تفسير سورة الكوثر 2

  • 1996-08-16

تفسير سورة الكوثر 2

الحمد لله ربّ العالمين، وأعطرُ التحيات وأفضل الصَّلوات والتسليمات على سيِّدنا مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم سيِّد ولدِ آدم، وخاتم النبيين والمرسلين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيِّدينا موسى وعيسى عليهما السَّلام، وعلى جميع إخوانه مِنَ النبيين والمرسلين، وآلِ كلٍّ وصحْبِ كلٍّ أجمعين، وبعد:

قليل الله عزَّ وجلَّ كثير
مضى معكم في الجمعة الماضية تفسير سورة الكوثر، وسبَقَ معكم أنَّ الكوثر هو العطاء الكثير مِنَ الله العلي العظيم، الكبير والعظيم إذا قال: أعطيناك الخيرَ الكثير، فقليل الله عزَّ وجلَّ كثير، فكيف كثيرُ الله وكثيرُ عطائه؟ فكلُّ عطاءٍ يجب أنْ يُقابله شُكر، قال تعالى:

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
[سورة إبراهيم]

فذِكْرُ الله عزَّ وجلَّ شُكر نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم لربِّه بقوله:

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
[سورة الكوثر]

وكانت صلاته بعد الفريضة، قال تعالى:

قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
[سورة المزمل]

فشُكراً لله على ذلك الكوثر والعطاء الإلهيِّ العظيم، مُضافاً إليه نهر الكوثر في الدار الآخرة؛ فقام الليل حتَّى تورَّمَت قدماه، وعجَزَ قلبُه الجسدي الذي يضخُّ الدم عن عمله الطبيعي، فكان الدم يترسَّب في قدميه الشريفتين مِنَ التعب ومِنَ عناء قيام الليل، فكان شُكره لعطاء الله عزَّ وجلَّ له على ذلك الخير الكثير، وأعظم ذلك العطاء: النبوَّة ومقام تعليم الإنسانية؛ تعليمَهم الإنسانية الإلهيَّة والسَّماويَّة والملائكيَّة، مُضافاً إلى هذا العطاء أعطاه الحكمة والعقل الكامل في بناء الأمة العالميَّة التي لا عُنصريَّة فيها ولا قوميَّة ولا انحباساً ضمن الوطنية الضيقة، فوضَعَ نواة الأمة العالميَّة.

أفضل الناس عند الله عزَّ وجل
قال تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[سورة الحجرات]

(إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى) لا مِنْ عربٍ وعجمٍ (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) فإنِ صار هناك قوميات؛ فلا تتفرقوا وتضعوا حواجز وتجعلوا أحدكم أجنبيّاً على الآخر، أعطيناكم هذه الأسماء والقوميات واللغات (لِتَعَارَفُوا) أمَّا أيُّ أمةٍ أفضل من أمةٍ فلا تفاضُلَ بين الأمم، فالأفضل والأكرم والأعزُّ عند الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) يعني أسرعُكم إلى امتثال أوامر الله عزَّ وجلَّ والاحتراز عن محارمه، فما فُرِضَ عليكم إلَّا ما يُسعدكم ويَرقى بكم، وما حُرِّمَ عليكم إلَّا ما يُشقيكم ويُؤذيكم.

الصَّدقة حُسْنُ الصِّلة بين الإنسان القوي والضعيف
(فَصَلِّ لِرَبِّكَ) لا لغيره مِنْ صنمٍ أو إنسان، لا إله إلَّا الله، قال تعالى:

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
[سورة البينة]

الدين لله تعالى خالِقُ الكون والسَّماوات بنجومها وشُموسها وأقمارها ومجراتها، وبلا حدودٍ يُدركها الإنسان، (وَانْحَرْ) الصَّلاة صلة الروح بالله عزَّ وجلَّ، وصلة العقل بأوامر ووصايا الله عزَّ وجلَّ، (وَانْحَرْ) يعني تصدَّق بنحرِ الجمال والحيوانات المأكولة، لتصِلَ بها النَّاس، وتُحسِنَ الصِّلة فيما بين القويِّ والضعيف، والصَّلاة حُسْنُ الصِّلة مع الله عزَّ وجلَّ، والصَّدقة ومعونة الفقير هي حُسْنُ الصِّلة بين الإنسان القوي والضعيف، فإذا فعلت ذلك فإنَّ مِنْ يُعاديك:

إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
[سورة الكوثر]

أي المقطوعُ عن كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة.

يجب على المسلم أن يسعى نحو الأفضل
فأعطى الله عزَّ وجلَّ النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام العِلم الذي يُسعد الإنسان بجسده وبروحه وبعقله وبفكره، وأنْ يستعمل كلَّ طاقاته وكلَّ قِواه دائماً نحو الأفضل والأحسن، وَرَدَ في الأثر والحديث الشريف:

{ مَنِ استوى يوماهُ فهوَ مغبونٌ (1) }

[حلية الأولياء لأبي نعيم]

إذا كان يومك في العِلم والخير وفي التقدُّم والسعادة مثل البارحة صار يوماك بعضهما مثل بعض (مَنِ استوى يوماهُ فهوَ مغبونٌ) مثل مَنْ اشترى شيئاً وغُشَّ بثمنِه أو باعه بأقلَّ مِنْ ثمنِه دون علمه مُسبقاً، فإذاً يقول لك الإسلام: يجب أنْ يكون يومك هذا أفضل من أمسِك (البارحة)، في العِلم والحكمة وفي كلِّ ما يُسعدك وما يرفع شأنك في العِلم والمعرفة، لنفسك وللإنسان ولكلِّ مخلوقٍ من مخلوقات الله عزَّ وجلَّ.
فأعطاه العِلم، عِلم بناء الأمة العالميَّة وتوحيد الشعوب، ولـمَّا استطاع المسلمون المستجيبون لرسالة الله عزَّ وجلَّ على يد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يبنوا تلك الأمة العالميَّة - التي كانت تُمثِّل في المئة الأولى مِنْ هجرة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نصف العالَم القديم - مِنَ الهند إلى حدود فرنسا، أمةٌ واحدةٌ مع اختلاف اللغات والألوان والجنسيات.

طلَبٌ الإنسانِ مِنَ الله عزَّ وجلَّ
قال تعالى:

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
[سورة الأعراف]

فجعل منها العائلة الإنسانيَّة العالميَّة، وأقام الأمة لا على العنصريَّة ولا اللغة ولا القوميَّة، ولا على الحدود الجغرافيَّة الترابيَّة، ولا على الاشتراكيَّة والإباحيَّة والإلحاد لخالق هذا الكون، بل أقام هذه الأمة على ثلاثِ قواعد:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[سورة البقرة]

كتاب السَّماء الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ على الأنبياء عليهم السَّلام وعلى خاتَمِهِم، وجعل في الكتاب الأخير مجمَعَ كلِّ تعاليم الأنبياء الذين قبله، (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) فتجِدُ في أول الكتاب قوله تعالى:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
[سورة الفاتحة]

الطريق الخيِّر، طريق السعادة، فهذا طلَبٌ الإنسانِ مِنَ الله عزَّ وجلَّ، فأجاب الله عزَّ وجلَّ طلب الإنسان بقوله تعالى:

ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)
[سورة البقرة]


عقل الإنسان قاصرٌ على أن يدرك الحياة الخالِدة في عالَم الخلود
أتريد الهدى والنور في الظلام؟ تفضل، هذا الكتاب وتعاليم كتاب السَّماء، لا ريبَ في أنَّه مِنْ عند الله عزَّ وجلَّ (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) طلبت الهدى؟ تفضل هذا هو الهدى، ولكنْ لمن؟ (لِلْمُتَّقِينَ) الذين يستجيبون ويمتثِلُون أوامر الله ويجتنبون محارِم الله عزَّ وجلَّ، (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) بالآخرة وبحياة الخلود وبعالَم الجنَّة الذي:

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
[سورة السجدة]

يقول الله عزَّ وجلَّ عن الحياة الخالِدة في عالَم الخلود:

{ أعددتُ لعباديَ الصالحينَ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمِعَت ولا خطر على قلبِ بشَرٍ (2) }

[صحيح البخاري]

(ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمِعَت) مِنَ النعيم والجمال والسعادة؛ شبابٌ بلا هرم، وصحةٌ بلا مرض ولا سَقَم، وسعادةٌ بلا شقاء، (ولا خطر على قلبِ بشَرٍ) مهما أردت أنْ تتصوَّر السعادة والجمال والنعيم فعقلُكَ قاصرٌ وعاجزٌ عن أنْ يتصوَّر تلك الحياة الخالدة في عالَم السَّماء.
(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) لأنَّ العقل قاصرٌ عن أنْ يُدرك ذلك العالَم، ولكنْ بفضل الله ورحمته للإنسان أنزل مُعلِّماً مِنَ السَّماء اسمه جبريل عليه السَّلام:

﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (102)
[سورة النحل]

فعلَّم الأنبياء عليهم السَّلام وبلَّغوه للإنسان وهو مغيَّبٌ عنه.

الإسلام منهجٌ متكاملٌ للتعامل مع كل ما يحيط بالمسلم
قال تعالى:

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
[سورة البقرة]

(أُوْلَـئِكَ) الذين يمشون على هذا الخط (عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فهُم السعداء والفائزون والناجحون في دنياهم وأجسامهم وفي حياتهم، ولذلك لمـَّا تقبَّل العرب هذا الهُدى وهذه التعاليم فَهماً وعِلماً وأخلاقاً وسلوكاً، مع أنفسهم ومع أهليهم ومع النَّاس ومع أعدائهم، ومع الحيوان، كان يقول النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ غُفِرَ لامرأَةٍ مُومِسَةٍ ، مرَّتْ بِكَلْبٍ على رأسِ رَكِيٍّ يلْهَثُ ، كاد يقتُلُهُ العطَشُ ، فنزَعَتْ خُفَّها فأوثَقَتْهُ بخمارِها ، فنزعَتْ لَهُ الماءَ ، فغُفِرَ لها بذلِكَ }

[صحيح الجامع]

{ دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ مِن جَرَّاءِ هِرَّةٍ لَها، أوْ هِرٍّ، رَبَطَتْها فلا هي أطْعَمَتْها، ولا هي أرْسَلَتْها تُرَمْرِمُ مِن خَشاشِ الأرْضِ حتَّى ماتَتْ هَزْلًا (3) }

[صحيح مسلم]

فأيُّ تعاليمٍ هذه التعاليم؟ علَّمنا الآداب مع أعدائنا بأنْ نكون عادلين غير جائرين، فقال الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
[سورة المائدة]

(وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْم عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا) يعني بينهم، إذا كان يُعاديك أو أنت تُعاديه فلا تحمِلُكَ العداوة على أنْ تظلِمَه أو أنْ تبخَسَه حقَّه أو أن تتعدَّى عليه (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).

وحدة العرب تحققت بالإسلام
فأعطاه الله عزَّ وجلَّ الكوثر وعلوم القرآن والحكمة ليُعلِّمها للناس، فبَنى العقل الذي لا يُخطئ في قولٍ ولا في عمل، لذلك وهم أعرابٌ بدوٌ أميون لا يقرؤون ولا يكتبون، وحَّد سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه جزيرة العرب في سنتين وثلاثة أشهر مِنْ بعد وفاة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، بعد أنِ ارتد العرب وتمزَّقوا؛ والعرب الآن مع الجامعة العربية وفي خمسين سنةٍ ما استطاعوا أنْ يوحِّدوا بين بلدين: الكويت والإمارات وقطر وهي بلداتٌ صغيرة، ما استطاعوا أنْ يتوحَّدوا بعضهم مع بعض، فكيف يوحِّدُ هذا الإنسان العالَم وبالوسائل القديمة، فلا هاتفٌ ولا سياراتٌ ولا قطاراتٌ ولا طائرات؟
فوحَّدَ الجزيرة العربية لـمَّا هاجر عليه الصَّلاة والسَّلام إلى المدينة لم يجعلهم في عشر سنواتٍ أمةً متحدةً، بل جعلهم كما يقول صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمى والسهرِ (4) }

[صحيح البخاري]

هل الجامعة والدول العربية الآن مثل الجسد الواحد؟ يختلفون ويتشاجرون، وهذا يُوافق وذاك يُخالف، وآخر يُعاهِدُ إسرائيل وإلى آخره.. (كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ) إذا مرِضَ ظِفرٌ فتصيب الحمى والسخونة كلَّ الجسد لأجل ظِفْر، ولا ينام لأجل ظِفْره، (إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى) وتنادى (له سائرُ الجسدِ بالحمى والسهرِ).

المقصود بالعلم في الإسلام
فالكوثر هو الخير الكثير، فأعطاه العِلم بكلِّ ما يُسعد الإنسان في دنياه وفي آخرته، وفي جسَدِه وروحه، وجعل العِلم - وإذا ذُكر العِلم وأطلق في الإسلام فالمقصود منه كلُّ ما ينفعُك معرفته في أرضك وسمائك، وجسَدِك وروحك، ودينك وفي دنياك، فجعل العِلم - بما ينفع فريضةً على كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة، وتبرَّأ مِنْ كلِّ مَنْ لا يتقبَّل العِلم، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ الناسُ رجلان : عالمٌ ومتعلِّمٌ، ولا خيرَ فيما سواهما (5) }

[أخرجه الطبراني]

فما أبعد المسلمين الآن عن حقائق القرآن وعن سورة الكوثر، فلو فهمناها حقَّ الفهم، ملوكاً ورؤساءَ وأغنياءَ وعلماءَ دينٍ وشيوخاً وعامةً وخاصةً، وبالوسائل الإعلامية الحديثة التي جعلت العالَم لا كقريةٍ واحدةٍ بل جعلت العالَم والكرة الأرضية كبيتٍ واحد، مثلما تتحدَّث في بيتك وغرفتك مع زوجتك وأولادك فالذي في اليابان يتحدَّث مع مَنْ في أمريكا كأنَّهم في غرفةٍ واحدة، فلو استُعمِلت هذه الوسائل بحسَبِ هذا البرنامج والمدرسة الإلهيَّة (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) لتوحَّدَ العالَم، ولَساعَد غنيُّهم فقيرَهُم وقويُّهُم ضعيفَهُم، بدَل أنْ يسرِقَ غنيُّهُم مِنْ فقيرِهِم وبدَل أنْ يَطغى قويُّهُم على ضعيفِهِم.

عِلم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأخلاقه
وبعد أنْ بَلَغَ الإسلام قوَّته صار النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام ملِكاً لا يملِكُ الدولة والسياسة والقوة والجيش، بل ملِكَ القلوب والعقول، ومع ذلك تبرَّأ من ذلك المُلك، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام:

{ لا تُطرُوني، كما أطرَتِ النصارى ابنَ مريمَ؛ فإنَّما أنا عبدُه، فقولوا عبدُ اللهِ ورَسولُه (6) }

[صحيح البخاري]

صعد النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم المنبر وقال:

{ أيها النَّاس، من كنت ضربته فليضربني، ومن كنت شتمته فليشتمني، ومن كنت أخذت ماله بغير حق فهذا مالي فليأخذ حقه، لا يقل بأنَّ مُحمَّدا يغضب، فإنَّ مُحمَّداً لا يغضب من الحق (7) }

[صحيح البخاري]

فأيُّ حُكْمٍ في الدنيا مُنذُ خلَقَ الله الدنيا ارتقى بالحكم وبالدولة وبعِشق العِلم وبإحياء العقل الحكيم كما قال مَنْ أنزل الله عليه: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)؟ فعطاء الله الكثير والكوثر هو العِلم، علَّمه الله عزَّ وجلَّ ما يقع لأمته إلى يوم القيامة.
فكان أصحاب النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم ورضي الله عنهم يقولون عن أحداثٍ وقعت بعد عشر سنين وعشرين سنةً: قد ذكرها لنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد نسيناها، فلمَّا وقعت تذكرنا أنَّ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: سيقع الشيء الفلاني، فكم مِنْ أشياءٍ وأشياءٍ ما وقعت في زمانهم ووقعت بعد زمانهم عبر العصور وغابت عنَّا ولم تصِل إلينا، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ زُوِيَتْ لي الأرضُ حتَّى رأيتُ مشارقَها ومغارِبَها وأُعطيتُ الكَنزينِ الأصفَرَ أو الأحمرَ والأَبيضَ يَعني الذَّهبَ والفضَّةَ وقِيلَ لي إنَّ مُلكَك إلى حيثُ زُوِيَ لكَ }

[سنن ابن ماجه]

(زُوِيت لي الأرض) يعني جُمِعت (حتَّى رأيتُ مشارقَها ومغارِبَها)(8)،فصلَّى الله عليك يا سيِّدي يا رسول الله، ما أتى سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم بالإسلام لينزِعَ من المسيحي مسيحيَّته وإيمانه بالسَّيد المسيح عليه السَّلام، بل أتى ليُثَبِّتَهُ ويُدعِمَ إيمانه بالسَّيد المسيح وبتعاليمه، وما أتى ليقطع صِلة اليهود عن موسى وعن أنبياء التوراة عليهم السَّلام، بل أتى ليؤكِّدَ الصِّلة ويقوِّيها بين كلِّ الأنبياء وبين أتباعهم، وأتى قائلاً عن مكانته ومُهمته، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به، ويَعْجَبُونَ له، ويقولونَ هَلّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ وأنا خاتِمُ النبيِّينَ }

[صحيح مسلم]

(إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا) قصراً (إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ)، أكمَلَ القصر ولكنْ بقيَ مكان لبنةٍ (فأنا اللَّبِنَةُ وأنا خاتِمُ النبيِّينَ)(9)، صلَّى الله عليك يا سيِّدي يا رسول الله وعلى موسى وعيسى وكلِّ الأنبياء.

شُكرُ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لعطاء الله تعالى:
فأعطاه الله عزَّ وجلَّ الكوثر، وأعطاه العِلم بكلِّ ما يُسعد الإنسان إلى أبدِ الآباد، في هذه الحياة والعمر القصيرين وفي الحياة الروحية والأخرويَّة التي لا حدَّ لحدودها وانقضائها وزوالها، وأعطاه الحكمة والتزكية، قال صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ أَدَّبَنِي ربي فأَحْسَنَ تَأْدِيبِي (10) }

[ضعيف الجامع]

فالعطاء يوجِبُ الشُّكر، والشُّكر كان بأن أعطى ما أعطاه الله عزَّ وجلَّ إلى الناس، فبلَّغ الأمانة وأدَّى الرسالة، ثمَّ بقي هذا الأمر الإلهي في سورة الكوثر ليُعلِّم أمَّته أنَّ الله عزَّ وجلَّ أعطاها الكوثر أيضاً، وأعطاها العِلم والحكمة وتزكِيَة النفس، والمُخطط الذي يَرقَي بنفسك لتكون ملَكاً في صورة إنسان، نافِعاً لكلِّ النَّاس، فتُقدِّمَ لهم الخير وتُبْعِدَ عنهم الشرَّ ما استطعت.
أعطانا الله عزَّ وجلَّ الكوثر بعد نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم فهل حَرَّمَ علينا العِلم؟ جعله فرضاً علينا، والنَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم يبرأ ممَّن يبتعد عن العِلم، وهل حرَّم علينا الحكمة؟ أمرَنا بأنْ نتعلَّم الحكمة، وجعلها رُكناً مِنْ أركان الإيمان ومِنْ أركان الإسلام، والتزكية لنتزكَّى، ثمَّ نقوم إذا تعلَّمنا العِلم والحكمة والتزكية، فهكذا أعطانا الكوثر بعد نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم، فإذًا (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) أيها النَّبي، وبعد النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم أعطاه لكلِّ إنسانٍ يقبَلُ عطاء الله عزَّ وجلَّ، أمَّا إذا رفض الإنسان عطاء الله عزَّ وجلَّ؟ فقُدِّمت له بدلةٌ من الجوخ، بنطالٌ ومعطفٌ وربطة عنقٍ وحذاءٌ وكذا، فرفض الحذاء وأراد حدوة البغال أو الحمير! ويريد نعلاً مِنْ حديدٍ وأن يلصقوه في رجليه بالمسامير، ورفض البنطال والمعطف وربطة العنق وأراد جِلالاً وزماماً، ربطة عنقٍ طويلة، قال: هذه قصيرة وربطة عنق الحمار أطول! فيا ترى هل قَبِلَ العطاء أم رفضه؟
وإذا أعطاك الله عزَّ وجلَّ الكوثر فيجب عليك كما فعل النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ تُعطِيَه للآخرين، بأنْ يقوم المؤمن بعد أنْ يتعلَّم علوم القرآن (يُعلِّمَهم الكِتاب) حين تقرأ سورة يوسف فهذ من الكتاب زهي سورة الحسد وسورة الظالم والمظلوم والحاسد والمحسود، والضعيف الذي تتولاه عناية الله عزَّ وجلَّ فكيف لا يَضيع! والذي يُطيع الشيطان لا تنفعُه وساوس الشيطان وأعمال طغيانه، فإخوة يوسف عليه السَّلام لو علِموا أنَّ إخراجَه وإبعادَه عن أبيه سيجعله ملِكَ مصر، وهم غاروا مِنْ محبَّةِ الأبِ للطفل، فإذا رأوه ملِكاً فماذا سيفعلون بأنفسهم؟ سيُمزِّقُون أنفسهم.. فليتعلَّم المؤمن ألَّا يكون حاسداً ولا باغياً ظالـماً وجائراً، ولا ييأس المظلوم مِنْ روح الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
[سورة البقرة]


نشر رسالة الله عزَّ وجلَّ من واجب شكر العطاء
فحين نقرأ سورة الكوثر هل يا تُرى فهِمْنا معناها مع النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، عطاء الله عزَّ وجلَّ له، ثمَّ عطاء النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم للعالمَين؟ قال تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]

فالنَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم تقبَّل العطاء وقام بواجِب شُكر العطاء، فاستطاع بفضل الله عزَّ وجلَّ أنْ تنتشر رسالة الله عزَّ وجلَّ مِنَ الهند، فتجتاز حدود الهند إلى الفليبين وإلى أندونيسيا وماليزيا وأوروبا وأمريكا، قبِل عطاء الله عزَّ وجلَّ ثمَّ تعلَّم مِنَ الله عزَّ وجلَّ أنْ يُعطي الكثير، فأعطى الإنسانية هذا الخير الكثير، فنحن بعد النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ولو كانت السورة للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لرُفِعت لأنَّه لنْ يستفيد منها أحد، لا، فهذه موجَّهةٌ لكلِّ إنسانٍ وكلِّ مؤمنٍ.
أنت أيضاً أعطاك الله عزَّ وجلَّ الكوثر، وأعطاك القرآن، وأعطى الله عزَّ وجلَّ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم القرآن ضمن عشرين سنةً، وأعطاك الله عزَّ وجلَّ القرآن دفعةً واحدةً مطبوعاً ومُذهَّباً ومُيسَّراً ومُجمَّعاً، كان مكتوباً على الأحجار في زمن النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى أوراق الشجر وعلى عظام الحيوانات، فإذا أردت جَمْعَ المصحف من الأحجار ومِنْ ورق النخل ومِنْ العظام فكم سيكون حِمْلُ المصحف؟ لربما بمثل حِمْلَ سيارة شحن، فكيف ستقرؤه أو تبحث عن سورة يوسف؟ هل ستجلِبُ عظامها وحدها؟ فأعطانا الله عزَّ وجلَّ الكوثر بشكلٍ مُيسَّر، فهل قُمنا بواجب تقدير وتنفيذ هذا العطاء وهذه الأوامر والتي كلُّها من أجل سعادة الإنسان؟
(رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) لا للعرب وإيران، ولا لباكستان وآسيا وأوروبا والإنسان، فيشمل العالَم الإنسان وغير الإنسان مِنْ كلِّ ذي روح، حتَّى الحيوان المؤذي كالأفعى والعقرب إذا أردت قتله، قال النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسَانَ علَى كُلِّ شيءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ }

[صحيح مسلم]

(فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ)(11)،وإذا ذبحتم الحيوان الذي خلقه الله عزَّ وجلَّ لنا لنأكله (فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ) بأحسن وألطف وأروح ما يكون للحيوان.

قراءة المسلم لسورة الكوثر
فقبِل النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم العطاء، وقام بواجب شُكر العطاء، فالخطاب الآن موجَّهٌ إليك أيُّها الإنسان:(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ) بعد النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم (الْكَوْثَرَ) أعطيناك العِلم بالكتاب لتتعلَّمه، لا لتتعلَّم قراءة كلماته وتُجوِّدَ النُّطق بحروفه، فهذا شيءٌ من الأمور البسيطة بالنسبة لفهمه وتحويله مِنْ كلماتٍ تُقرَأ إلى أعمالٍ تُشاهَد وأخلاقٍ تظهَر في المعاملات وإيمانٍ يملأ القلب فينعكس أخلاقاً وأعمالاً صالحةً تُسعدك وتُسعد كلَّ مَنْ تستطيع إيصال السَّعادة إليه.
فحين يقرأ المسلم والمسلمة هذه السُّورة المباركة، وهي سطرٌ واحدٌ فيها خير الدنيا والآخرة: يا ربي أعطيتني الخير الكثير، فإذا أعطاك شخصٌ وردةً فماذا ستقول له؟ شكراً، وإذا أعطاك بدلة جوخٍ وتوقعت أنَّه سيُعطيك في كلِّ سنةٍ بدلة؟ فأين ما تراه لن تتقدَّم عليه أو تأمُره، وإنْ طلب منك شيئاً فلن تتأخَّر عليه، لأنَّك تخاف قطع منفعتِكَ منه، خصوصاً إنْ كانت جيوب البدلة مليئةً بالدولارات! فهل تستطيع أن تعصي له أمراً أو تفعل ما يُغضبه ويُخالف أوامره؟
فيا تُرى هذه البدلة المليئة بالدولارات أغلى أم عيناك اللتان أعطاك الله عزَّ وجلَّ إياهما؟ وإنْ خيَّرك شخصٌ بين عينيك ومئة ألف دولار فهل تبيع عينيك أو لسانك؟ فإنْ لم يكنْ لك لسانٌ فبكم تشتريه إنْ كنت تملك ملايين الدولارات؟ إنْ كنت تملك مئة مليون دولار ولا لسان لك فبِكَم تشتري لساناً؟ تدفع مليوناً، وإنْ لم يبيعوه إلَّا بعشرين مليوناً فستدفع ولو لم تملك، فيا تُرى قوله تعالى:

وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
[سورة إبراهيم]

(إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ) يعني لنفسه، عندما لا تمتثل أوامِر الله عزَّ وجلَّ تظلِمُ نفسك (كَفَّارٌ) جاحدٌ لنِعَمِ ربِّه، عاصٍ لأوامره، فالسعادة لا تتحقق إلَّا بتقوى الله عزَّ وجلَّ.

واجب من تفقَّه بسورة الكوثر
فأعطانا الله تعالى الكوثر، العِلم بالقرآن، فهل تعلَّمنا القرآن وعلومه وأوامره ووصاياه وأخلاقه؟ وبعد أنْ تعلَّمنا فواجبٌ آخرٌ يستلزمه التعلُّم، فهل قُمنا بتعلِيمه للآخرين بالأقوال والأعمال وبالأخلاق وبالصِّدق وبالإخلاص؟ أنْ نقوم لنعلِّمَ النَّاس الكتاب والحكمة ونعمَل على تزكية الآخرين، فعند ذلك نكون قد آمنَّا بالقرآن، قال تعالى:

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
[سورة البقرة]

إذا قدَّمَ لك شخصٌ علبةً مليئةً بليراتٍ ذهبيةٍ وعرفت أنَّها ليراتٌ حقيقية، فهذا اسمه إيمان أليس كذلك؟ وعلبةٌ ثانيةٌ فيها عقارب، ورأيت العقارب، ستؤمن بأنَّ فيها عقارب، فما هو مُقتضى هذا الإيمان؟ أتأخذ العقارب وتترك الذهب أم تأخذ الذهب وتترك العقارب؟ فواجب مَنْ تفقَّه بسورة الكوثر بعد أنْ يتعلَّم الكتاب أنْ يقوم فيُعلِّمَه، وأنْ يتعلَّم الحكمة، وأنْ يكون قوله إذا قال صِدقاً وصواباً وعدلاً واستقامةً، وإذا عمِلَ عملاً لا يعمل عملاً بشكلٍ أهوج، بشكلٍ ارتجاليٍّ أو بدافعِ الغضب، لا، يقول النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إنَّ لسانَ المؤمِنِ وراءَ قلبِهِ فإذا أرادَ أن يتَكلَّمَ بشيءٍ تدبَّرهُ بقلبِه ثمَّ أمضاهُ بلسانِهِ وإنَّ لسانَ المنافقِ أمام قلبِهِ فإذا همَّ بشيءٍ أمضاهُ بلسانِهِ ولم يتدبرْه بقلبِه (12) }

[تخريج أحاديث إحياء علوم الدين]

فقبل أنْ يتكلَّم المؤمن يُشاور عقله بالكلام الذي يجب أنْ ينطِقَ به، والمنافق قلبه بعد لسانه، يفعل الأفعال بغير تفكيرٍ على شكلٍ غير صحيح، ثمَّ يرى أنَّه أخطأ، فقال النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أن هذه ليست صفة المؤمن، فالمؤمن يُفكر أولاً ثمَّ يتكلَّم وينطِق، ثمَّ يعمل ويفعل.

مفهوم الإيمان الصحيح
فكلمة إيمانٍ يفهمُها النَّاس أنْ تُصلي هذه الركعات الأربع، وتُطيل لحيتك، وتلبِسَ ثوباً، وتَسْتَاك، وتُزعج النَّاس! فصار هذا والله مؤمناً بالقرآن! ولكنَّه لم يُؤمن حتى الآن بسورة الكوثر، ما زال يجب أنْ يتعلَّم الكتاب، ما تعلَّم (إِنَّاْ أَعْطَيْنَاْكَ اَلْكَوْثَرَ) فمتى ستتعلَّم؟ عندما يأتيك سيِّدنا مَلَكُ الموت عليه السَّلام! فلتتعلَّم التوبة النَّصوح والعَزْمَ الصحيح على أنْ تمشيَ على الصِّراط المستقيم، وأنْ تعمَل بكلِّ أمرٍ إلهيٍّ إذا سمعته وعلِمته، وتجتنِبَ وتترُك وتتبتعِدَ عن كلِّ ما نهاك الله عزَّ وجلَّ عنه مِنْ قولٍ أو عملٍ أو صحبةٍ أو استعمال مالٍ في كلِّ شؤون الحياة، فتكون حينها قد فقِهْتَ وآمنت بسورة الكوثر.
فهل إذا دفعوا لأحدنا مئة ألف ليرةٍ ذهبيةٍ أليس كثيراً، أم الكوثر أكثر؟ فالكوثر أكثر مِنَ الكثير، وكيف سيكون موقفه مِنَ المُعطي؟ ومَنْ قد يأخذ كلَّ ما ملكت يمينك في لحظة، لا أنَّك قد ثبتت ملكيته وانتهى الأمر، لا، في كلِّ لحظةٍ قد يُمزِّق ورقة الملكية وتذهب إلى القمامة، فكيف سيكون موقفك تجاه هذا المُعطي والمُنعم وهذا المُحسن؟ فهل فقِهْنَا الكوثر وقدَّرنا قدره وعرَفنا قيمته، وسارعنا إلى امتثال أوامر واغتنام مرضاة الله عزَّ وجلَّ ورضاه؟ رضاه بسعادتك وغضبه بشقائك وتعاستك، كطاعتك لوالديك الصَّدوقين الرحيمين فيما يُسعدك، وعقوقِكَ بهما فيما يجلِبُك إلى الشقاء؟ فكيف طاعة الله عزَّ وجلَّ ومعصيته؟

الباب العطاء مفتوحٌ لكلِّ مَنْ يقبَل ذلك العطاء
فإذاً (الْكَوْثَرَ) هو عطاء الله عزَّ وجلَّ لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم شاكراً ذلك الكوثر، وعَرَضَه على كلِّ شعوب العالَم، فإذا أخذت هذا الكوثر يجب ألَّا تستأثِرَ به وتجعله امتيازاً لك فتحتَكِرَ العِلم وتحبِسَه، عليك أنْ تُعلِّم ما تعلَّمته بأقوالك وأعمالك، علماً وعقلاً وفكراً وتخطيطاً ودراسةً، فهذا الدين وهذه الحياة والتقدُّم والرُّقي، فَهِمَ المسلمون الأُوَل على أُميتهم معلِّمَهم النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، وفهموا تعاليمه فطبَّقوها ونفَّذوها وحوَّلوها مِنْ كلماتٍ تُقرَأ وتُلفَظ إلى أعمالٍ تُشاهَد وتُبصَر وتُطبَّق، فصاروا:

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
[سورة آل عمران]

خَيْرَ أُمَّةٍ في العِلم والتقدُّم والقوَّة والعزَّة والسلطان، وفي الوحدة والتماسك في تاريخ حياة الإنسان.
ويقول الأوروبيون: ما عرَفَ التاريخ فاتحاً أرحَمَ مِنَ العرب، وهذا كلام الأغيار الأوربيين، لا أعدَلَ ولا أرحَم ولا أكثر إحياءً للعلوم، أحيوا علوم الهند واليونان والفُرس، وكلَّ ما ينفع الإنسان في شؤون حياته الجسدية، وأخذوا الشؤون الروحية من النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم ومن القرآن، فكانوا خير أُمم الأرض في عصرهم وزمانهم، وما أغلَقَ الله عزَّ وجلَّ الباب على هذا الكوثر وجعله امتيازاً لهم، لا، فالباب مفتوحٌ لكلِّ مَنْ يقبَل هذا العطاء، وليس النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم هو الذي طَلَبَ ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ هو الذي أعطى دون طلب، فهل طلبنا القرآن؟ وجدناه بين أيدينا، وبعد أنْ وجدنا القرآن هل فتَّشنا على مَنْ يُعلِّمنا القرآن ويُعلِّمنا الكتاب والحكمة ويُزكي النفوس؟

لا مصالح قومية في الإسلام
قال النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ العُلَماءُ وَرَثةُ الأنبياءِ (13) }

[سنن أبي داود]

والمقصود مِنَ العلماء لا الذين قرؤوا كُتب الفقه والنحو والبلاغة والمنطق وبقية البرنامج، بل العلماء بالله وبكتابه والعاملون به، فيُحيلونه مِنْ كلماتٍ وأفكارٍ إلى أعمالٍ وحقائقٍ في صفحات عقول مجتمعهم وعصرهم وزمانهم عِلماً وحكمةً وأخوَّةً وما يُسعد المجتمع، الآن في عصرنا إذا ذهبت أمريكا إلى الصومال أو إلى البوسنة والهرسك دائماً يقولون تحت عنوان: هكذا تقتضي مصلحتنا القومية أليس كذلك؟ وإنْ لم تكن لهم مصلحةٌ فلنْ يتدخلوا، فهم يتدخلون لمصالحهم، وأمَّا الإسلام فإذا قام بالعمل فمن أجل مصلحة كلِّ النَّاس، وليرقى بالإنسان عِلماً وثقافةً وعقلاً وحكمةً وأخلاقاً وسلوكاً وإنسانيةً، فلا تظنُّوا أن تحقيق هذه الحقائق بالأمر البعيد، لا، واللهِ لهوَ مِنْ أقرب الأشياء، لكنْ إنْ صدَقْتَ الإيمان والإرادة والعَزم، قِيل:
تَقُول لا حِيلَةً في الوَصلِ أَعرِفُها لَو صَحَّ مِنكَ الهَوى أُرشِدتَ للحِيَلِ
{ أبو زيد السُهَيلي }
وإذا صحَّت منك الإرادة الصادقة أُرشِدتَ للحِيَلِ، فالمؤمن الصادق بهذا العطاء الكوثر يأخذ كلَّ الأسباب ليكون أهلاً لهذا العطاء، ثمَّ يقوم بشُكر المُعطي فيقوم معلِّماً للقرآن.

تعامُل النَّبي صلَّى الله عليه وسلم مع الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا
في سورة التوبة قوله تعالى:

وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
[سورة التوبة]

تخلَّفوا عن أداء الواجب بالذهاب مع النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى تبوك، فما حبَسَهم النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم كجنديٍّ هاربٍ مِنَ الجيش، الهارب مِنَ الجيش الآن ما هي عقوبته؟ الإعدام أم السجن بِضع سنوات؟ حسب المدة، انظروا للحكم الجزائي في القرآن والإسلام، هؤلاء الثلاثة هربوا من الجيش، فماذا كان الحُكم الجزائي والجنائي والعسكري؟ فأيُّ حكمٍ في الدنيا مُذْ خَلَقَ الله عزَّ وجلَّ آدم عليه السَّلام إلى الآن ألطف وأرقى وأعظم إنسانيةً وأعظمَ تأثيراً وفائدةً وتأديباً مِنَ الحكم القرآني؟ أمَرَ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم بمقاطعتهم، فلا يُكلِّمهم ولا يَتعامَل معهم ولا يجالِسَهم أحدٌ، هذا في الشارع، وأمر نساءهم أنْ تعتزلَهم في البيوت، فأيُّ قانونٍ مِنْ قوانين دول العالَم يستطيع أنْ يُفرِّق بين الرجل وزوجته في البيت والفراش؟ فاعتزلتهم نساؤهم.
(حتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) فمِنْ شدَّة ضيقه ذهب ليزور ابن عمٍّ له في بستانه، وطَرَقَ عليه الباب فلمَّا سمع صوته ما فتح له الباب، فتسوَّر جداره وأتى إلى ابن عمه: السَّلام عليكم لم يرد عليه، قال له: ألست ابن عمك؟ لم يرد، لماذا قاطعتني؟ لم يرد، فما وسِعَهُ إلَّا الرجوع كما أتى، فهذا العقاب وهذه العقوبة أي عقوبةٍ ألطف وأنفعُ وأصلَحُ وتحقِّقُ الهدف من القانون الإلهي المُحمَّدي النبوي؟ فهل يا تُرى نحن نتعلَّم الإسلام ونتفقَّهُ في القرآن وفي سيرة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم وكيف ربَّى الأمة وهو أميٌّ وهُم أميون؟

سبب تسمية الجاهل بالأمّي
قال تعالى:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)
[سورة الجمعة]

لماذا سُمِّيَ الجاهل أميّاً؟ نسبةً لمن يخرج مِنْ بطن أمه وهو لا يعلم شيئاً، فهو نُسِب إلى الطفولة يوم ولادة الطفل، فلذلك سُمِّيَ الجاهل بالأمِّي، وماذا سمَّى الله عزَّ وجلَّ العرب؟ أميين، ونبيُّهم صلَّى الله عليه وسلَّم؟ أمِّي، وأين تعلَّم؟ ومَن معلِّمه؟ وأين جامعته؟ جامعته في السَّماء، ومُعلِّمه خالق الأرض والسَّماء، فكيف سيكون خرِّيجَ خالق الأرض والسَّماء؟ فلذلك لا بدَّ لنا مِنَ المُعلِّم ليُعلِّمنا الكتاب والحكمة ويزكِّي منَّا النفوس، باستخدام هذا العطاء الذي أعطانا الله عزَّ وجلَّ إياه بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فإذا عثرنا وسُعدنا بلقاء هذا المُعلِّم فعلينا أنْ نُطيعه، قال تعالى:

مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
[سورة النساء]

وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ مَن أَطاعَ أَمِيري فقد أَطاعَني، ومَن أَطاعَني فقد أَطاعَ اللهَ عزَّ وجلَّ (14) }

[صحيح البخاري]

فعند ذلك ينقلِبُ هذا القرآن ثمرةً ونِتاجاً إلى الخير الكثير، فليس فقط الأمة العربية الاثنتان والعشرون تصير دولةً أمةً واحدةً، بل معها إيران وأفغانستان وباكستان وأندونيسيا وأمريكا وأوروبا، لأنَّ مفهوم الإسلام مشوَّهٌ عند الشعوب الغربية، فالإسلام هو دين العِلم والتقدُّم والإنسانية والزيادة في الخير يوماً بيوم، والقضاء على الشرِّ ساعةً بساعة، فمالم نفقَه القرآن.. وفقه القرآن إذا لم يُلتقَ القرآن بالقلب الذَّاكر والمُخبِتْ الخاشع، قال الله تعالى:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
[سورة المؤمنون]

(قَدْ أَفْلَحَ) يعني قد فاز وسَعِدَ (الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) الخشوع ليس عملَ الجسد بل القلب، فالخشوع هو امتلاء القلب مِنْ نور وذِكْرِ الله عزَّ وجلَّ، فتخشع النفس كما يذبُلُ الزَّرع إذا عطِش (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ).

الإعراض عن اللغو من صفات المؤمن
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) واللَّغو هو كلُّ قولٍ وعملٍ لا ينفع ولا يضرُّ فاسمه لغو، فقدِّر إنْ ذهبت إلى الملعب أو السهرة أو إلى اجتماعٍ أو إلى غيرها فهل فكَّرت بأنَّ ذهابك فيه نفعٌ لك أم لا؟ فإذا كان يؤذيك في أخلاقك أو في أعمالك ودينك أو دنياك فصفة المؤمن (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) مِنْ قولٍ أو عملٍ وكلُّ ما يدخل تحت هذا العنوان.. فإذا تقبَّلت عطاء الله عزَّ وجلَّ وهو الكوثر والخير الكثير، والخير الكثير ما حَواه القرآن العظيم المشروح بأقوال النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم وبأعماله وتقريره، إذا رأى عملاً عمِلَهُ أحدٌ وسكت عليه فهذا اسمه إقرارٌ ويُعدُّ من سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فهل تكون قابلاً لهذا العطاء الإلهي الذي أعطاك الله عزَّ وجلَّ إياه بعد ما أعطاه لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟

الإسلام يفرض العلم على الإنسان
فلم يأتِ القرآن خاصةً للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بل ليُبلِّغَهُ لنا، فلكلِّ واحدٍ منَّا أعطاه الله عزَّ وجلَّ الكوثر، فهل يوجد أعظم مِنْ خيرات القرآن والإيمان؟ فهل شكرنا الله عزَّ وجلَّ بالعمل والفهم والفقه بكتاب الله قولاً وعملاً وتزكيةً؟ ثمَّ بعد ذلك ما انتهى الواجب، فكما وَرَدَ في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ألا أخبِرُكم عن الأجوَدِ الأجوَدِ؟ اللهُ الأجوَدُ الأجوَدُ، وأنا أجودُ ولدِ آدمَ وأجوَدُهم من بعدي رجلٌ علَّم عِلمًا، فنشَر عِلمَه يُبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً واحدةً (15) }

[الترغيب والترهيب]

(اللهُ الأجوَدُ الأجوَدُ) فهو بحر الجود ومصدره، (وأنا) يعني النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم (وأنا أجودُ ولدِ آدمَ وأجوَدُهم من بعدي) يكون هذا القماش جيداً والبضاعة والسيارة جيدة (وأجوَدُهم من بعدي رجلٌ) وليس المقصود بالرجل الذَّكر بل الإنسان (علَّم عِلمًا، فنشَر عِلمَه يُبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً واحدةً).
انظر إلى تعاليم الإسلام: يفرِضُ ويُوجب ويطلب مِنْ كلِّ إنسانٍ أنْ يكون عالِـماً، ولا يكتفي بل يطلب مِنْهُ أنْ يكون معلِّماً للآخرين، ومجاناً، لأنَّ التعلُّم إجباريٌّ على الجاهل، والتعليم فرضٌ إجباريٌّ على العالِم، أليس هذا إسلاماً؟ أفهذا الإسلام موجودٌ في المسلم من رجلٍ أو امرأة؟ ليس موجوداً.. فإذا لقَّبت نفسك بالمَلِكِ أو بالوزير أو برئيس الوزراء وأنت لا تحمل هذه الحقيقة، فهل يُعطيك هذا اللقب العزَّة والمجد والقوة والغِنى؟ وكذلك كلمة إسلام: كلمة إسلام معناها الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم.
فهل علمتم حقيقة عطاء الكوثر؟ إذا أعطاك أحدهم مِلء يديه ذهباً فكم ستُحبُّه وتقدِّره وتحترمه؟ وإذا طلب منك أمراً أو نهى عن شيءٍ لا يريده فلنْ تأتيه، فكيف بمَنْ أعطاك الكوثر مِنَ الحياة والوجود والسمع والبصر والمال والأولاد والصحة إلى آخره؟ كلُّ ما تملِكُ هو مُلكه وبلحظةٍ واحدةٍ قد يسلُبُك كلَّ ما تملكه مع حياتك، وستُرمى حينها في القمامة ويأخذ ما تملكه آخرون، فشُكر هذا الإله العظيم والمُنعم الكبير ذي العطاء اللامحدود عمليّاً بتفقُّه وتفهُّم القرآن، فتقرؤه لا للتلاوة والتبرُّك ولحُسن صوت القارئ فقط بل لتفهم ما يُخاطبك الله عزَّ وجلَّ وما يأمُرك وما يُعلِّمك، فإذا كنت كذلك فقد استجبت لأوامر الله عزَّ وجلَّ فأنت مسلم، وإلَّا فأنت كما قال تعالى:

وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
[سورة يونس]

إنْ كنت أصمَّ القلب والروح فلنْ تستفيد من القرآن ولو كان مِنْ فمِ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم هو المتكلِّم، فأين نحن؟ وإلى متى سنبقى في هذه الغَفْلة والبُعد عن كتاب الله المشروح بسُنَّة وحياة وأعمال وأقوال وتعاليم سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟

الصَّلاة التي يريدها الله عزَّ وجل
فهل فقِهْنا قوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) أعطيناك، فقُم بعد العطاء واذكر، وقوله تعالى:(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) الصَّلاة التي يريدها الله عزَّ وجلَّ، لا التي تريدها، وقال تعالى:

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
[سورة طه]

الصَّلاة التي يريدها الله هي الصلاة التي:

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗوَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
[سورة العنكبوت]

وكما وَرَدَ في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ الصَّلاة معراج المؤمن (16) }

[تفسير الرازي]

عُروجٌ وصعودٌ وارتقاءٌ من الرذائل إلى الفضائل، ومن الغَفْلَة إلى الذِّكر، ومن الفُسوق إلى تقوى الله عزَّ وجلَّ، صلاة الجَسد تتعلَّمُها مِنْ فلّاحٍ عندما يركع ويسجد، لكنْ هل تعلَّمت خشوع الصَّلاة وحضور القلب؟ وهل تعلَّمت الصَّلاة التي تنهَى؟ وصلاة:

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
[سورة المؤمنون]

والصَّلاة التي هي مِعراج المؤمن؟ عروجٌ في عالَم الروح والكمال والنور؟ فلنْ تجدها إلَّا عند الفقهاء الوَرَثَة لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، الذين ورِثُوا تعليم الكتاب والحكمة وتزكِية النفوسِ للآخرين.

حقيقة التوبة النصوح
ولذلك فلا تكون هذه إلَّا بالتوبة النَّصوح، وهي: أنْ تترك الذَّنب وتُقلِعَ عنه، ولا تعود إليه كما لا يعود اللبن والحليب إذا خرج مِنْ ثديِ البقرة الحلوب، قال: والتوبة النَّصوح هي أنْ تُقلع عن الذنوب ولا تعود إليها إلَّا إذا عاد الحليب واللبن إلى ثدي الأنثى الحلوب، فالتَّوبة تنظيف المكان ليمتلِئ مِنْ نور الله عزَّ وجلَّ ومِنْ حكمته، لتمتلِئ مِنْ:

فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65)
[سورة الكهف]

لتمتلئ مِنْ قول الله عزَّ وجلَّ:

وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
[سورة البقرة]

والمعنى أنْ نتعلَّم ما يُقربنا إلى الله عزَّ وجلَّ ممَّا وُجِد في الكتب، لكنْ المهم أن نتعلَّمَ بأسماعنا وأبصارنا وقلوبنا، ففي الحديث القدسي يقول الله عزَّ وجلَّ:

{ ولا يزالُ عبدي يتقربُ إليّ بالنوافلِ حتى أحبَّه ، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به وبصرَه الذي يُبْصرُ به ويدَه التي يَبطِشُ بها ورجلَه التي يمشي بها (17) }

[صحيح البخاري]

فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا مِنْ فُقهاء سورة الكوثر، يا تُرى هل لديكم استعدادٌ لتكونوا أهلاً لهذا العطاء الإلهي؟ يُعطيكم الله عزَّ وجلَّ الكوثر، هل كان الكوثر خاصّاً بالنَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم؟ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم أخذه، هل احتكره؟ هل وضَعَه في مصرفٍ وأغلق عليه ومنعه الناس؟ أعطاه الله عزَّ وجلَّ الكوثر ليُعطيه لأمته، إلى كلِّ العالَم:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
[سورة الفرقان]

لذلك إذا لم يقُمْ كلُّ واحدٍ منَّا مِنْ ذكرٍ وأنثى بفِقه هذه السورة ليتفهَّمها جيداً ثمَّ يكتبها في صفحات قلبه وعقله وفِكرِه وأعماله وتعليمه للآخرين؛ وإلَّا فلنْ يكون قد آمن بالقرآن الإيمان الذي آمن به المسلمون الأُوَل مِنْ أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسلَفِنا الصالح رضوان الله عليهم، قدَّم الله عزَّ وجلَّ العطاء، ولا يتراجع الله عزَّ وجلَّ فيما يعطي، ولنْ يرفع القرآن.

الإيمان الذي جعل العرب رعاة شعوب العالَم
فهل نحن مُستعدون أنْ نُصلِّي لربنا الصَّلاة التي (تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) وصلاة (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) والصَّلاة التي أمَرَ الله تعالى بإقامتها (وَأَقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي)؟ عليك أنْ تكون حاضراً مع الله عزَّ وجلَّ في كلِّ تكبيرٍ وتسبيح، وفي كلِّ ما تتلو مِنْ كتاب الله عزَّ وجلَّ، وبذلك نكون آمنَّا بعطاء الكوثر الإيمان الـمُسعد في الدنيا والآخرة، هذا الإيمان الذي جعل العرب رعاة شعوب العالَم بعد أنْ كانوا قبائل متناثرةً في الصحراء مع الظِّباء ومع مخلوقات الله عزَّ وجلَّ.
مرةً خاطَب النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم قريشاً وهو في مكَّة في معركة الدعوة، ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ والإسلام، وقال لهم:

{ بذلك تملكون ملك كسرى وقيصر (18) }

[السنن الصغير للبيهقي]

كأن تقول: الاتحاد السوفييتي وأمريكا، الاتحاد السوفييتي وأمريكا في عصرنا مثل كسرى وقيصر في عصرهم، وهم لا يستطيعون الارتِواء من الماء في مكَّة لأنَّ بئر زمزم قليل الماء، فمرَّ بهم أبو جهل أو أبو لهب، أحدهما، على كلِّ حالٍ الاثنان لا يختلفان بعضهما عن بعض، فقالوا لأبي لهب: اسمع مِنْ ابن أخيك ما يقول، قال: (وإذا مِتّم يعطيكم الله جناناً أجمل مِنْ جنان الأردُن)، قال: لا ترفعوا بكلامه رأساً، فإنَّه مجنونٌ يهْذِي مِنْ رأسه، صلَّى الله عليك يا سيِّدي يا رسول الله، كم صبَر وصمَد وتحمَّل مِنْ إيذاءٍ وتهديدٍ وغيرهما ليُسعد الإنسان، ومَن استجاب سَعِدَ في الدنيا والآخرة.

الخير الكثير نتيجة الصدق مع الله
فلنتعاهد على تقبُّل هذا العطاء الإلهي الكوثر، وأعظم ما في هذا العطاء كتاب الله الذي فيه خير الدنيا والآخرة، والمفسَّر بأعمال وأقوال وحياة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم :

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
[سورة التغابن]

فإذا تقبَّلنا هذا العطاء طاعةً وتقوى وامتثالاً ثمَّ قمنا لنأخذ لقب الأجود الذي هو صفةٌ مِنْ صفات الله عزَّ وجلَّ: (ألا أخبِرُكم عن الأجوَدِ الأجوَدِ؟) الله عزَّ وجلَّ رحيمٌ فنأخذ مِنْ رحمته، وكريمٌ فنأخذ مِنْ كرمه، وحكيمٌ فنأخذ مِنْ حكمته، وأجوَدٌ فنأخذ مِنْ جُوده وفضله وعطائه، (وأجوَدُهم من بعدي) يعني إنسان (علَّم عِلمًا) العِلم أيَّ عِلمٍ كان، من عِلم:

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) مِنْ علوم الدنيا، أو مِنْ علوم الآخرة (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار) نار الدنيا وعذابَها وشقاءها، ونار الآخرة وجحيمها وسعيرها، فما أبعدنا عن كتاب الله عزَّ وجلَّ!
فأنتم يا مَنْ في المسجد، نصفُكم أو الربع، واللهِ إذا صَدَقنا مع الله فسيخلُقُ الله عزَّ وجلَّ للعرب وللمسلمين وللناس الخير الكثير، وقد أصبح العالَم الذي يُسمُّونه متقدماً العالَم الغربي أو الياباني مهيأً الآن، فقد كان في ضياع، فحين يشمُّ رائحة الإسلام قولاً وسماعاً؛ لكنَّه حين يرى الإسلام عملاً ومشاهدةً وأعمالاً وأخلاقاً وعقلاً وحكمةً وتزكيةً للنفوس وسموًاً روحيّاً، فلا تكون النتيجة إلَّا كما قال الشاعر، وكان شخصاً مِنَ العرب يعشق امرأةً اسمها عزَّة، كانوا يلومونه: على ماذا ولأجل ماذا أذهبَتْ عقلك ومالك وشبابك؟ فقال:
لو يَسمَعونَ كَما سَمِعتُ كَلامَها خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجـــــودا
{ كثير عزة }
يلومونني؟ فليسمعوا كلامها، أمَّا لو رأوها وسمعوا كلامها؟ فواللهِ هذا إنسانٌ مع إنسانٍ مثله وهكذا بَلَغ حبُّه وطاعته لمحبوبه، فكيف المؤمن والمسلم ينبغي أنْ يكون حبُّه لله عزَّ وجلَّ وعِشقُه لكلامه؟ وكيف يكون صِدقه مع وحيِ الله عزَّ وجلَّ؟ واللهِ فيه سعادة الدنيا والآخرة.

مبغض الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم هو الشانئ الأبتر
قال تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) أيها النَّبي الكريم، وأيها الإنسان المؤمن وراثةً لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، يقول الله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) تقرَّب إليه بكلِّ مَحابِّهِ من الأعمال والأخلاق (وَانْحَرْ) وتقرَّب إليه بما تملِكُ مِنْ كلِّ ما ينفعُ النَّاس مِنْ مالٍ وغيره، فإذا مشيتَ هذا الممشى (إِنَّ شَانِئَكَ) وعدوَّك ومبغِضَك (هُوَ الْأَبْتَرُ) فالذين عادَوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واستمروا على عدائه بتَرَهُم الله عزَّ وجلَّ مِنَ الوجود، جِيء برأس أبي جهلٍ فأُلقي بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مقطوعاً، فلمَّا رآه سَجَدَ شكراً لله عزَّ وجلَّ وقال:

{ الحمدُ للهِ الذي أخزاك يا عدوَّ اللهِ هذا كان فرعونَ هذه الأمةِ }

[أخرجه أحمد]

فلا نكنْ فراعنة زماننا ولا شبابنا، بل لنكن صِدِّيقي زماننا والمؤمنين بالقرآن عِلماً وعملاً وتعليماً، وكما يقول سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ واللهِ لَأنْ يُهدَى بهُداكَ رجُلٌ واحدٌ خيرٌ لكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ }

[صحيح البخاري]

(لَأنْ يُهدَى بهُداكَ رجُلٌ واحدٌ) إنساناً واحداً (خيرٌ لكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ)(19).

{ لأنْ يهدِيَ اللهُ على يديك رجلًا خيرٌ لك ممَّا طلعَتْ عليه الشَّمسُ وغَرَبت }

[صحيح البخاري]

(خيرٌ لك ممَّا طلعَتْ عليه الشَّمسُ وغَرَبت)(20)، فهل نحن مستعدُّون لنحمِل لقب ووسام الأجود، فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُعطينا وييسِّر لنا ما يُقرِّبنا إليه بفضله وإحسانه، بكرمه وجوده، وببركة هذا اليوم، ويُعطينا ما يُقرِّبنا إليه، يُعطينا فقه القرآن علماً وعملاً وأخلاقاً وتعليماً ودعوةً وإرشاداً:

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)ٌ
[سورة المائدة]

إذاً انتهى تفسير سورة الكوثر، لنْ أعطيكم درساً ثالثاً فيكفيكم اثنان، فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحسَنه، اللَّهم اجعلنا هادِين مهدِيين، ولا تجعلنا ضالِّين ولا مُضلِّين، ولا تُخزِننا لا في الدنيا ولا يوم الدين، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

كلام لضيوف من ألمانيا
أين إخواننا الشباب المسيحيون الألمان؟ أعطوهم سماعة لاسلكي فقط هل يوجد معهم؟ أهلاً وسهلاً، نُرحِّب بكم أجمل الترحيب، فأنتم أبناء عيسى المسيح عليه السَّلام، وحسب الإسلام فسيِّدنا المسيح عليه السَّلام أخٌ لسيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، فكلُّ الأنبياء عليهم السَّلام إخوة، كما يقول عليه الصَّلاة والسَّلام:

{ أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بابْنِ مَرْيَمَ، وَالأنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، ليسَ بَيْنِي وبيْنَهُ نَبِيٌّ (21) }

[صحيح البخاري]

ديننا واحدٌ، في العقائد ووحدانية الله عزَّ وجلَّ يوم الدينونة، الآخرة، وأتى سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم لا ليمحُوَ رسالة المسيح عليه السَّلام، بل لينفُضَ عنها الغُبار عبر ستمئة سنةٍ من أخطاءٍ في الترجمات أو أخطاءٍ في التأويلات، وأتى مُكمِّلاً للبرنامج والدستور الإلهي.
أمر سيِّدنا المسيح عليه السَّلام الإنسان بالتباعد عن الدنيا، فإنْ ضربك شخصٌ صفعةً على الخد الأيمن فلتعطِه الشمال، فهل يوجد مسيحيٌّ الآن في أوروبا وأمريكا إذا ضربته على خدِّه اليمين يتقبَّل شريعة سيِّدنا عيسى عليه السَّلام؟ أو بفرنسا أو بإيطاليا أو بأمريكا أو بإنكلترا؟ أتى القرآن:

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41)
[سورة الشورى]

(وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) هذه مرتبة، فالمرتبة الأعلى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ) تعفو عن خصمك أو تُصلح بين خصمين (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) تأخذ حقَّك وتنتصر لنفسك لا بأس عليك، قال: والدرجة الأعلى (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) تصبِرُ على غلطَة أخيك الإنسان وتُسامحه:

وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
[سورة الشورى]

قال سيِّدنا المسيح عليه السَّلام: "إذا أخذ رداءك" المعطف "فأعطه إزارك" يعني اخلع له بنطالك، وحينها لنْ تعرِفَ ما الذي سيفعله بك، قال النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام خاتم الأنبياء، قال (فأنا كنت تلك اللبنة) تكملة البناء، فما هدَمَ البناء ولا قطَعَ المسيحي عن المسيح عليه السَّلام، ولا اليهودي عن سيِّدنا موسى عليه السَّلام، بل أكَّد الإيمان.

حثَّ الإسلام على العلم والتقدم والإنتاج
أيَرضى الإنسان إذا نال الثانوية ألَّا يدخل الجامعة؟ وإذا نال الشهادة الجامعية وعُرِضت عليه الماجستير فما هو الأفضل له؟ وإذا نال الماجستير أفليست الدكتوراه أفضل؟ اللَّهم زدنا علماً، وكما ورد: (من استوى يوماه فهو مغبون) فالإسلام كلُّه تقدُّمٌ وزيادةٌ في العِلم والعقل والإنتاج وصفاء الروح والنفس والإنسانية (ومن لم يكن يومه خيرًا من أمسه فهو محروم، ومن لم يكن في زيادة) مِنَ الخير (فهو في نقصان، ومن كان في نقصان فالموت خيرٌ له) فهذا يُروى حديثاً وحكمةً، وعلى كلِّ حالٍ فقد دعا كلُّ القرآن إلى الحكمة، فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا مِنَ الأجود الذي تعلَّم علماً فعلَّمه.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
اللَّهم تقبلها منَّا على روح أهلنا وأحبابنا والمسلمين أجمعين، اللهم وفِّق رئيسنا لما تُحبه وترضاه، واجعل على يديه خير هذه الأمة في دينها ودنياها، وانصره في معركة السَّلام، وحقق على يديه كلَّ خيرٍ لهذه الأمة، ووفِّق رؤساء وملوك وأمراء كلِّ العرب والمسلمين لما تُحبُّه وترضاه، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وآله وصحْبِه، والحمد لله رب العالمين.

ملخص وخاتمة
فما خلاصة هذا العطاء (أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)؟ العِلم والحكمة والتزكية (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) والرَّحمة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) فأعطى الله عزَّ وجلَّ النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم هذا العطاء، واستعمَلَ هذا العطاء في تعليم النَّاس، فهل نتقبَّل نحن هذا العطاء بعده؟ وهل العِلم والحكمة للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقط؟ أم علَّمنا إياها لنتعلَّمها ثمَّ نُعلِّمها للآخرين، وبذلك نكون آمنَّا بهذه السورة الإيمان الذي يُحبُّه الله عزَّ وجلَّ ويرضاه.

الحواشي:
(1) حلية الأولياء لأبي نعيم، (8/35).
(2) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم: (3072)، كتاب التفسير، باب قوله {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}، رقم: (4501)، ورقم: (4502) وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى {يريدون أن يبدلوا كلام الله}، رقم: (7059)، صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب، رقم: (2824).
(3) صحيح البخاري، كتاب المساقاة: باب فضل سقي الماء، رقم: (2365). صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب: باب تحريم تعذيب الهرة ونحوها، رقم: (2242).
(4) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (6011)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2586).
(5) الطبراني, (10/247) (10461).
(6) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنباء: باب قول الله {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها}، رقم: (3445)، كتاب الحدود: باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، رقم: (6830).
(7) المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (2629)، (3/104)، ولفظه ضمن حديث طويل: «يا أيها الناس، إنه قد دنى مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالا، فهذا مالي فليستقد منه ولا يقولن رجل: إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله، ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي، ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقا إن كان، أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس، ألا وإني لا أرى ذلك بمغن عني حتى أقوم فيكم مرارا».
(8) سنن ابن ماجه، كتاب أبواب الفتن، باب: ما يكون من الفتن، (3952) واللفظ: «زويت لي الأرض حتى رأيت مشارقها، ومغاربها، وأعطيت الكنزين، الأصفر أو الأحمر، والأبيض، يعني الذهب والفضة، وقيل لي: إن ملكك إلى حيث زوي لك ...».
(9) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، رقم: (2286)، ولفظه: ((مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُطِيفُونَ بِهِ، يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا بُنْيَانًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، إِلَّا هَذِهِ اللَّبِنَةَ، فَكُنْتُ أَنَا تِلْكَ اللَّبِنَةَ)).
(10) السلسلة الضعيفة للألبباني، (72) .
(11) صحيح مسلم, كتاب الصيد، بَابُ الْأَمْرِ بِإِحْسَانِ الذَّبْحِ وَالْقَتْلِ، وَتَحْدِيدِ الشَّفْرَةِ، رقم: (1955).
(12) تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، (4/1634).
(13) سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641). والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682). سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223).
(14) صحيح البخاري، كتاب الأحكام: باب قول الله تعالى و {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، رقم: (7137)، صحيح مسلم، كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، رقم: (1835).
(15) المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي، أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، (1/75).
(16) تفسير الرازي، (1/226).
(17) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم: (6137).
(18) السنن الصغير للبيهقي (4/ 3) رقم (2929).
(19) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، رقم: (2783)، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضى الله تعالى عنهم، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه، رقم: (2404).
(20) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم: (3072)، كتاب التفسير، باب قوله {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}، رقم: (4501)، ورقم: (4502) وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى {يريدون أن يبدلوا كلام الله}، رقم: (7059)، صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب، رقم: (2824).
(21) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء: باب قول الله {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها}، رقم: (3442- 3443)، صحيح مسلم، كتاب الفضائل: باب فضائل عيسى عليه السلام، رقم: (2365).