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) كلُّ واحدٍ يسأل عن القيامة بحسب عقله القاصر وجهله وجاهليته.

القراءة الحقيقية للقرآن الكريم:
(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) بين مستهزئٍ وبين جاحدٍ وبين مشكِّكٍ وسابقاً كانوا وثنيين خُرافيين جاهلين، أما الآن المسلم الذي يقرأ القرآن ويشتري المصحف المذهَّب بألف ليرة أو أكثر ويستمع إلى الراديو لكن لا يتلقَّى أوامر الله لينفِّذها، ولا ليتفهَّم وصايا الله فيُطبِّقها، ولا ليُصغي إلى أخلاق القرآن ليتخلَّق بها ويسمعها:

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
[سورة يونس]

(وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ) إلى جسدك ولكن لا ينظرون إلى نبوَّتك وحكمتك، (أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ).

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
[سورة البقرة]

(صُمٌّ) ما كانوا أصمَّاء عن سماع الأصوات العادية، (بُكْمٌ) كانوا خُرساً في أن ينطقون بالحق ويدعون إليه، (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) لا يُبصِرون الصراط المستقيم، (فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) عن كُفرهم، وفي آية:

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
[سورة البقرة]

(لَا يَعْقِلُونَ) حقائق القرآن وحقائق وحيه.

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
[سورة آل عمران]

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة النحل]


واجب المسلم تجاه محيطه:
عمر بن الخطاب كان دلَّال جِمالٍ -وسيط لبيع الجمال في سوق الجمال- وأبو بكر كان صاحب دكانٍ وبائع ثياب، والباقون أمثالهم.. في مكة كانت مثل قرية فهذه القرية تصير عاصمة العالَم وعاصمة الدنيا، ورسالتها ومبادئها خمسة عشرة قرناً وهي صامدةٌ صمود الجبال، يعتنق الإسلام الآن عظماء العالم الغربي، لئن ذهب المبشرون إلى إفريقيا الجياع شبه الموتى مَنْ أعطاهم عشاءً أو فطوراً يتقبَّلون عقيدته كيف كانت، أما الذين يعتنقون الإسلام مِنَ العالَم الغربي فهم عظماء العالم الغربي على تخلُّف وتقهقر وتمزُّق المسلمين، أما لو وُجِدَ الدعاة الأكفَّاء المهيَّأ لتقبُّل الإسلام مئةً على مئة هم الشعوب المتقدمة.
بلغني منذ يومين إسلام أحد مستشاري نيكسون رئيس جمهورية أمريكا على يد أحد أبناء مسجد أبي النور، وقرأت في جريدة (المسلمون) عن السفير الألماني في المغرب أنه أسلم وألَّف ثلاثة كتبٍ لتعريف الإسلام وأقام مؤتمراً في ألمانيا ليُعرِّف الألمان على الإسلام، فأين المسلمون مِنْ قول الله تعالى:

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
[سورة آل عمران]

(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ) لم يقُل جماعة ولا زمرة،(أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) أنت يا مسلم في عائلتك وفي أسرتك وجيرانك ورفاقك وفي السوق والعمل والمعمل هل تقوم بامتثال أمرِ الله:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
[سورة النحل]

إلى طريقته، إلى سبيله، إلى كتابه وإلى رسالته وإلى مدرسته، وهذا مثل أقِم الصلاة وآتِ الزكاة، أينما وجدت ضالاً يجب عليك هدايته، غافلاً يجب عليك تذكيره، تاركاً لفريضةٍ يجب عليك أن تُقوِّم اعوجاجه، وهذا فرضٌ مثل فرض الوضوء للصلاة، فصلاةٌ بلا وضوء وإسلام المسلم بلا دعوة إلى الله وبلا أمرٍ بمعروفٍ وبلا نهيٍ عن منكر؟! ينطبق عليه قوله تعالى:

ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
[سورة البقرة]


أصول الدعوة إلى الله:
(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) نؤمن بالصلاة لكن لا نؤمن بالزكاة، (فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) هذا الخطاب موجَّهٌ لكلِّ واحدٍ منَّا أينما وُجِد في حفلةٍ أو في الحافلة أو في السوق وبالحكمة والموعظة الحسنة، بعض المسلمين يستعملون الشدَّة في الدعوة إلى الله، وهذا خطأ وتأويلٌ خاطئ للحديث النبوي:

{ أَلَا إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ(9) }

[مسند أحمد]

هذا حديثٌ نبويٌّ صحيحٌ لفظاً ومعنىً، فيستعملون الغلظة والفظاظة في فهم هذا الحديث، مع أن الحديث مشروحٌ في القرآن مثل قوله تعالى:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
[سورة آل عمران]

لو كنت أنت رسول الله تقوم بالدعوة إلى الله بالفظاظة والغِلظة فلا أحد يستجيب لك، فأنت لست رسول الله ولا شعرة تحت إبط سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفهم الحديث النبوي بعكس قصده وبعكس هدفه وأسلوبه؟!

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
[سورة النحل]

لأجل كلمة الحق، وبالحكمة والإقناع، وتذكر أن شرب الخمر يؤدي مِنَ الأضرار والأمراض إلى كذا وكذا .. وشرب الدخان الآن صار بإجماع الطب بأنه يُورث معظم الأمراض الخطيرة التي مِنْ جملتها سرطان الرئة أو سرطان الفم.. بالحكمة والإقناع والموعظة الحسنة والكلام اللطيف، وهل هناك أفجَر مِنْ فرعون؟ هل يوجد جائرٌ أكثر جوراً مِنْ فرعون؟ فالله ماذا أمر موسى وهارون بدعوتهم إلى الله؟

فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
[سورة طه]

(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا) هذه كلمة حقٍّ وعند سلطان جائر، (لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) إما أن يتذكَّر ويقبل الإيمان بفكره وعقله، وأعظَم منها أن يتقبَّل الإسلام بقلبه حتى يمتلئ قلبه بخشية الله عز وجل:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

إما إيمان القلب والروح حتى يتخلَّل الإيمان لحمَك ودمَك وعظمَك والتيار الكهربائي في أعصابك أو في فكرك وعقلك وقناعتك، وهو أدنى مِنَ الإيمان الأول، فنسأل الله أن يجمع لنا الإيمانين قلباً وفكراً وعقلاً وعِلماً.
(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) وكانوا يتساءلون سؤال الاستهزاء والتكذيب والاستخفاف هل هناك قيامة؟ كيف هناك قيامة!! وكثيرٌ مِنَ المسلمين إذا ذكرت لهم القيامة يكونون مثل كفار قريش، يتساءل التساؤل الشاكّ الغير مؤمن الغير منقاد الغير متقبِّل ويقول أنا مسلم، ينطبق عليه قول الله تعالى:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)
[سورة البقرة]

لذلك يا بني إن شاء الله أن نكون مِنَ المؤمنين الذين وقَرَ الإيمان في قلوبهم وتصدِّقُ إيماننا أعمالُنا.
(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) أحدهم في موضع الشك، أحدهم في موضع الكفرٍ والجحود والإلحاد، أحدهم في موضع الهزء والاستخفاف، أحدهم في موضع اللا مبالاة، أحدهم يقول أنا أضرب باب الجنة بقدمي، لأنه حمار! والحمير هكذا تفعل، وذلك لأننا نفقد المعلم الحكيم المزكي.

الهجرة في زمننا الحالي:
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هاجروا إلى المدينة أم إلى المعلِّم الحكيم المزكِّي، وهم هاجروا لحاجتهم إلى المعلِّم الحكيم المزكِّي أم لعدم احتياجهم إليه؟ أنتم والمسلمون الآن هل بحاجةٍ إلى الهجرة إلى المعلِّم الحكيم المزكِّي أم هم عن غنىً عن هذا؟! فأين الهجرة؟ أولئك هاجروا خمسمئة كيلو متراً تحت أخطار القتل ومحاربة الكفرة، رجالاً ونساءً وشيوخاً وشباباً، أنت يكون المعلِّم المزكِّي في بلدك ولا تفهم الإسلام لا قرآناً ولا معلِّماً ولا مُربياً:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)
[سورة البقرة]

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
[سورة النحل]

(قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) إنك: مبالغة، واللام للمبالغة، والجملة الإسمية للمبالغة، (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) فاحذر أيها المسلم واحذري أيتها المسلمة أن تقولي أشهد أن محمَّداً رسول الله والله يشهد عليكِ إن المنافقون لكاذبون.

القصاص الإلهي في الدنيا والآخرة:
(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) هل يتساءلون تساؤل المتعلِّم؟ أم تساؤل المستهزئ المستخفِّ المتسلِّي المعارض، (كَلَّا ) ليرتدعوا عن كفرهم وعن ضلالتهم وغرورهم، فليكفُّوا، و(كَلَّا ): حرف ردعٍ وزجر، سيعلمون الحقيقة أنه لا بدَّ مِنْ تحقيق وصدق النبأ العظيم والقصاص الإلهيِّ في القيامة أو في الدنيا أو في كليهما.
قوم فرعون الله قال:

مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا (25)
[سورة نوح]

(أُغْرِقُوا) هذا القصاص في الدنيا، (فَأُدْخِلُوا نَارًا) القصاص في الآخرة وقوم ثمود بصيحة ملَكٍ أهلكهم الله في الدنيا وأفقدهم حياة الأجساد وفي الآخرة لهم العذاب الشديد، فكلُّ واحدٍ منا هو هدفٌ لهذه السهام الإلهية:

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ (32)
[سورة النجم]

لا تقل أنا مُستثنى، ولا تكن مثل النعامة عندما يأيتها الصياد تُخبِّئ رأسها وراء الأشواك، وفي عقلها المعكوس تظن أنها ما رأت الصياد وإذا ما رأت الصياد تظن أن الصياد لم يراها فيأتي ويُمسكها من عنقها وإلى السكين، نسأل الله ألا يجعلنا أذكياء في الدنيا أغبياء في الآخرة، أذكياء في دنيانا وأغبياء في ديننا وقرآننا.
(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) هناك النبأ العظيم والقصاص الإلهيِّ في الدنيا، والله عز وجل قد يُؤخِّر العقوبة للمجرم:

{ إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ(10). }

[صحيح البخاري]

يذكرون عن جحا رحمه الله، أن أحدهم اعتدى عليه فدعا عليه: اللهم اكسر رجله، بعد أربعين سنة -وجحا لو غضب فغضبه يُضحك- وضحك الناس قال: ما لكم تضحكون، قالوا الآن استجاب الله دعاءك وكسر له رجله، قال: لا فهذه ليست دعوتي، وهذه دعوة رجلٍ قبلي، رجلٌ دعا عليه قبلي مِنْ سنين أن يكسر رجله، وأنا دعوتي سيكسر الله له قدمه الثانية بعد أربعين سنة.

وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
[سورة النور]

فالتوبة ترك ما أنت عليه مِنْ معصية الله، والندم على ما مضى منك واستدراكاً لما فرَّطت في جنب الله مِنْ حقوق الله أو حقوق مخلوقاته.

قدرة الخالق جل جلاله:
(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) بأننا سنُقاصصهم في الدنيا، (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) وسنقاصص أيضاً في الدار الآخرة، ولماذا يجحدون القيامة وأننا سنعيدهم إلى الحياة للحساب وللمصير الأبدي، لماذا يجحدون؟ هل لأننا عاجزون أو لأننا غير قادرين؟!
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) الأرض هي للإنسان مثل السرير بالنسبة للطفل الصغير يكون له فراشاً ومهاداً يستقرَّ فيه حتى يتجاوز سنَّ الرضاع والطفولة، قال أن الأرض كلَّها التي ترونها مثل السرير لكم، فمَن خَلَق هذا السرير؟ ومَنْ جعل فيها الجاذبية الأرضية، حين يتجاوز الإنسان قوة الجاذبية في الهواء ويقف في الهواء مِنْ غير أن يسقط لأن السقوط بسبب جذب الجاذبية الأرضية إليها، فحين يتجاوز هذا الحدَّ فمَنْ خلق لك الأرض مهداً.

الكرة الأرضية وأصلها:
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) يقولون بأن الأرض كانت كرةً ناريةً انفصلت من الشمس، وبعد مرور الملايين مِنَ السنين تجمَّدت على سطحها القشرة الأرضية، والقشرة الأرضية في باطنها الذي يُلامس النار هي من طبقة الصوان، ليست مِنَ التراب، فهذه الطبقة الصوَّانية أحاطت بالكرة النارية ثم ما زاد غِلَظ وسماكة هذه القشرة حتى صار عمقها مئة كليو مترٍ، بيننا وبين الكرة النارية في باطن الأرض، والغلاف المباشر للنار مِنْ أي طبقة من التراب؟ لو كان مِنَ التراب لسقط، فهبطنا في البحر الناري المسجور؛ وسَجر التنور: أي أشعله، فنحن نعيش على البحر النيراني المسجور المغطَّى بالقشرة الأرضية التي سماكتها بالنسبة لجسم الأرض مثل قشرة التفاحة الرقيقة، ومثل ورقة السيارة نعيش على هذه القشرة.
فجعل (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)والوتد حين يُدق للخيمة نصفه يبقى ظاهراً الأرض ونصفه في باطن الأرض، والجبال قسمٌ منها على سطح الأرض، والقسم العظيم متصلٌ بالطبقة الصوانية المتصل بالبحر النيراني المسجور، فلولا هذه الطبقة التي تحيط بالنار لهبطت القشرة الأرضية، فأين تقع؟ في بحر النيران في البحر المسجور، فالجبال كالأسنان والله أبرزها لأجل أن تردَّ السحاب إذا أتى ليُمطر في أماكن قريبةٍ مِنَ الجبال، وجعلها مخازن للمياه لتخرج في مدة الصيف حتى إذا قرُبَ انتهاؤها يُشغِّل الله عز وجل المحرك الإلهي بواسطة حرارة الشمس فتتبخَّر مياه البحار فتسوقها الرياح فيُنزلها الله حيث يشاء، وكلِّ شيءٍ بموازين وأوقاتٍ محددة:

وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
[سورة الأنعام]

(وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) فلولا الطبقة الصوانية التي تتفرَّع منها الجبال لخُسفت الأرض ولم تتحقق حياة.

الفضل بين الذكورة والأنوثة:
(وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا) مِنَ النطفة، هناك حيوانٌ منويٌّ مذكَّر وحيوانٌ منويٌّ مؤنَّث، فالذكورة والأنوثة مِنَ الرجل أم مِنَ المرأة؟! فإن لم يكن يأتي للرجل إلا بنات فهو يتزوَّج عليها أم هي؟ هي لا يجوز أن تتزوج عليه وهي محبوسةٌ بعقدٍ، ويذهب هو ويتزوج عليها لأنه لم يأته ذكورٌ، والحال أن هناك أنثى تقدَّر بألف ذكر، والفضل لا بالذكورة ولا بالأنوثة:

قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
[سورة النحل]

(إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) أملاً في أن يأتيها الولد الذكر، (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ) فكانت الأنثى مريم أحسَن مِنْ ألف ذكرٍ أم مِنْ عشرين ألفاً؟

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
[سورة آل عمران]

ليست المسألة بالذكورة والأنوثة إنما العبرة في قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[سورة الحجرات]

وجعل أعداد الذكور والإناث بالنسبة المئوية شبه متساوية أو متقاربة، يزيد العدد الذكوري قليلاً لأن أمامهم الحروب وأمامهم الأخطار على الحياة.
وأنزل الميزان:

أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
[سورة الرحمن]

تعلَّموا الحكمة والميزانية مِنَ الله عز وجل:

إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
[سورة القمر]

بتقديرٍ بحدودٍ ومقاديرٍ محدَّدة متناسبة حتى يخرج كلُّ شيءٍ على أكمل وجه، (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا) ولو جعلنا الله كلَّنا إناثاً وكلنا نساء ينقرض الإنسان بخمسين سنة، ولو صرنا كلنا رجالاً أيضا ننقرض بخمسين سنة أيضاً، فمَن خلقنا؟

وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
[سورة الذاريات]

مِنْ كلِّ شيءٍ حتى مِنَ الجماد، وحتى مِنَ النبات وحتى مِنَ الحشرات..

خلق الليل والنهار:
(وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا) تتعبون في النهار وتحتاجون إلى الراحة فجعل النوم راحةً، في اليقظة تختلط الأملاح بدم الإنسان فمِنْ اختلاط الأملاح بالدم تضعف القوة الجسدية وبالنوم يُنقَّى الدم وترجع الأملاح إلى مراكزها الأصلية فيرجع الدم نقياً طبيعياً فيشعر الإنسان بالصحة والقوة والنشاط، فمَن أوجد هذا القانون؟ ومَنْ جعل النوم سُبَاتاً؟
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا) يكسي نصف الكرة الأرضية بلباس الليل؛ يعني دقَّت ساعة الاستراحة فقوموا إلى راحتكم، (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) لأجل أن نتغذَّى ونعمل ونقوم بأمور الحياة يُشعل لنا كهرباءه، والحمد لله كهرباء الله لا تعمل على المازوت أو على شركة الكهرباء التي يحدث لها أحيانا عطلٌ فنيٌّ ويكون الولد يقرأ أو يوجد ضيوف والمرأة تطبخ واللحم في البراد والطبيب أثناء وجوده في غرفة العمليات تنطفئ الكهرباء، وكهرباء الله مصباحٌ واحدٌ يضيء الكرة الأرضية، وهذا المصباح كم حجمه بالنسبة للأرض؟ مليون وثلاثمئة ألف، والمسافة بينه وبين الأرض لو بعُدت أكثر لتجمَّدت البحار ومات الإنسان، ولو اقتربت أكثر لغَلت البحار ولمات الحيوان والإنسان، فمَن جعل هذه المسافة رغم أن الأرض تسير بسرعةٍ في الساعة مئة وثمانية آلاف كيلو متر في الساعة، سرعة دوران الأرض حول الشمس مئة وثمانية آلاف كيلو متراً، والشمس أيضاً تجري حول نفسها وحول ما هو حولها، فمع السرعات الهائلة والمسافات لا تتبدل قرباً وبعداً، هل هذا يحدث لوحده؟ هذا الكتاب صار لوحده؟ هذه الكتابة هل صارت لوحدها؟ وهذا الغلاف هل صار لوحده؟ والناموس والذباب والميكروب وعقله وسمعه وبصره وتدبيره هل حدث لوحده؟

أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
[سورة الملك]


الخوف والحياء من الله عز وجل:
هل آمنَّا بالله بما لله مِنْ صفات؟ العليم، الحكيم، السميع، البصير، عالِم الغيب والشهادة، يعلم ما تُسرّون وما تعلنون، سريع الحساب، شديد العقاب، هل مِنْ شديد العقاب خفنا؟ هل مِنْ سريع الحساب خفنا وأن نفاجأ في كلِّ لحظةٍ بإقامة عقوبته علينا؟ سميع: هل استحيينا مِنَ الكلام الذي يغضبه ولا يرضيه، البصير: هل خفنا أو خجلنا مِنَ الأعمال التي يُبصِرها فينا؟ تخجل مِنْ طفلٍ إذا رآك على أمرٍ قبيح، وتخجل مِنْ إنسانٍ إذا تكلَّمت بكلمة نابية أمامه! ألا تخجل من الله الذي:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61)
[سورة النحل]

عندما تتفاوضون وتتحدثون وتسهرون وتضحكون وتتكلمون مباحٌ ولهوٌ وحرامٌ مِنْ قولٍ وعمل (كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا)لو دخل غريب أجنبيٌّ ماذا تقولون لبعضكم البعض؟ تطلبون الصمت، وإذا دخل عليكم مِنَ المخابرات وكنتم تتكلمون بالسياسة؟ تخافون مِنَ العبد ولا تخافون مِنْ خالِق العباد! يا تُرى خالق العباد أصغر في نظركم مِنْ رجل المخابرات، وأصغر مِنْ مخالفة شرطي السير إذا كنت تمشي في الشمال وتقول هذا شرطي فخُذ يمينك! وحين تعصي الله ولا تقول أن الله يراني فاخجل مِنْ الله واحذر عقاب الله في الدنيا والآخرة أو في كليهما، فأين الإيمان؟!
امرأة في عهد عمر رضي الله عنها كانت تحلب الحليب مِنْ مواشيها فقالت لابنتها: ضعي ماءً في الحليب حتى يزيد وزنه، قالت: يا أماه أما سمعت عمر نهى عن أن يُمزَج الحليب بالماء؟ قالت الأم ويحك أويَراك عمر؟! قالت يا أماه إذا لم يرَني عمر ألا يراني ربُّ عمر؟ هذا الإيمان الذي يُنجِّي في الآخرة ويُسعِد في الدنيا:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة النحل]


إحسان الله لعباده في الدارين:
المسلمون الأُوَل لما أحسنوا إيمانهم أحسَن الله دنياهم، وبالطبع سيُحسِن أخراهم:

وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
[سورة الروم]

فهل نحن مسلمون؟ الإسلام هو الاستجابة لأوامر الله والعمل بوصاياه، وأن تحوِّل قرآن القراءة والكتابة إلى قرآن العمل والأخلاق والسلوك، وبذلك تكون مسلماً مُستجيباً ومؤمناً صادقاً، إذا قدَّمنا لك مئة ليرة ذهبٍ إنكليزية لكن مِنَ الشوكولا وأنت أخذتها قرضاً بمئة ليرة انكليزية من الذب فهل تؤدي دينَكَ مِنَ الشوكولا؟ نسأل الله ألا يجعل إيماننا إيمان الشوكولا، لذلك فالمسلمون زادوا على مليار لكن ماذا يُفيد الذباب إذا عُدَّ بالمليارات؟! هل يُشرِّفهم العدد والكثرة؟!
قالوا: اجتمعت خنزيرة ولبوة مع بعضهما البعض، فالخنزيرة قالت للبوة: ألا زلت تتكبرين عليَّ وأنك زوجة الأسد!! وإذا حملتِ لا تنجبين إلا جرواً واحداً، أما أنا ببطنٍ واحدةٍ أنجب اثنا عشر خنزيراً، قالت اللبوة: قليلي خيرٌ مِنْ كثيرك. نسأل الله أن يجعل قليلنا خيراً وكثيرنا خيراً، وبالدعاء وحده لا يجوز وهذا الدعاء تمني، جاء رجلٌ إلى سيدنا عمر رضي الله عنه وقال: جَرِبَت جِمالي فادعوا الله لي بشفائها، قال عمر: أنا سأدعو لك ولكن اجعل مع الدعاء قطراناً، دعاءٌ ودواء، دعاءٌ وعمل، دعاء ويقظة، دعاء وعقل، دعاء وحكمة، دعاء وأسبابٌ ومسبّبات، أما اللهم اللهم! يدعو وعند أوامر الله يوجد أنا وشهواتي ورغباتي ومصلحتي، ويقول اتركنا مِنَ الله وغيره فالله وغيره عنده سواء، هل يغفر الله لنا ونحن على هذا الحال! أين المعلم الذي يُعلِّمنا القرآن والكتاب؟ أين الحكيم الذي يُعلِّمنا الحكمة؟ ينقل عقلنا البدائيَّ إلى العقل القرآني الحكيم، أين المزكِّي لتتزكَّى نفوسنا مِنْ رذائلها ونقائصها ومِنْ محقِّراتها إلى فضائلها إلى الأعمال الكبيرة العِظام؟
وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراً تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ
{ المتنبي }
أما النفوس الصغيرة فلو كان شعره كلُّه أبيض فهذا لا يزال طفلاً بعقله وسلوكه وتصرفاته، ونهاية الأطفال ما هي إلا اللعب، هذا ما نتاجُه في آخر النهار؟ لا شيء.. فنسأل الله أن يجعلنا رجال القرآن:

مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
[سورة الأحزاب]

رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
[سورة النور]

(وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا) يغطي نصف الكرة الأرضية للراحة لنستعيد قوانا، (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) يشعل لنا الضوء لنطلب المعاش ووسائل الرزق وقضاء الحوائج.
(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا):

الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ (3)
[سورة الملك]


المسلم يقف عند حدود القرآن ويتخلَّق بأخلاقه:
(وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا) يشعل شمعةً صغيرةً وتعطي الحرارة، ولولا ضوؤها وحرارتها لما كان على الأرض حياةٌ ولا أحياء، (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ) مِنَ السحاب (مَاءً ثَجَّاجًا) متدفِّقاً بقوة، (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا) القمح والأرز والحمص والفول مِنْ أجل مَنْ؟ للذي لا يعرف الله ولا يلتزم بأوامر الله، ويتحدى الله بمعصية أوامر الله! ومع ذلك الله عز وجل حليمٌ:

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
[سورة النحل]

(وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى) إلى وقتٍ مسمّى محدد، (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا) في كتابٍ:

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
[سورة الكهف]

يا تُرى هذا القرآن هل يُدرَس ويقرأه المسلم ليفهمه وليعمل بأوامره وليجتنب محارمَه، وليقف عند حدوده وليتخلَّق بأخلاقه؟! سُئِلت عائشة عن خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:

{ كان خُلُقُه القرآنَ(11) }

[مسند أحمد]

إذا أردت أن تقرأ القرآن تقرؤه بأعماله وأخلاقه، وفي تنفيذ أوامر الإيمان ويحوِّلها مِنْ قراءةٍ وكلامٍ إلى أعمالٍ وأخلاقٍ وسلوكٍ، وهذا هو الإسلام وهو الاستجابة لأوامر الله عز وجل.
(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا) لمَن؟ مِنْ أجل أن نأكل ما لذّ وطاب، (حَبًّا وَنَبَاتًا) نباتاً للخراف والعجول والبقر، مِنْ أجل أن نأكل الحليب والقشطة والحلوى.. نسأل الله أن يجعلنا أهلاً لنِعَمِ الله ويرزقنا الشكر القوليَّ والعملي عليها، (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) البساتين والأحراج والخضرة حتى نمتِّع نظرنا بالخضرة، وتعطينا الأوكسجين لاستدامة الحياة، (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) فالقادر على صنعِ وخلق وإيجاد هذه الأمور:

أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
[سورة القيامة]

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
[سورة المؤمنون]

(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) حاشاه أن يكون خُلِقنا عبثاً ونترك هملاً بلا حساب، بل هناك حسابٌ في الدنيا وفي الأخرة.

القيامة الصغرى والحساب الصغير:
أذكر مرةً كنَّا في مجلس شيخنا قدَّس الله روحه أتى رجلٌ متسوِّل كبيرٌ في السنِّ ينتظر انتهاء الدرس حتى نتصدَّق عليه، وبأثناء جلوسه في المسجد بالَ في ثيابه مِنْ شيخوخته وعجزه فرفعوه.. وقال شيخنا: أتعرفون هذا الرجل ماذا كان؟ كان مِنْ كبار ضبَّاط الجيش في العهد التركي، وكان مِنَ الظالمين المتعدِّين على الضعفاء ومِنَ المرتشين، وهذه القيامة الصغيرة في الدنيا، فإذا غفر الله له فسيكون في نعمةٍ كبيرة، أما حقوق المخلوقات فأمرها عظيم.
أذكر قصةً ثانية عن رجلٍ مرةً كان يصعد الجبل، وكان في بعض الـمُغُرْ القريبة ودخل فيها ورأى رجلاً عجوزاً شبه مُقعد، وعلى أكياسٍ بالية ووعاؤه قديم وحالة في منتهى الازدراء فذكر له قصته وكان مِنْ كبار الضبَّاط المتنفِّذين في العهد العثماني، والشيخ جلس إليه يُواسيه وأمسك يده فقال الرجل الهرم: والله يا شيخي الله ما ظلمني، هكذا فعلت في شبابي، هكذا فعلت في قوتي، هكذا فعلت حين كانت السلطة بيديَّ، وظلمت النَّاس وفعلت حتى انتهى الأمر، طلَّقت زوجتي وبِعت داري ومرضتُ والآن أصبحت في الكهوف والمغارات، فإذا سامحني الله بالباقي يكون مِنْ فضل الله عليَّ، هذه القيامة الصغرى والحساب الصغير:

وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
[سورة السجدة]


يوم القيامة هو يوم الفصل:
بعد أن ذكر الله كلَّ هذه الآيات ليدلَّ على أنه قادرٌ ويخلق السماوات والأرض والجبال قال تعالى:(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) إن يوم القيامة التي يُفصَل فيها بين الظالم والمظلوم، فالظالم يُعاقب والمظلوم يأخذ حقه، وبين الكافر الجاحد لكلام الله ولدين الله، وبين الفاسق المضيِّع لأوامر الله المرتكب لحرام الله:

وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
[سورة يس]

يوم الفصل:

فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
[سورة الواقعة]

ففي يوم الفصل أنت مِنْ أيِّ فئة؟ هل مِنْ أصحاب الميمنة؟

وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)
[سورة الواقعة]

هنيئاً لكم يا أصحاب اليمين:

فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
[سورة الواقعة]

(فَرَوْحٌ) الراحة والسعادة والسرور، (وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ).

وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
[سورة الواقعة]

فهل أنت مصدِّقٌ بالقيامة وبحكمة الله؟ هل أنت مصدِّق بحساب الله؟ ومصدِّق بملائكة الله؟

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

في بيعك وشرائك وفي رضاك وغضبك وفي حبِّك وعدواتك وفي أهوائك، تمشي على صراط الله أم على وحي الشيطان؟

وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
[سورة الواقعة]

(فَنُزُلٌ) النُّزُل هو الفندق، أين هو؟ (فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ) نُزل في حميم جهنم وبالماء المغليِّ (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ).

وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14)
[سورة الأعلى]

(وَلَا يَحْيَى) الحياة السعيدة (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ).
(وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ) فندقٌ، فما رأيكم بهذا الفندق؟ الدخول مجاناً الدخول أن تستجيب للشيطان ولشهواتك وأنانيتك ومصلحتك وغشٌّ وغبنٌ وتعدّي وعدوان، لا يمكن أن تتحايل على الله وكلُّه مسجَّل:

إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
[سورة الواقعة]

(إِنَّ هَٰذَا) ما يقوله القرآن (لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) هو الحق والحقيقة واليقين، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) نزِّه الله عن أن يكون في كلامه شيءٌ مِنَ اللغو أو مِنَ الباطل إنما هو حق اليقين.
أتؤمنون بيوم الفصل؟ أتؤمنون بيوم البعث؟ أتؤمنون بالله عز وجل الذي أخبرنا عن القيامة، فنسأل الله أن يجعل إيماننا مِنْ ما يستقر في القلب ويُصدِّقه العمل، ولا يكون إيمان القول كإيمان المنافقين أو كإيمان التمني والتحلِّي كإيمان المتمنيين.
اللهم اجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم.

الهوامش:
(1) سنن الترمذي، أبواب البر والصلة، باب ما جاء في تعظيم المؤمن، رقم: (2032)، ونصه: ((عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى البَيْتِ أَوْ إِلَى الكَعْبَةِ فَقَالَ: مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ)).
(2) حديث ((عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، أَنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: "الَّذينَ إِذَا رُؤُوا، ذُكِرَ اللهُ تَعَالَى " ثُمَّ قَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ)) رواه الإمام أحمد في مسنده، رقم: (27599)، (45/575)، رقم: (17998)، (29/521).
(3) حديث: ((ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)) سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحزن والبكاء، رقم: (4196).
(4) صحيح مسلم باب تحريم الظلم (4/ 1997) ورقم 60-(2582).
(5) الشمائل للترمذي، رقم: (41)، (45)، مسند البزار، رقم: (92)، (1/ 164)، مسند أبي يعلى، رقم: (880)، (2/ 184)، المعجم الكبير للطبراني، رقم: (5804)، (6/ 148).
(6) هذا قول للحسن رحمه الله تعالى، شعب الإيمان، البيهقي، رقم: (65)، (1/158).
(7) قال السيوطي: "ابْن السَّمْعانِي فِي أدب الإملاء، عن ابن مسعود". الجامع الصغير، رقم: (1262)، (1/1262).
(8) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2586).
(9) مسند أحمد، رقم: (11143)، (17/227)، وهو في سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم: (4011)، سنن أبي داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، رقم: (4344)، سنن الترمذي، أبواب الفتن، باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، رقم: (2174)، بلفظة "عدل"، ولفظة الترمذي: ((إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ))، وقال: "وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه".
(10) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وكذلك أخذ ربك...}، رقم: (4686)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم: (2583).
(11) مسند أحمد، رقم: (25302)، (42/183).