تفسير سورة المطففين 03

  • 1995-07-28

تفسير سورة المطففين 03

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمدٍ خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيدنا موسى وعيسى وجميع إخوانه من النبيين والمرسلين وآله كُلهم وصحبه كُلهم أجمعين.
اللهم اجعل القرآن لنا نوراً وإيمانا نقتدي به، ويجعل قراءتنا تتحول إلى الأعمال والأخلاق التي يدعو إليها كتاب الله عز وجل.

كل إنسان يعرف مصيره بفضل الله في الدنيا قبل الآخرة:
يقول الله تعالى في سورة المُطفِّفين:

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
[ سورة المطففين]

فكما أنَّ السجين هو الديوان الذي تُسجل فيه أعمال الأشرار والكَفرة والمُجرمين الذين أعرضوا عن الله، وعن هديِّ الله، ولم يتعلموا في مدرسة الله عن طريق أنبياء الله، فأعمالهم تُسجل في عالم السماء في عالم الغيب في مكانٍ اسمه: سجين، واسمه يدل على حقيقته، أي للمساجين، للأشقياء، للتعساء، كذلك ديوان الصالحين سُميّ بعليين بشارةً إلى مراتبهم وحياتهم ومعيشتهم في عالم الخلود، الحياة العالية، والنعيم العظيم المُقيم الخالد الأبدي الذي:

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
[ سورة السجدة]

فالأبرار هم عباد الله الصالحون من ذكورٍ و إناث، هم الذين آمنوا بالله عز وجل إيماناً تحول إلى أعمال، أعمال بأبدانهم، أعمال صالحة فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين مخلوقاته في أداء ما أوجبّ عليهم أداؤه لإسعادهم، واجتناب ما حرّم الله عليهم من مُحرّمات لأن الله ما حرَّم على الإنسان إلا ما كان فيه شقاؤه وتعاسته وتَخلفه، فهؤلاء كُل من يعمل ويمشي على صراط الله المستقيم يُعتبر برَّاً، والجمع أبرار، ومصيرهم قال كلا، فذكر الله فيما سبق المُكذبين بيوم الدين، ذكر المُطفِّفين، فكلمة كلا تارةً تأتي بمعنى الردع والزجر عما يسبقها من كلام الله عز وجل، أي ارتدعوا وانزجروا وكُفّوا عما أنتم فيه من كُفرٍ وضلال وشرورٍ وإجرام، وتارةً تأتي بمعنى حقاً:

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
[ سورة المطففين]

أي حقاً إن كتاب الأبرار لفي عليّين، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ؛ كتاب يُرقم فيه ويُكتب فيه أعمالهم الخيّرة، أعمالهم الصالحة سواءٌ كانت أعمالاً بدنيةً، أو أعمالاً ماليةً، أو أعمالاً سياسيةً، أو أعمالاً قلبيةً، الإخلاص هذا عمل من أعمال القلب، خشية الله عملٌ من أعمال القلب، محبة الله عملٌ من أعمال القلب، مراقبة الله عملٌ من أعمال القلب، فكتابٌ مرقوم يُرقم فيه أعمالهم الظاهرة والباطنة، بحيث من يذهب إلى ذلك الديوان يُشاهد أعمال المُقربين مكتوبةً بكتابةٍ أُخرويةٍ، بكتابةٍ ربانيةٍ سماويةٍ، تدل على أنَّ الله حَفظ أعمالهم، وسجلّها لهم لتكون قُرة أعينهم عند قيامهم ووقوفهم بين يدي رب العالمين، فيا ترى هل نحن كتابنا في عليّين؟ ويا ترى إذا قامت القيامة يا ترى هل ضَمنّا أنَّ كتابنا وأعمالنا مُسجلةٌ في عليّين وليست مُسجلة في سجين، فقد يعرف الإنسان مصيره بفضل الله في الدنيا قبل الآخرة.

كل إنسان سيرى جزاء عمله يوم القيامة:
قُل لي من تصاحب؟ قُل لي من تحب؟ قُل لي من تجالس؟ وأنا أقول لك: إن كنت من أصحاب عليّين أو من أصحاب سجين، لأنَّ الله وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات النعيم، ولا نتألى على الله عز وجل، ولكن حاشا بفضل الله أن يُضيع على الإنسان مثقال ذرةٍ من عملٍ صالح، وأوعد بأنه سيرى جزاء عمله ولو كان مثقال ذرةٍ من خير إلا أن يعفو ويغفر، وذكر شروط العفو والمغفرة في مثل قوله تعالى:

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ (82)
[ سورة طه]

الله غفورٌ رحيم، لكن:
تَضع الذُنوبَ على الذُنوبِ وَترتَجـــــــــــــي دَركَ الجِنانِ بِها وَفَوزَ العابِـــــــدِ وَنَسيتَ أَنَّ اللَهَ أَخـــــــرَجَ آدَمـــــــــــــــاً مِنهـــــا إِلى الدُنيا بِذَنبٍ واحِـــدِ
{ محمود الوراق }
فبعدما كان مُقيماً ومُستوطناً وخُلِق في الجنة بمخالفةٍ واحدة هي أكلة تفاحة، وليس شرب كأس من الخمر، وليس زنا، وليس قتل النفس التي حرم الله، أو العدوان على مخلوقات الله في أموالهم، وفي أعراضهم، قضمة تفاحة فالله قال:

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)
[ سورة طه]


عَظمة الإسلام في تقديس حقوق الإنسان:
لماذا الله عز وجل ذكر قصة آدم والمسلمين في هذا العصر في كل زمان كثيرٌ منهم يعمل الذنوب والخطيئات مثل الجبال ثم يأخذ وظيفة الله؟ الله من اسمه الغفار، هو يغفر، يأخذ وظيفة الله ويصبح هو يغفر لنفسه، أي يقتل القتيل ثم بعد ذلك يجعل نفسه هو رئيس المحكمة، ويُخرج عفواً أنه لا يؤاخذ على جريمته، هذا يا بني هل هو معقول؟!
النبي عليه الصلاة والسلام وهو مع عُظماء العرب يدعوهم إلى الله، أتى الفقير الأعمى ابن أم مكتوم يقول: يا رسول الله علّمني مما علّمك الله؟ والشيء البديهي إذا الداعي إلى الله مشغول بعظماء المجتمع، وبهدايتهم يهتدي المجتمع، فالشيء البديهي أن يُشغل بالأهم على المُهم، وهذا ما يُحبه الله ويرضاه، والحكمة هكذا تقتضي ألا يَترك العظماء إلى هذا الإنسان الضعيف المسكين مما يوجب نصرتهم، ويقوم من أجل صُعلوكٍ أعرض عنا، هكذا اجتهد النبي الكريم فهل هذا عليه غبار؟ لكن انظروا يا بني إلى الإسلام، عَظمة الإسلام في تقديس حقوق الإنسان، ليس كل الأمور في حياته، أو غذائه، أو سكنه، حقوق الإنسان في تقييم كرامته ومكانته، فالنبي لم يلتفت إليه وأعرض عنه، وإذا حالاً المُخابرات الإلهية قدّمت اتصالاً وبرقية ربانية إلى حضرة الله الذي هو معكم، الله لا يحتاج إلى مخابرات يعلم السر وأخفى، وفي الحال المحكمة الإلهية تُعقد ويُحاكم خاتم النبيين ويَخرج الحُكم عليه بالملامة! من الذي قال وبإيحاءٍ من الله وإلهام:

{ أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر وأنا أولُ من تنشقُّ الأرضُ عنه يومَ القيامةِ ولا فخر وأنا أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّعٍ ولا فخر ولواءُ الحمدِ بيدي يومَ القيامةِ ولا فخر }

[صحيح ابن ماجه]

آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر.
وماذا فعل هل قتل النفس؟ هل ترك الصلوات؟ هل سَفك الدماء المُحرّمة؟ هل فعل الفواحش؟ لا، قدّم المصلحة التي من البديهيات أن تُعتبر مصلحة للإسلام، ولدين الله، وللتبليغ، مع ذلك الله عز وجل قال: أضعت حقّ الإنسان الضعيف، هؤلاء ولو كانوا عُظماء قريش، ولو كانوا أغنياءها، لا يخرجون عن دائرة الإسلام، وهذا الإنسان الفقير الأعمى لِم تعرض عنه من أجل غناهم وزعامتهم ومكانتهم؟

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)
[ سورة عبس]

حالاً وليس سراً بل جهراً، وليس مرة واحدة العتب، كل عصر مليارات العتب تُكرر، وفي كل الدنيا عبس، من الذي عبس؟ النبي، وبوجه من؟ بوجه الأعمى الفقير الذي لا يُؤبه له، وتولى ما توجهت إليه واستقبلته.

أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
[ سورة عبس]

وأيضاً ذكر الأعمى لأن قد لا يُعطى حقه إذا كان أعمى.

وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
[ سورة عبس]

تتزكى نفسه، وتتطهر، وتلبس مكارم الأخلاق وفضائل الصفات.

أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
[ سورة عبس]

إما تزكية عامة تشمل ظاهره، وباطنه، وقلبه، وعقله، وفكره، أو تبقى ذكرى في نفسه تعظه، وتنفعه بعض النفع.

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
[ سورة عبس]

الأغنياء والزعماء أنت مقبل عليهم.

وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)
[ سورة عبس]

أنت لست مسؤولاً عنهم، أنت عليك البلاغ وشاؤوا أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا فأنت مسؤولٌ عن حقوق الإنسان، فيا ترى هذا الأعمى يمضي أربعة عشر قرناً والقرآن يُكرِّر فرضية رعاية وأداء حقوق الإنسان لا في مأكله ومشربه ولباسه، لا، أيضاً في ناحية اعتباره وتكريمه، وألا يُنقص من تكريمه عن أي إنسان مهما بلغ شأنه في مظاهر أمور الدنيا ولو كان مَلكاً، لا فرق عند الله بين ملك ومملوك ، إن أكرمكم عند الله أغناكم أم ملوككم؟ إن أكرمكم عند الله أتقاكم.

{ يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ }

[أخرجه أبو نعيم والبيهقي]

وينزل الوحي حالاً، ويُكرّر هذا العتب حتى في الجنة، القرآن يُقرأ في الجنة، فيا ترى هيئة الأمم والقرن العشرون والعالم المُتقدم أوروبا وأمريكا شرعت حقوق الإنسان، فيا ترى هل كانت صادقة؟ هل نُفذ منه بالألف نصف واحد؟ ربع واحد؟
البوسنة والهرسك على مسمع الدنيا، على مسمع مشارق الأرض ومغاربها، الحبالى تُخرَج أجنتها من بطونها بالسِّنَب وبالحِراب، الأطفال يُقتلون بطريقة كمن يلعب بالكُرة، المدنيون غير المُحاربين يُقتّلون أفظع التقتيل، تهدّم البيوت، يُهجر الساكنون، أين حقوق الإنسان؟ هذا زمن المسيح الدجال الذي يسمى مسيحياً وحاشا أن يكون مسيحياً، أو يرضى المسيح بانتسابهم إليه، بل هو منهم بَراء، بَراء الذئب من دم يوسف عليه الصلاة والسلام.
أما في القرآن فقد شرع حقوق الإنسان وطبّقه في أدق وأبسط وأصغر حالاته بقطع النظر عن فقرٍ وغنى، عن لونٍ ولون، عن غنى وفقر.
لمّا أتى إلى النبي الكريم وهو يُوزع الصدقات والمساعدة المالية على الفقراء، أتاه وثني كافر عبّاد صنم يطلب المساعدة، فقال له النبي: أنت لست على ديني فما أعطيك؟ وانصرف الإنسان عابد الوثن بالطبع مكسور الخاطر، فيا ترى حقوق الإنسان في الإسلام هل تشمل المسلم فقط أم تتجاوز المسلم إلى كل إنسان بقطع النظر عن دينه وعقيدته وما يؤمن به؟ وما هي إلا لحظات وبالكمبيوتر الإلهي تُقدّم الواقعة على الله عز وجل، بأنَّ نبيك فعل كذا وكذا مع الإنسان ومن هذا الإنسان؟ الإنسان عابد الصنم، وفي الحال تنعقد المحكمة الإلهية:

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
[ سورة المطففين]

ومالك وحاكم وقاضي يوم الدين، من الذي يكسب الحكم الوثني أم محمدٌ رسول الله؟ الوثني الإنسان، حقوق الإنسان، فيُنزل الله في سورة البقرة قوله تعالى في هذه الواقعة مُخاطباً نبيه الكريم قائلاً:

لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
[ سورة البقرة]

أنت لست مسؤولاً عن عقيدة الفقير، أنت تعطيه لا لدينه، أنت تعطيه لفقره وحاجته لكونه إنساناً.
(وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ) هذا مردوده لك، مكافأة الله لك عليه، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله أنت هدفك الله، والنبي قال:

{ الخلقُ كلهم عيالُ اللهِ فأحبُّ الخلقِ إليهِ أنفعهم لعيالِه }

[أخرجه ابن البزار والطبراني]

ولم يقل: المسلمون كلهم عيال الله، الخلق هذا يشمل المسلم والكافر والإنسان والحيوان والوحش. لذلك النبي كان من هذا الباب يقول:

{ إن اللهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلَةَ، و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحةَ، و ليُحِدَّ أحدُكم شفرتَه، و ليُرحْ ذبيحتَه }

[صحيح النسائي]

إذا قتلتم أي الحيوان المؤذي لا يكون قتله بتعذيبٍ له، بل قتله يكون بسرعة حتى لا يتعذب، وإذا ذبحتم الذبيحة التي تُؤكل فأحسنوا الذِبحة من منطلق:

{ الخلقُ كلهم عيالُ اللهِ فأحبُّ الخلقِ إليهِ أنفعهم لعيالِه }

[أخرجه ابن البزار والطبراني]

الخلق كلهم أكدها بكلهم، إذاً الوثني من عيال الله، والإسلام يأمرنا أن نحسن إلى عيال الله لنّنال محبة الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعيالِه، فالإسلام شرع حقوق الإنسان لكن على الورق أم على المُشاهد المنظور والواقع؟ يا ترى شرعه من قَبل هيئة الأمم أم من بعد ما أُنشئت هيئة الأمم؟ أي تعلّمنا منهم؟ هم شرعوها هل كانوا صادقين مُخلصين أم يستعملوها لمصالحهم؟
لمّا صارت قضية العراق والكويت قاموا على أساس حقوق الإنسان الكويتي المُضطهد، المظلوم، المُستعمر، المُعتدى عليه، وفي البوسنة والهرسك ثلاث سنوات وإلى الآن لم يفهموا أن البوسنيين هذا الإنسان المُضطهد المقهور المطحون إلى الآن لم يفهموا أنه إنسان، البوسنة والهرسك حقوقه وحياته ووجوده كلها مطحونةً طحناً على طريقة ذلك القاضي، كان لقاض جار في مزرعته، أفلت في يوم من الأيام ثور القاضي ودخل في أرض جاره، وأفسد زرعه، وأفسد شجيراته وكسرها، فذهب جار القاضي إلى القاضي ليُخبره ليأخذ حقه، لكنه قد قدم الاستدعاء بشكل عكسي، قال له: يا سيدي القاضي أنا قادم إليك وأنا خجلٌ لأن ثوري تفلت في مزرعتك فأفسد كثيراً من زرعك وشجيراتك، فأرجو العفو والمسامحة، لا تؤاخذني وكذا وكذا، أما الواقع هكذا؟ الواقع الذي قد أفلت هو ثور القاضي، فإذا القاضي يغضب ويُزمجر، وعبس وبسر، كيف فعلت؟ أيجوز لك من الله؟ أريد كذا، ويلزمك غرامة عبارة عن عشرة آلاف، خمسين ألفاً، ثلاثين ألفاً، حتى استنفذ كل ما شعر به غضبه، بعد ذلك قال له جاره: يا مولانا القاضي لا تؤاخذني أنا مُخطئ، الثور ثورك وليس ثوري، وثورك هو الذي أفسد مزرعتي وزرعي وأشجاري، فأنا أـخطأت فيما نطقت، فلذلك أرجو أن تُعطينا حُكمك العادل فيما وقع، فلما قال له جاره هكذا سكت القاضي، قال له: دعني أفكر، ثم قال له: اجلب من المكتبة الكتاب الأحمر، وعندما أحضر الكتاب الأحمر قرأه وقلّبه فقال له: القضية ليست موجودة، أعطني الكتاب الأخضر وقلّبه ساعة، نصف ساعة أيضاً، قال له: لم نجد، أجلنا قضيتك مدة شهر، فما معنى ذلك؟ هكذا القوانين العالمية، وهذه هيئة الأمم لأنها شرع الإنسان الذي يعبد مع الله إلهاً آخر أو ليس له إلهٌ إلا هواه، وأنانيته، ومصالحه، وشرعوا القوانين في هيئة الأمم ليستعملوها لأهدافهم ومصالحهم، وأبلغ شاهدٍ مُصدّق لهذا أعمالهم، والوقائع التي يشاهدها الإنسان في المشرق والمغرب، أما تشريع الإسلام في رعاية حقوق الإنسان مهما كان لونه أو دينه أو عقيدته بل لو كان عدوك فالله يقول في معاملة العدو:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
[ سورة النساء]

بالقسط بالعدل، ولو على أنفسكم إذا كان الحق عليك يجب أن تعترف، وتنقاد للحق، أو الوالدين ولو على أبويك إذا كانوا هم معتدون يجب أن تدينهما والأقربين.

العدل أقرب للتقوى:
في آيةٍ أخرى الله يقول:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
[ سورة المائدة]

إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
[ سورة الكوثر]

شانئك أي عدوك، مُبغضبك.
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قوم أي إذا كان بينكم وبين قوم عداوة و بغضاء، وصار بينكم مشكلة إياكم أن تحملكم عداوتهم على ألا تعدلوا، اعدلوا مع أعدائكم هو أقرب للتقوى.
فيا ترى في القرن العشرين هل أتى قانون أعدل من قانون الله؟ أعدل من قانون القرآن والإسلام؟ في القرن العشرين والقرن الخامس والخمسين، والقرن الخمسمئة، هل يوجد إلهٌ غير الله؟

التحلي بصفات النبي الكريم معلم الأمة الأول:

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
[ سورة النساء]

ومن أصدق من الله حديثاً؟ فما لم نرجع نحن المسلمين إلى القرآن عِلماً، ولا يكون عِلم الطب بلا مُعلِّمٍ وأستاذ، ما لم نرجع إلى الإسلام تدريباً وتربيةً ومُربياً، لا يكون الإنسان طياراً بقراءة كتب الطيران، لو قرأ كتب الدنيا هل يصبح طياراً؟ تريد طياراً يُعلمك، ويُدربك، ويُربيك على الطيران، فلذلك المدارس التي تسمى شرعية هذه مدراس شرائية لا تنتج عاملاً، إذا ما وجد المُعلِّم الذي أخذ صفات المُعلِّم الأول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث الله يقول عنه مواصفات المُعلِّم الأول:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[ سورة البقرة]

لمّا تُعلم ابنك الأفعى ليحترز منها كيف تعلمه؟ تعلمه بشكل ينطبع في ذهنه أن يبتعد عنها ولا يقترب منها، يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ مع أن القرآن كله حكمة:

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
[ سورة يس]

والحكمة أن تقول إذا صدر منك قول أن يكون قولك صحيحاً صادقاً وصواباً، وعملك صحيحاً صائباً لا خطأ فيه، فمعنى:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[ سورة البقرة]

يا ترى هل المُعلِّم عنده قوة تزكية نفوس تلامذته؟ تطهير النفوس من رذائلها، من غفلاتها، من مطامعها، من أحقادها، من شرورها وآثامها.

{ العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ }

[أخرجه أبو داوود والترمذي وابن ماجه]

هم الذين ورثوا هذه الصفات التي وصف الله بها رسوله في كتابه الكريم، فما لم نعمل على إيجاد طالب العِلم الذي يُعلِّم الكتاب والحكمة، ويُزكي النفوس، ويُحيي بذكر الله ومعرفته، وقربه، إذا لم يكن عنده قوة إحياء القلوب فيضرب والله في حديدٍ بارد، والنتاج ورقة تسمى شهادة تُلصق على الجدار لصقة بذر كتان، لمن عنده وجع الصدر هذه الورقة يمكن أن تنفع أكثر من الورقة هذه التي اسمها شهادة سواءً من كلية الدعوة أو كلية أصول الدين أو من الأزهر أو غير الأزهر.
أصحاب رسول الله كانوا أُميّين لكن لمّا دخلوا مدرسة مُعلم السماء، خريج السماء، خريج حراء، خريج المغارة والكهف.

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
[ سورة الكهف]

أيّ شهادةٍ حملوا؟ وبأيّ ثمراتٍ خرجوا؟ حملوا شهادة النبي فيهم في قوله:

{ حُكَماءُ عُلَماءُ كادوا من فِقْهِهم أن يكونوا أنبياءَ }

[ شعيب الأرناؤوط إسناده ضعيف]

والنبي هو البنّاء المعماري المهندس الذي يصنع الأمة الراقية في عقلها، وروحانيتها، وأخلاقها، وإنسانيتها، وهذه الشهادة التي شهدها فيهم هل في حياتهم استطاعوا أن يُطبقوها؟ هل صنعوا أمةً؟ صنعوا أُمماً، صنعوا عالماً، صنعوا أعظم أمة، وأعظم دولة على أساس ومن مصدر أعظم دينٍ عالمي، يصلح ولا يَسعد الإنسان به في حياته الجسدية والروحية إلا إذا مشى على هديِّ كتاب الله، ودستور الله، وقانون الله.

أعمال الأبرار مكتوبة في عليين:
أنا خرجت بكم عن الموضوع موضوع الآية:

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
[ سورة المطففين]

كلا إذا فسرناها بمعنى حقاً إن كتاب الأبرار أي أعمالهم مكتوبةٌ في ديوانٍ اسمه: عليون، والأبرار من هم الأبرار؟ الأبرار مُشتق جمع بر، والبر هو الإنسان الذي يعمل للبِر، ويعمل الأعمال الصالحة، ويتصف بالأخلاق الفاضلة، والسلوك الرباني الملائكي الأخلاقي، والبر إذا ما ظهر في الأعمال والأخلاق والصفات لا يسمى صاحبه باراً، فقد يُصلّي بجسده لكن لم يُصلّ مع جسده بعقله وفكره ليتفهم ما يتحرك به لسانه في أثناء صلاته، لمّا يبدأ بالصلاة الله أكبر هل فهم معنى الله أكبر؟ أن الله أكبر في قلبي من كل محبوب، أُحب الله أكثر من كل محبوب، وأعظم في قلبي من كل عظيم، وأخافه وأخشاه من كل شيءٍ مُخيف، وأتقرب إليه أكثر وأكثر قرباً من كل من يُتقرب إليه.
فوجهت وجهي، يا ترى الذي تقرؤه هل تفهم ما تقول؟ أم أنك تذهب إلى البائع وتقول له: أعطني كبريتاً؟ هل تفهم ما معنى أعطني كبريتاً؟ وعندما يعطيك بقدونس صفراء تقول له: أريد خضراء، هل تفهم ما تقول؟ تعمل بما يقتضيه نظرك، يا ترى في صلاتك تصلّي بجسدك أم تصلّي بفكرك وعقلك وفهمك؟ هذه الصلاة يا بني الأطفال الصغار يصلونها، يصلّي ابنك الصغير جانبك ولمّا تخرج من الصلاة ماذا فهمت يا بني؟ ماذا فَهِم؟ والأب يا ترى فَهِم أكثر من الابن؟ يمكن الاثنان مثل بعضهم البعض، لا، الابن إذا لم يفهم غير مسؤول بين يدي الله أما الأب فمسؤول:

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
[ سورة العنكبوت]


الهلاك والتعاسة والشقاء عاقبة كل مطفف:
إذا قرأ في الصلاة:

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
[ سورة المطففين]

الهلاك التعاسة والشقاء للمُطفِّف، من المُطفٍّف؟ الذي يُضيع من الحقوق، سواءً حقوق الله، أو حقوق المخلوقات، الشيء الحقير الطفّيف الصغير، إذا تعديت على إنسان بعود كبريت أخذته حراماً هذا ما اسمه؟ تطفّيف، أما إذا أخذت منه مئة ألف دولار هذا ليس اسمه تطفّيفاً، التطفيف أخذ الشيء الصغير الحقير الذي ليس له قيمة، فإذا عملت من الشر ما لا قيمة له الله يقول لك: الويل، إذا عملت من الشر بحجم جبل قاسيون أليس ويل؟ يا ترى هل فهمت كلمة:

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
[ سورة المطففين]

هاتان الكلمتان إذا كان لك قلب والله لتُسعدك في الدنيا والآخرة، ولتقينّك من الشرور والآثام والخزي والتخلف في الدنيا والآخرة.

طلب العلم والمجاهدة بالقرآن::

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
[ سورة المطففين]

الأبرار مفرده البر، والبر هو الإنسان الذي تعلّم القرآن، تعلّم حقائقه، وفهم معانيه ومقاصده، وحوّل قراءته في أعماله، وفي أخلاقه، وفي سلوكه، بدءاً من نفسه، تثنيةً مع أهله، تثليثاً مع جيرانه:

وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
[ سورة الشعراء]

تربيعاً مع الناس كلهم.

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
[ سورة التوبة]

فالإنسان البرّ، والجماعة الأبرار هم الذين دائماً في عمل البر، وعمل الخير، في أنفسهم يزيدون الخير والصلاح والتقوى وفضائل الأخلاق، أو مع غيرهم يأمرونهم بالمعروف ويَنهونهم عن المنكر، وكما قال النبي بأن المؤمن لا يخلو من أحد منزلتين وصفتين يقول:

{ النَّاسُ رجلانِ عالِمٌ ومتعلِّمٌ ولا خيرَ فيما سواهُما }

[ أخرجه السيوطي ضعيف]

فإن كنت عالماً فعليك أن تُعلّم، وإن كنت جاهلاً فعليك أن تتعلّم، فتارةً قد تكون مُعلّماً لما تعلمه، ومُتعلّماً لما تجهله، فما أعظم يا بني تربية القرآن، ومدرسة القرآن، لكن المدرسة لو كانت مُعمرة بالرخام، وثُرياتها من الألماس، وجدرانها من الذهب، أو مستشفى بنيانها وهندستها البنائية بهذه الصفات، ولا يوجد فيها أطباء وأخصائيون، يا ترى الجدران والثريات تستطيع أن تنقذ المرضى من أمراضهم وآلامهم وشقائهم وتعاستهم؟ كذلك المساجد لو بنيت بالذهب والفضة، وعملنا المنارة طولها ألف متر ولا يوجد فيها وارث رسول الله:

{ العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ }

[أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه]

وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
[ سورة فاطر]

وليس لها ميراث أي الذي يرث، يرث عن النبي كل ما فُرض على النبي، فُرض على النبي:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
[ سورة المائدة]

أنت يا طالب العلم ورثت بلغ ما أنزل إليك من ربك، ورثت:

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
[ سورة عبس]

تَرفُق بالإنسان الضعيف الفقير المُزدرى الذي المجتمع في زُهدٍ فيه وفي شؤونه، هل ورثت:

{ لا راحةَ للمؤمنِ دون لقاءِ اللهِ عز وجل }

[الألباني السلسلة الضعيفة]

هل ورثت عن رسول الله:

{ رجَعنا من الجهادِ الأصغرِ إلى الجهادِ الأكبرِ }

[ابن باز إسناده ضعيف]

فقط؟ فكان النبي دائماً في معارك الجهاد الثلاثة؛ الجهاد الأصغر محاربة العدو:

{ إنَّ اللهَ جعل رزقي تحت ظلِّ رمحي }

[أخرجه البخاري وأحمد]

النبي كل حياته ظلَّ مُجاهداً، والجهاد الأكبر كان في غار حراء حتى صار الجهاد الكبير وهو النوع الثالث، والجهاد الكبير ما ذكره الله في قوله تعالى:

فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
[ سورة الفرقان]

جاهدهم به بالقرآن، بالدعوة إلى تعاليمه، والعمل بها، وتحويل القرآن من كلماتٍ مكتوبةٍ بحبرٍ أسود إلى قرآنٍ وأعمالٍ مكتوبةٍ في صفحات المجتمع، فيا ترى هل جاهدت بالقرآن الجهاد الكبير؟

المهاجرة إلى مجلس العِلم والحكمة والتزكية::

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(72)
[ سورة الأنفال]

وهاجروا لمّا كان النبي في المدينة هاجروا إلى المدينة، إلى جدرانها ونخيلها، هاجروا إلى من يُعلّمهم الكتاب والحكمة ويُزكيهم، المسلمين صاروا يفهمون أنَّ الهجرة إلى المدينة، يبقى أربع أو خمس سنوات وما استفاد شيئاً فيعود إلى بلده، أما الهجرة إلى الله ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله أم إلى المدينة؟ فيا ترى فكرت أنت أن تهاجر وقد انتقل النبي الكريم إلى الملأ الأعلى؟ هل فكرت في أن تهاجر إلى من أورثه الله مقامه في تعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفس؟ الهجرة ماذا كان اسمها في زمن رسول الله؟ كانت فريضةً واجبةً، ومن لم يهاجر.

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
[ سورة النساء]

فأنت يا مسلم في الأسبوع هل تُهاجر ساعة واحدة إلى مجلس العِلم والحكمة والتزكية؟ هل فتشت على من يُزكّيك؟ كان بعض المُزكّين يقول:
ألم تعلم بأنــــــــــي صيرفــــــــــــي أحك الأولياء على محكــــــي فمنهم بهرجٌ لا خير فيـــــــــــــــــــه ومنهم من أجوزه بشــــــــك وأنت الخالص الذهب المصفـــــــــــى بتزكيتي ومثلي مـن يزكـــــــي
{ الشعراني }
يقول النبي:

{ صعِدَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المِنبَرَ، فحمِدَ اللهَ وأثْنى عليه، ثمَّ قالَ: «مَن أنا؟» قُلْنا: رَسولُ اللهِ، قالَ: «نعمْ، ولكنْ مَن أنا؟» قُلْنا: أنتَ محمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ عَبدِ المطَّلِبِ بنِ هاشِمِ بنِ عَبدِ مَنافٍ، قالَ: أنا سيِّدُ ولَدِ آدَمَ ولا فَخرَ }

[رواه الحاكم صحيح الإسناد]

لدلالة من يعرف كنز السعادة.

العمل بإخلاص والابتعاد عن الأماني::

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
[ سورة المطففين]

يا ترى أنتم أعمالكم أين ستكتب؟ كل واحد منكم يسأل نفسه ويعرف ماذا يفعل، وإذا عرف ماذا يفعل، معروف كل عمل على حسبه أين يُسجل، يا ترى في ديوان السجين أم في ديوان العليين؟
يجب أن تقول: أنا أريد أن أعمل لتكون أعمالي مُسجلةً في عليين، يجب أن يكون كلامك فيه صدق، إخلاص، دعوة إلى الله، تعليم، فهذا في عليين، أعمالك تكون صالحة تقية مُباركة تسجل في ديوان عليّين، إذا كلامك كذب في عليّين أم في سجين؟ إذا أعمالك رياء تعمل الخير ليراك الناس ويمدحوك في سجين أم في عليّين؟ إذا غضبت، إذا طمعت، إذا حقدت، يا ترى هذه الأعمال في سجين أم في عليّين؟ بالأماني العمل سهل، بالتمني الأمر سهل، أما عند الله يا بني الله قال:

لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
[ سورة النساء]

اجتمع المسلمون واليهود هؤلاء يقولون: نحن الجنة لنا، لأن ديننا أقدم، المسلمون قالوا: لا، نحن الجنة لنا، لأن ديننا جديد، فأنزل الله ليس دخول الجنة:

لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
[ سورة النساء]

لو لك ثواب وعمل خير بمقدار النقير، والنقير نواة التمر تعرفونها، في خلفها يوجد حفرة صغيرة هذه ما اسمها؟ النقير، لو عملت من الخير بمقدار هذا النقير الله سجله لك ويُكافئك عليه.
العليين بالكلام سهل لكن تحتاج إلى هز أكتاف، يا بني تحتاج إلى هز أكتاف، ويجب أن تحاسب نفسك في لحظاتك، في أفكارك، في نظراتك، في تفكيرك، في خطواتك، في سهراتك، في جُلسائك، في أصحابك، بالأماني أنا أريد أن أصبح ملكاً هل صرت؟

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
[ سورة المطففين]


القبلة الحقيقية هي تنظيم لمظهر المُصلين ليكونوا في جهةٍ واحدة::
الله تعالى عندما حوّل القبلة كانت إلى بيت المقدس حوّلها إلى الكعبة فاليهود غضبوا أن قبلتهم كان المسلمون يتوجهون إليها فتركوها إلى الكعبة، فصاروا يُعيرون المسلمين أنكم تركتم قبلة الأنبياء إلى آخره، والله قال في هذا الموضوع:

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142)
[ سورة البقرة]

الله ردّ عليهم قال:

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142)
[ سورة البقرة]

وأنزل:

لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
[ سورة البقرة]

لا تنال رضا الله، ولا تكون من الأبرار أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب إلى بيت المقدس، أو إلى الكعبة، ليس هذا التوجه الجسدي هو الذي يوصل الإنسان إلى حقائق الإيمان والإسلام، إنما هو أمرٌ إلهي لو الله قال لنا: اتجهوا إلى جبل قاسيون، القبلة الحقيقية وجهتُ وجهِيَ للذي فطرَ السماواتِ والأرض، إنما هو تنظيم لمظهر المُصلين ليكونوا في جهةٍ واحدة، وجهة وجهها إلى أول مسجدٍ:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96)
[ سورة البقرة]

بيت عبادة الله وهو المسجد الذي بناه سيدنا إبراهيم فالله قال:

لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
[ سورة البقرة]

ليس هذا المهم، الأساس أن تتوجه بكلّيتك إلى الله بسمعك، بعقلك، بكل مشاعرك وإحساسك، لتتفهم ما يُلقي الله عليك من دروس، ووصايا، وتعاليم لتعمل بها، فتسعد بها في الدنيا وفي الآخرة.

الإيمان بالله يردع الإنسان عن كل الرذائل ويدفعه إلى كل الفضائل::
( وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) إذا آمنت بالله بصفات الله، ومن صفات الله:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)
[ سورة الحديد]

لو كان معك طفل تستطيع أن تقضي حاجتك أمامه وتكشف عورتك أمامه؟ تخجل، تقول: الآن الطفل ينظر عورتي، إذا كنت تعمل عملاً ناقصاً وهناك شخص يُشاهدك تتستر عنه حتى لا تنكشف أمامه سوءتك ونقائصك، فإذا الله يقول:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)
[ سورة الحديد]

فكيف تعصي الله وهو معك أينما كنت؟! إذا كنت مؤمناً بالله تؤمن بأن الله معك، إذا أردت أن تنوي نية سوء مكر أو غش أو خداع أو حقد إذ كنت مؤمناً بالله من صفات الله:

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)
[ سورة الملك]

يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
[ سورة التغابن]

إذا كنت تنوي نية غش هل تحب أن يطلع أحد على غشك؟ لمّا تُخفي غشك عن الناس حتى لا ينظروا إليك نظرة احتقار فكيف لا تستحي من الله وتدّعي الإيمان به والله يقول أنا أعلم سرك وعلنك؟

وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
[ سورة طه]

ما الأخفى من السر؟ هي الأسرار التي ستكون أسرارك بعد سنة، يعلم سرك الحالي، وأسرارك التي ستسرها في مستقبل حياتك، فالإيمان بالله بمعناه الحيّ الحقيقي يردعك عن كل الرذائل، ويدفعك إلى كل الفضائل، وبذلك تكون مؤمناً.
أتى رجلٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام أعرابي فقال: يا رسول الله ما هو الإيمان؟ فتلا عليه هذه الآية في سورة البقرة:

لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
[ سورة البقرة]

تكتفي بالصلاة الجسدية؟ لكن تؤمن بمحكمة الله، تؤمن بمسؤوليتك، وأنَّ الله سيحاسبك على مثاقيل الذرّ من خيرٍ أو شر:

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
[ سورة البقرة]

أنتم مؤمنون بالقرآن؟ يا ترى أنتم مؤمنون أنه إذا عملتم من الشر مثقال ذرة الله سيحاسبكم؟ أي إذا مددت يدك على إنسان، أو تكلمت عليه كلمة صغيرة، هذه الكلمة الصغيرة ذرة أم أكبر؟ الله يقول لك: سترى جزاءها وعقوبتها، والخير سترى مثوبته ومكافأةً عليه، فأنت تقول إنك مؤمن بالقرآن آمنت بهاتين الآيتين الصغيرتين؟ هذا الإيمان يا بني.
وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ؛ إذا آمنت بأن الله معك حيثما كنت، وأنت في حضرته، إذا كان شرطي السير يشاهد سيارتك هل تستطيع أن تسير في الجهة اليسرى في الشارع؟ إذا شرطي المرور واقف، والإشارة الحمراء مُضيئة، تستطيع أن تجتاز الطريق؟ لأنك تؤمن بأن الشرطي ينظر إليك ويشاهدك، لمّا تعصي الله أنت مؤمن بأن الله يراك وينظر إليك؟ الإيمان بالتمني؟

{ ليس الإيمانُ بالتَّمَنِّي ولا بالتحلِّي، ولكن هو ما وقر في القلبِ، وصدقَهُ العملُ }

[الألباني ضعيف]

قال له: ما الإيمان؟ فتلا عليه الآية:

لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
[ سورة البقرة]


لكل إنسان رقيب عتيد:
بيت المقدس والكعبة تصلي فقط الصلاة الجسدية، ولكن البرّ والسعادة في الدنيا والآخرة من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة، أنت مؤمن بأن معك رقيباً عتيداً؟

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[ سورة ق]

إلا فوراً تسجل لك أو عليك:

وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
[ سورة ق]

جاءت كل نفس معها يوم القيامة سائقٌ إلى المحكمة، وشهيد يشهد لها أو عليها.
أرأيت القرآن كان أولاً قراءةً تُتلى، والآن صار حقائق تشاهد، وواقعاً عملياً إلى المحكمة الإلهية يوم يقوم الناس لرب العالمين.

البر هو تحقيق أركان الإيمان بالشكل الأمثل:

لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
[ سورة ق]

وفي الرقاب إعتاق العبيد، وأقام الصلاة صلى صلاة ليست معوجة، صلاة مستقيمة:

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
[ سورة المؤمنون]

صلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، صلاة:

{ حُبِّبَ إليَّ من دُنْياكمُ النِّساءُ والطِّيبُ وجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ }

[أخرجه النسائي وأحمد والبيهقي]

صلاة:

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
[ سورة البقرة]

المُصلي الحقيقي يكون فيه هموم، فيه أحزان، فيه أكدار، الآن درس فقه الصلاة، صلاة القلب بالطبع مع الجسد فيدخل في الصلاة، وإذا بكل همومه وأحزانه وضيق صدره ينزعه كما يُنزع جلد الشاة عند سلخها، ويخرج من الصلاة لا هموم ولا أحزان، وكما كان يقول النبي الكريم:

{ يا بلالُ ! أَقِمِ الصلاةَ ، أَرِحْنا بها }

[صحيح أبي داود]

أي من هموم الدنيا وأحزانها وأتعابها ومشاكلها، أرحنا بها يا بلال.
ومن عظيم نعمة الله على المسلم جعلها خمس صلوات، لأن بين كل صلاة وصلاة يتحمل الإنسان هموم ومشاكل ومتاعب فكرية وعقلية وبدنية ومالية، فلمّا يدخل في حضرة الله يدخل في الحمام، الله يُغسّله من كل هذه الهموم والأحزان والمشاكل، ويخرج كأنه خرج من بطن أمه، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، ما معنى وآتى الزكاة؟ أي صار غنياً ليستطيع أن يُقيم هذا الفرض، فإيتاء الزكاة دعوة إلى الغنى أم دعوة إلى الفقر؟ إلى الغنى، إذاً الغنى في الإسلام ركنٌ من أركان الإسلام الخمس، لو قال: وأخذ الزكاة، لكان الفقر أحد الأركان الخمس، وأنتم هذا الركن هل تعملون به؟ لأنه إذا قال الله: أقيموا الصلاة، أي توضؤوا وتطهروا وأقيموا الصلاة، وإذا قال: آتوا الزكاة، أي اعملوا واشتغلوا وصيروا أصحاب ثروةٍ وأغنياء لتُحيوا ركناً من أركان الإسلام الخمس والذي هو الزكاة، مع الأسف عبر القرون صار كثير من أهل العِلم والدين يدعون إلى الفقر مع أن الله لم يمتنّ على النبي بالفقر ،امتنّ على النبي بالغنى قال:

وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8)
[ سورة الضحى]

عائلاً أي فقيراً، والنبي قال:

{ اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ، وخَيْرُ الصَّدَقَةِ عن ظَهْرِ غِنًى، ومَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ }

[ صحيح البخاري]

اليد العليا أي المُعطية خير من اليد السفلى، كم صار من تحريف في فهم حقائق الإسلام يا بني؟ الحج مُحرّف، الآن الحج يذهب الحاج ويرجع ماذا فهم من حقيقة الحج لمّا الله يقول في سورة الحج:

لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
[ سورة الحج]

أول ذكر أمور الدنيا أن نبحثها في الحج، نبحث مسائل البوسنة والهرسك، نبحث مسائل الشيشان، نبحث لماذا العالم الإسلامي مُتخلف في التكنولوجيا؟ في الصناعة؟ في علوم البحار؟ في علوم الفضاء؟ هذا الحج يا بني ليشهدوا منافع لهم، لو كنت أنا أملك في السعودية ما يُنفقه ملوكها المسؤولون فيها لأدعونّ في كل سنة كل رؤساء الجمهوريات، والوزراء، ووزراء الاقتصاد، والتربية، والتعليم، والإعلام، ووزراء الدفاع ليشهدوا منافع لهم، وأما إذا كان حج وما شهدوا منافع لهم أي نحن نشتري الطعام من مطعم الأمراء لأنه يوجد عندنا ضيوف ليأكلوا، فإذا ذهبنا إلى مطعم الأمراء وما أخذنا الطعام أو أخذنا الطعام ولكن لم نُقدمه إلى الضيوف حتى أمسى المساء وهم جياع نكون يا ترى استفدنا من المطعم؟ أو من النفقات التي دفعناها ثمناً للطعام؟ أعان الله الإسلام علينا يا بني، نسأل الله أن يجعلنا من مسلمي العِلم والعمل والتعليم والحكمة والتزكية، ولا تيئسوا يا بني:

وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
[ سورة الذاريات]

والناس كلهم بخير، لكن برميل البنزين يحتاج إلى عود كبريت واحد، وبالحكمة والموعظة الحسنة.

ضرورة فهم العهد وتطبيقه:

لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
[ سورة ق]

إذا عاهدت الله، والقرآن هو عهد الله، يجب أن تفهم العهد وتُطبقه، إذا عاهدت الناس، المؤمن إذا وعد وفى، والمنافق إذا وعد أخلف، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ، إذا افتقرت لا تهين نفسك، تُهين حالك للناس، كن عزيز النفس لكن اعمل واشتغل، في البأساء والضراء عند المرض، وعند الوجع، وحين البأس عند قتال العدو، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، وهؤلاء هم الأبرار:

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
[ سورة المطففين]

قيل: يا رسول الله ما الإيمان؟ أنا أسألك عن الإيمان وأنت تجيبيني عن البرّ، ما هو الإيمان؟ فأعاد النبي عليه هذه الآية في سورة البقرة، فسأله للمرة الثالثة فقال له:

{ قال رَجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، ما الإيمانُ؟ قال: إذا سَرَّتكَ حَسنتُكَ وساءتْكَ سَيِّئتُكَ، فأنت مُؤمنٌ، قال: يا رسولَ اللهِ، فما الإثمُ؟ قال: إذا حاك في صَدرِكَ شيءٌ فدَعْه }

[شعيب الأرناؤوط صحيح]

إذا كنت تعمل العمل الصالح وتفرح نفسك لما وفقت له، وخرج منك العمل الشر، العمل الرديء، ونفسك حزنت وخجلت، وشعرت بآلام ما فعلت فأنت مؤمن، وإذا لا تُفرحك الأعمال الصالحة، ولا تُسيئك الأعمال الفاسقة، فاعلم أن قلبك ميت، وإيمانك ميت، ولو قلت بلسانك:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)
[ سورة البقرة]

هكذا قالوا، لكن ماذا قال الله عما يقولون؟ قال: وما هم بمؤمنين.

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
[ سورة المنافقون]

الله يعرف، تشهدون للنبي بالرسالة، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون.

الإيمان ليس بالأماني:
لنحذر يا بني أن يكون إيماننا الأماني، أو إيمان الإدعاء والدعاوي، يجب أن يكون إيماننا ما وقر في القلب وصدّقه العمل، وهذا لا يكون إلا بالمُعلم الوارث النبوي، الذي يُعلِّم بعد رسول الله الكتاب القرآن والحكمة، ويُزكيهم، فنرجو الله أن يجمعنا بورثة رسول الله، ويرزقنا صدق الحب والصدق والإخلاص في صحبتهم.

{ ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ }

[صحيح البخاري]

فبحكم العلماء ورثة الأنبياء يا ترى تحب أنت الوارث المُحمدي أكثر مما سواه بعد الله ورسوله؟
ما معنى ورثة الأنبياء؟ أي يرث ما يجب على النبي فعله من تعليم الكتاب والحكمة والتزكية، ويرث كذلك الحقوق التي للنبي على الأمة، أن تحبه أكثر من نفسك وأهلك وأولادك وروحك التي بين جنبيك، يا ترى المسلمون هكذا وضعهم مع العلماء ورثة الأنبياء؟ إذا ما صار هذا الوضع لا يتعلمون الكتاب، ولا الحكمة، ولا تتزكى النفوس، ويكونون لم ينصروا الله فلا ينصرهم الله، والله قال:

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
[ سورة الحج]

لقوي يستطيع أن ينصرك، وعزيز لا غالب له، يستطيع أن يعزك، لكن أنت إذا لم تنصر دينه، وما حولت كلامه إلى أعمالٍ، ووقائع منظورةٍ مشهودة بقلبك وأعمالك وفكرك، يكون إيمانك إيمان التمنّي، نسأل الله ألا يجعلنا من أصحاب الأماني، ويجعلنا من أصحاب العمل الصالح.

صفات الأبرار:
ومن الأبرار:

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
[ سورة المطففين]

ما عليّين؟ الديوان الذي تُكتب فيه أعمال الأبرار، في المحاكم ألا يوجد ديوان أضابير لأصحاب العلاقات أيضاً الأبرار أعمالهم أين مكتوبة في أي ديوان؟ ما اسمه؟ عليّين، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عليين؟
ما أدراك ما مصيره؟ ما سعادته؟ ما نعيمه؟
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ، القائمون عليه الملائكة أقرب من يكون من الملائكة إلى الله عز وجل تكريماً لأصحاب العليّين الذين أعمالهم الصالحة يُحبها الله ويرضاها.

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
[ سورة المطففين]

يا ترى عندما نقرأ الآية هل نفكر أن نُشمّر لنصبح من الأبرار؟ والله قال:

لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
[ سورة البقرة]

وصف صفات الأبرار، في آيةٍ أخرى:

لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
[ سورة آل عمران]

لن تصير من الأبرار حتى تُنفق أحسن ما تحب، لمّا نزلت الآية كان ابن عمر عنده جارية من أجمل جواريه، شابة حلوة صغيرة ظريفة، لمّا سمع الآية قال: هذه أحب شيء إلى قلبي، والله قال: ( لَن تَنَالُوا الْبِرّ) فأشهدكم أني قد أعتقتها في سبيل الله.
أبو طلحة الصحابي لمّا نزلت ( لَن تَنَالُوا الْبِرّ) فتش أي شيءِ أحب إلى قلبه، وكان عنده بستان اسمه بيرحاء، فأتى إلى النبي قال: يا رسول الله أنا سمعت الآية ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا ) ففتشت ما أحب شيءٍ إلى قلبي فما وجدت أحب إلى قلبي من بستان بيرحاء، فأشهدك على نفسي أني قد وضعته في سبيل الله فضعه حيثما شئت، أنت تصرف به، فقال عليه الصلاة والسلام: أرى أن تجعله في الأقربين في أرحامك، قال: فوزعه على أرحامه وعلى أقربائه، فقال له النبي: بخٍ بخٍ أي هنيئاً هنيئاً ذلك مالٌ رابح، فرجع إلى البستان فرأى أم طلحة في البستان ومعها أولادها وهم يجمعون الرطب من تحت النخيل، فقال: يا أم طلحة هل علمتِ أني أقرضت ربي بستان بيرحاء؟ فصارت أم طلحة تُخرج التمر والرُطب من جيوب أطفالها وتقول: إن أباكم قد أقرض وبذل بيرحاء لربه بما فيه التمرات التي في جيوبكم فرضي الله عن زوجةٍ تساعد زوجها على مرضاة الله.

{ كانَ أبو طَلْحَةَ أكْثَرَ أنْصَارِيٍّ بالمَدِينَةِ مَالًا مِن نَخْلٍ، وكانَ أحَبُّ مَالِهِ إلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وكَانَتْ مُسْتَقْبِلَ المَسْجِدِ، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدْخُلُهَا ويَشْرَبُ مِن مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قالَ أنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا ممَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أبو طَلْحَةَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ يقولُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا ممَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وإنَّ أحَبَّ مَالِي إلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وإنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أرْجُو برَّهَا وذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يا رَسولَ اللَّهِ حَيْثُ أرَاكَ اللَّهُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بَخٍ، ذلكَ مَالٌ رَابِحٌ، أوْ رَايِحٌ - شَكَّ عبدُ اللَّهِ - وقدْ سَمِعْتُ ما قُلْتَ، وإنِّي أرَى أنْ تَجْعَلَهَا في الأقْرَبِينَ فَقالَ أبو طَلْحَةَ: أفْعَلُ يا رَسولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أبو طَلْحَةَ في أقَارِبِهِ وفي بَنِي عَمِّهِ وقالَ إسْمَاعِيلُ، ويَحْيَى بنُ يَحْيَى: رَايِح }

[صحيح البخاري]

عكس زوجة سمعت زوجها في مجلس بعض الدعاة إلى الله بأن من يتصدق بصدقة يفك حنك سبعين شيطاناً، فأحدهم قام من مجلس الشيخ قال: أنا اليوم أريد أن أفك حنك سبعين شيطاناً، والظاهر أن ليس لديه نقداً - أموال - فدخل إلى بيت المؤونة وأخذ شيئاً من البرغل والرز والعدس حتى يتصدق بها على الفقراء، وهو خارج من بيت المؤونة ويديه ممتلئة، قالت له زوجته: ما هذا؟ قال لها: أنا سمعت الشيخ يقول كذا وكذا، وليس عندي دراهم، لذلك أخذت شيئاً من المؤونة لأتصدق بها لأفُك حنك سبعين شيطاناً، قالت له: هل لعب بعقلك الشيخ؟ أمجنون أنت؟ أرجع كل شيء لمكانه، فتعاركا ورجع إلى مجلس الشيخ، فالشيخ نظر إليه وجد على وجهه آثار الحزَن، فقال له الشيخ: ما بك إن شاء الله فكّكت حنك سبعين شيطاناً؟ قال له: والله يا سيدي فككت حنك سبعين شيطاناً لكن أم الشياطين فكّت حنكي، نسأل الله أن يجعل زوجاتنا تُعيننا على مرضاة الله:

{ ما استفاد المؤمنُ بعد تقوى اللهِ خيرًا له من زوجةٍ صالحةٍ : إن أمرها أطاعتْه، وإن نظر إليها سَرَّتْه، وإن أقسم عليها أَبَرَّتْه، وإن غاب عنها نَصَحَتْه في نفسِها ومالِه }

[أخرجه ابن ماجه والطبراني]

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
[ سورة المطففين]

يا ترى هل سنشمّر لنأخذ صفة الأبرار؟ شهادة الأبرار؟ والله وصف الأبرار في آية سورة البقرة:

لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
[ سورة البقرة]

ولا تقل: لا أقدر، كل شيء إذا تصدق بإرادتك بعمله تستطيع العمل به، الأجانب عزموا وصمموا أن يصلوا إلى القمر، وصلوا أم لم يصلوا؟ عزموا أن يطيروا فوق السُحب بالطائرات وصلوا؟ أصحاب رسول الله كانوا بدواً وأعراباً وأميّين صدقوا في أن يكونوا من الأبرار، صاروا من الأبرار:

{ حُكَماءُ عُلَماءُ كادوا من فِقْهِهم أن يكونوا أنبياءَ }

[ شعيب الأرناؤوط إسناده ضعيف]

النبي يقول:

{ لو كان بَعْدِي نبيٌّ لكان عمرَ بنَ الخطابِ }

[العجلوني سنده ضعيف]

فأنتم عندكم استعداد لتكونوا من الأبرار؟ أي بالجامع، وإذا خرجتم من الجامع ستبقونها في الجامع أم تأخذونها معكم؟ غداً:

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
[ سورة المطففين]

الله يُبيض وجهنا عند لقائنا برب العالمين، ويجعل القرآن عملنا وأخلاقنا وسلوكنا، ليس فقط تلاوتنا له بألسنتنا.

نعيم الأبرار يوم القيامة أعظم من كل ما يتصوره الإنسان:

عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)
[ سورة المطففين]

الأرائك الأريكة هي السرير المُغطى للعروس ليلة العرس يضعونها على السرير، هذا ما اسمه؟ أريكة، والجمع أرائك، فالله يصف لنا نعيم الأبرار بأعظم ما كان يتصوره الإنسان العربي في زمنه، وإلا معاني الآخرة غير معاني الدنيا، الألفاظ واحدة لكن الحقائق تختلف.

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
[ سورة السجدة]

تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
[ سورة المطففين]

إذا شخص خرج من عند رئيس الجمهورية وقد جعله رئيس وزارة كيف يخرج؟ وكيف يكون وجهه؟

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
[ سورة عبس]

إذا شخص خرج من المحكمة وحكموا عليه خمس عشرة سنة كيف يكون وجهه؟

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)
[ سورة القيامة]

الله يجعلنا من الأبرار الذين:

تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
[ سورة المطففين]

خمر الجنة اسمه: خمر، لكنه لا يشبه خمر الدنيا يُذهب عقلك، وتصبح مهزلة ومسخرة، وتبصق، وتبول في ثيابك، ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء، خمر وخمر أما الحقيقة فلا تعلم نفسٌ.
نسأل الله أن يجعلنا من الأبرار، ويوفقنا لعمل الأبرار، ويدخلنا في مدرسة الأبرار، ويرزقنا مُعلّماً، ومن يصنع الأبرار بكتاب الله وبسنّة رسوله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
والحمد لله رب العالمين