تفسير سورة المطففين 01

  • 1995-07-14

تفسير سورة المطففين 01

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين، وأفضل التحيات المُباركات العطرات على سيدنا المبعوث رحمة للعالمين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم وعلى أخويه سيدنا موسى وعيسى وجميع إخوانه من النبيين والمرسلين وبعد .


المحافظة على حقوق الآخرين:
نحن الآن في سورة المُطفِّفين وتفسيرها، سورة المكيالين الذي يكيل بمكيالين، إذا كان الكيل له، لمصلحته، يكيل بالمكيال الخاص به، وإذا كان الكيل للآخرين يكيل بالمكيال الثاني، فالأول ليصل به إلى كل ما يريد من مقاصده حقاً أو باطلاً، والمكيال الثاني للآخرين فيبخس حقهم، أو ليُضيّع حقهم، ولكن المُطفِّفين فإن المكيالين لأجل تضييع الحقوق الصغيرة والبسيطة، أصل بخس الميزان التطفيف من طمع النفوس الدنيئة، تطمع في شيء حقير، فتتلاعب بالموازين، لتأخذ من الغير شيئاً حقيراً، أو لتمنع عن الغير حق شيء حقير لهم، أما إذا كان يريد أن يأخذ من الآخرين الشيء العظيم فيبخسه حقه، ويمنع عن الآخرين حقوقهم الكبيرة، فهذا فوق كلمة المُطفِّفين، هؤلاء يُسمون الطاغين، الطغيان، أما إذا كانت نفوسهم صغيرة ليأخذوا شيئاً تافهاً لأنفسهم، أو ليأخذوا من حقوق الآخرين شيئاً تافهاً، فهذا اسمه: التطفِّيف، وأنزل الله سورةً في القرآن ليُعلِّم المسلم كيف يُحافظ على حقوق الآخرين مهما كان الحق تافهاً وبسيطاً وجزئياً، يُعطي للناس حقوقهم ولو كانت حقيرة، فكيف إذا كانت عظيمة؟ ولا يبخسهم حقهم مهما كان حقيراً ومهما كان تافهاً فكيف عناية الله بهم؟ أداء الحقوق الكبيرة للناس بعضهم مع بعض، أو العدوان على الناس في حقوقهم الكثيرة بعضهم مع بعض، فالتطفِّيف في الأمور الصغيرة سواء لتأخذ من غيرك ما لا حق فيه مهما كان حقيراً، أو لتأخذ لنفسك، أو لتمنع غيرك من حقه مهما كان بسيطاً، إذاً القرآن يُركز على الأمور الصغيرة هذا التركيز في العدالة، وإعطاء كل ذي حق حقه، وأن تكتفي بحقك فلا تعتدي على الآخرين مهما كان الشيء بسيطاً فكيف عناية الإسلام بأن تطغى على الناس وتأخذ منهم الشيء الكثير أو تمنعهم حقوقهم من الأشياء الكثيرة؟
يا ترى هذه السورة هل قرأها أحد منكم؟ كلكم قرأتموها لكن يا ترى هل قصدتم أن تفهموا هدفها لتكونوا مؤمنين بالقرآن؟ لأنَّ الإيمان بالقرآن لا أن تقرأه، ولا أن تقول: آمنت به، تقرأ القرآن لتفهمه فِكراً وعقلاً ثم تقرؤه في أعمالك سلوكاً ومشهوداً، ويشهده كل الناس يقرؤون فيك سورة المُطفِّفين.
بعضهم استعار دابةً من إنسان ليُحمل عليها شعيراً، فلما أراد أن يحمل وإذا بالشعير قد نُقل قبل أن يأتي ولم يجد إلا كيساً من قمح، فقيل له: الشعير ذهب، نُقل، بقي كيس قمح، قال: لا، لا أنقله على هذه الدابة! قال: لِمَ؟ قال: لأنَّ الدابة مستعارة، والاستعارة أمانة، وأنا استعرتها لأحمل عليها كيساً من الشعير، والشعير أخف وزناً من القمح، ولم أستأذن صاحب الدابة أن أُحمّلها القمح، فيكون هذا خيانة ويكون حراماً عليَّ في الإسلام فأكون مُطفِّفاً.
فالقرآن يقول: ويل، الشقاء والغضب الإلهي للمُطفِّفين، من يعتدي على حقوق الآخرين مهما كان اعتداؤه تافهاً أو يمنعهم من حقوقهم مهما كانت تافهةً.

سبب نزول سورة المطففين:
سبب نزول السورة على النبي أنه لمّا هاجر إلى المدينة المنورة كان أهل المدينة أسوأ الناس تلاعباً في الكيل والميزان، إذا كالوا لغيرهم ليُعطوه يُنقصوا حقه، وإذا أرادوا أن يكتالوا لأنفسهم يكيلوا بالمكيال الذي يأخذون به أكثر مما يستحقونه، هذا كان خُلق العرب من سكان المدينة، بل أكثر الناس هكذا يُطالب لنفسه بأكثر من حقها، وإذا الغير طالبه بحقه يحاول ألا يُعطيه كل حقه، فهذا إذا كان في الأمور البسيطة اسمه: تطفيف، وصاحبه مُطفِّف، وإذا كان في الأمور الكبيرة العظيمة فهذا اسمه: طُغيان، وصاحبه من الطغاة، فحسب القرآن المسلم هل يسمح بالطُغيان أن تعتدي على الناس اعتداءً كبيراً؟ أو يسمح بالتطفِّيف أن تعتدي عليهم اعتداءً بسيطاً؟ لا في الكيل والميزان، في الكيل والميزان، والبيع والشراء، والحقوق والاحترام، هذا خُلُق من أخلاق الإنسان الذي يدخل مدرسة الإسلام ليأخذ لقب مسلم، الذي يدخل في مدرسة الطب ليأخذ لقب طبيب حتى يستكمل كل الدراسات وكل الفحوص فينجح فيُعطى لقب طبيب.
يا ترى نحن المسلمين كل واحد منا هل تثقف بسورة المُطفِّفين؟ الله يقول: هذه الوردة أو أقل منها لا يجوز أن تأخذها من الآخرين بغير حق، في البيع، في الشراء، في الكلام، لو أن شاباً قال لك: يا كلب مثلاً، لا يجوز أن تقول له: يا كلبين! إذا قال لك: يا جحش مثلاً، لا يجوز أن تقول له: يا حمار!

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
[ سورة الشورى]

الذي يتنازل عن حقه حُسن خُلق فأجره على الله.
من دينك، من جاورك، من شاركك، يُقال إن شريكين كانا يعملان في بقالية أو ما يشبه ذلك فأتى شريكه الآخر يطلب فكَّ الشراكة، فقال له شريكه: لِمَ؟ قال له: هكذا أُريد، ما هو السبب؟ ولكثرة الإلحاح قال له: سأذكر لك السبب وهو ما يلي، قال: إلى قبل هذا اليوم وكانوا يعملون في بيع الحبوب كالقمح والشعير فقال له: كل مدة شراكتنا في هذه السنين كنت أرى أنَّ النمل إذا رأى حباً خارج مخزننا يضعه في مخزننا، ومن عدة أيام أرى النمل يُخرج الحبوب من مخزننا إلى الخارج! فقال لشريكه فقلت: لولا أنه واقعٌ بيننا شيء من قلة الأمانة ومن الخيانة لما أخرج النمل حبوبه من مخزننا، فقال له شريكه: صَدقت والله، أنا وقع مني شيٌ من الخيانة، والخيانة المُطفَّفة أي الشيء البسيط الصغير، قال له: وكيف؟ قال له: أتانا إلى المحل سلةٌ من البيض فقسمتها بيني وبينك نصفين، فأنا انتقيت البيض الكبير لنفسي، مثلاً كانوا أربعين، عشرون بيضة لي وعشرون لي، وتركت لك البيض الصغير هذا اسمه طُغيان أن تطفِّيف؟ ما اسمه؟ تطفيف، قال له: والله عرف النمل أني خائنٌ لك فأخرج حبوبه من مخزننا، فمادام الأمر قد عرفته والآن تُذكّرني به فأنا تائبٌ إلى الله لا أُطفِّف لأنَّ النمل عرف ذلك فكيف الله لمَّا يعرف ذلك كيف يُعاملني وهو يقول ويلٌ، التعاسة والشقاء والخسران والخيانة لِمَن؟ للمُطفِّفين، فأنتم لمّا قرأتموها مئة مرة، مئتي مرة، فكرتم في هذه المعاني؟ تطلب من زوجتك أكثر من حقك وتُعطيها دون حقها، هذا ما اسمه؟ إذا كانت الأشياء بسيطة، أما إذا كنت تتعدى عليها اعتداء كبيراً ولا تُعطيها من حقها إلا الشيء اليسير، تمنع عنها أعظم حقوقها هذا ما اسمه؟ طغيان، وإذا اعتديت اعتداء بسيطاً، من كرامتها، من العدوان عليها، من كذا، هذا ما اسمه؟ بين الوالدين والولد، بين الإخوة بعضهم مع بعض، مع الجيران بعضهم مع بعض، فالقرآن ماذا يقول عن الذي ينتقص حقوق الآخرين في الأمور التافهة الصغيرة الحقيرة؟
يقول: ويلٌ، الشقاء والتعاسة وغضب الله على من يعتدي الاعتداء الصغير القليل البسيط في بيعه، في شرائه، شتمك، قال لك: يا كذا، فإذا قابلته بالمثل فهذا عدل، إذا زِدتَ عليه فهذا ظُلم، إذا سامحته فهذا إسلامٌ وإيمانٌ وإحسان، بالمثل لك ولا عليك، أما إذا سامحت فصار لك الفضل عليه إلى آخره.
يجب أن تقرؤوها أنه على أساس أنكم فقط تريدون أن تقرؤوا ألفاظها أم على أساس تطبقونها على أعمالكم وأخلاقكم وسلوككم؟ في غضبك، في رضاك، في مطامعك، في فوات ما تطمع، تطمع في الحرام؟ لا يجوز، فإذا كانت التربية الإلهية من خلال ما يسمى الإسلام، تُربي الإنسان هذه التربية وهذه المُعاملة ليست خاصةً للمسلم مع المسلم، لا، بل هذه تعمّ مُعاملة المسلم مع أي إنسانٍ كان، سواءٌ كان مُسلماً لا تطفِّيف ولا طُغيان، سواءٌ كان مسيحياً لا تطفِّيف ولا طُغيان، يهودياً، مجوسياً، أجنبياً، النبي يقول:

{ أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنَك ، ولا تَخُنْ من خانَك }

[أخرجه أبو داود والترمذي]

تقول: يا أخي خانني، فعل معي، أنا أريد أن أُكافئه، فالنبي يقول: لا تتصف بالخيانة ولو قِصاصاً مع من خانك.
هذا الخُلق يا ترى الحكومات في كل العالم هل تستطيع أن تُطبِّقه وتجعله خُلق شعبها أم الإسلام استطاع بقوة الإيمان أن يجعل من المجتمع من كل فردٍ من أفراده أن يحمل هذا الخُلق؟
يروى أن عمر بن الخطاب كان في الليل يعمل كحارسٍ ليليٍ، يطوف بين الأزقة وبيوت المدينة، فسمع امرأةً تقول لابنتها: اخلطي في الحليب ماءً حتى يزيد وزنه فنأخذ له ثمناً أكثر، فقالت البنت وقد قرأت سورة المُطفِّفين قراءة العِلم وقراءة العمل، فالقرآن إذا أردت أن تقرأه قراءة للعمل فاقرأه، أما إذا كنت تقرؤه لا لتفهمه ولا لتعمل به الأحسن ألا تقرأه، لأنه سيصير عذابك مُضاعفاً، النبي يقول:

{ أشدُّ النَّاسِ عذابًا يومَ القيامةِ عالمٌ لم ينفعْهُ اللَّهُ بعلمِهِ }

[المحدث الحنبلي إسناده ضعيف]

فإذا علمت سورة المُطفِّفين وبقيت مُطفِّفاً فيكون عذابك مُضاعفاً، إذا رفضت أن تدخل في مدرسة القرآن، أي أنت رفضت أن تتثقف بالإسلام فلا تكون مسلماً، فيا ترى تكون رابحاً أيضاً؟ فالربح أن تقرأ القرآن لتفهمه بعقلك، وتؤمن به في قلبك، ثم تعكسه في أعمالك وأخلاقك، بذلك تكون مؤمناً بالقرآن، وهذه عنوان السورة.

الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس:
أما ما هو تفصيل ما تحت العنوان؟ فلمّا البنت قالت أمها: ضعي الماء هل يراكِ عمر؟ قالت لها البنت: إذا لم يرنا عمر ألا يرانا ربّ عمر؟! وعمر يستمع إلى حوارهما فوضع على البيت علامةً فلما أصبح جمع أولاده فقال: من منكم من لا زوجة له؟ أحدهم قال: أنا، فخطب تلك البنت لابنه الأعزب، فكان من نسلها من نسل هذه البنت عمر بن عبد العزيز الذي هو في الإسلام عُمَر الثاني في عدله، وفي رعايته لأمته وشعبه على الشكل فوق المثالي رضي الله عنهما، فهذه كلمة من كلمات القرآن أعطت الإنسان المسلم هذا المعنى، فلمّا أخذوا القرآن كله، بكل آياته وسوره ماذا قطفوا من ثمار القرآن؟ كانوا أمةً بل لم يكونوا أمة، كانوا قبائل في الصحراء مُترامية، مبعثرة، ضائعة، يعيشون مع جمالهم ومع أغنامهم وأبقارهم، يتقاتلون ويتناحرون، جُهلاء، أُميون، يقتلون أولادهم لتقليل أفراد الأسرة، ويدفنون البنات في الحياة خشية العار، بكتابٍ واحدٍ القرآن، ومعلمٍ واحد النبي عليه الصلاة والسلام صاروا الأمة العالمية، وبنوا الدولة العالمية الإنسانية التي من قوانينها حفظ حقوق الإنسان ولو كان أجنبياً عن بلدك، ولو كان على غير دينك، ولو كان لونه غير لونك، فيا ترى المسلم هل تثقف وتعلّم سورة المُطفِّفين؟ وهذا خلق من مئات الأخلاق التي بنى الإسلام بها شخصية الإنسان المسلم ذكراً أو أنثى، صغيراً أو كبيراً.
علموا أولادكم القرآن، فكان الطفل منذ نعومة أظفاره يقرأ القرآن عِلماً لمعانيه، وفهماً لأوامره ونواهيه، فينعكس في صفحات حياته القرآن العملي، القرآن الذي يُقرأ للناس بأعينهم في الأعمال والأخلاق والسلوك، وبذلك أعطاهم الله عز وجل شهادةً في القرآن وهي قول الله تعالى:

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
[سورة آل عمران]

خير أمة: شهادة السماء، شهادة الله، شهادة خالق الكون والمجرات بلا حدود، وبلا أبعاد، ولمّا المسلمون هجروا القرآن، هجروا علومه، وهجروا العمل به، ومنهم من تسمم من طريق أعداء المسلمين فشوهوا له الإسلام، حتى صار يُعادي الإسلام، أنا في طريقي إلى المسجد ضيفنا الكبير السيد كريم الذي قام الآن يمكن يريد أن يُلقي محاضرة في بعض مساجد دمشق، سألته عن سبب إسلامه - القصة طويلة - فمن جملة ما قال: في العالم الغربي ينسبون إلى المسلم بأن المسلم هو الذي دينه يأمره أن يقتل كل إنسان نصراني! قال لي: هكذا نحن نشأنا، وهكذا كنا نعتقد، لأن المسلمين هم أعداء النصارى، وإذا استطاع المسلم أن يقتل النصارى فقتله للنصراني أمرٌ واجب، وقال: كنا نَنشئ على الحقد على الإسلام، وعلى المسلمين.
لأول مرة أنا أسمع ومن رجل ليس رجلاً عادياً، أكبر مستشار لرئيس جمهورية أمريكا نيكسون وكان المدير الثاني للمخابرات المركزية في البيت الأبيض، أي إلى جانب نيكسون وإلى أعمال قام بتأسيس مركز الدراسات الدورية الحربية، وعمل في المركز الاستشاري لنيكسون لصيانة السياسة في العالم، ومدير القسم القانوني للمجلس الإسلامي الأمريكي، وبعد ذلك عرف الإسلام بطريقةٍ ما أيضاً ذكرها وقد درس الأديان فرأى بأن الدين عند الله الإسلام.
لو أن حكومات العالم العربي والإسلامي قامت بتجهيز قوة لا قوة الطائرات، ولا الدبابات، ولا الجيوش، هذا أمر مفروغ منه، قامت بتجهيز جيش للتعريف بالإسلام الحقيقي، وهُيئ له الدُعاة والمُعرفين به في أعمالهم، في حكمتهم، في محو وإزالة هذه السموم التي وضعت في إنسان العالم الغربي، والتعريف في الإسلام بجوهره وحقيقته، فهذا من أكبر الشخصيات في الولايات المتحدة الأمريكية، بمجرد ما عرف حقيقة الإسلام ما وجد في نفسه قوة تمنعه أو تقف أمامه ليعتنق الإسلام، ويدعو إلى الإسلام، وله مكتبةٌ كبيرة كلها كتبٌ من مؤلفاته.
هذا الإسلام المجهول من المسلمين، من حكومات المسلمين، من أغنياء المسلمين، من مشايخ المسلمين، من المسلم العادي، المسلم العادي إذا ذهب وعامل الناس المُعاملة بالأمانة، وبالاستقامة، ليُعرِّف غير المسلم بحقيقة الإسلام من خلال مُعاملته وسلوكه، هذا أكبر داع إلى الإسلام، والتعريف به، فكم علينا من واجبات لا ندري وجوبها ولا فرضيتها! وقبل كل شيء إذا قرأت القرآن أن تفهمه، لماذا تفهمه؟ تفهمه لتعمل به، لماذا؟ لتسعد بالعمل به، فقط؟ لا، لتقوم بتعليمه بكلامك، بأعمالك، بأخلاقك، بسلوكك، فلمّا قرأ المسلمون الأُول الإسلام قراءةً على هذا المستوى بأقل من مئة سنة استطاعوا أن يوحدوا نصف العالم القديم من بكين عاصمة الصين إلى فرنسا حدود فرنسا، ومشياً على الأقدام، وعلى أسنَّة الرماح، وعلى حدود السيوف، وفي الصحارى، فكيف الآن الوسائل مُيسرة من المواصلات في السفر، في الإعلام، في الكتابة، فالمسلمون إذا لقوا شيئاً من العنت في هذا العصر، أو من الظلم، أو من الاضطهاد، فهذا كرباج، والسوط الإلهي يجلدهم به، ليستيقظوا من نومهم، ويقوموا بأداء واجباتهم في تعريف الناس والإنسان بشريعة الله العادلة المُحقِّقة للسعادة، والتي لا سعادة للإنسان إلا بالقانون الإلهي.

الابتعاد عن التطفيف والطغيان وإعطاء الناس حقهم كاملاً:
بسم الله الرحمن الرحيم فالمُطفِّفين ماذا أعطاهم الله وساماً؟ قال: إذا كان علبة الكبريت أنقصت منها عوداً واحداً وبعتها ما اسمك؟ مُطفِّف، أما إذا سرقت العلبة كلها ماذا يكون اسمك؟ اسمك مجرم كبير وملعون عظيم.
دابتك إذا حملتها كيلو زائداً عن طاقتها ما اسمك؟ اسمك مُطفِّف مع الدابة، إذا بَخستها من علفها شيئاً بسيطاً ما اسمك؟
في القرآن ماذا يكون حكم المحكمة القرآنية عليك؟ ويلٌ للمطففين، أما كمسلم تريد أن ينقلك الإسلام من التطّفيف إلى ماذا؟ ومن الطُغيان إلى:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰوَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90)
[ سورة النحل]

أن تُعطي الناس حقهم كاملاً غير منقوص فقط؟ لا، وأن تعطيهم زائداً على حقهم وهو ما يسمى بالإحسان (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) .
فلو صار المجتمع مجتمعاً مسلماً فهل ترى زوجاً يعتدي على زوجته؟ أو الزوجة تنشز على زوجها؟ أو هل ترى ولداً عاقاً لوالديه؟ أو جاراً يعتدي على جاره؟ أو غشاشاً يغش في بيعه وشرائه؟ أو دلالاً يكذب في تعامله مع الناس؟ أو حاكماً أي التطفِّيف للشعب دون الحاكم.
دخل أعرابيٌ على عبد الملك بن مروان وطلب شيئاً من الحقوق، فلعله رأى تلكؤاً أو تأخراً فقال له: يا أمير المؤمنين أقرأت سورة المُطفِّفين؟

الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
[ سورة المطففين]

إذا أرادوا حقهم يستوفون، يأخذه بالكيل الأوفر، وإذا كالوهم، إذا أراد أن يكيل لهم أو يُوزن لهم يُخسر، يُنقص خمسة دراهم، أما أنت يا أمير المؤمنين خمسة دراهم أنت تأخذ قناطير بغير حق، وتمنع الناس حقوقهم بالقناطير وليس بالدراهم وبالأمور الصغيرة، قال: فبكى عبد الملك بن مروان وقال له: جزاك الله خير من ناصح وأعطاه حقه كاملاً.
يا ترى في القرن العشرين مع الثقافات والجامعات والألقاب العلمية تحتاج إلى سورة المُطِّففين؟ يا ترى هل قرأها المسلمون حق قراءتها؟ الله قال:

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(121)
[ سورة البقرة ]

الذين أعطيناهم علم القرآن يتلونه حق تلاوته، ما هو حقّ التلاوة؟ أن تفهمه وتطبقه وتنفذه على الشكل الكامل الأوفر، أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، أما إذا قرأته لا لتفهمه، وقرأته لا لتعمل به، أو تقرأه لا للعمل به، فوصفك الله ووصف قراءتك بهذا الشكل في قوله تعالى:

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(5)
[ سورة الجمعة]

أي قرؤوها وحفظوها غيباً، حفظوا التوراة عن ظهر قلب ثم لم يحملوها أي عملاً وتطبيقاً كمثل الحمار يحمل أسفاراً، الأسفار هي الكتب، فالحمار إذا حملناه مكتبة من المكتبات صار شيخاً؟ صار عالماً؟ فهم ماذا يحمل على ظهره؟ يا ترى المسلمون عندما يقرؤون القرآن كمثل الحمار أم كمثل المؤمن؟ كان عندما يقرأ القرآن حالاً يُترجمه إلى عملٍ وأخلاقٍ وسلوك، وبذلك الله قال:

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(121)
[ سورة البقرة]

كتاب الله وهو القرآن.
قراءات القرآن كم قراءة تعرفونها؟ القراءات ست عشرة قراءة، الخامسة عشرة قراءة الحمير، الذي يقرأ القرآن ولا يفهم من القرآن، ولا يحاول أن يفهم من القرآن شيئاً، أو قد يحفظ القرآن كله من الفاتحة إلى سورة الناس، ولا يقصد لا أن يفهم، وعملياً لم يفهم، فهذا القرآن ماذا أسماه؟ قراءة ورش أم حفص أم قراءة الحمار؟ إذاّ صار بالقرآن حمار القرآن، جعله حماراً لماذا؟ لأنه سلك غير طريق القراءة التي أرادها الله عز وجل، القراءة السادسة عشرة:

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(121)
[ سورة البقرة]

إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ۩(15)
[ سورة السجدة]

لو ذُكِّر بالقرآن قال له: الله يقول:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰوَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90)
[ سورة النحل]

خروا سُجداً، لا تضع جبينك فقط على الأرض، يجب أن تخضع لأمر الله خضوعاً كما يخضع السادة للملوك، بكل تنفيذٍ للعمل، وبكل إجلالٍ للآمر، وبكل تواضعٍ لمن أمرك بالسجود:

إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ۩(15)
[ سورة السجدة]

يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا أي يؤمن بالقرآن، الذين إذا ذُكَّروا بها قراءةً، إذا قرؤوها، أو سماعاً، إذا سمعوها، خَرُّوا سُجداً، خشوعاً لأمر الله، وامتثالاً، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، أنه يا ربي أمرك ليس فيه خلل، ولا فيه نقصان، كله كمال، كله عدل، كله فضائل.
وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، الحمد لله يا رب، سبحانك وبحمدك، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، الذي لا يمتثل أوامر الله فهو مُتكبرٌ على الله، مُتكبرٌ على أوامر الله، فيا ترى المسلمون الآن خَرُّوا له سُجَّداً أم هم يستكبرون؟ ولذلك المُستكبر على الله هل يُعز؟ هل يُمجد؟ هل ينال الشرف؟ ولمّا خَرُّوا لآيات ربهم سُجَّداً وبُشراً وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، هل نالوا المجد والشرف والعزَّ والسعادة في الدنيا قبل الدار الآخرة؟ في هيئة الأمن في مجلس الأمن يا ترى هل الذين في مجلس الأمن مُطفِّفون أم خَرُّوا لله سُجَّداً وهم يستكبرون؟ دواؤنا ليس بمجلس الأمن، دواؤنا ليس بهيئة الأمم، دواؤنا في كتاب الله، دواؤنا في السلاح القرآني، أن نقرأه لنعلَمه، لنعمل به ثم نُعلِّمه للآخرين بالتعليم القولي، والعملي، والأخلاقي، والسلوكي.
فما رأيكم ستطبقون سورة ويل للمُطفِّفين أم تقطِّعونها برقبتي ساعة من الزمن على حساب قلبي وصحتي ثم ستتركون في الجامع الذي سمعناه وخارج الجامع؟ نُطفِّف فقط أي نضيع حقوق الآخرين الصغيرة والكبيرة التي هي الطغاة والطغيان؟ الله يجعلنا من الذين يتلونه حقّ تلاوته، نعود إلى تفسير السورة.

ضرورة فهم القرآن ومحاسبة النفس دائماً:
بسم الله الرحمن الرحيم؛ ويلٌ، إذا قلنا الويل عليك فالقرآن يُولوِّل على مَن؟ على المُطفِّفين، في دنياك تريد كل حقك على عشرين ضعفاً، وفي دينك مُطفِّف، أي تُنقِص من دينك الشيء البسيط الطفِّيف أم دينك تُذهِب منه كُله أو معظمه ودنياك تريد حقك وفوق حقك على عشرين مرة فأنت مُطفِّف أم طاغ؟ فأنت قرأت سورة المطففين وآمنت بها؟ ظاهرة في أعمالك وسلوكك؟ في قولك؟ في نظرك؟ في سمعك؟ في رفاقك؟ إذا رفيق فيه خصلة سوء ونصحته ولم يرجع فلا يجوز أن تمشي معه، وإذا كان فيه أخلاق سيئة أكبر وأكبر فأنت في صحبتك له من الطُغاة وهكذا إذا فقهنا:

{ فقيهٌ واحدٌ أشدُّ على الشَّيطانِ من ألفِ عابدٍ }

[ أخرجه الترمذي وابن ماجه]

فعالم بلا فقه لا خير فيه، ولو بلغ الألف، لو مئة ألف بلا فقه قرآن بلا فقه، عبادة بلا فقه لا خير فيها.

وَيْلٌ لِلْمُطفِّفينَ (1)
[ سورة المطففين]

إذا شرطي قال لك: ويلٌ، إذا مشيت على يسارك، تمشي على يسارك؟ ستدفع مخالفة خمسمئة ليرة أو أكثر أو أقل، الطبيب إذا قال لك: إذا كنت مريضاً أكلت الطعام الفلاني ويلٌ مرضك لا تُشفى منه، تخالف كلمة ويل الطبيب؟ فإذا كان الله يقول لك:

وَيْلٌ لِلْمُطفِّفينَ (1)
[ سورة المطففين]

وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1)
[ سورة الهمزة]

فهل نقرأ القرآن لنفهمه؟ لنعمل به؟ لنُعلِّمه للآخرين؟ بذلك يكون الرجل مُسلماً والمرأة مُسلمة، فالهلاك والتعاسة والشقاء في الدنيا قبل الآخرة، لمّا المسلمون صاروا مُطفِّفين في دنياهم يُعطون كل قواهم لدنياهم، لأجسادهم، لحظوظهم، لأنانيتهم، لدينهم مُطفِّفين، يُنقصون من دينهم الشيء القليل أم طُغاة يُضيعون الدين كُله أو مُعظمه؟ إذا كان الشيء بسيطاً هذا مُطفِّف، فأنتم مُطفِّفون في الدين أم طُغاة أم أضعتم الدين كله؟ حاسب نفسك، الله قال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
[ سورة الأحزاب]

إذا ذكّرته ذكراً كثيراً فإذا كان الذكر الكثير ألف مرة، إذا أنقصت عشرة من الألف ماذا أصبح؟ تطفِّيف، وإذا من الألف لم تذكر إلا عشرة ما اسمك؟ طاغ، أما إذا لم تذكُر أبداً فأنت لست مؤمناً بالقرآن.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)
[ سورة الحجرات ]

إذا اغتبت بكل مئة واحدة خمس مرات، وفي الباقي كنت مستقيماً ما اسمك؟ مُطفِّف، وإذا كنت بالمئة اغتبت خمسة وتسعين إلا خمسة ما اسمك؟ طاغ على أمر الله، على شرع الله، على دين الله.
ويلٌ الشقاء والتعاسة والخِزي والخسارة لِمَن؟ يا ترى هل فتشت نفسك بأنَّ فيك جرثوم التطفِّيف لتُعقمه وتنجو من الويل أو قرأت ولم تبال؟ هكذا يُقرأ القرآن.
شيخنا رضي الله عنه لمّا اجتمع بشيخه الشيخ عيسى المُربِّي، المُؤدِّب، المُزكّي، وكان شيخنا لمّا التقى بشيخه كان شيخنا من كبار العلماء وكان حافظاً لكتاب الله، فلمّا دخل في مدرسة التزكية وبعد أربعين يوماً شهد له شيخه بأنه صار مؤمناً الإيمان القرآني، قال: رجعت إلى نفسي ففتشتها فوجدتني قبل لقائي بشيخي، ودخولي مدرسته أني كنت أقرأ القرآن بلا علمٍ، وبلا فهم، فما فهمت القرآن عِلماً وعَملاً إلا بعد أن دخلت في مدرسة المُربي الحكيم المُزكّي، فدراسة العلوم وأخذ ورقة الشهادات لا تجعل من الإنسان العالم الذي يستغفر له ملائكة السماء والطير في الهواء والسمك في الماء فهذا اسمه قارئ وليس اسمه بالعالم.

وَيْلٌ لِلْمُطفِّفينَ (1)
[ سورة المطففين]

ومن يقول لك ويلٌ؟ الله، فإذا شخص الله قال له: ويلٌ لك، هل ينجح؟ هل يسعد؟ هل يربح؟ وإذا سار على كلام الله هل يخسر؟ هل يضيع؟ هل يشقى؟

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
[ سورة المؤمنون]

يخشع لأمر الله، يخضع لدين الله، يخضع لأوامر الله، والإسلام معناه الاستجابة لأوامر الله، فإذا قرأت أوامره في القرآن ووصاياه فاستجبت لها، وعملت بها، فتستحق لقب مسلم، وإذا قرأته ولم تفهمه ولم تقصد تطبيقه فماذا اسمك في القرآن؟ اسمك الحمار:

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(5)
[سورة الجمعة]

يا ترى الحمار إذا سميناه وزيراً أو أستاذ الجامعة أو دكتوراً، الدكتور الحمار يا ترى كلمة دكتور تُشرِّف الحمار؟ أسأت لكلمة دكتوراه، حمار وحامل دكتوراه! يقولون: الدكتور الحمار أتى، الدكتور الحمار، مادامت مُلصقة كلمة الحمار بكلمة دكتور أساءت للدكتوراه، لذلك يا بني لا تسيئوا الإسلام، كن مُسلماً أي مُستجيباً لأوامر الله والله تربح الدنيا والآخرة، كما ربح الأميون، الصحابة كانوا لا يقرؤون، ولا يكتبون، ولا مدارس، ولا شهادات، وحروبهم كلها كانت انتصارات، ما دخلوا الكليات العسكرية، في السياسة كانوا أنجح أمم التاريخ ما درسوا السياسة، ولكن درسوا كتاباً واحداً القرآن، ففيه السياسة، وفيه العلم، وفيه الحكمة، وفيه النصر، وفيه السعادة، الله يقول:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[ سورة النحل]

أحسنوا إسلامهم، استجابتهم، قراءة قرآنهم، في هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، الحياة الحسنة، العزة الحسنة، وإنه لا يَذِلُّ مَن والَيتَ، إذا واليت الله، وصاحبت الله، وصدقت مع الله في إيمانك، لا تَذل، ولن تَذل، ولا يعز من عاديت، وتُعادي الله، تنتصر على الله تصبح لك عزة النصر على الله؟ الذي يحُارب الله هل يُعز؟ الله يرزقنا الفقه في القرآن، الفقه في الإيمان:

وَيْلٌ لِلْمُطفِّفينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
[ سورة المطففين]

إذا أراد أن يكيل لنفسه أو يزين لنفسه يطلب أكثر من حقه، ويأخذ أكثر من حقه حراماً، وسُماً زُعافاً لدينه وأخلاقه وإنسانيته.

حمل الأمانة وجب تأديتها حق الأداء:

وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
[ سورة المطففين]

أي إذا كالوا للآخرين، أو وزنوهم في البيع، في الشراء، في الكلام، في الحقوق الصغيرة، الكبيرة، أو وزنوهم، إذا نقّص من حقوقه وكرامته شيئاً بسيطاً فهو مُطفِّف، وإذا نزل فيه تكسير العظم ما اسمه؟ اسمه طُغيان، فالطغيان أعظم أم التطفِّيف أعظم؟ المُطفِّفون أعظم عقوبة عند الله أم الطغاة أعظم؟ فأنتم تريدون الطغاة أم المُطفِّفين؟ فانتبهوا إلى أنفسكم أنا أديت الأمانة جعلكم الله ممن حملّتكم إياها:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
[سورة الأحزاب]

القرآن أمانة حملناه، إنه كان ظلوماً بحمله، لماذا ظلوماً بحمله؟ لأن حمل الأمانة يوجب أن تُؤديها حقّ أدائها، فحمل الأمانة ولم يؤدها، فبعدم أدائه حقوق الله وحقوق الناس ماذا كان عادلاً أم ظلوماً؟ إذا شخص يريد أن يتعدى على حقوق الله هذا يدل على عِلمه أم على جهله؟ إنه كان ظلوماً، لو كان دكتوراه، لو كان رئيس جامعة، لو كان وزيراً، لو كان أميراً، لو كان كائناً من كان، جعلنا الله ممن يؤدي الأمانات إلى أهلها.
وَإِذَا كَالُوهُمْ، ما معنى كَالُوهُمْ؟ كالوا لهم فقط في المكيال والميزان أم في كل المُعاملات؟ في الأخلاق، في الكلام، لمَّا تذكر إنساناً العدل تذكره بما فيه، أما نقائص الناس فمُحرَّم عليك أن تذكر نقائص الناس إلا تحذيراً، إذا شخص أراد أن يوقع مع آخر شيئاً واستشارك المُستشار مُؤتمن أن تذكر النقائص لا لأجل أن تنتقصه، بل من أجل أن تُحذر من يُعامله لا يقع في كيده أو ظلامته:

وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
[ سورة المطففين]

الله قال: أَلَا يَظُنُّ، الظنّ هنا المقصود منه اليقين، والعِلم الحقيقي، أي ألا يتيقن ويعلم عِلماً حقيقياً، هذا المُطفِّف، أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، بعد الموت ستُبعث، وتُعاد إليك الحياة، وكنت في جسدك مقبوراً فيه، قبر مُتحرك، نحن الآن التي نسميها الحياة القبر المُتحرك المسجون في الزنزانة على قدر روحه، الزنزانة إذا كان عرضها متراً ومن كل الجوانب كانت متراً هذا قبر واسع، أما إذا كنت مسجوناً في قبر جسدك هذا الإنسان مسجون في سجن أنانيته لا يعرف إلا مصلحته، إلا حقه، أما حق الآخرين، له حقٌّ وليس عليه حق، وحق الغير بهتانٌ وزور، يعرف ما له، أما الذي عليه فيُنكره هذا مُطفِّف أم طاغ؟ أما إذا عرف حقه ونقص من حقوق الآخرين الشيء البسيط هذا ما اسمه؟ وإذا نكَر الحق كله؟ فأنتم ماذا تُحبون المُطفِّفين أم الطاغين أم العادلين أم المُحسنين؟ يوجد أربع مراتب.

مقابلة الحسنة بالسيئة:
يُقال عن زين العابدين بن الحسين أنه كان يمشي في الشارع فشاهده بعض حساده أو أعدائه فصار يشتمه ويؤذيه، فالعدل يجوز أن تقابل الشتيمة بمثلها، قال لك: كذا، تقول له: كذا، هذا عدل، إذا زِدت هذا ما اسمه؟ ظلم، إذا نقصت سيكون لك شيء من الحق عليه، إذا ما قابلت السيئة بالسيئة تكون مُحسناً، وابن رسول الله ماذا سيختار؟ أحسن الأشياء
بما يناسب نَسبه وشرفه، فلم يرد عليه، واستفزه بالشتائم الكبيرة فلم يرد عليه، إلى أن وصل زين العابدين إلى باب داره، ومعه تلامذته وإخوانه يريدون أن يضربوه يقول لهم: لا، لما وصل إلى داره قال لمُرافقه: ماذا معك من الدنانير؟ قال: خمسون ديناراً، قال: أعطه إياها:

وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
[ سورة الرعد]

أي يقابلون السيئة بالحسنة، لهم عُقْبَى الدَّارِ، الدار الخالدة، الدار الباقية في عاقبة مسيرة الحياة.

حاجة الجنة إلى الجهاد بالنفس:

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23)
[ سورة الرعد]

فالجنة يا بني تحتاج إلى هز أكتاف حتى تأخذ لقب مسلم بالمعنى الصحيح، مسلمة بالمعنى الصحيح، تحتاج إلى هز أكتاف، بذلوا أرواحهم، دماءهم، تركوا أوطانهم، هجروا أهلهم وأبناءهم وبناتهم، سفكوا دماءهم.
أُم حراب الصحابية ولدت في الحجاز أين دُفنت؟ دفنت في البحر الأبيض المتوسط جهاداً في سبيل الله هذه المرأة.
الفضل بن العباس ولد في مكة أين قبره؟ في الصين، لماذا ذهب إلى الصين؟ سياحة في سفرة سياحية ليتنزه؟ ليستجم؟! بل ذهب ليكون أستاذاً ليُعلّم الإنسان دين الله، وشريعته، وثقافة السماء، ليكون الإنسان إنساناً جسداً وعقلاً وفَهماً وأعمالاً وأخلاقاً وسلوكاً، هذا هو المسلم يا بني، وهذه هي المسلمة.

جميع الناس مبعوثون ليوم عظيم:

أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
[سورة المطففين]

أَلَا يَظُنُّ أي ألا يتيقن، بعدما تدفن في قبرك ستُبعث وتُعاد إليك الحياة ليومٍ عظيم، عظيمٌ سعادته للسعداء، وعظيمٌ شقاؤه وتعاسته للأشقياء والتُعساء.
أَلَا يَظُنُّ ألا يتيقن أولئك، مَن أولئك؟ المُطفِّفون، أنهم مبعوثون مدعوّون ليومٍ عظيم، ما هو عظيم؟ عظيم حسابه، عظيمٌ عِقابه وجزاؤه، عظيمٌ ثوابه ومُكافأته للمسلم الصادق وللمسلمة الصادقة.
أَلَا يَظُنُّ ألا يتيقن، لو ليس يقيناً لو ظن، لو تظن ظناً لو واحد قال لك: في هذا الماء يمكن أن يكون هناك ميكروب، ليس يقيناً، يمكن بالمئة خمسة يوجد ميكروب يسبب لك سخونة ظن، بالمئة خمسة هل ستشرب الماء؟ يا ترى إذا بالمئة ثلاثون نبتعد أكثر، بالمئة خمسون أكثر وأكثر، بالمئة مئة كلها سم؟ والله قال لو يكون عندك ظن وليس يقيناً، لو عندك ظن بأنك مبعوثٌ ليومٍ عظيم لن تكون من المُطفِّفين، فالمفروض من المسلم أن يكون الإسلام عنده ظنياً أم يقينياً؟ ليكون مؤمناً يجب أن يكون المؤمن مُصدقاً تصديقاً كاملاً .

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)
[سورة البقرة]

ما معنى يؤمنون؟ أي يصدِّقون، الطبيب عندما يقول لك: هذا لا تأكله، هذا لا تشربه، هذه ثلاثون حبة كل يوم تأخذ حبة تؤمن بكلامه؟ ما علامة الإيمان؟ أن تأخذ كل يوم حبة، فإذا تركت الحبوب كُلياً فقد كفرت بكلامه، وإذا أخذت الحبات دفعة واحدة قتلك دواؤه، فإذا ظننت ظناً بحسب قوة الظن وضعف الظن يكون الشقاء، ويكون الهناء، قال: ولو ظن.
أَلَا يَظُنُّ أولئك، مَن أولئك؟ بمشوارك قد تكون مُطفِّفاً أو طاغياً، بسهرتك سهرة مطفِّف فيها شيء من المعصية، أما إذا فيها الكثير من المعصية، صاحبك، جليسك، أمك وأبوك:

{ لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ }

[الجامع الصغير إسناده صحيح]

أَلَا يَظُنُّ، لو ظن يا أخي، أما اليقين واعبد ربك حتى يأتيك الظن أم حتى يأتيك اليقين؟
جعلنا الله من أهل اليقين، لكن إذا قلت: أرجو الله أن يبعث لي زوجة ملكة جمال وليس معك خمس ليرات سورية يا ترى بالدعاء سيصبح عندك ملكة جمال؟! الحمارة كم ثمنها؟ ثلاثة آلاف، فإذا معك خمس ليرات سوري وتريد ملكة جمال أي مهما دعوت إلى الله المسألة بالدعاء أم بالعمل؟
يُقال إن رجلاً دعا شيخاً ليقرأ على قبر أبيه حتى ثواب القرآن ينفع الميت، وأعطاه ليرة سورية، ليقرأ له سورة ياسين هكذا ظن، لمّا أعطى للقارئ ليرة سورية قرأ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: خذوه فغلوه، أي ضعوا الأغلال في عُنقه، في يديه ورجليه، ثم الجحيم أي مباشرةً إلى جهنم صلوه، ثم في سلسلةٍ – سيخ- سبعون ذراعاً فاسلكوه، مثل اللحم المشوي بالسيخ ادخلوا السيخ فيه على نار جهنم لماذا؟ إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، لا يؤمن لا بشرعه، ولا بكلامه، ولا بأوامره، ولا بمحارمه، لا يُحب أحبابه، يُصادق أعداءه، فالشاب الذي أحضر الشيخ ليقرأ على قبر أبيه قال له: يا شيخ أنت إلى أين ذاهب؟ قال له: أين؟ إلى جهنم، قال له: ما تريد؟ قال له: أريد أن أوصله إلى الجنة، فقال له: بليرة سورية تريد أن أوصل أباك إلى الجنة؟! أنت تعرف قدر القرآن؟ أيضاً نحن يا بني بالأمانة وبالغرور وبوسوسة الشيطان نُريد النصر!

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
[سورة الروم]

هذه نقرؤها ندَّعي الإيمان والحال نحن إيماننا كمثل الحمار يحمل أسفاراً، هل الله ولد صغير يُضحك عليه يا بني؟ قال له: أما إذا أعطيتني مئة ليرة سوري أو خمسمئة ليرة سورية سأقرأ لك:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
[ سورة الكهف]

أَلَا يَظُنُّ أي إذا ما عندهم يقين أقل الدرجات الظنّ، الظنّ ترجيح أحد الجانبين على الجانب الآخر، تشتري الشيء ظناً أنك تربح، أما إذا تيقنت لا يوجد من يحجبك عن الشراء، أو عن العمل، مع أن المطلوب منا الإيمان الصادق الذي يوصل إلى اليقين العملي، فيتحول الإيمان إلى عملٍ مُشاهدٍ منظور، فتصير للمتقين إماماً، فيتعلم الناس الدين والإسلام من أعمالك، وأخلاقك، وسلوكك، والنبي يقول:

{ سَمِعَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يقولُ: يَومَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ، فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذلكَ أيُّهُمْ يُعْطَى، فَغَدَوْا وكُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَى، فَقالَ: أيْنَ عَلِيٌّ؟، فقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، فأمَرَ، فَدُعِيَ له، فَبَصَقَ في عَيْنَيْهِ، فَبَرَأَ مَكَانَهُ حتَّى كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ به شيءٌ، فَقالَ: نُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ: علَى رِسْلِكَ، حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بكَ رَجُلٌ واحِدٌ خَيْرٌ لكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ }

[أخرجه البخاري]

والمرأة إذا هدى الله بها امرأة واحدة، خير لك من الدنيا وما فيها، يعطيك الله أجرة في الآخرة أغلى من الدنيا وما فيها.
بيت مئة متر تحتاج إلى ملايين لتشتريه، فإذا الله قال لك والنبي: خيرٌ من الدنيا وما فيها فهل أنت مؤمن؟ إذا آمنت بالسم هل تشربه؟ وإذا آمنت بكيس من الذهب وقُدم إليك هل ترفضه؟

تعظيم المؤدب:
الإيمان أغلى من الذهب، أغلى من الألماس عِلماً وعَملاً، والعِلم والمعرفة تحتاج المُعلِّم، ومع المُعلِّم يكون المُؤدب، ومع المُؤدب يكون الحكيم والمُزكي، وإذا عثرت على الحكيم المُزكي فهو أعز شيءٍ في الحياة من أمك وأبيك وأبنائك وزوجك حتى من حياتك لأن به تكون حياتك سعيدة في الدنيا والآخرة، وبفقده ولو أقبلت الدنيا عليك إنما أنت خادمٌ لها ولست مخدوماً.
قيل للإسكندر الذي فتح مشارق الأرض ومغاربها قيل له: ما بالك تُعظّم مُؤدبك ومُربيك أكثر من تعظيمك لأبيك؟! انظر يا بني كلمة مُؤدب أي مُرقَّي النفس، فقال: إن أبي حطّني وأنزلني من السماء إلى الأرض كنت أنا في عالم الأرواح في عالم السماوات من أنزلني إلى الأرض وبلائها وشقائها وعذابها ومشاكلها؟ من؟ أبي مع ذلك الله أمرني بأداء حقوقه وبِره وأما مؤدبي فإنه رفعني من الأرض إلى السماء، ولذلك أُعظّم مُؤدبي أكثر مما أُعظّم أمي وأبي، ولذلك:
أُقَـدِّمُ أُسْتَــاذِي عَلَى نَفْسِ وَالِدِىْ وَاِنْ نَالَنِي مِنَ وَالِدِي الْفَضْلَ وَالشَّرَفَ فَذَاكَ مُرَبِّ الرُّوْحِ وَالرُّوْحُ جَــــوْهَرُ وَهَذَا مُرَبِّ الْجِسْمِ وَالْجِسْمُ كَالصَّدَفْ
{ أبو الفتح النطنزي }

عظمة يوم القيامة تتجلى بنيل سعادة الأبد:
أَلَا يَظُنُّ أولئك المُطفِّفون أنهم مبعوثون ليومٍ عظيم ما عظمته؟ لأن عظمته وخطورته أن تنال سعادة الأبد لا موت، ولا شيخوخة، ولا هرم، ولا شقاء، أو تنال شقاءً لا سعادة ولا نعيم بعدها، فهذا يومٌ عظيم فيه تُحاسب على أعمالك صغيرها وكبيرها، سِرها الذي عملته ولم يرك أحد لكن الله ألم يرك؟ الملائكة؟

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[ سورة ق]

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
[ سورة الانفطار]

يسجلون أعمالكم بكل حفظ ودقة، كراماً لا يكتبون غير الحق، لتُعرَض على الله في ذلك اليوم العظيم ليُحاسبك الله العظيم الذي خلقك من العدم، فهل أنت آمنت بهذه الآيات؟ يقول: حفظت القرآن، شيء جيد لكن هل فهمت معانيه؟ امتثلت أوامره؟ اجتنبت محارمه ونواهيه؟ هل قمت وعلَّمت الآخرين ما حفظته وقرأته بواجباته؟ بأخلاقه؟ بسلوكياته؟ بذلك تكون مسلماً استجبت لأوامر الله، وبذلك تكونين مسلمةً لأنك استجبتِ لأوامر الله، والإسلام هو الاستجابة.
أَلَا يَظُنُّ فأنتم ظن أم إيمان أم يقين -جعلنا الله من أهل اليقين- أنتم الآن ظانون وجودي معكم أم متيقنون أم مؤمنون؟ الإيمان بالغيب تُصدق، من منكم لم ير باريس لكنه مؤمن بوجودها أم غير مؤمن؟ هذا اسمه إيمان بالغيب، لكن إيمان جازم مثل اليقين، أما الذي رآها فقد رآها عين وحقَّ اليقين، فهل آمنت بالآخرة حقَّ اليقين الإيمان الحق؟ هل آمنت بالقرآن؟

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
[ سورة الانفطار]

الإيمان الحق، هل آمنت؟

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
[ سورة الزلزلة]

يرى المكافأة عليه.

وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[ سورة الزلزلة]

العقوبة عليه.
هل آمنت؟ هذا هو الإسلام يا بني، هذا هو الإيمان، يصنع الإنسان الفاضل، والأسرة الفاضلة، والمجتمع الفاضل، والدولة الفاضلة، والدولة العالمية الإنسانية الفاضلة القائمة على العِلم، وعلى العقلانية والحكمة، وعلى بناء النفوس الطاهرة المُزكاة التي هي التزكية، تُعلّمهم الكتاب والحكمة وتُزكيهم.
ألا يظن أنتم عندكم ظن في الآخرة أم إيمان جازم؟ أم يقين؟ أم لا يوجد شيء أبداً؟ غداً نطرق باب الجنة بقدمنا وندخل، الله سيخلع رقبتك لأن كلامك استهتار، وعدم تقدير القرآن، وعدم مبالاة بأهوائك وفسوقك وضلالك، تريد أن تصير على مائدة الله! على مائدة الملوك يدخلون الذين ينظفون الآبار المالحة والنجاسات؟

وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ (164)
[سورة الصافات]

أَلَا يَظُنُّ؟ الله يسألنا، أجيبوا الله، أَلَا يَظُنُّ أولئك المُطفِّفون أنهم مبعوثون مجلوبون ويُحضرون إلى يومٍ عظيم، ما هو اليوم العظيم؟ العظيم مصيره بالنسبة إليك إما شقاء الأبد وإما سعادة الأبد وأي سعادة؟ سعادة:

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
[ سورة السجدة]

{ يقول اللَّهُ: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ }

[صحيح البخاري]

نعيم ما سمعت له مثيلاً، ولا خطر على قلب بشر، مهما تصورت أن الله بماذا سيُنعم على المتقين فعقلك يَقصُّر عن فهم ذلك النعيم، وعن تلك السعادة، فالذي يبيع آخرته بدنياه، ودينه بدنياه، ويبيع العِلم بالجهل، والقرآن والإيمان بحظوظ النفس وطاعة الشيطان، هذا بني آدم!؟
الحمار هل تعرفون الحمار؟ قال الله: كمثل الحمار، إذا أمسكته من رسنه وسيمر على جسر خشبي إذا رج تحت الحافر ماذا يفعل؟ سيتوقف، وإذا شددته يتقهقر، لماذا؟ يقول لك الجسر تحرك فأخاف أن يخسف بي، أنت لا تفهم كما يفهم الحمير، الناس يذمون الحمار مع أن الحمار ذكي، والحمار فهيم، إذا أخذته من طريق مرة أو مرتين لا ينسى الطريق.
شيخنا بمناسبة الحمار دعاه أحد إخوانه إلى بستانه فقال: أنا لا أعرف البستان، كيف سأعرف؟ قال: سأرسل لك حماري تركبه، واتركه هو يوصلك إلى البستان بكل راحة، شيخنا يقول: أنا مررت بالطريق مرة واحدة لكن نسيت الطريق فوصل الحمار إلى مفترق طريقين، شيخنا ظنَّ أن البستان من الطريق اليمين الحمار اتجه نحو المفرق اليساري قال: فأرغم الحمار على حسب رأي شيخنا في المفرق اليميني فالحمار أبى، قال له: أنت مخطئ شيخي! أنا أعرف أكثر منك لما خُلقت له، قال: فأرغمت الحمار على أن يمشي من الطريق الذي ظننت أنه يوصل إلى البستان، قال: فمشيت مئة متر، مئتي، خمسمئة، ألف متر، فعرفت أنني أنا ضللت وأخطأت الطريق، قال: فتركت المقود للحمار وبمجرد ما تركت المقود رجع بالاتجاه العكسي حتى وصل إلى مفترق الطريقين وسلك الطريق المفرق الثاني، فالحمار يفهم أم لا يفهم؟ والذي على الله لا يفهم أليس الحمار خيراً منه؟ الله لا يجعل الدواب أفهم وأعلم وأفقه منا:

أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
[سورة المطففين]

الله يقول لك: إنه يومٌ عظيم، الدكتور إذا قال لك: هذا الطعام فيه خطرٌ عظيم، الشراب فيه خطرٌ عظيم تُقدم عليه؟ إذا قالوا لك: القانون إذا خالفته سيكون هناك جزاءٌ عظيم هل ستخالف؟ لمّا الله يقول: يومٌ عظيم هل فهمت عظمته؟ مستقبلك الأبدي بالسعادة مرهونٌ بمعرفته، والاستعداد له، وشقاء الأبد موقوف على الجهل به، أو التجاهل له، والعمل على غير ما يقتضيه العمل لذلك اليوم:

أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
[سورة المطففين]


صفات يوم القيامة:
ما هي صفات هذا اليوم؟ قال: يوم يقوم الناس من قبورهم، من موتهم إلى الحياة مرة ثانية إلى محكمة رب العالمين، قاضيها الله الذي هو معكم أينما كنتم، الذي يعلم السر وأخفى، وأعمالك كلها مسجلة بأضابير ودفاتر الملائكة، وفوق ذلك يَختُم على لسانك وتنطق جوارحك وأعضاؤك بما عملت في السر والخفاء، في التلفزيون الإلهي الله يقول لك: اقرأ كتابك ومن أعمالك القذرة وروائحها المنتنة كيف ستدخل إلى حفلة مدعو إليها الملوك والوزراء والعلماء وروائحك تُشم من خمسين متراً تدخل أنت؟ تؤاثر أن يضعوك موضع القذارة على جهنم ولا تدخل مدخل بهذا الشكل.
فيا بني يا ترى هل أنتم مؤمنون بيومٍ عظيم يوم يقوم الناس للقاء ومحكمة رب العالمين؟ كلا، ارتدعوا وكفّوا وانزجروا واتركوا التطفيف، فبمجرد نزول الآية وكأن الإيمان هيأ قلوبهم لهضم معاني القرآن، ما هو الهضم؟ أن يتحول الطعام إلى دم، إلى طاقة للجسم، وبلا طعام لا يوجد دم، ولا جسم، ولا يوجد حياة بل الموت، فهل نحن نتهيأ لهذا اليوم العظيم الذي الله يقول عنه إنه عظيم:

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
[سورة المطففين]

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
[ سورة النور]

هذه التربية الإلهية تجعل من الإنسان الإنسان الإنساني الملائكي الرباني السعيد في دنياه وآخرته، وإذا كان أُمّياً لم يتعلّم علوم الله، ولم يدخل مدرسة الله فهو الإنسان الحيواني الذي لا يعرف إلا بطنه وفرجه وشهوته الحيوانية، أو الإنسان الشيطاني الذي لا يعرف إلا الفساد والشر والإيذاء للمخلوقات، فهل تريدون أن تصيروا إنساناً شيطانياً أم حيوانياً أم تريدون أن تصيروا إنساناً ملائكياً ربانياً إنسانياً؟ الآن الخيار لكم، أما إذا ذهبتم للآخرة فلم يعد تبديل وتغيير نسأل الله أن يثبتنا بقوله الثابت على ما يحبه ويرضى.
كلّا، ما معنى كلّا؟ أي ارتدعوا وكفاكم تطفيف، وكُفَّوا عن الغش والتعدي على حقوق الآخرين ولو بالأشياء الطفيفة البسيطة:

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[ سورة الزلزلة]

يا ترى المسلم والمسلمة آمنوا بهاتين الآيتين الصغيرتين؟ ذرةٍ خيراً وذرةٍ شراً يره، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القرآن فيتبعون أحسنه.

الدفاع عن الإسلام و حمايته من التشويه:
وأخيراً من يومين التلفزيون السوري أراد أن يأخذ حديثاً لأخينا في الله الدكتور كريم، الذي يضع نظارتين على عينيه، والبدلة الصفراء أو العسلية، وكنت قد عرفتكم عنه لعل بعض الإخوة لم يعرفوه تماماً، وأتى إلى مسجد أبي النور مع الدكتور محمد أسعد ومع أبي حامد، أبو حامد من زعماء إخواننا الأفارقة والدعاة إلى الله في أمريكا، الدكتور محمد أسعد من سنتين أسلم، وهو أستاذ التاريخ الإسلامي في ولاية أريزونا، الدكتور كريم حفظه الله قام بمشاركة تأسيس مركز الدراسات الإستراتيجية الدولية، وعمل في المركز الاستشاري لصنع السياسة في واشنطن، وأكبر مستشاري رئيس أميركا نيكسون في السياسة الخارجية، ونائب مدير مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، ومدير القسم القانوني للمجلس الإسلامي الأمريكي، والرئيس المؤسس لرابطة المحامين الأمريكيين المسلمين، فالتلفزيون السوري أخذ من الدكتور كريم قبل يومين عندنا في المزرعة حديثين تلفزيونيين يُذاعان بالأقمار، القمر الصناعي، وبالإذاعة التلفزيونية العادية يوم الاثنين الساعة التاسعة مساءً على القناة الثانية والقناة الفضائية أيضاً.
وأخيراً أرجو الله ألا يضيع تعبي معكم ويجعلكم أفضل لما أحبه لكم:

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ(18)
[ سورة الزمر]

وإن شاء الله الأسبوع القادم تسمعون كلمة من الدكتور كريم، ومن الدكتور محمد أسعد، ومن الدكتور الأستاذ أبي حامد حفظهم الله، وفي الشهر التاسع إن شاء الله سيأتيكم شخصية كبيرة من أمريكا مسلمة مؤمنة إلى جامع أبي النور، وأرجو الله كما حدثني الدكتور كريم عن مفهوم الإسلام في أمريكا، أي في العالم الغربي يعتقدون أن المسلم هو الذي يأمره الإسلام أن يقتل كل مسيحي، انظر يا بني تشويه الإسلام من اليهود، أو من المغرضين الأنانيين، فكثير من المسلمين يساعدون هؤلاء على تشويه الإسلام، كالذين يقتلون الأجانب في الجزائر أو في مصر، هذا الزائر الأجنبي في الإسلام يسمى: المُعاهَد، وغير المسلم المقيم في البلد الإسلامي اسمه: الذمِّي، فالإسلام بالنسبة للمواطن غير المسلم يقول:

{ من آذَى ذمِّيًّا فأنا خَصمُه ، ومن كنتُ خَصمَه خصمْتُه يومَ القيامةِ }

[ رواه الإمام أحمد]

ينجح في المحاكمة أم يُحكم؟
يقول في المُعاهد الأجنبي الزائر غير المسلم :

{ مَن قتَل مُعاهَدًا لَمْ يجِدْ رائحةَ الجنَّةِ وإنَّ ريحَها لَتوجَدُ مِن مسيرةِ خَمسِمِئةِ عامٍ }

[رواه الطبراني]

انظر يا بني كم الإسلام مُشوه والمسلمون يغطون في نومهم وسباتهم لا يدرون إسلامهم لأنفسهم ولا لمجتمعهم فضلاً عن أن يعرّفوا به للشعوب كلها، وصار العالم بواسطة وسائل الإعلام الحديثة كالقرية الصغيرة، أو كبيتٍ يسكن فيه العائلة الواحدة، لذلك علينا واجب كبير أن نتعلّم الإسلام فهماً، وعملاً، ودعوة إليه، وتعليماً، بذلك نكون مسلمين، وأرجو الله أن نكون المسلمين الذين أرادهم الله عز وجل أن يكونوا المسلمين، وحديث كريم الأسبوع الآتي إذا شاء الله تسمعونه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
والحمد لله رب العالمين