تفسير سورة القارعة

  • 1996-06-07

تفسير سورة القارعة

الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيِّدنا مُحمَّدٍ خاتَم النبيين والمرسلين وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخوَيه سيِّدَينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه مِنَ النبيين والمُرسلين وآلِ كلٍّ وصحْبِ كلٍّ أجمعين، وبعد:

مقدمة وترحيب:
فإنني وباسمكم جميعاً أرحب بإخواننا الأئمة والخطباء في الاتحاد السوفييتي السابق في روسيا، وبإمام جامع ليون في فرنسا، وبالإمام أبو حامد في أمريكا، وبجميع إخواننا الأئمة والخطباء، وأرجو لهم التوفيق فيما أتوا إليه ليتزودوا في ظل مئة يومٍ بما يحتاجونه مِنْ علومٍ وثقافةٍ إسلاميةٍ في وقتٍ حُرِّمَت العلوم الإسلامية في الاتحاد السوفييتي وأُتلِفَت كتب الإسلام والقرآن، فكان مَنْ يوجد عنده القرآن يُعتَبر كأنه ارتكب جنايةً عظمى، مع كلِّ هذه الضغوط والأخطار كانوا يُعلِّمون أبناءهم الإسلام في الأقبية وتحت الأرض وفي الغابات سبعين سنةً وهم يصبرون على كلِّ أنواع الضغط والعذاب وحتى القتل، تصديقاً لقول الله تعالى:

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
[سورة الحجر]

يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
[سورة التوبة]

هل هناك مَنْ يستطيع أن يضغط على الله؟

يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
[سورة التوبة]


القيامة في القرآن الكريم:
نحن الآن في تفسير سورة القارعة، القارعة في اللغة العربية هي المصيبة الكبرى والكارثة العظمى والبلاء الأكبر الذي ينزل بالإنسان فيُسمَّى بالقارعة، فالله عزَّ وجلَّ أطلق على يوم القيامة يوم يقوم النَّاس لمحكمة رب العالمين، سمَّى ذلك اليوم بالقارعة لأنه أخطر وأعظم يومٍ على الإنسان، لأنه مُعرَّضٌ فيه للشقاء الأكبر الأبدي الخالد الذي لا انفكاك عنه، خالدين في جهنم أبداً، وسُمِّيَ يوم القيامة أيضاً بالصَّاخة وهو الصوت العظيم الذي لشدته يُصِمُّ ويُطرِشُ ويُعطِّلُ الآذان، وسُمِّيَ الواقعة:

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَة (1)
[سورة الواقعة]

إشارةً إلى أنه حتميُّ الوقوع، لا يمكن إلّا أن يتحقق، وسُمِّيَ بأسماءٍ كثيرةٍ.. كلُّ ذلك ليتنبَّه الإنسان إلى أن أعماله صغيرها وكبيرها، علَنَها وخفيَّها وحقيرها، كلُّ ذلك مُسجَّلٌ عليه صورةً وصوتاً وكتابةً:

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
[سورة المطففين]

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)
[سورة الانشقاق]

(فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا) يعني يُولوِلُ ويقول يا ويلي، ( وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا ) ناراً خالداً، (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا) في الدنيا يلهو ويلعب وفي الملذات المُحرَّمة والشهوات، ولا يذكر أنه يوماً ما سيقف أمام رب العزة وتشهَد عليه:

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
[سورة النور]

بل وبقاع الأرض التي عصَوا الله فيها، فهذا من الإيمان بالآخرة وهو ركنٌ مِنْ أركان الإيمان.

الإيمان الحقيقي:
فإذا لم يُؤمن المسلم والمسلمة بالقارعة والحاقة، لماذا سُميَّت الحاقَّة؟ لأن الله يحقُّ فيها الحق ويُبطِلُ الباطل، تظهر حقائق الأشياء بصدقها أو بكذبها وصِحَّتها وبُطلانها، فلما يُسأل المسلم هل أنت مؤمنٌ بالآخرة؟ يقول: نعم، هل آمنت أن هذه الأفعى لدغتها قاتلة؟ مؤمن، لماذا تطلب أن يجعلوها ربطةً على عنقك؟ فهل سنُصدق قولك بالإيمان أم كُفرك بمحاولة أن تجعلها ربطةً على عنقك!
القثاء تعرفونه، هل آمنت أنه قثاء؟ نعم، وهذه أفعى، هذه تقتُل وهذه فاكهة تُؤكل، آمنت، أعطوني الأفعى لآكلها بدلاً من القثاء، يا ترى هذا آمن بالقول وكَفَر بالعمل، فيا تُرى يوم القيامة أيهما يُعتَبَر؟ إيمان القول أم كُفْرَ العمل؟

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
[سورة المائدة]

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)
[سورة البقرة]

( َمِنَ النَّاس مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) ولكن في التطبيق لا أثر لقوله أبداً، فماذا أجابه الله؟ قال: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِين) مؤمنٌ برسول الله؟ مؤمنٌ وروحي فداه، أريد زيارته، يضع يده على النافذة فتأتي الشرطة فتضربه، يريد أن يلمس النافذة، ولما يرجع تراه مُخالفاً لكل وصايا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأوامره! لم يعرف مِنْ محبة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلا النافذة النحاس ليلمسها، فالإيمان ليس لمساً، الإيمان عزةٌ في الدنيا والآخرة وملائكيَّةٌ في الروح والنفس والأخلاق وعِلمٌ كلُّه حتى يترشحَ العِلم مثل تصبب العرق مِنْ كلِّ ذرةٍ مِنْ وجود المسلم، الإسلام كلُّه حكمةٌ وعقلٌ ناضجٌ في إدراك الأمور والعمل بمُقتضى الحقائق والواقع والعِلم، حتى عرَّفوها بأنها -أي الحكمة- هي الصواب وتجنُّب الخطأ في القول والعمل، فالمسلم قبل أن ينطِق يُفكِّر بنُطقه هل هو صحيحٌ أم لا؟ إذا أراد أن ينظر ويمشي ويُصاحب ويأكل ويعمل.. لذلك القرآن أكثِر مِنَ التفكُّر، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:

{ تَفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادةِ ستِّينَ سنةٍ (1) }

[العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني]

فهذا الإسلام الذي كلُّه فكرٌ وعقلٌ ومعرفةٌ وعِلمٌ ومكارم أخلاقٍ وبذلُ جهدٍ وجهادٌ يبدأ من جهاد النفس والتغلُّب على الأنا والأنانية، ثم ينتقل إلى العِلم ثم التعليم لنشر العِلم في كافة بقاع الأرض، فإذا عارَضَه معارضٌ ووقف في طريق النهوض بالإنسان وإعطائه حقه مِنَ العِلم والرُّقي عند ذلك يُشهِرُ السلاح أمام أعداء العِلم والعقل والإنسانية.

أخلاق الإسلام:
لما كان يُذبَحُ في بيت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم خروفٌ أو ذبيحة فيقول في المساء: هل أهديتم إلى جارنا اليهودي؟ ما مرةً يُكررها أخرى: هل أهديتم مِنَ الشاة إلى جارنا اليهودي؟

{ ما زال جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سَيُوَرِّثُه (2) }

[متفق عليه]

الغريب غير المواطن سماه ابن السبيل فجعله مِنْ جملة الأصناف الثمانية الذين يجب إسعافهم ومساعدتهم وهو أجنبيٌّ غير مواطنٍ لأنه إنسان.
مرَّت عليه جنازة يهوديٍّ فقام لها احتراماً للموت، فقالوا: إنه يهوديٌّ يا رسول الله؟ فقال: أوليس إنساناً؟ فحفِظَ حق الإنسان لا حياً فقط بل حفظه حياً وميتاً، فهل هيئة الأمم أو مجلس الأمن أو القوانين الدولية في التشريع لا التطبيق وصلت إلى ما شَرَّعه وما طبَّقُه الإسلام؟
لما تظلَّم قبطيٌّ عند سيدنا عمر بأن ابن عمرو ضربه بالسوط على رأسه، فيأمر عمر ويُعطي القضيب للقبطي النصراني ليضرب ابن عمرو فاتح مصر حتى يشتفي، يعني حتى ينتقم لنفسه، ثم أمره أن يأخذ القضيب ويضرب به رأس عمرو، قال: لا يا أمير المؤمنين ضربت مَنْ ضربني، فقال له: والله لو ضربته ما منعَك منا أحد، وعمرو لم يضرب فما ذنبه؟ قال لأن ابنه ضربك بسلطان أبيه، فأي قانون! في المحكمة الدولية أو في مجلس الأمن الذي يُصدر قراراته لمصلحة الأقوى كأمريكا والصهيونية، ويضحكون على ذقون الشعوب الضعيفة.

الإسلام هو استجابةٌ وتلبيةٌ لنداء الله :
والإسلام ينادينا: أنتم في القارعة، أنتم في المصيبة الكبرى قارعة الدنيا، الباطل هو الذي يحكم العالَم، المطامع واستنزاف واستغلال الإنسان هو الذي يُهيمِنُ على العالَم، الأخطار والسلاح المُدمر والنووي والجرثومي وما شابه يهدد الحياة والأحياء بالزوال والفناء، ولا نجاة إلا بالإسلام، فقوموا أيها المسلمون.. مَنْ هم المسلمون الذين يحملون هذا الاسم بجدارة؟ إذا قلنا تجاه الأمراض: قوموا أيها الأطباء، يقوم الأطباء وهم يحملون معنى الطب والمعالجة، إذا صار خرابٌ ونُودِيَ بالمهندسين ليقوم أهل الكفاءات، أما إذا قِيل قوموا يا مُسلمون أين المسلمون؟ والإسلام هو استجابةٌ وتلبيةٌ لنداء الله، امتثالٌ ومسارعةٌ لامتثال أوامر الله وطاعته، سابِقوا إلى جنة:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
[سورة آل عمران]

فأين المُنادي إلى المُسارعة والمُسابقة، وأين مُوقِظُ النيام الذي يُوقظهم مِنْ نومِهِم وينقُلُهم مِنْ شخيرهم وأصوات أنوفهم إلى أصوات حكَمِهِم وأصوات أعمالهم التي تصنع الإنسان الحقيقي.

القارعة هي الكارثة الكبيرة:
فسورة القارعة، إذا قلنا القارعة، والصاخة هي الصوت العظيم الذي يُوقِظُ لا النيام قد يُحيي الأموات، والقارعة هي الكارثة الكبيرة التي لا تجعل نائماً إلا ويستيقظ ولا غافلاً إلا ويصحوا، فالله يقول لنا باسم الله أتتكم برقية، باسم الله نَزَلَ مِنَ السماء تعليمٌ جديد، باسم الله عزَّ وجلَّ جاءتكم نجدةٌ إلهيةٌ لترفعكم مِنَ الأسفل للأعلى، مِنَ التخلُّف للتقدُّم ومِنَ الجهالة والجاهلية إلى العِلم والحكمة والمعرفة، فانتبهوا عندما يُقرَأ في هذه البرقية السماوية الإلهية باسم الله الرحمن أي يُريد أن يرحَمَكم:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً) للمسلمين أم العرب أم فرنسا؟ لا لشعوب العالَم والإنسان: (رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين).
فيقول الله تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم: (الْقَارِعَة) يعني المصيبة الكبرى والداهية العظمى والكارثة الكبرى التي قد يعجَزُ العِلم والعقل عن تصوُّرِ أبعادها وفظاعتها وأهوالها، فكأن الإنسان يقول: (مَا الْقَارِعَة) ما هي القارعة التي تُخبرنا يا الله عنها؟ قال: ألا تعرفها؟ (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة) ، ألا تعرف ما هي القارعة؟ فهنا في كلِّ سورةٍ الله يصف القيامة ببعض صفاتها.. في سورة الزلزلة يقول بعض صفاتها، وفي سورة القارعة بعض صفاتها، وفي سورة الواقعة بعض صفاتها، قال: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاس كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث) الفراش لما يطير يكون ألف فراشةٍ هل يذهبون باتجاهٍ واحدٍ أم كالحَيارى يمنةً ويسرةً وفوقاً وأسفلاً ومِنَ الأمام والخلف؟ فهذا الجمع إذا كان تفرُّقُهم وانتشارهم بهذا الشكل يدلُّ على الحَيْرة وعدم الاتزان في العقل والفكر والإدراك مِنَ الأهوال والفَزَع مِنْ ما يُشاهده الإنسان في يوم القارعة والقيامة.

تفرق النَّاس يوم القارعة:
(يَوْمَ يَكُونُ النَّاس كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث) الأب في المشرِق والأم في المغرب، الزوج يذهب باتجاه الجبال والزوجة باتجاه البحار، وكما قال تعالى:

وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
[سورة المعارج]

الصديق الحميم الذي يُحبك بحرارة حبٍّ مثل الحمى، فلا يسأل هذا عن هذا.

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
[سورة عبس]

(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه) يا أخي أغِثني! لا يسمع، يا أخي ساعدني! لا يسمع، (وَأُمِّهِ) الأم التي ترمي نفسها في الدنيا في البحر وهي لا تسبح لتُنقِذَ ولَدَها ولا تفكِّرُ بأنها تُلقي نفسها في الهَلَكة مِنْ حُبها، أما في القيامة تفرُّ الأم مِنْ ابنها والأب مِنْ ابنه، (وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيه) زوجته (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه) أن يُفكِّر بغيره، كلُّ واحدٍ يقول نفسي نفسي!

الموعظة في سورة القارعة:
هذه سورة القارعة وحدها لو قرأها ذو قلبٍ أو ذو فكرٍ يقِظٍ حيٍّ تكفيه في أن يكون المؤمن الصادق، الأعرابي لما قرأ عليه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)
[سورة الزلزلة]

(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه) يعني يرى الجزاء والمكافأة عليه ولو كان الخير مثل رأس الدبوس، (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)، هذه هي التربية القرآنية السماوية.
النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في المسجد ومعه الحسن أو الحسين وجد تمرةً فأخذها الحسن أو الحسين أخذها ليأكلها فقال له النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ كِخْ كِخْ، أَلْقِهَا، أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَة }

[مسند أحمد]

(كِخْ)، كخ بلغة الأطفال يعني لا تأكل (أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَة)(3)، لأن الصدقة مُحرَّمةٌ على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وذرِّيته وعائلته، فخوف النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ الحرام ومع طفلٍ لا مؤاخذة عليه، كلُّ هذا مِنْ ثقافة القارعة ومعرفة الله:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

مِنْ ثقافة (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه) يرى المكافأة عليه في الدنيا والآخرة، في الدنيا:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة النحل]

المكافأة أحسن بكثير:

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
[سورة السجدة]

(جَزَاء) أي مكافأة.

الفهم الصحيح للقرآن الكريم:
(يَوْمَ يَكُونُ النَّاس كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث) كلُّ إنسانٍ يقول: نفسي نفسي حتى الأنبياء، (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش):

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
[سورة طه]

(فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) قبل القيامة (فَيَذَرُهَا) الأرض (قَاعًا صَفْصَفًا) مستويةً (لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلاَ أَمْتًا) لا جبلاً ولا وادياً.
يا تُرى هل نقرأ القرآن لنفهمه؟ لماذا تقرأ الجريدة؟ تفهم كلَّ ما قرأته، وإذا سألك سائلٌ خبراً عن الشيشان وقرأته فتُخبِرُه بكلِّ ما قرأته لأنك فهمته تماماً، فإذا قرأ قارئ القرآن وسألته ماذا فهمت؟ إذا أخرجَت الحكومة بلاغاً أن في الغد في الساعة الفلانية سيُوَزَّعُ السكر، بكم كيلو السكر في السوق؟ ثلاثون ليرة، إذا أذاعت أن غداً توزيع السكر وكلُّ شخصٍ سيأخذ عشر كيلوات، الكيلو بثلاث ليرات، فقارئ البلاغ إذا سألته ماذا فهمت؟ هل فهمت؟ هل يفهم؟
وإذا خرج بلاغٌ بمنع التجول بعد التاسعة والذي يتجوَّل يُحبَسُ خمسة أيام، فالذي يقرأ البلاغ هل يخرج بعد التاسعة؟ وهل يكتفي بعِلمه لنفسه أم يُعلِّمُ غيره؟ من أجل السكر يتصل بالهاتف لأخيه وأخته وبنت عمّه وخالِه وصِهره وحَماه ويقول: غداً سيُوَزِّعُون سكراً الكيلو بثلاث ليرات ولكلِّ شخصٍ عشرة، لماذا لما نقرأ بلاغات الله لا نفهمها؟ لأننا لا نقصِد فهمها، لو قصَدنا ولم نفهم.. إذا جاءك كتابٌ باللغة الفرنسية تبحث عن مُترجم، فلماذا نستهتِرُ بكلام الله ولا نُعطيه قدره وحقَّه مِنَ العناية بتفهُّمِه ثم العمل به؟ هل فيه كذبٌ أو خطأٌ أو شيءٌ قاله الله ولا يقع؟

أسباب ضعف الإيمان :
هذا يدلُّ على ضعف أو فَقْدِ الإيمان:

َيَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
[سورة المائدة]

لماذا؟ لأن الإيمان يحتاج المُعلِّم والمُربِّي، لماذا كانت الهجرة فريضةً على كلِّ مسلمٍ ومَنْ لم يُهاجِر:

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
[سورة النساء]

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ) الذين لم يُهاجروا (ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) وصَفَهم الله أنهم ظلموا أنفسهم، بماذا؟ لتقاعُسِهم وتخلُّفِهم عن الهجرة إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، الملائكة عند الموت تسألهم (قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ) ما الذي منَعُكم مِنَ الهجرة؟ (قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ) أنا عجوزٌ وأنا قدمي وأنا بطني وأنا عملي وتجارتي، (قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا)، فماذا كان الحكم على المُتقاعِس في نفس الآية؟ قال: (فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ)، لماذا الهجرة؟ ليتعلَّم المُهاجر الكتاب القرآن، والحكمة ليكون الحكيم، وتزكيةً لنفسه:

قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9)
[سورة الشَّمس]

فإذا سألنا المُسلم هل تعلَّمت القرآن يقول نعم، تعلَّم النُّطق بحروفه، شريط المُسجِّل ينطِقُ بحروف القرآن أحسن مِنْ نُطقِك، ويُجيد تجويده أحسن مِنْ تجويدك وبنغمةٍ أحسن مِنْ نغمتك، لكن هل يستفيد الشريط مِنَ التجويد شيئاً؟ تعلُّم القرآن هو تعلُّم مقاصده وأحكامه للعمل بها وتحويلها مِنْ حبرٍ أسودٍ على ورقٍ أبيضٍ إلى عقيدةٍ في القلوب والصدور ونُطقٍ بالحكمة وعملٍ ناجحٍ صالحٍ يُسعِدُه ويُسعِدُ المجتمع، هذا هو العِلم، ومِنْ أجل هذا فُرِضَت الهجرة.

نشر العلم والحكمة:
فأنت يا تُرى هل وجدت المُعلِّم في بلدك؟ الأنصار وجدوا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في بلدهم، إلى أين سيُهاجرون؟ المسلمون في مكة هاجروا إلى المدينة، فالهجرة الآن إذا لم يُوجد في بلدك مَنْ يُعلِّمُك القرآن ويُعلِّمُك علومه ومقاصده وآدابه وأخلاقه وإيمانه لتقوم مثل الصاروخ لماذا؟ لتنشُرَ العِلم والحكمة وتُزكِّي النفوس بحكمتك وعِلمك وتقواك وإخلاصك، لتأخذ لقب مسلمٍ لقباً صادقاً وبجدارةٍ وصحة، فإذا قمت لتُجاهِد نفسك وهواك ثم لتُجاهِد في ميدان التعلُّم والتعليم.

{ ألا أخبرُكُم بالأجوَدِ الأجوَدِ اللَّهُ الأجَودُ الأجوَدُ وأنا أجوَدُ بني آدمَ وأجوَدُهم من بعدي رجلٌ علمَ علمًا فنشرَ عِلمَه يبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً وحدَهُ ، ورجلٌ جادَ بنفسِه في سبيلِ اللَّهِ }

[مسند أبي يعلى]

(ألا أخبرُكُم بالأجوَدِ الأجوَدِ اللَّهُ الأجَودُ الأجوَدُ وأنا) يعني النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم (وأنا أجوَدُ بني آدمَ وأجوَدُهم من بعدي) المقصود الإنسان رجلاً كان أو امرأة ((رجلٌ علمَ علمًا فنشرَ عِلمَه يبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً وحدَهُ)، أيُّ دينٍ هذا الدين؟ الآن توجد أمَّةٌ لا تساوي رجلاً، العالَم الإسلامي اثنان وخمسون أمَّةً ودولة، ماذا تساوي أمام الأمم المُتقدِّمة المُتعلِّمة المُتحضِّرة الصناعية القوية؟ والإسلام جعل المسلم الواحد في الميزان يساوي أمَّةً وحده، بأيِّ شيءٍ ثَقُلَ الميزان؟ بالعِلم والتعليم، (وأجوَدُهم من بعدي رجلٌ) إنسانٌ (علمَ علمًا فنشرَ عِلمَه) ليس مِنَ الشرط أن تُعلِّم كلَّ العلوم حتى تُعلِّم، الذي تعلَّمتَه علِّمْه، لو تعلَّمت آيةً ومعناها.. سورة القارعة صارت في عنقكم أمانةٌ لتُبلِّغُوها لمن لا يعلَمُها، (يبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً وحدَهُ)(4).
وإلا أمامنا القارعة الداهية العظمى والنكبة الكبرى والكارثة التي تتجاوز العقل في فهم حقائقها، الله ذكر بعض مواصفاتها:

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
[سورة عبس]

وكذا وكذا إلى آخره.. فهل آمنت؟ هل عمِلت بمقتضاها؟ قال لك: إياك وهذا الشراب فإنه سمٌّ قاتلٌ من ساعته، جزاكم الله خيراً، هل فهمت؟ نعم، هذا الشراب سمٌّ قاتلٌ لمن يشربه مِنْ ساعته، ثم أخذت الكأس وشربته، فهل أنت مؤمنٌ أم كافرٌ أم مُستهزِئٌ أم مُتلاعِبٌ بما عُلِّمتَه ونُصِحْتَ به وحُذِّرتَ عنه؟ أنت كافِر، آمنت بالقول وكفَرْتَ بالعمل:
وإذا المقال مع الفِعال وزَنْتَه رجَحَ الفِعال وخفَّ كلُّ مقالٍ
{ ابن عربي }

تأخر المسلمين الآن وضعفهم:
مِنْ هنا تأخُّرُ المسلمين في عصرنا الحاضر وضعفهم، اليهود أربعة ملايينٍ ويُشغِّلون العالَم، ويقودون أمريكا كالراعي يقود الخروف، المسلمون في هيئة الأمم خمسون دولة، هل يُعلِي شأن الذباب أن عددهم بالمليارات؟ هل تعرفون عالَم الذباب كم عدده؟ بعد المليار ما الرقم الموجود؟ تريليون؟ وبعد الترليون؟ كاتريون، هل يُشرِّفُ الذباب أن يكون عدده كاتريون!
سيِّدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه في معركة اليرموك أرسل جواسيساً إلى جيش الروم ليأخذ معلوماتٍ صحيحةً عن العدو، فرَجَع الجواسيس وهم مِنَ العرب المتنصِّرة، فقالوا له وكان مِنْ جملة كلامهم: ما أعظم عدد الروم وجيشهم وما أقلَّ المسلمين!
انظر إلى الفقه في الدين، فقه سيِّدنا خالد رضي الله عنه، قَصَرنا الفقه على الوضوء ومسح الجبيرة والتيمُّم وهذه الأشياء التي هي جزءٌ مِنَ الدين، أما الأمور الأخرى التي تُمثِّلُ تسعين وخمسةً وتسعين بالمئة من الإسلام عزلناها عن الإسلام! فقال خالد للجواسيس النصارى: "أتُهدِّدونني بالروم؟" تقولون أن عددهم مثل الجبال ومثل أمواج البحر "وددت -كنت أتمنى- أن حصاني الأشقر كان مُعافى"، لأنه لما أتى مِنَ العراق الظاهر أن قدمه قد جُرِحَت فصار الحصان يعرُج، قال له: وددت لو أن حصاني الأشقر مُعافى وأن الروم أُضعِفُوا في العدد، حصاني بالميزان أثقل مِنْ كلِّ الروم، هذا حصانهم، أين نحن الآن؟ لغياب الإسلام عن المعركة، هؤلاء تعلَّموا الحكمة فمِنْ أين تعلَّموها؟

النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو المعلم:
لولا النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هل يكون خالدٌ رضي الله عنه بهذا الموقف ويقف أمام امبراطوريةٍ عمرها ألف سنةٍ فيهزِمُها ويهزِمُ الإمبراطورية الفارسية؟ مَنْ رشَّحه وهيَّأه لهذا المقام العظيم؟ ثم قال: ألم يتعلَّم الحكمة؟ قال كلمةً حكيمة: "إنما تَكثُرُ الجيوش بالنصر" لا بالعدد ولا العدة "وتقِلُّ بالـخُذلان"، إذا هُزِمَت وخُذِلَت فهذه أصبحت لا قليلةً بل عدماً:

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
[سورة آل عمران]

قلَّةٌ ولم تخرجوا بسلاح الحرب، بل بسلاحٍ عاديٍّ سلاح المُسافر، ثلاثمئةٍ أمام ألفٍ ومع ذلك لما كانوا مُثقفين وأخذوا شهادة الإسلام لا البكالوريا والليسانس والماجيستير وكلها أسماءٌ أجنبية، لماذا لا نُبدِّلُها بأسماءٍ عربية؟ قُل بكالوريا الأولى والثانية والثالثة مثلاً، هذا ليس له قيمة، فالاستعمار مُسيطرٌ على كلِّ شيءٍ في عقولنا وأفكارنا وأخلاقنا وديننا، صرنا نستقبِحُ ديننا ونجهَلُه ومع الأسف في المقابل قليلٌ مِنَ القليل مِنْ يُحسِنُ التعريف بالإسلام الذي يُعطي العزَّة والقوَّة وعظَمَة الدنيا والآخرة، العَظَمة في الأرض وفي السماء.

الاستعداد للقارعة:
القارعة ما معناها؟ ستأتيكم الداهية الكبرى التي لا داهية ولا شيء مُخيفاً ومُرعباً مثلها، (مَا الْقَارِعَة) هل تعرفون ما هي؟ (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة) أيها الإنسان؟ هل استعددت لها؟ إذا أتتك نكبَةٌ كبيرةٌ وسَيْلٌ عظيمٌ وعدوٌّ وجيشٌ كثيفٌ ألا تستعِدُّ له؟ لما يأتي الشتاء ألا تستعدُّ بالمازوت والفحم والثياب والسطح؟ قال: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاس كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث) مِنَ الفَزَع والأخطار:

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
[سورة إبراهيم]

تتجمَّد العيون عن الحركة: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه) لا يسأل أحدٌ عن أحدٍ كلُّ واحدٍ يذهب بجهةٍ (كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث).

من مظاهر يوم القارعة:

لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
[سورة عبس]

يعني كلُّ واحدٍ يقول: نفسي نفسي! (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش) قال كوكب الأرض ينفني وتتطايَرُ جباله حتى تصير كالعِهْنِ وهو الصُّوف الملون، توجد جبالٌ سوداءٌ وحمراءٌ وأشكالٌ أخرى، فتصير تفتتها يحفظ ألوانها وهي صارت هباءً وغباراً في الفضاء كالصوف ذو الألوان المختلفة، (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش) هذه بعض مُقدماتها، لكن أما أنت فماذا يكون مصيرك ونهايتك؟ قال: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه) أما حملة البكالوريا والأطباء والوزراء والأغنياء هؤلاء كلُّهم لاقيمةٌ لهم، النَّاس هناك ينقسمون قسمين ولا يوجد ثالث: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه) عمِلَ أعمالاً صالحةً لها وزنها.

ثقل موازين الصحابة رضوان الله عليهم:
سيِّدنا أبو بكر هل ثقُلَت موازينه؟ ارتدَّ العرب بعد وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، جزيرة العرب كلُّها ارتدت، فلما همَّ عمر رضي الله عنه بمحاربتهم وما أدراك ما عمر وشجاعته وشخصيته، خاف عمر لم يُرِد الحرب فبحسب الظاهر موازين القوى غير معقولة، فسيِّدنا أبو بكرٍ قال له: أخوَّارٌ في الإسلام شجاعٌ في الجاهلية؟ فمَنْ كان الأعظم شجاعة؟ أبو بكرٍ رضي الله عنه على سكينته وسَمْته وحضوره، سيِّدنا عمر رضي الله عنه على عظَمَتِه فمَنْ ظَهَر أنه الرجل الصامد الذي لا تُزلزِلُه العواطف، أشُجاعٌ في الجاهلية وخوارٌ - أي جبانٌ - في الإسلام؟
وكان هناك جيش أسامة رضي الله عنه كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَرَ أن يُرسله إلى فتح الشام، إمام الجامع نظَّم جيشاً لتحرير البلاد العربية مِنْ أعظم إمبراطوريتين في العالَم، فقال له: دَعْ الجيش هنا لا نرسله للشام خوفاً مِنَ أن يُهاجم الأعراب المدينة، فقال له: والله لأقاتلنَّهم ما بقيَتْ روحي في جسدي، وأرسل الجيش وكان إعلان الحرب مع القوتين الأعظم، كالاتحاد السوفييتي وأمريكا، بالنسبة لزمانهم هُما القوتان الأعظم، وهل كان تخطيط أبي بكرٍ صحيحاً أم فاسداً؟ وهل كان حقيقياً أو خيالياً أو وهمياً؟ لا، هزَمَ الفرس والرومان، هزم الاستعمار العالميَّ شرقيَّه وغربيَّه.

متطلبات المعركة اليوم:
الآن والله لو أن الله يُلهِمُ العرب أن يدخلوا الإسلام في المعركة والمعركة معركة الإسلام حسب الحكمة لا تحتاج إلى حرب سفك الدماء ولكنها حربٌ وليست بحرب، حربٌ بالسَّلام والإخاء والعِلم والحكمة والأخلاق والتعليم، أن نُعلِّم ونُعرِّف العالَم بالإسلام، أمريكا إذا أردنا أن نرسل لها أساتذةً يجب أن نرسل لها مليون أستاذٍ ليُبلِّغ، الآن الله اختصر الطريق على النَّاس بواسطة الأقمار الصناعية، إنسانٌ واحدٌ ينقلِبُ بلحظةٍ واحدةٍ بعدد أجهزة التلفاز، في أمريكا هل يوجد مليون تلفاز؟ يوجد أكثر، مليونان وعشرةٌ وعشرون، بلحظةٍ واحدةٍ يجعله الله عشرين مليون إنسان باللغة الإنكليزية، وإلى ألمانيا باللغة الألمانية، عشرون إنساناً لكلِّ بلدٍ إنسان، وإذا كان لكلِّ بلدٍ إنسانان وثلاثة على أساس الاستراحة، وبأساليب مرةً فيها مَرَح وأخرى فيها تاريخ وأخرى روحانية وربانية، أعطوا القوس بارِيها، هذه لحيتي والله بسنةٍ سنُغيِّرُ العالَم.

وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
[سورة فصلت]

هذا رأيته بعيني وجرَّبتُه بنفسي، في بلغاريا في زمن الشيوعية قمت بدعوة، فقابلني نائب رئيس الدولة، ورافقوني بمفتي بلغاريا، وكان يوم الجمعة، وفتحوا لنا جامع صوفيا، جامع العاصمة الذي أُغلِقَ منذ سبعين سنة، متكأ المنبر -الخشبة التي يضع الخطيب يده عليها لما يصعد- كفي امتلأ نصفه غبار، الخلاصة بعد العصر كان عندي لقاءٌ مع نائب رئيس الدولة، لما دخلت عليه لا أراكم الله مكروهاً، فقد قابلني بوجهٍ عبوس، لماذا أنت هكذا؟ وأنا مِنْ جَفاء المقابلة نويتُ أن أشرب فنجان القهوة وأذهب، لأنه أدار ظهره لي فكيف سأُكلِّمُه؟ لكن الله فوق كلِّ شيء، رزَقَنا الله الصدق مع أحباب الله، لأن الصدق مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صدقٌ مع الله، لم نُكمل فنجان القهوة إلا والمغاليق والأقفال الصَّدِئة التي احتاجت التزييت فُتِحَت وحدها، وبدأ الحديث واستمرَّ لساعتين إلا ربع أو يزيد، ففي نهاية الحديث قال لي كلمة: لقد شرَحْتَ صدري وأنعشتني جسدياً وروحياً، قلت له عن مسجد صوفيا، فالتفت للمفتي وقال له: اعتبر نفسك مسؤولاً عن إعادة بناء المسجد وترميمه وتزيينه وأنا مسؤولٌ أمامك عن كلِّ ما تطلبه لهذا الموضوع، بعد سنةٍ ذهبت مرةً أخرى لبلغاريا، ذهبت للجامع فإذا به كان في آخر مرحلةٍ مِنَ الدهان وصار مثل الحمامة البيضاء.

الفهم الصحيح لأهداف القرآن:
فالإسلام بمعناه القرآني لا يمكن أن ينهَزِم، إذا كان سلاحه يُعلِّمُهم الكتاب فتفهم القرآن، سورة الكهف ماذا يفهم المسلمون منها؟ لما يقرأ سورة الكهف:

نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
[سورة الكهف]

يعني لتكن لك خلوةٌ مع الله، كمثل أولئك الشباب انقطِعوا عن الخَلْق إلى ربهم مدةً معينةً حتى ينضُجوا روحياً وقلبياً وربانياً، في القصة الثانية:

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
[سورة الكهف]

مثال الغني البَطران والفقير المؤمن، كيف كانت عاقبة البَطران؟ الفناء وزوال النعمة واستمرار النعمة على المؤمن.
ثم في قصة موسى عليه السَّلام والخضر، لما سُئِلَ موسى عليه السَّلام في درسه: هل يوجد أعلَمُ منك يا موسى؟ فقال: لا، فعاتَبه الله عزَّ وجلَّ: لِمَ لَم تقُل الله أعلم؟ إن لي عبداً بمَجْمَع البحرين هو أعلَم منك يا موسى، فإذا وجد مكاناً تستطيع أن تزيد إلى عِلمك عِلماً فيجب أن تُهاجر لزيادة العِلم، والتقى بالخَضِر وحدثت الحوادث الثلاث: خَرَقَ السفينة وقتل الولد وهدم الجدار، هذا تعليمٌ لنا إذا أتت الأقدار على خلاف ما نرغب أن نُؤمن ونقول: عسى أن يكون خيراً، وبيَّن له أن اقتلاع لوح السفينة -مع أنهم ركبوهم مجاناً- كان لمصلحة أصحاب السفينة، لأنه كان هناك مَلِكٌ في طريق السفينة يغتصب كلَّ سفينةٍ جديدةٍ لا عيب فيها، فأعابَها لتنجو مِنْ غَصْبِ ذلك الظالم الجائِر المُعتدي، أما الغلام: أن تفقد ولدك، قال:

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
[سورة الكهف]

قد يصبح سبباً لكفرهم، فبدونه هم أفضل، وأما الجدار وإلى آخره..
فيجب أن نفهم مِنَ القرآن أهدافه في الآيات، لا نقول: قرأنا سورة الكهف، ماذا فهمت وماذا ستُخطط بعد قراءتك لسورة الكهف؟ فالصحابة على أمِّيَتِهِم لا يقرؤون ولا يكتبون فهموا القرآن بالقلب الذاكر النوراني وبالعقل الذي تفتَّح بالحكمة ومعرفة الأسباب والمُسببات وبالمسجد والمسجد فقط، لكن أي مسجد؟ مسجد الحياة والحكمة والعلوم والتزكية، يجب أن نرجع، نأكل الفول ونرجع للأصول، والذي يتبرأ مِنْ أبيه هل يُشرِّفُه ذلك؟ لو كان أباك نجاراً أو طحاناً أو عامل نظافة وانتسبت للمَلٍك ما اللقب الذي تأخذه؟ ابن الملك أم لقب ابن زنا وحرام؟ أما ابن عامل النظافة ابن حلال، لا يضرُّ، كم مِنْ أشخاصٍ كان آباؤهم متواضعين وصاروا ملوكاً.

تثقل الموازين بمكارم الأخلاق:
نعود للسورة:
(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش (5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة) الذي تكون أعماله الصالحة كثيرةً في عبادته وحياته وأعمال الخير ورحمته بالنَّاس وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وزيادة العِلم وتعليمه لمن لا يَعلَم مِنْ ما تعلَّمَه، أكثَرَ منها:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
[سورة آل عمران]

الجنة ثمنها العِلم والحكمة والتزكية، (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه) بأعمال الخير والتقوى وبالأعمال النافعة مِنْ أعمال الدنيا أو الدين أو الآخرة.
ثقُلَت موازينه في مكارم الأخلاق، أتى رجلٌ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسول الله إن ليَ مملوكين -عبدين- يكذِبُونني ويخونني ويعصُونني، وأنا أضربهم وأشتِمهم، فكيف حالي معهم أمام الله يوم القيامة؟ انظروا كم كانوا يفهمون إسلامهم؟ يعلمون أن هناك مسؤوليةً وهناك القارعة والحاقة وسورة القيامة وسورة الدهر، نصف القرآن كلُّه يدور حول القيامة والآخرة والحساب والنعيم المُقيم والعذاب الأليم، فأجابه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ يُحْسَبُ ما خانُوكَ وعَصَوْكَ وكَذَّبُوكَ وعقابُكَ إيَّاهُم ، فإن كان عقابُكَ إيَّاهُم بقَدْرِ ذنوبِهِم كان كَفَافًا ، لا لك ولا عليكَ ، وإن كان عقابُكَ إيَّاهُمْ دون ذنوبِهِم ، كان فَضْلًا لك ، وإن كان عقابُكَ إيَّاهُمْ فوقَ ذنوبِهم ، اقتُصَّ لهم منكَ الفَضْلُ ، أَمَا تقرأُ كتابَ اللهِ : وَ نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ }

[سنن الترمذي]

(يُحْسَبُ) يوضع في الميزان (ما خانُوكَ وعَصَوْكَ وكَذَّبُوكَ) يوضع بكفة، وضربك وسبُّك وشتمك في الكفة الأخرى، فإن رجَحَت خياناتهم وتكذيبهم فكانت أكثر مِنْ مُعاقبتك لهم اقتُصَّ لك منهم بما بقي عليهم لك مِنْ حقوق، الله يأخذ لك الباقي، وإن كان عقابك إياهم أكثر مِنْ جنايتهم اقتُصَّ لهم منك، يأخذون منك، (فإن كان عقابُكَ إيَّاهُم بقَدْرِ ذنوبِهِم كان كَفَافًا ، لا لك ولا عليكَ)(5).
فلما سمع صار يصيح يا ويلاه! قد تكون عقوبتي لهم أكثر مِنْ ما يستحقون فسأقع تحت عذاب الله، لا أستطيع حملها ولا أريد كلَّ هذا الحِمل، قال: يا رسول الله! فصار يبكي، فقال له النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ألا تسمع قوله تعالى:

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)
[سورة الأنبياء]

(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) موازين العدل (فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا) تُوضع في الميزان (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين)(6)، لا نظلِم هذا ولا هذا.

مراقبة الله لنا في كل ما نفعل:
لا نُضيِّعُ حق هذا لأنه فقيرٌ وضعيفٌ ولا نُراعي هذا لأنه ملكٌ أو وزيرٌ أو كبير، فصار الرجل يقول: مالِيَ ومالَهم؟ إشهد عليَّ يا رسول الله أنهم أحرار، لا أريد أن يزِنُوا أعمالي ولا أن يكون لهم ولا لي، هذا هو المؤمن بالقارعة، فيا تُرى المسلم الإنسان في بيعه وشرائه وغضبه ورضاه وبيته ومع زوجته وهي مع زوجها والأبناء مع الآباء والآباء مع الأبناء في فرائض الله وفي نُطقه ونظره وسمْعِه، لما يقول الله:

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
[سورة الإسراء]

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ) ينوي الغدر والمكر والخيانة والاعتداء (كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) يا تُرى هل آمن المسلم بهذه الآية؟ هل آمن بقوله تعالى:

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

(رَقِيبٌ) يُراقب لسانك ينتظر ماذا تتكلم حتى يكتب، (عَتِيد) يعني حاضرٌ لا يغيب.
حفِظْنا القرآن.. حفِظتَ حروفه فماذا حفِظْتَ مِنْ معانيه وسلوكه وأخلاقه؟ تحتاج مدرسةً أخرى لأن محل علوم القرآن هو القلب الذاكر الحي بروح الله والعقل الفاهِم الحكيم الذي يفهم كلَّ كلمةٍ هدفها وحقيقتها، لما يفهم العقل السُّم يجتَنِبُه، ولما يفهم الذهب ويُعرَضُ عليه يقبَله وهو فرِحٌ به، فإذا لم نكن في قراءة القرآن على هذا المستوى نرغب فيما يُرِغِّبُنا الله ونحذَرُ ونفِرُّ مِنْ ما يُحذِّرُنا الله، نُسارع إلى ما أمر الله بالمُسارعة إليه ونزهَدُ فيما يُزهِّدُنا الله به، وإلا فنحن لم نقرأ القرآن ولم نُؤمن به وأضَعنا الدنيا والآخرة كما حال الكثير مِنَ المسلمين في عصرنا الحاضر على كلِّ المستويات.

العيشة الراضية:
(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة) عيشٌ يرضى عنه:

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39)
[سورة عبس]

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة) مشرقةٌ بالفرح والسرور والغِبْطة والكَيف، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَة).

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
[سورة آل عمران]

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
[سورة الزمر]

حديثٌ يقول:

{ ليسَ علَى أَهْلِ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحشةٌ في قبورِهِم ولا في نشورِهم ، وَكَأنِّي بأَهْلِ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ينفضونَ التُّرابَ عن رءوسِهِم يقولونَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ (7) }

[شعب الإيمان للبيهقي]

إذا ماتوا أرواحهم لا تستوحِشُ ولا عند بعثِهِم ونُشورهم، كأني بهم تنشقُّ قُبورهم عنهم يوم القيامة ينفُضُون التراب عن رؤوسهم يقولون:

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
[سورة فاطر]

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103)
[سورة الأنبياء]

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا) عن جهنم (مُبْعَدُون (101) لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا) لا يسمعون حِسَّها ولا يرون حرارتها (لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُون (102) لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ) لا القارعة ولا الحاقة ولا والواقعة، (لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُون).

أهوال يوم القيامة:
والنَّاس في أهوال القيامة.. النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ }

[صحيح مسلم]

سبعةٌ يُظلِّهُم الله في ظلِّ عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: ملكٌ عادل، رجل الدولة إذا كان عادلاً وإذا كان بأمَّته ورعيته مُهتماً يُناصِر الضعيف ويردع الظالم ويُنعِشُ الفقير ويعمل على تعليم الجاهل ويُشجِّعُ الفضائل ويُحارب الرذائل فهذا يجعله الله في ظلِّ عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، انظروا إلى مدى اهتمام الإسلام بالدولة وبرجُلِها حيث جعله في المرتبة الاولى، الاهتمام الثاني قال: (وَشَابٌّ) الشباب (وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللهِ) نُربِّي الشباب على الإسلام الحي وإسلام العِلم والحكمة والتزكية، هؤلاء الشباب.
وفي المرتبة الثالثة قال: (وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ)(8)، كانت المساجد جِناناً وروضاتٍ غنَّاءَ وخضراء تُنبِت:

وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
[سورة ق]

العُظماء والأباطرة هل تخرَّجوا مِنَ الجامعة الأمريكية الصليبية والجامعات البريطانية؟ تخرَّجوا مِنْ المساجد، لكن يوم كان المسجد مُكتظاً ومليئاً بالعِلم والحكمة والتزكية، الآن مساجدنا صحراء، لا عِلم فيها ولا حكمة ولا مُزكٍ ولا تزكية، إمامٌ يصلي الركعات الأربع في عشر دقائق ويذهب! هل كان هكذا مسجد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ كان مسجد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يفرُغُ دقيقةً واحدةً ليلاً أو نهاراً مملوءاً بالعِلم والذِّكر والحكمة، وماذا كانت شهادتهم؟ الدكتوراه أم الماجستير؟ بل كانت عُلماء حكماء فقهاء كادوا مِنْ فقههم أن يكونوا أنبياء.

النَّبيّ هو المهندس الذي بنى الأمة الفاضلة:
النَّبيّ هو المهندس الذي يبني الأمَّة الفاضلة، الأمَّة التي لا يُوازيها أمَّة لأنها تربَّت بثقافة مهندس الكون وخالِقه ربّ العالمين.
(فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة) والله في الدنيا قبل الآخرة بدليل قوله تعالى:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة النحل]

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

والحسَنَة هل تكون بالقعود والكسل والتواكل باسم التوكُّل؟ بل بإعمال العقل والفكر والأعضاء والقوة، ندرس زماننا ومكاننا وما ينفعُنا وما يضرُّنا وأعداءنا وأصدقاءنا، في عشرين سنةٍ مِنْ مسجدٍ واحدٍ وإنسانٍ واحدٍ وهو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم جعل الأمة العربية أعظم الأمم عِلماً وحكمة وقوَّةً ودولةً وعزة، ثم في سنتين مِنْ خلافة أبي بكرٍ رضي الله عنه حرَّر بلاد العرب وبلاد الشام مِنَ الاستعمار، سنتين مِنْ خريجي المسجد لكن أي مسجد؟ المسجد الحي، حيٌّ بماذا؟ بالمصابيح والسجاد والمراوح والرخام؟ بل حيٌّ بالعِلم علوم الدنيا والآخرة وبالحكمة والعقل الحكيم الذي لا يُخطئ في قولٍ ولا عمل، كلُّه صوابٌ ولا يوجد خطأٌ وبالأخلاق.

الصحابة بعد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:
سيِّدنا عمر وعثمان رضي الله عنهما لم تمضِ عشرون سنةً حتى توسَّعت المدينة والدولة والعالَم الفاضل إلى حدود الهند وإلى باريس في عشرين وثلاثين سنة! فلما هجَرْنا القرآن لم نهجُر تلاوة حروفه، بل هجَرنا تفهُّم معانيه وهجَرنا تحقيق وفهم مقاصِده وروحه بالغَفْلة والانشِغال بخدمة الجسد مع إهمال الروح والعقل، فحقُّ الحكم القرآني علينا:

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)
[سورة الزلزلة](9)

(فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه) بالإيمان والذِّكر والهجرة، الآن النَّاس يقولون هاجرت إلى أين؟ إلى المدينة؟ ماذا يوجد في المدينة؟ أبنيةٌ وشوارعٌ مزفَّتةٌ وسيارات، الهجرة لأجل العِلم والحكمة والتزكية، ابحث عن المسجد ولو كان في الهند أو أيّ بلادٍ بعيدة، فالهجرة ليست للمكان بل للعِلم والحكمة والإيمان، لو أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هاجر لباريس لكنَّا هاجرنا لباريس، فالأمر ليس بالمكان وإنما بالسكان.
(فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة) في الدنيا هل صار المسلمون في عيشةٍ راضية؟ أحدهم باع بيعةً بألفٍ وهي تساوي مئة ألف، قالوا له: هل أنت مجنون هذه تساوي مئة ألف! فقال لهم: هل يوجد عددٌ أكبر مِنْ ألف؟ قال: أنا لا أعرف بالحساب عدداً أكبر مِنَ الألف! فبهذه البساطة مِنَ العلوم مع الإسلام الحقيقي صار أباطرة الدنيا خَدَماً وعبيداً عندهم، وزحفت الأموال إليهم مثل السيول بالملايين ومئات وآلاف الملايين.

العلم لا يؤخذ إلا من العلماء:
(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه) ميزانه خفيفٌ في العِلم والحكمة والأخلاق، لماذا؟ لأن العِلم لا يُؤخذ إلا مِنَ العُلماء، فهو لم يُفتِّش عن العُلماء ليتعلَّم، والحكمة تُؤخذ مِنَ الحكماء، لم يبحث عن حكيمٍ ليُعلِّمه الحكمة، والتزكية تُؤخَذ مِنَ الطاهرين المُطهَّرين المُزكِّين فلم يأخذ التزكية، فكيف سيكون في عيشةٍ راضية؟ (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَة) الرضيع أين يكون مجلسه؟ في حضن أمه، والذي تخفُّ موازينه مِنَ الإسلام إسلام العِلم والحكمة والأخلاق والتزكية (فَأُمُّهُ) الحنونة عليه التي يبقى في حضنها (هَاوِيَة) وما هي الهاوية؟ (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه (10) نَارٌ حَامِيَة) وفي الدنيا قبل الآخرة.

نتيجة إعراض المسلمون عن القرآن:
لما أعرض المسلمون عن القرآن بعد استقلالهم صاروا في الاستعمار، ذهبت أموالهم وعزتُهم وكرامتهم وأعراضهم وأخلاقهم وإيمانهم، ومع الأسف أيضاً تظهر جماعاتٌ على السطح باسم الإسلام لم يُؤتوا عِلماً ولا حكمة، ونحن في معركةٍ صليبيةٍ دونها معارك صلاح الدين رضي الله عنه، تلك كانت على الأرض والأموال، أما صليبية هذا العصر على الأموال والأرض والإسلام والعقيدة والأخلاق، أسأل الله أن يُرسِل صلاح الدين الدولة والسياسة والعِلم والأخلاق والتزكية، وهذه ليس شرطاً أن تكون في شخصٍ واحد، أناسٌ يتفرَّغون للحكمة، أما الذي يستطيع أن يفهم القرآن فهماً بقلبٍ ذاكرٍ نيِّرٍ لا بدَّ مِنَ القلب.

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

القلب لا يحيا ولا يكون قلباً إلا إذا غُذِّيَ بذكر الله ودخل مدرسة ذِكر الله مع أهل ذِكر الله، الحكمة مع الحكماء، فأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُوفِّقَ العُلماء والحكام وعامَّة الشعب.

العزة لا تكون إلا بالإسلام:
نحن الآن في أخطر الأخطار على أوطاننا وأجيالنا وعقولنا وأخلاقنا وإيماننا، فإذا لم نعُد كما علَّمنا آباؤنا الأول "نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، ومهما نُرِدْ العزَّة بغيره يُذلِّنا الله"، إلى الآن المسلمون لم يستعملوا الإسلام على المستوى المطلوب، بعضهم عنده إسلام الصَّلاة والصوم وهذا حَسَن.. ولكن الإسلام ليس محصوراً على الصَّوم والصَّلاة:

وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
[سورة الأنعام]

كلُّ ما يُحقق سعادتك مِنَ الذَّرة إلى المجرَّة وكلُّ ما فيه خطرك وتلفُك مِنَ الذَّرة إلى المجرَّة كله وَضَعَ له برامجه، لكن لِـمَن؟

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]


واجب كل مسلم اليوم للدعوة إلى الإسلام:
فالآن واجبٌ على كلٍّ منَّا أن يُشمِّر لإعادة بناء الإسلام بالتعلُّم والتعليم الذي تتعلَّمه علِّمه، بالذِّكر والتذكير، بالحكمة وعدم الطيش وبالنظر في عواقب الأمور، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم طافَ بالكعبة وبأصنامها عشرين سنة، يا تُرى وجود الأصنام حول الكعبة أليس منكراً؟ وإزالة المُنكر أليس فرضاً؟ لماذا أهمل النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هذا الفرض؟ لأن الحكمة تمنعُه مِنَ الإزالة ولأن الوقت لا يُناسب الإزالة، لما دخل مكة فاتحاً وطافَ بالكعبة لم يقُل حطِّموها بعد الطواف، في أثناء الطواف كلَّما مرِّ على صنمٍ طائفاً ومُحطِّماً.

التغيير يجب أن يكون بالحكمة:
الإسلام لا يُعادي الدولة الوطنية، في مصر لماذا الإسلاميون يقومون بالقتل والاغتيالات؟ هذا حرام، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ من أعانَ على قتلِ مؤمِنٍ ولو بشطرِ كلِمَةٍ جاءَ يومَ القيامةِ مَكتوبٌ بينَ عينيهِ : آيِسٌ مِن رحمةِ اللَّهِ }

[سنن ابن ماجه]

(من أعانَ على قتلِ مؤمِنٍ ولو بشطرِ كلِمَةٍ) لا بقنصِه وقتله، لو قال له: اقْ ولم يُكمِل الكلمة (من أعانَ على قتلِ مؤمِنٍ ولو بشطرِ كلِمَةٍ جاءَ يومَ القيامةِ مَكتوبٌ بينَ عينيهِ : آيِسٌ مِن رحمةِ اللَّهِ)(10).
رجلٌ يقتل شرطياً، في الجزائر يقتل المسلمون بعضهم بعضاً، تفاهموا مع الدولة، هل أخذ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حقَّه مِنْ أول سنة؟ هل حرَّم الله الخمر مِنْ أول سنة؟ خُذوا الأمور بالتدريج، الحاكم مسلم، يعني المشمش هل ينضج بالحرِّ أم بالبرد؟ كم يجتاج من الوقت ليصير مشمشاً مِنَ الزهر؟ مئة يوم، يحتاج حرارة مئة يوم، فهذه الحرارة تُنضِجُه بمئة يومٍ لأنها خفيفة، فإذا زادت الحرارة هل ينضج بيومين؟ أحضرنا المازوت والبنزين وأشعلناهم تحت الشجرة لأن حرارة المازوت والبنزين إذا اشتعل مثل حرارة المئة يوم، هل يصير الزهر مشمشاً؟ لم يُؤتوا الحكمة.
نائب رئيس وزراء بلغاريا وجهٌ عبوسٌ قمطريراً، انتقلنا بالحكمة إلى تحويل المسجد الخراب الأطلال إلى عروسٍ غنَّاء، نائب رئيس الدولة في ألمانيا الشرقية، كذلك كنت في زيارة ألمانيا فصار لقاءٌ استغرق ثلاث ساعات إلا ثلث، واتفقنا على أن سفيره في ألمانيا سيأتي إليَّ ونُطبق البرنامج المُتفَق عليه.
هل يوجد أحدٌ في الدنيا صينيٌّ أو يابانيٌّ أو شيوعيٌّ أو فرنسيٌّ أو طليانيٌّ هل يستطيع أن يقول عن هذه القبعة أنها حمراء؟ لكن إذا وضعناها تحت غلاف، هل ترون القبعة الآن؟ وإذا لم تكونوا ترونها وسألتكم ما لون القبعة واحدٌ يقول حمراء وآخر خضراء وصفراء وكذا.. الذي يُزيل الاختلاف إظهار الأمر بحقيقته، الإسلام واضحٌ يا بُني، فالعيب:
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينــــا وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانـــا وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنــبٍ وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانـا
{ الإمام الشافعي }

محاسبة النفس:
(فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة) لما نقرأ الآية سنفتِّشُ أنفسنا، لسانك هل ثقُلَت موازينه بكلمة الخير والعِلم؟ رجلك هل ثقُلت بمشيها إلى مجالِس العِلم والحكمة والخير؟ يدك هل ثقُلَت أعمالها بأعمال الخير؟ أذنك هل ثقُلَت بسماع الخير والعِلم؟ هذا المقصود، لا أن نُكررها مليون مرةٍ وللتطبيق ولا مرة، يجب إذا قرأناها مرةً أن نُطبِّقها طول الحياة وآلاف وملايين المرات، هكذا يُقرأ القرآن:

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
[سورة ص]

(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا) ليتفهَّموا بتدبُّرٍ وتعمُّقٍ (آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ) إذا نسوا وأهملوا (وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب).

ثقل الميزان يوم القيامة:
(الْقَارِعَة) يعني احذروا وحضِّروا أنفسكم للقارعة، ما هي القارعة؟ قال: سأقول لكم بعض أوصافها، النَّاس مِنَ الرُّعب والفَزَع وهَوْل الحساب يصبحون متمزِّقين لا الأب يعترِفُ على ابنه ولا الأخ يُنقِذُ أخاه والأم تفرُّ مِنْ ولدِها الوحيد، (يَوْمَ يَكُونُ النَّاس كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث) الدنيا هذه كلُّها ذهبت (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش)، المهم في الموضوع (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه) فتِّش نفسك هل رجَحَت أعمالك الصالحة، وإذا كانت كفَّتا الميزان خمسة أرطالٍ بخمسة أرطالٍ ترجح بأربع أوخمس دراهم، أما وزن خمسين طناً مقابل الثاني إذا أردت الرجوح ترجَحُ بطُنٍّ أو بنصفه، (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة)، هل أمَّنت على أن موازينك ثقُلَت؟ وانتهت الحياة ولم يعُدْ هناك خوفٌ لتؤمِّن المستقبل الأبدي والعيشة الراضية؟ أم أنت خفَّتْ موازينك فمصيرك (فَأُمُّهُ هَاوِيَة)؟ مَنْ أمك وبحضن مَنْ ستبقى؟ (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه (10) نَارٌ حَامِيَة) هل تستطيعون تحمُّل نارٍ حامية؟

قصة عن الخوف من النَّار الحامية:
يُقال بأن عابداً في مغارةٍ أو كذا.. هطَلت ثلوجٌ وأمطارٌ.. وامرأةٌ في البرية الظاهر أنها تأخرت ولا تستطيع العودة إلى الضيعة فأوَتْ للغار فرأت ذلك العابد، وخلوة الرجل بالمرأة الأجنبية حرامٌ لكن إذا بقيت في الخارج ستموت، أيضاً هلاكها حرام، فإذا خيِّرت بين حرامين تختار الأخف، لكن مع الخطورة، فوضعُها في مكانٍ في غرفته وكذا ولا يوجد عنده غير شمعةٍ واحدة، وإذ به في منتصف الليل وضع إصبعه على نار الشمعة فحرَقَ رأس الإصبع، هذا الذي يعمل هذا العمَل عاقلٌ أم مجنون؟ وبعد ساعة وضع الثانية، وبقي يفعل هذا حتى طلعت الشَّمس وقد حَرَقَ رؤوس أصابعه، المرأة خرج أهلها يُفتِّشون عنها فوجدوها عنده، فشكروه، فسألوها كيف كانت الليلة؟ ليلةٌ جيدة وهذا رجلٌ صالحٌ لكنه مجنون، لماذا؟ فقالت: في الليل أحرق رؤوس أصابعه العشرة، كيف هذا؟ فسألوه فقال: أتاني الشيطان يُغريني بالحرام، فقلت له: هل تصبِر على النيران في الآخرة والقارعة والحاقة؟ فقال: أصبر، فقال: سأجرِّبُك، قال: فوضعت إصبعي على باب شمعةٍ وأنا أقول: الشمعة أفظع أم جهنم أفظع؟ فقال: لا جهنم أفظع، لما وضعها تألَّم، فقال له: هل تستطيع؟ فقال لا، لما سَكَن الوجع أتى الشيطان، فبقي في هذه المعركة حتى حَرَق أصابعه العشرة، هذا هو المؤمن، (فَأُمُّهُ هَاوِيَة (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه (10) نَارٌ حَامِيَة)، أما أن نسمع الدرس وطول الله عمره وما أحلى هذا الدرس ومتى ما أتت أهواؤنا وغضبنا ومطامعنا ونفوسنا وثوراتنا ننسى كلَّ شيءٍ لا.. هذا يحتاج كثرة الذِّكر وقوَّة الرابطة بالحب:

{ المرءُ على دينِ خليلِه فلينظُرْ أحدُكم من يخالِلُ (11) }

[مسند أحمد]


صمود سوريا في معركتها مع اليهود
ادعوا لرئيسنا يا بنيّ، والله أنا أحياناً أدعو له قبل أن أدعو لنفسي وأهلي، لأنه بقيَ وحده في المعركة لكن الله معه إن شاء الله، جمَعَ الله كلمة العرب لأنه إذا ذهبت سوريا فالعدو.. فهذا الصلح والمعاهدات هذه كلها مخدرات، إسرائيل كتبت على باب برلمانها: "من النيل إلى الفرات"، لا، إذا أرادت الوصول لإندونيسيا تصل للمغرب الأقصى وحيث شاءت، المال الداشر يُعوِّدُ اللص على السرقة، فإذا لم ننهض كلنا نهضةً واحدةً وعلى طريقة سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، كما يدعو الرئيس بحقيقته وجوهره للإسلام، ويتكاتف الشعب مع الدولة، ونُصلِح الأمور بالحكمة والموعظة الحسنة، لا نريد هيئة أمم، خمسون قراراً كلهم كذبٌ بكذب، الذي لإسرائيل فوراً والذي لنا على رفوف الإهمال والغبار، أليس كذلك؟ ما لنا مُنقِذٌ إلا العودة للإسلام، والعودة ستكون بالحكمة:

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
[سورة ص]

(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ) مبارك يعني كثير الخيرات والعطاء (لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) لا ليتسمتعوا بأصواته ونغماته، (لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ) إذا نسوا (وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب).
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّدٍ وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

الحواشي:
(1) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني، رقم: (43)، (1/ 299).
(2) صحيح البخاري، باب الوصية بالجار، رقم: (6015)، صحيح مسلم، باب الوصية بالجار والإحسان، رقم: (2625).
(3) مسند أحمد, رقم: (9308), (15/177), بلفظ: ((أَنَّ الْحَسَنَ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِخْ كِخْ، أَلْقِهَا، أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَة)), سنن الدارمي, رقم: (1682), (2/1023).
(4) مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176).
(5) سنن الترمذي, كتاب التفسير، بَابٌ: وَمِنْ سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ، رقم(3165) .
(6) سنن الترمذي.
(7) شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (99)، (1/202)، المعجم الأوسط، رقم: (9478)، (9/181).
(8) صحيح البخاري, كتاب الزكاة, باب الصدقة باليمين, رقم: (1423), صحيح مسلم, كتاب الزكاة, باب فضل إخفاء الصدقة, رقم: (1031).
(9) يوجد انقطاع في الصوت %%%.
(10) سنن ابن ماجه، كتاب الديات، باب التغليظ في قتل مسلم ظلما، رقم: (2620).
(11) مسند أحمد، رقم: (8417)، (4/142)، مسند الطيالسي، رقم: (2696)، (4/299).