تفسير سورة الكوثر 1

  • 1996-08-01

تفسير سورة الكوثر 1

الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل التحيَّات والتسليمات المُباركات على سيِّدنا مُحمَّدٍ سيِّدِ الأوَّلين والآخرِين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخَويه سيِّدينا موسى وعيسى عليهما السَّلام وعلى جميع إخوانِه من النبيين والمُرسلين، وآل كُلٍّ وصَحْبِ كُلٍّ أجمعين.

معنى الكوثر
وبعد؛ فنحن في تفسير سورة الكوثر، بسم الله الرحمن الرحيم:

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
[سورة الكوثر]

الشَّانِئ: هو العدوُّ المُبغِض والمُحارِب الذي يُعارِضُ عدوَّه في كلِّ ما يعمَله ويحاول تخريب عمَلِهِ، والكوثر له معنيان؛ الكوثر هو الخير الكثير والعطاء الكبير الغَزير، (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) يعني أعطيناك الخير العظيم والعطاء الكبير، فأعطاه الله عزَّ وجلَّ النبوَّة وأنزَلَ عليه رسالة القرآن، وأعطاه أن يكونَ رحمةً لبني الإنسان وللعالمَين وليكون نذيراً وبشيراً، أعطاه علوم القرآن ومُعلِّمَها، وأعطاه الحكمة وأنتجَ الحُكماء العُظماء وتولَّى تربيته عزَّ وجلَّ بنفسه كما يقول عليه الصَّلاة والسَّلام:

{ أدَبَّني رَبِّي فأحسَنَ تأديبي (1) }

[المقاصد الحسنة]

فكان الله عزَّ وجلَّ هو مُعلِّمَهُ ومُزَكِّيَهِ وتحت رعايته وعنايته وفي كُلِّ ما ظَهَرَ مِنه كان بمحْضِ كَرَمِ الله عزَّ وجلَّ وعنايته فهذا الخير الكثير، ويُطلقُ الكوثر أيضاً حسبَما ورَدَ في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قال:

{ بيْنَا أنا أسيرُ في الجنَّةِ إذ عرَض لي نهَرٌ حافَتاه قِبابُ اللُّؤلؤِ المُجوَّفِ فقال الملَكُ الَّذي معه : أتدري ما هذا ؟ هذا الكوثرُ الَّذي أعطاك ربُّك وضرَب بيدِه إلى أرضِه فأخرَج مِن طينِه المِسْكَ }

[صحيح ابن حبان]

هو نهرٌ في الجنَّة حافتاه على جانبي النَّهر القِبَاب من اللؤلؤ المُجوَّف، لؤلؤةٌ كلُّها قصرٌ ومنزلٌ ليس لبِناً من الطين فكل البيت من لؤلؤةٍ مجوَّفة، وفي رواية:

{ لبِنةُ ذهبٍ ولبِنةُ فضَّةٍ ومِلاطُها المِسكُ وحصْباؤُها اللُّؤلؤُ والياقوتُ وتُرابُها الزَّعفرانُ من يدخُلُها ينعَمُ ولا يبأسُ ، ويخلُدُ لا يموتُ ، لا تبلَى ثيابُه ، ولا يفنَى شبابُه }

[أخرجه الترمذي]

(حصْباؤُها) حَصَاها وأحجارها (اللُّؤلؤُ والياقوتُ)، (مِلاطُها) أي طينها.

{ حَوضي مَسيرةُ شَهْرٍ، زواياهُ سواءٌ، وماؤُهُ أبيَضُ منَ الوَرِقِ، ورائحتُهُ أطيَبُ منَ المِسكِ، وَكيزانُهُ كنجومِ السَّماءِ، مَن شربَ منهُ فلا يَظمأُ بعدَهُ أبدًا }

[أخرجه البخاري]

فقيل لبعض أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لـمَّا قال بأنَّ الكوثر هو الخير الكثير قالوا له وقد وَرَدَ أيضاً بأنَّه النَّهر الذي عَرَّفَهُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال النَّهر أيضاً من الخير الكثير.

نزول سورة الكوثر
فنزلت سورة الكوثر على سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في اشتداد المعركة بينه وبين كُفَّارِ قريشٍ وعَبَدَةِ الأصنام، فهُم في الجانب الأقوى والعدد الأكثر ووسائل القوَّة من المال والسِّلاح والأعوان؛ وأمَّا النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وحدَهُ وليس حَوْلَه إلَّا الضعفاء والفقراء والمراهقون مِنَ الغِلمان، وهو في الجانب الضَّعيف وبالوسائل الضَّعيفة ويملِكُ الجانب المُعادي كُلَّ وسائل القوَّة في المال والرِّجال والعدد وفي كُلِّ شيء، فأنزل الله عزَّ وجلَّ عليه هذه السورة ليزداد قوةً وصُموداً لئلَّا يَضْعُف، قال تعالى:

وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)
[سورة آل عمران]


شماتة الكفرة بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم
ولـمَّا رُزِقَ الأولاد الذُّكور وكانوا يُتوفَّون ويموتون في صِغَرِهِم شَمِتَ به كفار قريش وقالوا سيموت بلا عَقِبٍ وتنبَتِرُ ذُرَّيتُه فنستريح منه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ قوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) إذا فَقَدْتَ أولادك الذُّكور فقد أعطيناك الخيرَ العظيم والخيرَ بلا حدود، أعطاه أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهما وأعطاه أمَّةً سيبلغ مداها من مَطْلِعِ الشَّمس إلى مغربها؛ فماذا يَضِيرُهُ عليه الصَّلاة والسَّلام إذا لم يُرْزَقْ الولَدَ الذَّكر؟ فأعطاه النبوَّة والحكمة وفخراً أبديّاً، ففي الحديث الشريف:

{ أنا سيدُ ولدِ آدمَ يوم القيامةِ ولا فخرَ ، آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامةِ ولا فخرَ }

[حدَّثه ابن تيمية]

(أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر) وأعطاه أبناءً بعدد أمَّته:

النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
[سورة الأحزاب]

وفي قراءةٍ أظنُّ لابن مسعودٍ وهو أبوهم، فكلُّ مُسلِمٍ صادِق الإسلام وكلُّ مؤمنةٍ صادِقة الإيمان هم أبناء وأولاد سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالولادة والنَّسَبِ الخالِد الأبدي الذي يرفَعُ من ينتسِبُ إليه؛ فيرفَعُهُ ويُعِزُّهُ وينصُرُهُ في الدنيا والآخرة، قال تعالى:

إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)
[سورة غافر]

ولذلك لـمَّا نَزَلُوا للمعارك والنِّضال من أجل تحقيق إنسانية الإنسان، ونقلِهِ من إنسانِ الحيوان الذي لا يعرِفُ إلَّا شهواتِ جَسَدِهِ ولنقلِهِ من إنسانِ الوحشِ والشَّيطان الذي لا يعرِفُ إلَّا الطُّغيان والعُدوان والفساد، وتقبَّلَ المجتمع رسالته بفضلٍ من الله عزَّ وجلَّ وعناية وإلى قيام الساعة، فهل يَضُيرُهُ إذا لم يُرْزَق الوَلَدَ الجسَدِي؟ (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) فإذاً كُلُّ أمَّته أبناؤهم.

الخير الذي أُعطيَ للنبي الكريم
فقوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) الخيرَ بكُلِّ أنواعه النبوَّة وخاتَمُ النبوَّة وأعطاه (أنا سيدُ ولدِ آدمَ يوم القيامةِ ولا فخرَ)، (آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامةِ ولا فخرَ)(2)، فبعد ألفٍ وأربعمئة سنةٍ من أقصى مشارِقِ الأرض يُذكَرُ اسمه أشهد أنَّ مُحمَّداً رسول الله، ومن أقصى مغارِبِ الأرض إلى البحر الأطلَنطِي في أمريكا أشهد أنَّ مُحمَّداً رسول الله وفي إفريقيا أشهد أنَّ مُحمَّداً رسول الله، وفي سيبيريا أشهد أنَّ مُحمَّداً رسول الله ودرجة الحرارة تَصِلُ إلى خمسين وستين تحت الصفر، وسألت مُفتي سيبيريا وكنت في بلدة (أوفر) وحدودها تَصِلُ من شرق موسكو إلى بحر اليابان بمساحَةِ قارتين أو قارةٍ ونصف: ما هي أديان سُكان سيبيريا؟ فمن سيوصِلُ الإسلام إلى بلدٍ برودَتُها ستون تحت الصفر؟ قال لي ثمانون بالمئة من سُكان سيبيريا مُسلمون، فمن أوصَلَ الإسلام إلى تلك الأصقاع وتلك البِقاع التي الحياة فيها مِنْ أصعب ما يكون خاصةً للغريب والزائر.. وكان هذا ببركة أهل التصوُّف والدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ.

المعنى الحقيقي للتصؤُّف
وإذا قلت التصوُّف فأقصد بالتصوُّف تقوى الله عزَّ وجلَّ حقَّ تُقاتِه وأنْ تُطيعَهُ فلا تَعصيَهُ وتذكُرَهُ فلا تنساه فالتصوُّف هُو مقامُ:

{ الإحسانُ أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يَراك (3) }

[صحيح البخاري]

وأمَّا ما دخل على التصوُّف من بِدَعٍ وخرافاتٍ شوَّهَت جَمَاله فهذا من التزوير أنْ نُسمِّيَه بالتصوُّف، كما أنَّ واقع المسلمين الآن ليس حقيقةَ الإسلام فالذين ألحدوا ولم يعرِفُوا أداء فريضةٍ ولم يتورَّعُوا عن معصيةٍ ولا صغيرةٍ أو كبيرةٍ فهل يَصِحُّ أنْ نذُمَّ الإسلام لأنَّ في المُسلمين مَنْ يحمِلُون هذه الصفات؟ إذا دخلنا بَلداً كمكَّة أو المدينة ووجدنا فيها كما هو في كُلِّ بلدٍ من يترِكُ الصَّلاة ويشربُ الخَمْر ومن يفسُقُ ويفجُر فهل يجوز لنا أنْ نُطبِّق هذا الحكم على كُلِّ سكان مكَّة والمدينة؟ قال تعالى:

مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
[سورة الإسراء]

فكذلك التهجُّم على التصوُّف بشكلٍ مُطلق فهذا في مُنتهى الخطأ إذا لم يكن فيه عظيم المسؤولية عند الله عزَّ وجلَّ فالتصوُّف في حقيقته:

{ الناس كلهم موتى إلَّا العالِمين، والعالِمون كلهم هلكى إلا العامِلين والعامِلون كلّهم غَرقى إلا المخلِصين والمخلِصون على خطرٍ عظيم(4) }

[شعب الإيمان]

هذا هو التصوف؛ أمَّا إذا رأينا بِدَعَاً أو اختلاط النساء بالرجال أو بعض من يَفْسُقُ وهو منسُوبٌ إلى التصوُّف كما إذا رأينا هذه الصِّفات في المسلمين فهل صفات المُنحرفين عن الإسلام يَضِيْرُ بالإسلام؟ وإذا رأينا بعض المُنحرفين عن التصوُّف فهل هذا يَضِيْرُ أو يَنقُصُ من مقام التصوُّف الذي هو تزكِيَةُ النَّفس (أنْ تعبد الله كأنَّك تراه)، فانتشار الإسلام في الفليبين وإندونيسيا وماليزيا وسيبيريا وفي إفريقيا كان كُلُّهُ ببركة إيمان وصِدْقِ وإخلاص العُلَماء المتصوِّفين رضيَ الله عنهُم وأرضاهم.

صبر النبي والصحابة الكرام على الأذى
نعود إلى سورة الكوثر فقد نزَلَت وكان النَّبيُّ صلى الله ليه وسلم مهاجَمَاً في مكة، ويتفنَّنُ الأعداء بإيذائِهِ حتَّى حاولوا قَتْلَه كما يتفنَّنون في إيذاء المسلمين، فمنهم مَنْ كان يسجُنُه والداه وأكثرُ من أسلَمَ كان من الشباب حديثي الأسنان، فكان أبوه أو أهله يأخُذونه فمِنهم مَنْ يُعلّق رجليه في السَّقف ويُشعِلُ النَّار في الأرض فيأتي الدخان إلى أنفه وهو مُعلَّقٌ ليرجع عن دين مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم.
ومنهم بلالٌ رضي الله عنه الذي كان عبداً مملوكاً فيأخذه سيِّدُه وقت الظهيرة وشدة الحرِّ إلى الشَّمس فيُلقِيه على ظهره ويضع على صدِرِه الصَّخرة ليموت تحت حرارة الشَّمس، وتكون الحرارة في مكَّة خمسين أو ستين ويقول له حتَّى ترجع عَن دينِ مُحمَّد، فيقول أحَدٌ أحَدٌ فردٌ صَمَد، وسُميَّة من الصَّحابيات كانت جاريةً عند أبي جهلٍ فما زال يُعذِّبُها ضرباً وتعذيباً حتَّى طَعَنَها يوماً بحربةٍ لإصرارها وتمسُّكِها بالإسلام، ومِنْ شِدَّة الأذى أَذِنَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنْ يُهاجروا إلى الحبشة لأنَّهم ما استطاعوا أنْ يبقَوا في مكَّة ويُقيموا شعائِرَ إسلامهم؛ ومرةً أُخرى سمعوا وهُم في الحبشة بأنَّ الأمر اعتَدَلَ ورُفِعَ الإيذاء فأتوا فرأوا أنَّ شيئاً لم يتغيَّر فهاجروا مرةً أُخرى إلى الحبشة هرباً من الأذى والاضطهاد والتَّعذيب والقتل.
وحاولوا في مراتٍ متعددةٍ مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يُثنُوه ويردُّوه عن دعوته لئلَّا يُهدِمَ دين آبائهم ولا يُغيَّر من عاداتهم؛ فقالوا له مرةً: إنْ كان فيما تدعوا إليه تُريد زعامةً نجعلك زعِيمَنا ولكنْ لا تُهاجم ديننا.. كانوا أهل أصنامٍ ويغارون على دينهم والآن الكثير من المُسلمين لا يغارُ على دينِه وهو يُنتَهَكُ في بيته أو في أهله وأمامه وكأنَّه لا شيء، وإنْ كنت تريد مالاً جمَعْنَا لك حتَّى تكون أعظَمَنا ثروةً وغِنىً، وإنْ كنت تريد النساء زوَّجناك أجمل من تُريد من بناتنا وبمحضر عمِّهِ أبي طالب الذي كان يتولَّى حِمايته، فقال له: يا ابن أخي ها هُم أولاء يُعطونَك شيئاً لا يطمحُ إلى ما هو أكثر مِنْهُ الإنسان العادي في الحياة فقط اترك الدعوة، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ واللهِ لَو وَضعوا الشَّمسَ في يميني والقمرَ في شمالِي علَى أن أتركَ هذا الأمرَ حتَّى يُظهرَه اللهُ أو أهلِكَ فيه ما تركتُهُ }

[دلائل النبوة]

(واللهِ لَو وَضعوا الشَّمسَ في يميني) يعني لو ملَّكُوني السَّماء (والقمرَ في شمالِي علَى أن أتركَ هذا الأمرَ حتَّى يُظهرَه اللهُ أو أهلِكَ فيه ما تركتُهُ)(5).

تأسي الورثة بمورثهم
فورَثةُ الأنبياء الذين يريدون أن يكونوا من العلماء، وسيرِثُ الواحد مِنهُم هذا المقام ليقوم بالدعوة؛ فلا يُثنِيهِ ولا يَردُّه التَّهديد ولا المُشاكسة ولا الإعراض ولا الاتهام، قالوا عنه مجنون، وقالوا ساحر، وقالوا عن القرآن:

إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
[سورة المطففين]

يعني خُرافات وجَمَعَهُ من كُتبِ الأقدمين وجَعَلَه كتاب الله، وما تركوا نوعاً من الإيذاء بالقول والعَمل ثمَّ قاطعُوه وقاطعوا أهل بيته وقاطعوا كُلَّ مَنْ يُؤمن به؛ فلا يبيعونهم ولا يُشارونهم ولا يتعاملون معهم بزواجٍ ولا بأيِّ تقارب، وانحازَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم والمؤمنون وأهلُ بيتِهِ إلى وادٍ حول مكَّة وظلُّوا محاصَرين فيه، يمنَعُون عنهم وصول الطعام والغِذاء حول ثمانيةً وعشرين شهراً، فكَم لَقَى صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمون لظهور الإسلام وثباته؛ ثمَّ قاموا بنشرِه يحمِلُونه على أكُفِّهِم مع دمائهم وأرواحهم فلا تدخل بلداً إلَّا وتَجِدُ فيه قُبور أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
فأم حِرَامٌ في قبرص الصحابية المؤمنة وكانت قد ذهبت مع الجيش المجاهد إلى قُبرص في خلافة عُثمان وقيادة معاوية بن أبي سفيان رضيَ الله عنهما، كنت في سمرقند وهي قريبةٌ مِنَ الصين أخذونا لزيارة القَثَم ابن سيِّدنا العباس أين وُلِد؟ في مكَّة وأين كان قبرُه في سبيل الإسلام؟ فماذا يصنع المُسلم في هذا الزَّمن من أجل الإسلام تعلُّماً وإيماناً وتفتِيشاً عن المُعلِّم؛ الذي يُعلِّمُ الكتاب والحكمة ويُزكِّي نفسه ويُطهِّرُها من آثامِها ونقائِصِها وعيُوبها وفُجُورِها وكَذِبِها وغفلَتِها ومِنْ معاصِيها، لينقُلَهُ إلى عالَمِ التقوى إلى عالَمِ الذِّكر والاستقامة، قال تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)
[سورة فصلت]


قدوة المسلم في البذل في سبيل الله عزَّ وجلَّ
ثمَّ ليقوم بعد ذلك بالدَّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ لهِداية مخلوقات الله؛ ليُعلِّمَ الجاهِل ويُذكِّرَ الغافل وليَرُدَّ الشارِد عن الله عزَّ وجلَّ إلى حظيرة وحَضْرَة مرضاة وطاعة الله عزَّ وجلَّ؛ فهكذا كان المُسلم وهكذا يجب أنْ يكون، فكَمْ تحمَّلُوا مِنْ الأخطار مِنْ مُصادرة الأموال إلى التعذيب والنَّكَال ألواناً وأشكالاً؛ وصَمَدُوا وصَبَروا وهم غير مُتأففين بل فَرِحُون ومُستبشِرُون؛ فكان أحدُهم مِنْ أجل نشرِ دين الله عزَّ وجلَّ لـمَّا تحصلُ معركةٌ مع الكَفَرة عَبَدَةِ الأوثان يتوضأ ويُصلِّي ركعتين ويدعوا الله قائلاً: "اللَّهم ارزقني الشهادة ولا ترُدَّني خائباً".
فماذا يُريد مِنْ كُلِّ ما يبذُلُ! المال والروح والنفس والدَّمَ والسَّفر مجاهداً إلى العراق وإيران وأفغانستان والهند وإلى جزائِرِ البحر، فماذا كانوا يُريدون وما الذي دَفَعَهُم وأعطاهم هذه القوَّة التي استهانوا معها المصاعب والمَهَالِك؟ بل كانوا يتمنَّون أنْ يموتوا ويُستشهَدُوا في هذه الطريق.
فأين ذلك الإسلام من إسلام مَنْ يقول أنا مُسلمٌ في هذا الزَّمان؟ فماذا بَذَلْتَ من أجل الإسلام وماذا تحمَّلتَ مِنْ أذىً في سبيل الإسلام؟ فهَل فتَّشتَ أو تعرَّفْتَ على وارِثٍ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليُعلِّمَكَ وتتعلَّمَ مِنْهُ علوم القرآن لا قراءة ألفاظِ القرآن؟ فإذا أخذت الشِّيك وفيه مئة ألفٍ أو مليون دولار فإذا ما استعملته عمليًاً وصَرَفته واكتفيت بتلاوتِه وأنت جائعٌ عارٍ لا بيت لك ولا مَسْكَن وأنت نائمٌ في الشارع وتقرأ الشِّيك: ادفعوا لحامِلِهِ مليون دولار، وجائعٌ وعارٍ وقذرٌ ووسِخ، فماذا تنفَعُكَ القراءة والتلاوة؟ وهذا حال كثيرٍ مِنَ المسلمين يقرأ القرآن فلا يَفهَمُ لأنَّه لا يُريد ولا يقصِدُ أنْ يَفْهَم، ولو قَصَدَ الفَهم والعِلْمَ لسأل العالِم عمَّا لا يعلَم ولأكرَم العالِم وعظَّمَهُ وقدَّرَه؛ ليَكثُرَ العلماء ويُحاربوا الجَّهل ويحوِّلُوا الجُهلاء إلى عُلماء، ولكننا نرى في كثيرٍ من المشاهد المُسلم يُعادي العالِم، لم يَرَهُ ولم يتعامل معه ولم يؤذِه لا مِنْ قريبٍ ولا مِنْ بعيد، فتراه حامِلاً الأكاذيب والافتراءات والأباطِيل ليتنقَّصَ منه، لماذا؟ فكأنَّ الشيطان خدَّره فأخذَ مِنْهُ عقله وفهمَهُ حتى لا يُفرِّقُ بين الأبيض والأسود والحق والباطل وبين رضا الله عزَّ وجلَّ وسخَطِهِ، وأُهمِلَ العالِم حتَّى نكاد ألَّا نرى عِمَّةً في بلدنا والسبب هذا التصرُّف الظالِم الجائِر في حقِّ من تعرَّض ليرِثَ ترِكَةَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيقوم ليُعلِّمَ الكتاب والحكمة ويُزكِّيَ النفوس.

تثبيت فؤاد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بسورة الكوثر
فأنزل الله على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في شِدَّة الأزمة والهُجوم وكثرة الأعداء وقلَّة الأنصار ليثَبِّتَهُ:

وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
[سورة هود]

(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) فلا تَخَفْ ولا تحزن ولا تيأس، قال تعالى:

وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)
[سورة أل عمران]

وكُلُّ شيءٍ في الحياة يبدو قليلاً وصغيراً وضعيفاً، فشجرة التِّين العظيمة بأوراقِها وثمارِها وظلالِها وأغصانِها تبدأ من بِذرَةٍ صغيرةٍ فإذا أُعطيت هذه البِذرة ما تستحِقُّ فيفلُقُها:

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ ۖ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ (95)
[سورة الأنعام]

وكذلك المؤمن في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ ومَهما اشتدَّت الأمور وتراكَمت الظُّلمات وعَظُمَ وقَوِيَ الأعداء لا ينقُصُ من يقينِه بنُصْرَة دين الله عزَّ وجلَّ ولا نقطةٌ مَنْ بَحر؛ فعليه أنْ يبدأ اقتداءً بسُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولـمَّا بدأ النبيُّ ما كان يملِكُ مِنْ مالٍ أو رجالٍ أو سلاحٍ أو قوَّةٍ، لكنَّه كان يملِكُ الإيمان والتقوى وامتثال أمرِ الله عزَّ وجلَّ، ولكن صَدَقَ النبوَّة والوحي خلوَتَه بربِّه في غار حِراء والسِّنين المتتالية وكُلُّ مرةٍ يخلُو بربِّه العشرات من الليالي فيخلُوا مع ربِّه ذاكِراً مُقبِلاً وخاشعاً ومُنيباً حتَّى اتصل قلبُهُ وروحُه بروحِ القدس؛ فصَفَتْ روحه فصَار أهلاً لأنْ يَرى سفير الله إلى أنبيائِه يحمِلَ رسائل الله عزَّ وجلَّ والبرنامج لا لبناء الأمة العالمية ولا الدولة العالمية بل ليبنِيَ العالَم الموحَّدَ دولةً وأمةً وعقيدةً وإخاءً وسعادةً في الدنيا والآخرة.

السُّنَّة بمفهومها الحقيقي
فهذا الإيمان واتباع هذه السُّنة.. هناك أناسٌ أذا أطال لِحيته ولبِسَ جِلباباً قصيراً ووضع سِواكَاً على أذنه، وفي أثناء الصلاة يلصِقُ قَدَمَه بقدَمِ من يُصلِّي بجِواره لكي لا يدخُلَ الشَيطان بينهم، فهناك من يتمَسَّكُ بالقشور الجزئيَّة وليست جزئيَّة بل جُزيئية، ويقول لك أنا السُّنة، أين السُّنة؟ في قوله تعالى:

تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16)
[سورة السجدة]

وأين السُّنة في قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)
[سورة المزمل]

وأين السُّنة والكتاب في قوله تعالى:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
[سورة النحل]

وأين الكتاب والسُّنة في مثل قوله تعالى:

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
[سورة التوبة]

{ مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمى والسهرِ (6) }

[صحيح البخاري]

وأين السُنة في قوله تعالى:

مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ (29)
[سورة الفتح]

أسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُلهِمَنا فِقه القرآن والسُّنة وهي الطَّريقة فيجب أنْ تمشي على طريقة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في كُلِّ أعماله وأخلاقه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ في عبادته وفي تهجُّدِهِ وذِكْرِهِ لله تعالى وكان مِنْ صفات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذِكْرُهُ الله عزَّ وجلَّ على كُلِّ حال، ووَصَفَ القرآن أتباع السُّنة بقوله تعالى:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
[سورة آل عمران]


الذكر بالنفس والذكر باللسان
والذِّكْرُ ليس لفظاً يتحرَّك به اللسان بل شعورٌ في النفس وتأثُّرٌ في الروح بمذكُورِها، وبِمَنْ هي في حضْرَته ومُقْبِلَةٌ عليه، فبِدوام هذا الذِّكْر الشُّعوري الرُّوحي سواءً صاحبه ذِكْرُ اللسان أو اقتصَر على الذِّكْرِ النفسي؛ حسبما يقول الله تعالى في آخر سورة الأعراف:

وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (205)
[سورة الأعراف]

(وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ) فالذِّكْرُ بالنَّفس ليس باللسان (تَضَرُّعًا وَخِيفَةً) تذكُر الله عزَّ وجلَّ مستحضِراً عظَمَته وجلاله وقداسته (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) فالعَطفُ في النحو يقتضي التغايُر يعني نوعٌ ثانٍ؛ إذا ما استطعت أنْ تذكُرَ الذِّكْرَ الذي ذكَرَه الله عزَّ وجلَّ أولاً وما يدلُّ على أهميته فانتقل إلى المرحلة الثَّانية(وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)، آيةٌ أخرى قال تعالى:

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
[سورة الكهف]

فلا بدَّ للمُسلم وللمُسلمة لا باسم الطَّريق ولا التصوُّف ارفعوا اسم التصوُّف واسم الطَّريق نقشبندي وقادري وهي ألقابٌ لشيخٍ مثل كفتارو والخطيب ومثل الصباغ والرّز فاللقب ليس أساساً، ولنرجع إلى فقه القرآن المشرُوح بالسُّنة الصحيحة، ولكنْ لابدَّ إذا صارت لك السيارة الجيدة والجديدة فلا بدَّ من أنْ تكون مُدرَّباً ومُتعلِّماً بكيفية استعمالها والانتفاع منها فما كُلُّ مَنْ مَلَكَ سيارةً سَعِدَ بها أو ربِحَ مِنها وما كُلُّ تاجرٍ ربِحَ من تجارته فلا بدَّ مِنَ الإتقان والإحسان في استعمال الأشياء فعلى ضوئِها تكون النتائج سلبيةً أو إيجابيةً.

حال المشركين قبل الإسلام
والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في معركةٍ مع وثنيين؛ آباؤهم وأجدادهم وقبائلهم كُلُّها لا تعرف ربَّها إلَّا حجراً لا يسمعُ ولا ينطِقُ ولا يمشي ولا يتحرَّك، وفي بحرٍ من الخُرافات والأوهام والطَّبائع غير الإنسانية، فمِنهم من يتزوَّج بزوجة أبِيهِ ومِنهم من يتزوَّج عشرين زوجةً، ومِنهم من يصنع صنماً من العَجْوَة فيسجُدُ له ويُصلِّي له وإذا جاعَ قام فأكل ربَّه، هكذا كان العرب إلى جانِبِ أنهم بين الأمم لم يُعتبَرُوا بأنَّهم أمةٌ ومع الحضارات لا حضارة لهم، وبين الدول كانوا مُستَعمَرين؛ فكان الفرس مُستعمِرِي العرب في الشرق والجنوب، وكانوا مُستعمَرِين من الرومان في الغرب، وفي اليمن والجنوب كانوا مُستعمَرِين للأفارقة والأحباش، ولم يكنْ لأيِّ بلدٍ أو قريةٍ دولةٌ أو حضارةٌ أو قوَّةٌ أو استقلال، فمَنْ حوَّل العرب إلى أمَّةٍ عالميةٍ وتاريخٍ عالميٍّ خالدٍ أبديّ؟

وصول الإسلام إلى الشرق الأقصى وضعفه فيما بعد
حُدودها بالمجاهدين إلى الهند وفرنسا وبالدُّعاة إلى الله عزَّ وجلَّ تجاوزوا حدود قوَّة الجيش لأنَّه وقف عند الهند، أمَّا رجال الدَّعوة فكانوا أعظم قوَّةً ونتيجةً وثمرةً فتجاوزوها إلى آخر الشِّرق الأقصى؛ أندونيسيا مئتا مليون وبعدها لا توجد مدنٌ ولا بلدانٌ ولا إنسان، وكانت الفليبين كأندونيسيا كلُّها مسلمة؛ ولكنَّ الاستعمار البرتغالي والإسباني والأمريكي وبفِعْلِ المُبشِّرين وغياب الدُّعاة الأكفاء، وكان العلماء ورجال الدين الإسلامي بين فقيهٍ جامدٍ وصوفِيٍّ راهِبٍ منعزِلٍ عَن أمُور الدنيا والسياسة والحياة والمال والتجارة والزِّراعة والتَّفكير بهُموم الأمة، فلا يوجد غير صلاةٍ وصومٍ وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ لا رَهبانيَّةَ في الإسلامِ (7) }

[مراسيل أبي داود]

وبين فقيهٍ جّمُدَ على أمورٍ محدودةٍ في الإسلام من العبادات والمُعاملات.

حاجة المسلمين اليوم إلى من يحمل الوراثة النبوية
فضعُفَ المسلمون وقوِيَ أعداؤهم فاستولوا على بلادهم ويُحاولون الآن القضاء على ما تبقَّى مِنْ شكليات الإسلام، فإذا لم يَقُمْ من عليهم المسؤولية ووَضَعوا برنامجاً لإنتاج العالِم النبويِّ الجديد مَنْ يحمِل الوِراثة النبويَّة:

{ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ (8) }

[سنن أبي داود]

فالعالِم الوارِث هو الذي يقوم بعد موَرِّثِه فيُعلِّمُ القرآن لا تلاوةَ ألفاظه والنُّطق بآياته بل فِقهَ القرآن، قال تعالى:

وَيْل لِّكُلِّ هُمَزَة لُّمَزَة (1)
[سورة الهمزة]

فيُعلِّمُهُم كيف يتنظَّفون ويتعقَّمُون مِنَ الأوصاف والأخلاق الرَّذيلة فلا يكون طعَّاناً ولا مُغتاباً ولا مُخرِّباً للناس بذمِّهم أو ذِكْرِ مَعَايبِهِم، قال تعالى:

وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْر(2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
[سورة العصر]

فيقوم ليُجدِّد الإيمان في المجتمع ويدعوه إلى الأعمال الصالحة بقوله وبأعماله وبحكمته (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) فيجب على كُلِّ شخصٍ مِنَّا أينما وُجِدَ إذا ما رأى حقّاً مهزُوماً أو باطلاً مُنتصراً فعليه أنْ ينتصِرَ للحقِّ ويُحاربَ الباطل وبالشكل الذي يضمَنُ النتيجة والنَّصر بالحكمة والموعظة الحَسَنة (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) فلا ييأسُ ولا ينهزِم مَهْمَا طال عليه الوقت وهذا تعليم القرآن.

غفلة النَّاس اليوم عن الآخرة
قال تعالى:

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)
[سورة التكاثر]

النَّاس في غفلةٍ عن الآخرة والقرآن وعن أداء الواجبات بتسارُعِهِم وتسابُقِهم إلى مرابِح الدنيا في تجاراتها وصناعاتِها، فيظنُّ أنَّ لا آخرة فلا يعمل إلَّا للدنيا؛ فعليك أنْ تُنبِّه هذا اللَّاهي الغافِل والسَّاهي عن ضياعِهِ في بَحْرِ التَّكاثر، وتقول له: يجب أنْ تَصيرَ مُتكاثراً بالأعمال الصالحة في الإيمان والإسلام والدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ بقولِك وبعِلْمِكَ وبمالِك وبجاهِكَ وبحُكمِك وهذا تعليم القرآن، ولا نيأس فهل الزِّنا حلالٌ أم حرام واللواطة والشذوذ؟ حرام، وكذلك اليأس من رَوْحِ الله عزَّ وجلَّ من الكبائِر بل جَعَلَهُ الله عزَّ وجلَّ مِنَ الكُفْرِ فقال تعالى:

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
[سورة يوسف ]

فابدأ ولو لم يبقَ في حياتك إلَّا يوماً واحداً فاملأه واجعله زوَّادةً لآخرتك.
يذكرون عن أحد الدعاة في إفريقيا في زمن الاستعمار الفرنسي والظَّاهر بأنَّه كان نشيطاً وموفَّقاً في دعوَتِه وصار المسلمون يستجيبُون له، فعمِلَ الفرنسيون خطَّةً أوقعُوه بتُهمةٍ تُوجِبُ الإعدام ولـمَّا أخذوه إلى المشنقة والحبلُ مُعلَّقٌ وحسب قوانينهم يقدِّمُون للمعدُوم ما يشتَهي سيجارةً أو كأساً من الشاي أو طعاماً، كنوعٍ من أنواع الإنسانية، يُعلِّقون مشنقَتَهُ ويريدون تقديم الطعام له، وجلبوا المُبشِّر ليشهَدَ بشهادة الله ثالثُ ثلاثة، فقال للمبشِّر: أريدك أنْ تجلس معي ثلاثين دقيقة، ولا أريد شيئاً آخر ممَّا عرضتم، فجَلَس معه وصار يدعُوه للإسلام! المحكوم بالإعدام يدعو المُبّشِّر الذي يُبشِّرُ بالتثليث أيُوجَدُ مِنْ أملٍ! يجبُ أنْ ينشغِلَ الآن بموتِهِ وبمشنقتِهِ، ولكنَّه نسِيَ كُلَّ هذا وبقيَ معه الإسلام دعوةً وتعلِيماً وإرشاداً إليه.

الإسلام المطلوب من كل مسلم
هذا هو الإيمان فكُلُّ مُسلمٍ مِنَّا مُطالبٌ بالإسلام مِنْ كُلِّ الوجوه، أنْ تكون عينُك عينُ المُسلم وأذنك أذن المُسلم وتفكيرك تفكير المُسلم ويومك وليلك وتجارتك وشبابك وحُكمُكَ وقضاؤك وغضَبُك ورضاك، أوتظنُّون بأنَّ هذا يكون وحدَه؟ أتصير أنت حلوانياً من غير مُعلِّمٍ وحلوى الحليب المجمَّد ألا يلزمُهُ معلم؟ أتصيْرُ صانعاً للقباقِيبِ الخشبيَّة بلا مُعلِّم؟ فمَنْ مُعلِّمُك في الإسلام؟ ومَنْ الذي علَّمَك القرآن عُلومَهُ وأخلاقه وواجباته؟ ومن علَّمَك الحِكمة التي إذا حمَلتَها تُجنِّبُك الأخطاء في أقوالك وأفعالك ومشاريعِك؟ فالحكمة من تعاريفها الصَّواب في القول والعَمَل وفِعْلُ ما ينبغي، أنْ تُؤدي الواجب في الوقت الذي ينبغي على الشَّكل الذي ينبغي، فلمَّا كان المؤمن يفقَهُ القرآن والحكمة وتزكَّت نفسه وأليس واجب قانون الحياة أنْ ينجح في كُلِّ أعماله؟ وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
[سورة الروم]

لأنَّ المؤمن الذي أراده الله عزَّ وجلَّ في هذه الآية هو الذي تعلَّم الكتاب والحكمة وتزكَّت نفسه، أمَّا مُؤمنٌ لا يفهم القرآن إلَّا أنْ يتلوا أحرُفه وكلِماته فالشريط العادي يتلو القرآن أحسَنَ مِنْ تلاوة الكثير من النَّاس، فأين الحكمة وكَم ممَّن يتصدَّون للدعوة الإسلامية وهُم غارِقُون في بحر الجَهالة بالحكمة؟
يذكرون عن بعض الدعاة أنَّ ملِكاً في زمانِه كان يلبَسُ الحرير، والحرير مُحرَّمٌ على الرجال وكان من ينصحُه بتركِ الحرير وإبلاغه أنَّه حرامٌ يقطع رأسه، حتَّى ما تجرَّأ أحدٌ أنْ يعِظَهُ وينصَحضه، فأتى أحد فُقهاء الحكمة فقال لهم: أنا أزيل هذا المُنكر، قالوا له: لنْ تقدر فسيقطَعُ رأسك. قال: ما عليكم، فدخل عليه وسلَّم وجالسه وآنَسَهُ ثمَّ في جلسَةٍ مسَّ ثوبه الحريري وقال له: ما نوع هذا القماش يا ملِكَ الزمان؟ قال له: حرير أبريسم لا أدري ماذا وكذا إلى آخره.. قال له: يا ملِكَ الزمان هذا تلبَسُهُ عامَّةُ النَّاس ولم يعُد يلِيقُ بالمُلوك، وفي السوق شالٌ أنعمُ من الحرير وأغلى ثمناً بكثير، والشال مِنَ الحرير أم مِنَ الصُّوف؟ من الصُّوف، وقال له: هذا الذي يلِيقُ بك.. الخلاصة مِنْ هذا الطريق نَزَعَ عنه الحرير المُحرَّم وألبَسَهُ الصُّوف المُباح، وهذا مِنَ الحكمة.

التدرج بالتشريع
فأول ما فَرَضَ الله عزَّ وجلَّ الصَّلاة على المسلمين فرض ركعَتين في الصباح وركعَتين في المساء، ثمَّ بالتدرُّج حتَّى صارت الصلوات خمساً، وكذلك الصُّوم فكانوا يصومون مِنْ كُلِّ شهرٍ ثلاثة أيام، ولـمَّا فُرضَ رمضان من شاء فليصُم ومَنْ شاء فليُفطر ويُخرج الكفَّارة، وكذلك كانت الزكاة بالتدرُّج، فالمجموعة الساحقة مِن المُسلمين لا تفقَهُ القرآن ولا تفهَمُه ولا تُنفِّذُ أوامره ولا تقِفُ عند حدوده ولا تتجاوزها؛ لفَقْدِ المُعلِّم الحكيم والمُزكِّي والمُربِّي فهل في برنامج المدارس والمعاهد والجامعات الدينية الإسلاميَّة مادة التزكية؟ وهل في موادها تربية الشَّيخ وفِقهُ الحكمة؟ فِقهُ الحكمة وهو كيف تنجح في دعوتك وفي إعادة بناء الإسلام وفي مخاطبة النَّاس ودعوتهم إلى الله عزَّ وجلَّ والأمر بالمعروف والنِّهي عن المنكر.. قالوا: بأنَّ درهم عِلْمٍ يحتاج إلى قنطار عقلٍ وحكمة.

تعرض النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم للأذى في سبيل الدعوة
فقوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) كان هذا عزاءً للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وهو في المعركة ويُؤذَى بكُلِّ أنواع الإيذاء فيدخلون بيته وتكون القِدَرُ على الكانون وفيها ما يُطبخ لطعامه فيجعلون الأقذار والنَّجاسات فيها، فما رأيكم وهل يوجد شيخٌ يُصنع به هكذا الآن؟ لا، فالمجتمع إسلاميٌّ فما كان يُجيبهم ويُقابِلُهم إلَّا أهكذا يفعلُ الجار بجاره؟ ويطؤون عُنقه الشريف وهو ساجِدٌ عند الكعبة بأقدامهم ونِعالِهم فهل مِنَّا من تعرَّض لمِثل هذا الأذى؟ فلا يُقابِلُهم إلَّا:

فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)
[سورة المعارج]

اصفح الصَّفحَ الجميل:

الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
[سورة آل عمران]

فقوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) أمامك الخير والخير العظيم وإذا قال الله عزَّ وجلَّ الكثير والكوثر وقليلُ الله عزَّ وجلَّ كثيرٌ فكيف بكثيرِ الله عزَّ وجلَّ؟ لا تُبالي بهم واشتغل بربِّك إذا اشتغلَ النَّاس بِكَ فاشتغِل بخالِقِهِم وبذِكْرِ الله.

عمل الدنيا وعمل الآخرة
يُقال في قصةٍ أنَّ رجلاً من الصَّالحين كان يعيش كعامل، فذهب إلى سوق العمَّال فلَم يتيسَّر له عملٌ فبَدَلَ أنْ يرجِع إلى البيت دخل المسجد وبقيَ إلى المساء، بين تلاوة قرآن لكنْ أي تلاوة؟ تلاوة العِلم والفهم وتحويل الكلمات القرآنية إلى أعمالٍ وأخلاقٍ وصفات، أمَّا إذا قرأت القرآن لا لكي تجعل صدرك مُصحفاً وروحك مَعدةً تهضِمُ معاني القرآن وليظهَرَ القرآن فيكَ عملاً وأخلاقاً وسُلوكاً ودعوةً وصبراً وتحمُّلاً وإلَّا فأنت ما قرأت القرآن، فما قرأ القرآن من استحلَّ محارمه، فرجَعَ مساءً إلى البيت ليس معه شيء، وسألته زوجته ما أراد أنْ يقول لها بأنَّه لم يعمَل، قال لها: والله اليوم عمِلنا عند غنيٍّ عظيمٍ فما دفع لي وخجلتُ أنْ أُطالبه، قالت له: حسنًا وماذا سيأكل الأولاد؟ قال لها: استعيري بضعة أرغفةٍ من الجيران ولنتدبَّر أمرنا هذه الليلة، قالت له: إذاً يجب أنْ تعوِّض غداً، وامتحنه الله عزَّ وجلَّ أيضاً في اليوم الثاني وحاول أنْ يجِدَ له عملاً ولم يعمل، فقال: بدل أنْ أجلس بطَّالاً ويذهب نهاري فذهب إلى المسجد ذاكراً تالياً للقرآن ومتفهِّماً ومتدبِّراً إلى المساء ورَجَعَ إلى البيت وسألته زوجته: أين الأجرة؟ قال لها: والله عمِلنا عند الذي عمِلنا عنده البارحة فلا هو أعطاني وأنا خجلتُ فهو عظيمٌ جدّاً، قالت له: وما فائدة عظَمَتِه فمعدة الأولاد فارغةٌ فهل ستُشبعهم كلمة عظيم؟ والله ثالث يوم ٍإذا لم تجلِب فلا نوم لك في البيت ستنام في الشارع، وفي اليوم الثالث قال: يا ربِّ لا تُخزنني ولا تسوِّد وجهي ولم يحدث شيء، ولكنْ ما تزلزل يقينه مع ربِّه، وذهب للمسجد ذاكِراً وتالِياً إلى المساء ورَجَع إلى البيت وهو يعتقد بأنَّه سيُضرب على رأسه، وفي العادة عندما يطرِقُ الباب لا تكون التلبية سريعةً بل ببطءٍ خصوصاً أنَّهم ضاقوا منه، فلمَّا طرق الباب وإذا بامرأته مثل البرق ركضت وفتحت الباب تُحييه وقد تزيَّنت ولبِسَت أحسن ثيابها مثل العروس.. هل قامت القيامة؟ ليس كما هي العادة، أهلاً وسهلاً ومرحباً يا عيني أطال الله يطول عمرك، أدامَك الله لنا ؟ ما الذي يحدث! وأراد أنْ يسألها فخاف أنْ تفتضِحَ المسألة، وإذ هي تكلَّمت، فقالت: من هذا الذي تعمل عنده؟ ما أعظمَه وأكرمَه وما أعظَم عطاءَه.
قال لها: ماذا هناك؟ قالت له عندما كنت بانتظارك بعد العصر وقد نويتُ لك الشرَّ وجهَّزت العصا، وإذ بالباب يُطرقُ وسألوا أهذا بيت فلان؟ _بيتهم_ قلت: نعم من الطَّارق؟ قالوا: افتحوا الباب فقد أُرسل لكم أغراضٌ ومتاعا قالت: ففتحت الباب وإذ بجِمالٍ قد تعِبت من ثِقل أحمالها وكانت أكياساً من الأرز والبرغل والعدس وعلب السمن والعسل ولا أدري ماذا؟ فقلت لهم: لعلَّكم أخطأتم وهي ليست لنا فلا مال لدينا لكُلِّ هذا، فقالوا لي: لا أليس هذا بيت أبي عبد الله؟ -وهو بيتهم- فهذا له، قالت: ولم أرَ إلَّا وقد مُلئت ساحة الدار بالأكياس والعلب والكعك والبسكويت وغيرها إلى آخره؛ ثمَّ جلب صُرةً وقال لها: وهذه ألف دينار وسلِّمي على أبي عبد الله وقولي له هذا من مُعلِّمك الذي كنت تعمل عنده ثلاثة أيام فيُسلِّمُ عليك، ويقول لك: زِد في العمل ونحن نزيد لك في الأجرة، فمن مُعلِّمُك؟ فصار الرجل يبكي وكاد أنْ يُغمى عليه من خَشية الله عزَّ وجلَّ وقال لها: والله يا بنت الحلال لم أعمل عند أحدٍ لكنَّني عمِلت عند ربِّ العالمين، قال تعالى:

فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7)
[سورة الشرح]

فإذا ما صار لكَ عمَلُ الدنيا فاشتغل بعملِ الآخرة وإذا ما صار لك عملٌ مع الخلق فاشتغل مع الخالق.
قال تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) فيصير لك بحُكمِ الوِراثة لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا صدقت الله عزَّ وجلَّ سيُعطيك الخير الكثير إذا سلَكْتَ مِنهاجَ وسُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أعمالك وتقواك وفي أخلاقِك وفقهِك بالقرآن والسنة أمَّا أنْ تكتفي باللِّحية والعِمَّة شيءٌ ظريفٌ وهذا من السُّنة لكن مئة ألف سنةٍ تتركُها.

البحث عن معلِّم الكتاب والحكمة والتزكية
قال تعالى:

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

وقال تعالى:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
[سورة آل عمران]

أما كانت الهجرة فرضاً على المُسلم؟ فكانت الهجرة للمدينة؟ كانت إلى الله ورسوله وماذا يوجد عند الله ورسوله؟ يوجد العِلم وفِقه الكتاب والحكمة والتزكية فهل فكَّرت أنْ تُهاجِرَ إلى عِلم القرآن وإلى الحكمة والتزكية وإلى مَنْ يُعلِّمُك الكتاب والحكمة ويُزكِّيك؟ فهكذا يجب أنْ نفهَمَ القرآن لنكون مُسلمين بالمعنى الحقيقي العَملي لنقطِفَ ثِمار الإسلام.

خيرية الأمة كانت ببركة معلم الكتاب والحكمة
قال تعالى:

يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
[سورة المنافقون]

هل المسلمون الآن في عزَّةٍ وهل هُم خير أمَّةٍ في زمانهم وعصرهم، فهم كانوا ببركة مُعلِّم الكتاب والحكمة خيرَ أُمَّةٍ أُخرجت للناس وهل هذا مُمكنٌ الآن؟ ممكنٌ في كُلِّ وقتٍ إذا ضغطت مفتاح الكهرباء ستُطرد الظُّلمات ويمتلِئُ المكان بالأنوار وإذا لم تستعمِل المفتاح ستبقى ألف سنةٍ في ظلماتٍ بعضها فوق بعض، فالناس يقولون الزمان .. الزمان هو طلوع الشمس وغروبها وهو لا يجعل الجاهل عالمِاً، ولا يجعل الغنيَّ فقيراً، قال تعالى:

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
[سورة التوبة]

سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وكيف كانت حياته في عبادته وفي ذِكْرِه وتعلِيمه وفي النهوض بالأمَّة وفي عمَلِه وتضحيته وبذلِه وهِجرتِه، رفَضَ كُلَّ الإغراءات التي تصدُّه عن الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ والآن ميسَّرٌ للمسلمين كُلُّ الأمور لكنَّ الشيء الذي يكاد أنْ يُفقد هو وجود العالِم الوارِث.
فلا تُخرِّجُ الجامعات الدينية وارِثاً لعدم وجود المواد للوارِث فأين فقه القرآن والحكمة وأين فقه تزكية النفس؟ التصوُّف في الأصل هو تزكية النفس ودخل عليها دخائلٌ وصار مُحارباً وينظرون إلى دخائله ولا ينظرون إلى جوهرِه وحقائقِه؛ مثل الذي ينظر لقشرة جوز الهند الخارجية ويَغْفَلُ عن الجوز والماء المُحلَّى في الداخل، وينظر إلى الصَّبارة بِما علِقَ فيها من أشواكٍ ولا ينظرُ إلى داخلها، وينظر إلى الجوز من قشرته المُرَّة أو القاسية لا، ومع ذلك ارفعوا اسم التصوُّف واسم الطَّريق كالنقشبندي والشاذلي مع احترامي واعتقادي وتقديسي لهم رضي الله عنهم، لكنَّ لعلَّ البعضَ مِنهم ما اعتنوا بفِقهِ الحياة ولا بنِصف الإسلام.

العجز عند المسلمين اليوم في أمور الدنيا وحاجاتها
كنت في مؤتمرٍ في إندونيسيا في جاكرتا العاصمة والذي كان جامعاً لعلماء المسلمين من القارات فلمَّا ألقيت الكلمة أتيتُ على هذه الآية قوله تعالى: (وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار) فلمَّا قرأتُها ما قلت قال الله تعالى ومِنْ غير أنْ أقولها فقلت مباشرةً ربنا آتنا في الآخرة حسنةً وفي الدنيا حَسَنة؛ فما أكملتها إلَّا وقام كُلُّ المشايخ مثل الثورة ورفعوا أيديهم أخطأت، خيراً؟ قال القرآن: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا) في الدنيا أولاً ثمَّ في الآخرة! فلا تؤاخذونا نسيَ آدم فنَسِيَت ذُرِّيته

{ ونسِّيَ آدمُ فنسِّيت ذرِّيَّتُه وخطئَ آدمُ فخطئت ذرِّيَّتُه }

[صحيح الترمذي]

لكنْ أنا لست عن نسيانٍ أريد دقَّ المِسمار لآخره فأعدتُها وما قلت قال الله تعالى قلت ربنا آتنا في الآخرة حسنةً وفي الدنيا حسنةً فقامت القيامة ثلاث مرات، الخلاصة ثمَّ التفتتُ إليهم، وقلت لهم: يا عُلماء المسلمين لماذا أنكرتُم عليَّ أولاً أنا ما قلت قال الله تعالى أنا أدعُ:

وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ (4)
[سورة الضحى]

فقصداً قدَّمتُ طلب الآخرة على الدنيا، أمَّا لو قلت قال الله تعالى سأكون قد أخطأت، فإذاً أنتم انتقدتموني واستنكَرتم تقديم الآخرة على الدنيا؛ أمَّا أنتم في تعاليمكُم للمسلمين حذفتم ربَّنا آتنا في الدنيا حَسَنةً من وجود المُسلم فأين المصانع في بلاد المسلمين والتكنولوجيا المتقدِّمة ووسائل القوَّة وأين الجامعات التي تُخرِّج، في البلاد الإسلامية الآلاف إلى الآن ولا يوجد بلدٌ يُنتج طائرةً أو سيارةً؟ فلا توجد غير ألقاب بروفيسور ودكتوراه وماجستير ولا أدري ماذا وشهاداتٌ وورقٌ على الجدران لكنَّ النِتاجَ ما نزال نستورد مِنَ الخارج ولا نزال جُهلاء بالصناعة وبالتكنلوجيا وبالقوَّة فأين وحدة المسلمين؟ قال تعالى:

إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
[سورة الأنبياء]

فأين فقه هذه المعاني القرآنية؟ فلذلك لـمَّا نقرأ قوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) أعطاه الله له وأعطى لأصحابه الكوثر لـمَّا اقتدوا به أعطاهم الكوثر أيضاً وللتابعين، ونحن يُعطينا الكوثر أم التكسير احذفوا ثلاث نقطٍ فماذا تُقرأ؟ يعطي جيلنا الكوسر بالسين فلماذا؟ لأنَّنا لا نُحسِنُ قراءة القرآن؛ تقرأ على السبعة والعشرة والأربعة عشر تقرأ الأحرف، فهل قرأت لتفهم حقائق ومعانيَ وأهدافَ وأوامر القرآن وحُدوده فلا تتعدَّاها ومحارِمَهُ فلا ترتكِبها، فأين مُعلِّمُك ومربِّيكَ ومُهذِّبُكَ وأين أستاذ الحِكمة وأستاذ التزكِية؟
فقوله تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) فإذا أعطاك الله هذا العطاء فيجب أنْ ترى عمل القلب، (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) الصَّلاة زيادة الصلة بالله عزَّ وجلَّ وزيادة القُرب مِنْهُ بالأعمال الصالحة، وبالقلب والذِّكْرِ والتوجُّهِ والحبِّ والخَشية لله المُستفادة مِنْ أحبابِ الله أهل القُرب الإلهي، فتأخذ الخَشية مِنْ أصحاب الخَشية وتأخذ الحُبَّ الإلهيَّ مِنْ أحباب الله، وتأخذ الحكمة مْنَ الحكماء، فقوله تعالى(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) هذه فيما بينك وبين الله لكنْ هل سينزِلُ الله كإنسانٍ ليُعلِّمك؟ لا بل يجب عليك أنْ تُفتِّشَ عمَّن آتاه الله عزَّ وجلَّ العِلم والحكمة.

حسن الصلة بين الإنسان والله عزَّ وجلَّ
(وَانْحَرْ) هذه حُسن الصلة بين الإنسان والإنسان (فَصَلِّ لِرَبِّكَ)حُسن الصلة بين الإنسان والله عزَّ وجلَّ، فبالعبادة وبالصَّلاة التي تنهى عن الفحشاء والمُنكر والتي هي مِعراجُ المُؤمن:

{ وجُعِلَ قرةُ عيني في الصلاةِ (9) }

[سنن النّسائي]

فمُعلِّمُك الذي يُعلِّمُك صلاة الجَسَد ألَّفوا لها مِئة ألف كتابٍ، ومُعلِّمُ صلاة القلب والروح، مُعلِّمُ الصَّلاة التي تنهى عن الفحشاء والمُنكر، والتي وَرَدَت:

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
[سورة طه]

والصَّلاة التي (وجُعِلَ قرةُ عيني في الصلاةِ) والتي هي مِعراجُ المؤمن، صعودٌ ارتقاءٌ في الأخلاق والأذواق، وفي المُشاهدات فهي وقتٌ مع ربِّي لا يسعني فيه مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نبيٌّ مُرسل، (فَصَلِّ) هذه لتوثيق وتقريب وتقويَة الصِّلة بينك وبين الله عزَّ وجلَّ، فإذا اتصل الميت بشريط السلك الكهربائي ستسرِي فيه كُلُّ طاقاته، وبهذه الصلة سيُعطيك نوراً وسيُحرِّكُ لك المُحركات ويُشغِّلُ المصانع والآلات ويملأ البطاريات، فإذا أحسنت صِلتك بينك وبين الله عزَّ وجلَّ وإذا أحسنت صِلتك بينك وبين خَلْقِ الله بالنَّحر يعني بذبح الجِمال لا الغَنَم فلا يُقال للغنَم وانحر بل اذبح، يعني أنفِق من وِسْعِكَ أكثر ما يُمكن أنْ تُساعد به النَّاس فإذا فعلت ذلك، قال تعالى: (إِنَّ شَانِئَكَ) الذي سيعُاديك والذي سيَشْنِئُكَ لا الشَّنق يعني أنْ يشنُقَ فالشَّنْئُ يعني البُغض؛ فسيكون مبتوراً من يُبغِضُكَ (هُوَ الْأَبْتَرُ) وهو المقطوع عن كُلِّ خير، فلا يُعطيه الله عزَّ وجلَّ من الخير قليلَهُ ولا كثيرَهُ وسيبتُرُه من الحياة كما بَتَرَ أعداء النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فمِنْهُم من قَتَلَهُ الله عزَّ وجلَّ ومنهم ومنهم .. وبقِيَت كلمة الله هي العليا ونَصَرَ الله عزَّ وجلَّ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ونَصَرَ أصحاب نبيِّه رضيَ الله عنهم وأقام الأمَّة والدولة وأقام كلمة الله عزَّ وجلَّ، وإلى الآن سيبلُغُ الإسلام :

{ لَيَبْلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلَغَ اللَّيلُ والنَّهارُ (10) }

[مسند أحمد]


لا يمكن تحصيل الفقه الحقيقي بلا قلبٍ ذاكِر
فهل لكم أنتم الذين في المسجد لا أريد أكثر مِنكم إذا فقِهتم القرآن الفِقه الحقيقيَّ ولا يمكن أنْ تفقَهُوه بلا قلبٍ ذاكِر، قال تعالى:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

وقال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
[سورة الجمعة]

فاسعوا إلى الصَّلاة؟ لِمَ لَمْ يقل إلى الصَّلاة وقال إلى ذِكْرِ الله؟ لأنَّ المقصود والهدف من الصَّلاة الذِّكر يجب أنْ تذكُرَ الله عزَّ وجلَّ عند التكبير وتستعظِمَ عظَمَةَ الله عزَّ وجلَّ في قلبك، وأنَّه أعظم من كُلِّ شيءٍ في هذا الوجود، عند سبحانك اللَّهم يجب أنْ تكون كُلُّها ذِكر، وتُخاطب الله بسبحانك وبوجَّهتُ وجهيَ وبالحمد لله وبما تقرأه بعد الفاتحة وعند التكبير في الركوع وعند التسبيح في الركوع والسجود، وفي التشهُّد فما معنى التَّحيات؟ تُسلِّمُ على الله، هل يُسلِّمُ الشخص على آخر غائبٌ عنه وبعيد؟ فهل أنت قريبٌ من الله؟ والله قريبٌ منك فهل اقتربت؟ هو اقترب فهل اقتربت؟ فتلاحِظُ أنَّ الله معك وفي قلبك في مواجهة روحِك وتُسلِّمُ عليه، ثمَّ السَّلام عليك أيها النَّبيُّ مُخاطباً فهل استحضرت روحانية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنت في الصَّلاة ليصيرَ تلاقُحُ الأرواح ثمَّ السَّلام علينا وعلى عِباد الله الصَّالحين، فالله عزَّ وجلَّ يرزُقنا فقه القرآن.
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) فأعطى الله عزَّ وجلَّ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والعلماء أليسوا ورَثَة الأنبياء؟ فيجب أنْ يُعطوا الكوثر وإذا أعطاهم الله عزَّ وجلَّ الشيء الكثير والخير الكثير فيجب أنْ يحبِسُوه أم يوزِّعُوه ويعلِّمُوا النَّاس؟ فيعلِّمُوهم فقه القرآن ويُعلِّمُوهم العقل الحكيم لتكون أقوالهم صواباً وأعمالُهم مُنتِجَةً وناجحةً ورابحةً ويكون مُزكِّياً، وكان يقول بعضهم:
ألم تعلم بأني صيرفـــــــي أحك الأولياء على محكــــــــي فمنهم بهرج لا خير فيــــه ومنهم من أذكيه ومثلي من يُزكي
{ الصنافيري }
فإذا ماصِرنا مُزكِّين فأقل الدَّرجات أنْ نصير مزكَّايين؛ فإذا صِرتَ مُزكَّىً ومُزكِّياً فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا مِنهم هادياً ومَهدِياً وعالِماً ومُعلِّماً.
وأجودهم بعدي في الحديث النبوي قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ألا أخبِرُكم عن الأجوَدِ الأجوَدِ؟ اللهُ الأجوَدُ الأجوَدُ، وأنا أجودُ ولدِ آدمَ وأجوَدُهم من بعدي رجلٌ علَّم عِلمًا، فنشَر عِلمَه يُبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً واحدةً }

[الترغيب والترهيب]

أجود الخلق بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (رجلٌ) يعني إنسانٌ رجلٌ أو امرأة (علَّم عِلمًا) ليس فقط تعلَّم (فنشَر عِلمَه يُبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً واحدةً)(11) فتُعلِّمُونهم ما تسمعون وتُعلِّمُونهم ذِكْرَ الله عزَّ وجلَّ وتقواه وخَشيتَهُ ومُجالسَة أحبابه وورَثةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ (12) }

[صحيح البخاري]

هكذا قال نبيُّكم صلَّى الله عليه وسلَّم.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحسَنَه واجعلنا اللَّهم هادِين مَهديين ولا تجعلنا ضالِّين ولا مُضلِّين، ولا تُخزِنا لا في هذه الدنيا ولا يوم الدِّين، ورُدَّنا والمسلمين جميعاً حكاماً ورؤساءَ وملوكاً وقادةً وشعوباً إلى صراطك المستقيم ردّاً جميلاً، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وآله وصحبِه والحمد لله رب العالمين.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وسلم، اللهم تقبَّل مِنَّا هذه التهليلة المباركة وأوصل ثوابها إلى حضرة نبينا مُحمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ثمَّ إلى روح شيخنا وأستاذنا وقُرَّة أعيننا وأرواح والدينا ومشايخنا وأحبابنا والمُسلمين أجمعين وإلى روح إخواننا وأهلينا وأصحابنا والمُسلمين أجمعين، اللهم وفِّق رئيسنا لما تُحبُّه وتَرضاه، واجعل على يديه خير هذه الأمَّة في دينها ودنياها، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصَحْبِه وسلَّم.
وبمناسبة الآية يقول النَّبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام بأنَّه سيأتي بعضُ أمَّته وفي رواية بعض أصحابه يوم القيامة ليشربوا من نهر الكوثر أو ليشفَعَ فيهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فتحجِبُهُم الملائكة عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وتصدُّهُم وتُبعِدُهُم عنه صلَّى الله عليه وسلَّم فيقول النَّبيُّ الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم للملائكة أصحابي أصحابي وفي رواية أمَّتي أمَّتي فتجيب الملائكة النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فتقول: إنَّك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك.

{ أنا فَرَطُكُمْ علَى الحَوْضِ، فمَن ورَدَهُ شَرِبَ منه، ومَن شَرِبَ منه لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أبَدًا، لَيَرِدُ عَلَيَّ أقْوامٌ أعْرِفُهُمْ ويَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحالُ بَيْنِي وبيْنَهُمْ قالَ أبو حازِمٍ: فَسَمِعَنِي النُّعْمانُ بنُ أبِي عَيَّاشٍ، - وأنا أُحَدِّثُهُمْ هذا، فقالَ: هَكَذا سَمِعْتَ سَهْلًا، فَقُلتُ: نَعَمْ، قالَ: وأنا - أشْهَدُ علَى أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، لَسَمِعْتُهُ يَزِيدُ فيه قالَ: إنَّهُمْ مِنِّي، فيُقالُ: إنَّكَ لا تَدْرِي ما بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فأقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَن بَدَّلَ بَعْدِي (13) }

[صحيح البخاري]

لأنَّه يوجد من الصحابة ارتدُّوا بعد النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وحروب الرِّدة معروفةٌ، وكتيرٌ من المسلمين من أمَّة مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم عندما يريدون يوم القيامة أن يطلُبوا الشفاعة فتطرُدُهم الملائكة وتُبعِدُهُم عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويقول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول هؤلاء من أمَّتي، فيقولون له: لا فإنَّك لا تدري ماذا أحدثوا بعدَكَ، فلنُشمِّر ولنبذُل الجُّهد في تقوى الله عزَّ وجلَّ في أنفُسِنا وفي مَنْ حَولَنا.

الحواشي:
(1) المقاصد الحسنة، (73).
(2) سنن ابن ماجة، باب ذكر الشفاعة، رقم: (4308)، (2/1440)، صحيح ابن حبان، باب بدء الخلق: ذكر الخبر المصرح بأن هذا القول إنما زجر عنه من أجل التفاخر (6242)، (14/135)، باب الحوض والشفاعة: ذكر البيان بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم القيامة يكون أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع. (6475)، (14/392).
(3) صحيح البخاريِّ، في: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل عليه السَّلام، رقم: (50).
(4) شعب الإيمان، (9/ 181)، رقم: (6455).
(5) دلائل النبوة، (2/187).
(6) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (6011)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2586).
(7) مراسيل أبي داود، رقم: (188)، (2/287).
(8) سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641). والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682). سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223).
(9) سنن النّسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، رقم: (3940).
(10) مسند أحمد، رقم: (16957)، (28/154).
(11) مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176).
(12) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، رقم: (4210)، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب، رقم: (2406).
(13) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب في الحوض، رقم: (6212)، وكتاب الفتن، باب ما جاء في قول الله تعالى {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الفتن، رقم: (6643)، صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، رقم: (249).
ولفظ مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا أو لسنا إخوانك يا رسول الله قال أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله فقال أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقا سحقا)).