تفسير سورة الكافرون

  • 1996-08-23

تفسير سورة الكافرون

الحمد لله رب العالمين، وأعطرُ وأفضل و أكملُ التحيّات على سيِّدنا مُحمَّدٍ خاتم النبيِّين والمرسلين والمبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخَوَيه سيِّدينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ وصَحْبِ كُلٍّ أجمعين، وبعد:

تذكير بما سبق
فنحن الآن في تفسير سورةِ الكافرون، يقولُ الله تعالى:

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
[سورة الكافرون]

وردَ عن هذه السورة في بعض الأحاديث بأنها تَعدِلُ ربعَ القرآن، وسورة الزلزلة تعدِلُ ثُلُثَ وفي روايةٍ نِصْفَ القرآن، فكثيرٌ من النَّاس ظنُّوا أن مجرَّدَ تلاوتِها يحُوْزُ القارئ على هذه الجائزة والمثوبة، مقصودُ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن ربُعَ القرآن يهدِفُ ويَدْفَعُ إلى حقيقة معنى هذه السورة.

الكُفر في أصل اللغة
فهذه السورة أولًا خطابٌ من الله لرسوله الكريم: (قُلْ) يعني يا مُحمَّد (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، الكُفْرُ في أصل اللغة هو السَّتْر وحجبُ الشيء عن الرؤية، ولذلك سمَّى الله المزارعين -الزُّرَّاع- سمَّاهم كُفَّاراً لأنهم يَسْتُرُون البذورَ في التراب:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(20)
[سورة الحديد]

(كَمَثَلِ غَيْثٍ) مطرٍ (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) يعني الزُّرَّاع(نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ) الزرع (مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) فمعنى أنها تَعدِلُ رُبْعَ القرآن إشارةٌ إلى حقيقةٍ غالية، ربع القرآن مجملٌ في سطرين صغيرين، فما هو هذا الربعُ الذي جَعَلَ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هذه السورة رمزاً لربعِ القرآن؟ هذه السورة فيها حكمةٌ عظيمةٌ في تبليغ الدعوة إلى الناس حيث تكون بالحكمة والموعظة الحَسَنة، الحكمة هي الإقناع وكَشْفُ المُغطَّى والمستور عن السَّامعِ حتى يظهر بحقيقته وواقعيته، كما إذا قلنا هذا ياسمين، فإذا كان مُغَطَّى قد يقول قائلٌ: هذا برتقالٌ أو غير ياسمين، أما إذا كشفنا الغطاء وظهرت الحقيقة فلا يوجد جدلٌ أو صدودٌ أو رفضٌ للمُدَّعَى.

الحكمة هي معرفة الأمورِ بحقائقها
كذلك هذه السورة يقول الله:

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
[سورة يس]

كُلُّه حكمة، والحكمة هي معرفة الأمورِ بحقائقها، ومعرفة ارتباطِ الأسبابِ بمُسبباتها قدراً وشرعاً، أن نعرِفَ حكمة الأقدار والتشريع وخلقاً وأمراً، نعرِفُ حكمة الخلق وغاية وأهداف الأوامر الإلهية، لم يأمُرنا الله بأمرٍ إلا لإسعادنا، ولم يُحَرِّم علينا شيئاً إلا لأن فيه شَقَاءَنا وضَرَرنا، والقرآن سمَّاه الله بالحكيم وهو الصواب في القولِ والعمل، والحكمة فعلُ ما ينبَغِي أن تُؤدِّيَ ما يجبُ في الوقت الذي ينبَغِي والمناسب وعلى الشكل الذي ينبَغِي.

الصبر على الأذى في حال الضعف
فهذه السورة نَزَلَتْ على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مكَّة والإسلام ضعيف، وحول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يوجد شبابٌ كثيرٌ منهم لم يبلغ العشرين سنة، والفقراء وبعض العبيد المماليك، أما الأقوياء والأغنياء والأمراء فهم مُعْرِضُونَ ومُعارِضُون وناقِدُون ومُحارِبُون، فكَفَّةُ العامِرِيْنَ في الإسلام في مُنتهى الضَّعف، فالضعيف إذا كان له برنامجٌ ومخططٌ لا يجوز أن يُثِيرَ عليه القوى التي لا يستطيع مجابهتا:

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(195)
[سورة البقرة]

ولذلك كان الصَّحابة عندما يضغطُ الكُفَّار عليهم في مكة فحماس الشباب وثورتهم يستأذنون النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُقاتِلُوا، فيقول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (يا عمر أنتم قليل)، يعني لو حاربتم تفشَلُون وتَنهزِمُون.

المراد من الحرب النصر وليس القتل
وليس المرادُ من الحرب أن نقاتل ونُقْتَلَ، بل المرادُ أن ننتصر لينتصر الحقُّ ونستطيع أن نُنْقِذَ الإنسان ونرفعَ مستواه الإسلامي عقلاً وعلماً واقتصاداً وكُلَّ ما يرفع مستواه في كُلِّ شؤون حياته، وهذا يتوقف على الحكمة ومعرِفَةُ الأمور بحقائقها، نعرِفُ الأفعى أنها أفعى فتوجب المعرفة الاحْتِرَازَ مِنها واجتنابَها، نعرِفُ العَسَل عَسَلاً فيه شفاءٌ وغذاء إلى آخره..
ومعرفة ارتباط المُسببات بأسبابها، في اللَّيل نستطيع أن نقرأ الكُتُبَ إذا وُجِدَ النور، فالنور سببٌ والقراءة بوجود النور مُسبَّبٌ عن وجود النور، الزواج سببٌ والذي يتَسبَّبُ عنه إنجاب الولد، أما أن نطلب مُسبَّبَاً بلا سبَبِهِ وأن نطلب الأشياء بدون أن نَتَعرَّفَ على حقائِقِها قبل أن نطلبها ونَقْدُمَ لها وعليها فهذا مخالفٌ للإسلام والقرآن، لأن القرآن حكيم والنبوَّةُ عِلْمٌ وحكمة، يعني عِلْمٌ وعقلٌ حكيمٌ لا يُخْطِئ، دائماً أعماله مرشحةٌ عن الفِكر والفَهم والتعرُّف على الأمور قبل الإقدَام عليها.

تحقق وعود الله عزَّ وجل
لذلك قال الله:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
[سورة مُحمَّد]

(إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ) يعني إن تتقبلوا تعاليمه ووصاياه وشريعته التي كُلُّها حقائقٌ وحكمٌ وأسبابٌ ومسبباتٌ روحاً وعقلاً وعملاً واكتساباً (يَنْصُرْكُمْ) أسبابٌ ومُسَبَّبات، فوصل المسلمون إلى مستوى أن تركوا الأسباب واستَعَاضُوا عن تركِهَا والعمل بها بالدعاء، اللهم اللهم.. الدعاء محبُوبٌ ومطلوبٌ:

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
[سورة غافر]

لكن في آيةٍ أخرى قال الله:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
[سورة البقرة]

يعني لأستَجِيْبَ لهم، أما إذا دعاك الله فقال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
[سورة البقرة]

الله يناديك ويدعُوكَ، فإذا لم تستَجِبْ له، فإذا دَعوتَهُ لا يستجبُ لك، هذا صريحُ القرآن وواضِحُه:
فمن النَّاس من يقول:

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

فماذا أجابهم الله عن طلبهم؟ قال:

أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
[سورة البقرة]

(أُولَئِكَ) الذين يدعُونهم يُستَجَابُ لدُعائِهِم! لا، قال: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) إذا عمِلُوا وهَيَّؤوا الأسباب لما يطلبُونَهُ أهيِّئُ لهم المُسبَّبَات والطلبات التي يطلبونها.
لذلك مع أن من أسماء الله الحفيظ ومن وَعْدِ الله لنبيِّهِ:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
[سورة المائدة]

كان إذا نَزَلَ الحرب لا يكتفي بلبسِ دِرعٍ بل كان يرتدي درعين، دِرْعَاً فوق درعٍ، لم يترك الأسباب وقال: اللَّهم انصُرنا على القوم الكافرين، المسلمون الآن يظنُّون أنَّ الله يُعْطِيهُم النصر بلا إعداد وسائل النَّصر والقوَّة.

سورة الكافرون تنادي بالمنطق والحكمة
فنعودُ لسورة الكافرون، سورة الكافرون تدعو المسلمين إلى عدم إثارة عبدة الأصنام واستِفْزَازهم، بالحكمة بالبيان والإقناع والدلائل والمَنْطِق والأمور التي تكون مكشوفةً لا لَبْسَ فيها ولا خفاء، والموعظة الحَسَنة وهي الترغيب والترهيب، فكان النبيُّ لما يدعُو كفار قريش يقول: قولوا لا إله إلا الله مُحمَّد رسول الله، يَفتَحُ الله لكم -بما معناه- بلاد الروم والعَجَم، يُمَلِّكُكُم أرضهم ويُزوِّجُكُم نِساءهُم.

كل شيءٍ له ثمن
لكن لا يوجد شيءٌ في هذا الوجود تستطيع أن تَصِلَ إليه بلا ثمنٍ:

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
[سورة التوبة]

هذا ثَمَنُ (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، فالجنَّة قال الله أولاً تدفعون نقداً لي بالدنيا قبل الآخرة، وأنا أُسلِّمُكُم في الآخرة، فكان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في دعوَتِهِ وكان الله عزَّ وجلَّ يريد أن يُغيِّرَ دِيْنَ العرب وعبادتهم للأصنام ويَنْهَضَ بعقولهم الميِّتة المُهمَلَة المدفونةُ في قُبُورِ الإهمال والجهل، يأتي للصنم ويطلب منه أن يَقْضِيَ حاجَته أو ينصُرَهُ على عدوِّه، أحدهم أسْلَمَ ابنه وهو شابٌ حدثٌ، ينصَحُ أباه ويدعوه لوحدانية الله فلم يستَجِبْ، فصباحاً يأتي ليُصلِّي لصَنمه فإذا به يرى ثعلباً على رأس الصَّنم يبُولُ عليه، فإذاً مستوى ذلك الإنسان في الجهل أنْزَلُ بكثيرٍ من عقل هذا الحيوان، فعند ذلك استيقظ وانتبه وقال:
أربٌ يبولُ الثُّعلبان برأسِهِ لقد ذلَّ مَنْ بالَتْ عليه الثعالبُ
{ العباس بن مرداس }
فعَلَّمَهُ الثعلب أنه هذا ليس بإله، بل هو حجرٌ لا ينفَعُ ولا يَضُر.

سبب نزول سورة الكافرون
فمع أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يدعو كُفَّارَ قريشٍ بالمنطق والبيان وكُلِّ الوسائل المُقنِعة للعقل المُجرَّد من التَعَلُّق والارتباط بأمورٍ مُتَرَسِّبَةٍ في العقل والفكر، يلقى الصَّدَ إلى أن يوماً من الأيام قالوا لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: نعمَلُ حلاً وسطاً: تعبُدُ إلهنا وآلهتنا يوماً ونعبُدُ إلهك عشرة أيام، تعبُدُ إلهنا شهراً ونعبُدُ إلهك سنة، فقال لهم: أنظِرُوني، لأن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكن يتصرَّفُ إلا بوحيٍ وتعليمٍ من الله عزَّ وجلَّ، فأنزل الله في هذا الصدد: (قُلْ) لهم يا مُحمَّد (يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) الذين سُتِرَتْ عنكم الحقيقة فجهِلتِمُوها وأصبحتم غَرْقَى في فَهمِ الأمور بعكسِ واقِعِها وحقائِقها، (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2)) لا أعبُدُ إلهكم يوماً لتعبدوا إلهي عشرة أيام (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ (4)) إلهكم شهراً لتعبُدوا إلهي سنة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)) حرية العقيدة، أنا حرٌّ وأنتم أحرار.

آيات مماثلة لسورة الكافرون بالمعنى
فإذا أضفنا إلى سورة الكافرون النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول تعدِلُ ربعَ القرآن آيةً أخرى تلتقي مع سورة الكافرون:

فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
[سورة الشورى]

لن نتخاصَم (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا) هو القاضي (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وآيةٌ أخرى تقول:

قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ(25)
[سورة سبأ]

لم يَقُل عن ما تُجرِمُون لكي لا يُثِيرَهُم، لا يُثِير القوَّة على الإسلام الضعيف، (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا) نحن مجرمون احسَبونا كذلك، لكن لم يسمِّهِم مجرمين، سمَّى نفسه والمؤمنين مُجرِمين، (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)) الذي يُريد أن يكون داعياً إلى الله ويُعرِّفَ النَّاس بالإسلام ويدعُوهُم إليه.

فقه القرآن مشروحٌ بسنة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم
ما أحوَجَنا إلى مدرسة القرآن وفقهِهِ المشروح بسُنَّةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بأقواله وأعماله وحياته في عشرين سنةٍ بلا إعلامٍ ولا راديو ولا تلفاز ولا صحف ولا مجلات ولا أي شيء إلا بإذاعة القرآن قولاً وعملاً وسلوكاً ومعاملة، في عشرين سنةٍ من إنسانٍ يعبُدُ ويؤلِّهُ حجراً ورأسه مليءٌ بالخُرافات والجَّهل والجهالات وبالعادات القديمة آباءً عن الأجداد، مع الفقر وأكل الدَّمٍ من الفقر والفطائس:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ (3)
[سورة المائدة]

بعشرين سنةٍ العرب الأوس والخزرج سكان المدينة ظلُّوا في محاربةٍ مع بعضهم البعض مئة سنةٍ وعشرين سنة، فبعشرين سنةٍ نقَلَهُم من أجهلِ الجاهلية ومن أعداءٍ يتقاتلون على القليل والكثير من الفقر يقتلون أولادهم خشية الإِملاق إلى حكماء علماء فقهاء كادوا من فقهِهِم أن يكونوا أنبياء، النَّبيّ هو الذي يصنع الأمَّة الراقية وأمَّة العِلمِ والعقلِ الحكيم والعمل بالأسباب والمُسبَّبات، وأمُةٌ لا تُقدِمُ على أمرٍ حتَّى تدرُسَ حقائقه ونتائجه بالفكر والعقل ثم تُقدِمُ على حسب مُقتَضَى الدراسة العلمية والحكمة.

نتيجة العمل بوحي القرآن الكريم
لذلك قال الله: (إِنْ تَنْصُرُوا) يعني إن تعمَلوا بوحيِهِ وقرآنه وتُنفِّذُوا وصاياه (يَنْصُرْكُمْ) على الفقر والجهل والفرقة والأعداء حتَّى كما وَصَفَهُم الله:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ
[سورة آل عمران]

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا(143)
[سورة البقرة]

{ خيرُ الأمورِ أوساطُها }

[أخرجه البيهقي]

وهذا كلُّه في عشرين سنة، بدءاً من ألف وباء الإسلام، بدأ من مدرسة حِراء، من جامعة حِراء، فماذا كان يصنعُ في حراء؟ هو أمِّيٌّ لا يكتب ولا مُعلِّم ولا رفيق ولا فيلسوف، من الغار:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)
[سورة العلق]

مستعينًا لا بالجامعة الأمريكية ولا بالمكتبات بل باسم الله فباسم الله قلباً وروحاً وحُبَّاُ وعِشقَاَ وقد كانت قريش تقول: إن مُحمَّداً قد عَشِقَ ربَّه، فإذا دخلت في مدرسة العِشْقِ الإلهي:

وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
[سورة البقرة]

{ من عمِلَ بما علِمَ ورَّثَهُ اللهُ عِلمَ ما لم يعلَمْ }

[أبو نعيم في حلية الأولياء]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
[سورة الأنفال]


حقيقة علوم الأنبياء
علوم الأنبياء ليست باللِّسان والآذان، بل انكشافُ ورؤيةُ الأمور على حقائقها، مثلًا من يرى الأفعى لَدَغَت إنساناً فمات، اكتسَب علماً أم لا؟ اكتسَب علماً بأن الاقتراب من الأفعى قاتل، فكانت علوم الأنبياء إما مشاهدةً وإما إلقاءً للوحي في قلب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بشكلٍ يقينيٍّ أبلغ من اجتماعه إلى قائلٍ أو قراءته في كتابٍ أو يبلغه جبريل عليه السَّلام عن الله ما يشاء الله من وحيه.
فسورة الكافرون وكما هو في كُلِّ أو معظم سُوَرِ القرآن يقرؤها المسلمون لمجرَّدِ التلاوة، مثل حوالةٍ إذا أُعطِيتَهُ وفيها أن تقبَضَ مئة ألف دولار، وأنت بلا دارٍ ولا مَسْكَنٍ ولا زوجةٍ ولا أي شيء إلا ما يستُرُ عورتك، فلو قرأت هذا الشيك ألف سنة دون أن تذهب إلى البنك وتقبِض وتشتري البيت وتتزوج وتقوم بالعمل الدنيوي برأس المال هذا، هل تنفعُكَ القراءة؟ وإذا كنت تقرؤه ولا تفهَمُه، فإذا فهِمْتَهُ فأشدُّ النَّاس عذاباً عالمٌ لم ينفعه الله بعلمه:

{ أشدُّ النَّاسِ عَذابًا يومَ القيامةِ عالِمٌ لم ينفَعهُ اللَّهُ بعِلمِهِ }

[أخرجه الطبراني]

حوالةٌ ويعرف ويفهَمُ وينام في الشارع ويشحذُ من الأبواب أرجوكم أعطوني خبزاً وقد أخذ عشرين حوالة، كُلُّ واحدةٍ عشرون ألف دولار، هذا ماذا يستحق؟ فكذلك المسلمون: القرآن وهو أعلى وأقدس ولكن على طريق المثال والتقريب للأفهَام، عطاءٌ إلهي، نَفِّذْ ما في هذه الرسالة الإلهيَّة تكون أغنى الأغنياء وأَسْعَدَ السعداء وأعَلَمَ العُلماء وأقوى الأقوياء وأعَزَّ الأعزاء.

المسجد في زمن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم
فالعرب على جَهْلِهِم وأميَّتهم:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(2)
[سورة الجمعة]

أمةٌ أميَّةٌ هكذا كان يقول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وهَكَذَا. يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وعِشْرِينَ، ومَرَّةً ثَلَاثِينَ (1) }

[صحيح البخاري]

فَفَتَحَ جامعات لا بل جوامع، الجامع أعظم من الجامعة بمعناه الحقيقي الأصيل، لأن الجامع في زمن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وفي القاموس الرَّبَّاني هو الذي يجمعُ بين جدرانه علوم القرآن والحكمة وتعلِيمَها وتزكِيَةَ النَّفسِ وطهارَتَها من نقائِصِها ورذائِلِها وجَشَعِهَا ودناءَتِها ويرفَعُهَا إلى مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، هذا هو الجامع الحيّ، أما إذا فَقَدَ هذه المعاني باتَ كالصحراء، مهما كانت واسعةً ولا ماء ولا أنهار ولا أشجار فَما الفائدة من سَعَتِها؟

إحسان عرض الإسلام عند شيوع الحريات
هذه السورة بمدلُولِهَا والإسلام ضعيف، أن لا يُثِيْرَ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قوَّةَ قريشٍ لتَقْضِيَ على الإسلام وهو كمثال: صبَّة الإسمنت مِنْ أولِ يوم، فإذا حَمَّلنا عليها السقف تنهار وينهار السَّقفُ معها، ويقول: يا عمر أنتم قليل، وينزِلُ في القرآن:

وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
[سورة الطور]

فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
[سورة المعارج]

أما هذا العصر وهذا الزَّمن وفي معظم بلاد العالم صارت حريَّةُ الرأي والفِكْر والكتابة والعقيدة للجميع، فلو وُجِدَ من يُحسِنُ عرض الإسلام ولو بالأقوال وحدها.. الصَّلاة نُظْهِرُ فقه الصَّلاة التي:

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
[سورة العنكبوت]

ليست التي هي:

فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
[سورة الماعون]

هناك صلاة:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
[سورة المؤمنون]

فمُصَلُّون مُفلِحُون، ويوجد مُصَلُّون الويل لهم و:

{ من لم تَنْهَهُ صلاتُهُ عنِ الفحشاءِ والمنكَرِ لم يزدَدْ من اللهِ إلَّا بُعْدًا }

[أخرجه الطبراني]


استعمال وسائل الاتصال الحديثة
فهذا العَصر هو أفضلُ العصور في إيصال الإسلام إلى العالم كُلِّه بواسطة وجود وسائل الإعلام الحديثة، يمكن لعشرِ رجالٍ كلُّ واحدٍ منهم يختصُّ بلغةٍ: أحدهم بالفرنسية وآخر الإنجليزية وآخر الألمانية، بواسطة قمرٍ صناعيٍّ يشرَحُ الإسلام للعالم الغربي أولًا فيفهم العالَمُ المسيحيُّ أن الإسلام ما أتى ليمحوَ المسيحية، ولا ليُجَرِّدَ المسيحيَّة من السيد المسيح، بل أتى ليُقوِّيَ إيمانه بالسيد المسيح، لأن الإلحاد مِنْ أيِّ بلادٍ ظَهَرَ في عصرنا الحاضر؟ من بلاد الإسلام؟ لا، بل من العالم المسيحي بدءاً من الشيوعية وتَسَلسُلاً من أوروبا وأمريكا، أكثرهم علمانيون يُؤمنون بالعلم ويكْفُرُون بالكنيسة، لماذا؟ لا أحد يستطيع أن يرفُضَ الحقيقة، إذا قلت لكم قبَّعتي بيضاء فكلكم ولو كان من يقول هذا أعدى الأعداء هل تستطيع أن تقول لا القبَّعة سوداء؟ ستحكم على نفسك بالجهل والعمى، فهذا العصر والله لو وُجِدَتْ إذاعةٌ مهيأةٌ يُدعى لها الدعاة الأكِفَّاء الناجحون في العالم الإسلامي وهم كُثُرٌ والحمد لله.

عرض فضائل الإسلام
فيُعْرَضّ الإسلام ويُعَرَّفُ عنه بحقيقته وواقعيته من قرآنه وسُنَّة نبيه في مَظّلَّةِ قوله تعالى:

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
[سورة الأعراف]

من مُنطَلَقِ قوله تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]

وقوله:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[سورة الحجرات]

وَ:

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
[سورة النساء]

والإنسان، قبل كُلِّ شيءٍ تُحسٍنُ إلى الإنسان الوالدين ثمَّ ذوي القربى ثمَّ الضعيف اليتيم وبعده المسكين وبعده الغريب غير المواطن، الإنسان مُطلَقُ الإنسان، بَلَغَ من تكريم الإسلام للإنسان ولو كان غير مسلم أن جنازة يهوديٍّ مرَّت على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقام احتراماً لها، قالوا: يا رسول الله إنَّه يهوديٌّ، قال:

{ أنَّ قَيْسَ بنَ سَعْدٍ، وَسَهْلَ بنَ حُنَيْفٍ، كَانَا بالقَادِسِيَّةِ فَمَرَّتْ بهِما جِنَازَةٌ فَقَامَا، فقِيلَ لهمَا: إنَّهَا مِن أَهْلِ الأرْضِ، فَقالَا: إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَرَّتْ به جِنَازَةٌ، فَقَامَ فقِيلَ: إنَّه يَهُودِيٌّ، فَقالَ: أَليسَتْ نَفْسًا }

[صحيح مسلم]

سبحان الله، الآن تقول الدول الكبرى حقوق الإنسان ولكن يستعمِلُونَها لأغراضهم الاستعماريَّة والقوميَّة.
فأتاه وفدُ نَجران وهم نَصارى فأنزلَهُم في مسجده مسجد المدينة، المسجد الثاني في الفَضيلة والقُدسيَّة، وحان وقت صلاتهم النَّصرانيَّة، فأقاموا صلاتهم في مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم باسم الأب والابن وروح القدس، يا ترى لو فرضنا أنني أحضرت وفداً من النصارى وأدخلتهم إلى المسجد وحان وقت صلاتهم وقاموا يُصلُّون ويُصلِّبُون، يا ترى المسلمون هل يمشُون على سُنَّة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم التي فعلها مع وفد نجران أم نمشي بالجاهلية بلا فَهْمٍ بسُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فالنبي تركهم وما يُصلُّون وعلى سَجِيَّتِهم وطبيعَتِهم، وهذا معنى من معاني بالحكمة والموعِظة الحَسَنة، ولم تَطُلْ الأيام حتَّى دخل أهل نجران كُلُّهم في الإسلام.

خلقَ الله هذا الكون لحكمةٍ إلهية
فما أحوج المسلمين بل العالم كُلِّه من أقصى شرقه إلى أقصى غربه إلى مدرسةِ خالِقِ هذا الكون، خالِقِ مجرَّاته وشُمُوسِهِ وأقماره وكواكبه التي قالوا: لو أن الصحراء الكبرى في أفريقيا عُدَّتْ رمالها ما بَلَغت عدد الشُّموس والنجوم والأراضي التي في هذا العالم والكون الإلهي الفَسِيْح، وكُلُّها تدور في أفلاكها ومجاريها مثل سكة القطار لا تَحيْدُ يُمنَةً ولا يُسْرة، في البلد تكون هناك مِئةُ سيارة وتحدث الحوادث والاصطدامات، ملياراتٌ بعدد ذرَّات الرمال، عَوالِمٌ الله أعلمُ بما فيها، يا ترى هل خلقها الله عبثاً معطلةً بلا سُكَّان ؟ يقول بعض علماء الفلك: من ظنَّ أن هذه الكواكب في عالم الفضاء لا سُكَّان فيها، مثله كمثل من يعتقد أن قِطط كُلِّ مَنْ في الأرض لا تمشي ولا تَلِدْ إلا قطته، التي تَلِدْ وتُنْجِبُ قطته فقط، أما قطط العالم لا تَلِدُ ولا تُنجِبُ، فالذي يقول أن الأرض فقط مسْكُونَةٌ وهذه العَوالِم فارغةٌ فمَثَلُهُ كمَثَلِ هذا الإنسان:

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
[سورة ص]

قد يكون فيها شيءٌ غير مسكُون، ولكنه مخلوقٌ لحكمةٍ إلهيةٍ وهدفٍ إلهيٍّ رفيع.

أدب الدعوة
فنعودُ لسورة الكافرون، فهذه السورة تُعَلِّمُ الداعيَ أدب الدعوة أن يُقَدِّرَ الزمان والمكان والإمكان، فيعمَلُ في الدعوة لله حَسَبَ الزمان وقابلية المكان والإمكان، ليس المهمُّ أن تُقاتل بل أن تنتصر، ليس المهمُّ أن تزرع بل أن تَحصُد، فأيُّ عملٍ تُقدِمُ عليه إذا لم تتصوَّرُ نتائجه وثماره وفوائده فأنت تكون فاقِدَ الحكمة؛ والحكمة نصفُ النبوَّة وثُلُثُ الإسلام، الإسلام ثلاثةُ أثلاث: ثُلُثُ العِلْمِ يُعَلِّمُهُم الكتاب وثُلُثُ الحكمة الأسباب والمُسبَّبات والعمل بمًقتَضَى ذلك، والثالث التزكِيَة تزكِيَة النَّفس وتنقِيَتُهَا من النقائِص إلى الكمالات ومن الرذائل إلى فضائِلِ ومَكارِمِ الأخلاق:

وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
[سورة القلم]

{ ذَهَبَ حسْنُ الخُلُقِ بخيرِ الدنيَا والآخرةِ }

[أخرجه الطبراني]

هل أحضَرتم ترجمةً لضيوفنا؟ لا أراها موضوعةً على آذانهم، هل هي موجودة؟ أهلًا وسهلًا، إخوانُنا من الصين فأهلاً ومرحباً.

بين الإسلام وإدعاء الإسلام
فكلمة الإسلام معناها في الأصل الاستجابة لأوامر الله، والتَفَقُّهِ برسالة السماء، فإذا عَمِلْتَ بها ومَشِيْتَ على تعاليمها فقد أسلَمْتَ واستَسلَمْتَ واستحققت أن تتخذ لك لقب مسلم، أما إذا لم تستجب لأوامر الله ولم تَجْتَنِبْ محارِمَه ولم تعمل بوصايا الله فأنت لم تستسلم فأنت لست مسلماً ولكن تَدَّعِي الإسلام وتُلَقِّبُ نفسك به من غير وجود حقيقته، فمن يكون كذلك فالإسلام يُجَرِّدُه من لَقَبِ مسلم ويُعطِيْهِ لَقَبَ منافق:

وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226)
[سورة الشعراء]

{ آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ }

[صحيح البخاري]

ويقول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث النبوي:

{ ليسَ صَلَاةٌ أثْقَلَ علَى المُنَافِقِينَ مِنَ الفَجْرِ والعِشَاءِ، ولو يَعْلَمُونَ ما فِيهِما لَأَتَوْهُما ولو حَبْوًا(2) }

[صحيح البخاري]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
[سورة الصف]

المَقْتُ هو شدَّة الغضب، فإذا كان المَقْتُ كبيراً فهذا مَقْتُ المَقْت، (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا).

الإسلام تحوّلٌ من من الجهل إلى العِلْم ومن الفقر إلى الغِنى
فهل استسلَمتَ واستَجبتَ وانْقَدْتَ لأوامر الله؟ في أقوالك وأعمالك ونظراتك وسمعك ونواياك، يكون في قلبك حسدٌ وغشٌّ وحِقْدٌ على النَّاس، الله يقول:

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
[سورة الإسراء]

فما هذه المدرسة الإلهيَّة التي بكتابٍ واحدٍ وهو القرآن العظيم ولم يكن مجموعاً في حياة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، بل مكتوباً على العِظام والأحجار وورقِ النخيل، ولكن كُتِبَ في قلوبهم إيماناً وفي عقولهم فَهْمَاً ومعرفة وفِقْهَاً، وفي واقعهم عملاً وتطبيقاً، فبأقل من مِئَةِ سَنَة استطاعوا أن يُعَمِّمُوا العِلْمَ والحكمة والإنسانيَّة ومكارِمَ الأخلاق من حدود الهند إلى حدود فرنسا، وأحدُ كِبار الفرنسيين يقول عن هزيمة عبد الرحمن الغافِقِي في إسبانيا، لما انهزم تراجع المسلمون، يقول: لولا هزيمة عبد الرحمن الغافِقِي بالجيش الإسلامي في إسبانيا لما تأخرت الحضارة ثمانيةَ قرون، يعني لو انتصر لعَمَّت الثقافة والحضارة أوروبا كلها منذ ثمانمِئةِ سنة من وقتنا الحاضر، فهذا هو الذي يقوله هو الفَضْلُ ما شهدت به، أنا لا أقول الأعداء، هؤلاء عَرَفُوا ولكن عَرَفُوا بأفكارهم ويحتاجون عالِمَ القلب ليفتَحَ القلوب المُغلَقَة المُقفَلَة ليَدخُلَ نور الله فيها فتحيَا روحه بروح الله ويحيَا عقله بمعرفة الحقائق التي لم يُنْزِلُها الله من سمائه إلا ليُخرِجَ النَّاس من الظُّلمات إلى النور، من الجهل إلى العِلْم ومن الفقر إلى الغِنى، الله عزَّ وجلَّ خاطَبَ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال:

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
[سورة الضحى]

فقيرًا (فَأَغْنَى)، فإذا الإسلام نُقْلَةٌ من الضلال إلى الهدى ومن الجهل إلى العِلْم ومن الفقر إلى الغِنى ومن الضَّعف إلى القوَّة.

قوة وضعف الأمة مرتبطٌ بإيمانها
وهل يا تُرى بعد نُزول سورة الضحى تحقَّقَت لكُلِّ من استجاب لكتاب الله ورسالة السماء وتعاليم مُعَلِّمِ السماء؟ ماذا كان العرب قبل القرآن والإسلام وماذا صاروا به بعد القرآن والإسلام؟ صاروا هم الدولة العُظمَى الوحيدة في العالم كُلِّهِ في مَشرِقِه ومَغرِبِه، ما كان هناك دولةٌ تُقارِعُ الأمَّة العربيّة بالإسلام، ولما ضَعُفَت الدولة بضعفِ إيمانها وإسلامها العمليّ قامت دولة الدعوة والدُّعاة، فتجاوزوا حدود الهند واخترقوها حتَّى وصلوا أقصى الشرق إلى الفيلبين وأندونيسيا وتلك البلاد.. فنَقَلوا النَّاس من الظُّلمات للنور، وفي أفريقيا، والآن في أمريكا وأوروبا.. فلو وُجِدَ الدُّعاةُ بالعدد المطلوب والكيفيَّة المطلوبة التي هي بحقيقة القرآن والإسلام لصار العالم كُلُّه أمَّةً واحدة:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
[سورة النساء]


المصحف لا تمسه إلا النفوس الطاهرة
فما أعظم الواجب على كُلِّ مسلمٍ في هذا العصر، أن يتَعَرَّفَ على الإسلام والقرآن لا تلاوة كلماته وألفاظه بل معرفة حقائقه وأهدافه، وقبل أن يتَطَلَّبَ هذه الغاية السماويَّةَ الرفيعة أن يُهَيَّئَ قلبه وروحه لهذه العَطِيَّة العظيمة السماويَّة الربانيَّة، فإذا لم يكن هناك قلبٌ طاهرٌ مُطَهَّرٌ فكما قال تعالى:

لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
[سورة الواقعة]

هذه الآية في سورة الواقعة، وسورة الواقعة من السُّوَرِ المكيَّة، ولم يكن هناك مصحفٌ في مكَّة لنَمَسَّهُ أو لا، فالمقصود من المسِّ أن لا تمَسَّهُ الأرواح والعقول والأفكار إلا إذا تطَهَّرَت وتهذَّبَت وتعَقَّمَت من الغَفَلات والشَّهوات.

المقصد الحقيقي من الهجرة
فكان المسلم من أجل هذا يُفْرَضُ عليه أن يُفَتِّشَ ويُهاجر إلى المُعلِّم سيِّدنا مُحمَّد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فكانت الهجرة إلى المدينة فرضاً، ليس المقصود من المدينة أرضُها ولا نخيلها ولا جَبَل أُحُدِهَا، كان الهدف هو الهجرة لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، يعني الهجرة إلى العِلْمِ والحكمة والتزكية، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ العُلَماءُ وَرَثةُ الأنبياءِ (3) }

[سنن أبي داود]

فمَنْ يَحْمِلُ علوم القرآن وتفسِيرَه بالسِّيرة النبوية يجِدُ فيها العِلْمَ والحكمة والتزكية، فإذا تجِبُ الهجرة حيثما وُجِدَ العِلْمُ والحكمة والتزكية، والعِلْمُ عَرَّفَهُ العلماء بأنه كُلُّ ما ينفعُ الإنسان في دينه أو دنياه، في جَسَدِه أو روحه، في أرضِه أو سَماءه، فعلوم التكنولوجيا والاقتصاد والطَّيران والميكانيك والصناعات كُلُّها في الإسلام، (طلب العلم فريضة على كل مسلم) يعني على كُلِّ مُستَجِيْبٍ لأوامر الله، فإذا قُلت أنا مسلمٌ يعني أنا مُستَجِيب، فإن استَجَبْتَ فقولك مسلم قولٌ صادق، وإذا قُلْتَ أنا مسلم ولم تستجِب فلسانك يكذب ومعاملتك غشٌّ وأمانتك خيانةٌ ولسانك كذبٌ وغيبةٌ ونميمةٌ وإفسادٌ وأعمالُك شرورٌ وإلى آخره.. فإذا قُلتُ وتَحمِلُ هذه الصفات لا تُصلِّي ولا تصوم ولا تُزَكِّي ولا تتعلَّم وطلب العلم فريضة، صلاة الظهر أليست فريضة؟ وصوم رمضان أليس فريضة؟ وطلب العِلْم هل العِلْمُ هو عِلْمُ الصَّلاة والزكاة فقط؟ لا بل كُلُّ العلوم الصناعيَّة والزراعيَّة والطبيَّة، كُلُّ ما ينفعُ الإنسان معرفته فرضٌ تَعَلُّمُه على كُلِّ مسلمٍ ومسلمة.

مقتضيات العِلْم الحقيقي
فهل فَقِهَ المسلمون معنى هذا الحديث النبوي؟ هل آمنوا به؟ مَنْ يُؤمن بالسُّم وحقيقته هل يشربه ويتجرَّعُه؟ ومن عَرَفَ الذهب في صُرَّةٍ بحقيقة ما في الصُرَّة وقُدِّمَت له هديةً هل يرفضها؟ العلم الحقيقي يقتضي العمل بما يُوجِبُهُ ويَفْرِضُه العلم، لذلك قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ (4) }

[سنن ابن ماجة]

أن تطلُبَ المعرفة بحقائق الأشياء لتعمل على مقتضاها فتتجَنَّبَ السُّمَ والأفعى وتشرب العَسَل وتأخذ صُرَّة الذهب، معرفة الحقائق (طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم)، وكلمة مسلم تعني المُستَجِيْبُ لشريعة الله وأوامِرِهِ المُفَصَّلة والمُوَضَّحَة بسُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فإذا فَتَّشَ الإنسان نفسه ماذا يُعطي لنفسه من مِئة في الإسلام كم يعطي نفسه؟ هل يُعطي مئةً تسعين ثمانين خمسين ثلاثين عشرين عشرة خمسة؟

جهل المسلمين اليوم بدينهم
يوجد أناسٌ لا يعرِفُون من الإسلام إلا اسمه، بل وصل الحال بسبب الجهل بالإسلام بعض المسلمين يتنكَّرُون للإسلام ويجحَدُونَه بل يُحارِبُونَه، أنا من ناحية أعذُرُهُم لأنَّهم لم يعرِفُوا حقيقته.. قيل لهم: تأتيكم ملكة الجمال مثلاً، فخرج النَّاس وقالوا الحَفل في قاعةٍ من القاعات، فأتى النَّاس إلى الحَفل، أين؟ قالوا الآن تأتي ملكة الجمال، وهم إذا قدَّرناهم بمِئة شخصٍ وينتظرون دخول ملكة الجمال، وإذا بغوريلا من النوع الضخم يدخل عليهم فجأة ً ويُقال هذه ملكة الجمال، ولم يروا ملِكَة الجمال ليقولوا أن الغوريلا ليست هي ملكة الجمال، فإذا اعتقدوا أن هذه ملِكَةُ الجمال، فإذا أحدهم معه مسدسٌ أو رشاشٌ أو استطاع الهَرَبَ منها والنجاة بروحِه .. فكثيرٌ من النَّاس إذا عادَوا الإسلام، الإسلام لا يُعادَى يا بنيّ، لأن محبَّة وعِشْقَ الجمال هو فطرةٌ وطبيعةٌ في الإنسان، الإنسان يعشَقُ جمال الصورة، صورة الإنسان أو القط الجميل أو الحصان الجميل والبيت الجميل والمناظِر الجميلة، يعشَقُ جمال الأصوات والأذواق والطُّعوم، العقل يعشَقُ جمال الحكمة، فالإسلام الحقيقي فوق كُلِّ هذه المعاني.

المقصود بأن السورة تعدل ثلث القرآن
عندما يسمع المسلمون أن سورة الكافرون تعدِلُ رُبْعَ القرآن ماذا يفهمون من هذا الحديث؟ بأن تلاوتها فقط ولو بلا فهمٍ ولا عملٍ ولا فقهٍ فكأنه قرأ رُبْعَ القرآن؟ بينما يكون في الواقع:

{ رُبَّ قارئٍ للقرآن والقرآن يلعنه (5) }

[ورد في الأثر]

فلما يتلو قوله تعالى:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
[سورة هود]

وهو ظالمٌ يَلْعَنُ نفسه بلِسانه بكلام الله، فلا بد من الرجوع للإسلام، كيف الرجوع؟ الرجوع إلى العِلْمِ بالرجوع إلى المُعلِّم والحكمة والتَّفتِيشِ عن الحكيم الذي يُعَلِّمُ الحكمة وعن المُزَكِّي الذي يُزَكِّي النُّفوس، ما أحْوَجَ المسلمين إلى معاهدٍ وجامعاتٍ إسلاميةٍ لا تُعَلِّمُ الإسلام بالأقوال، مهندس الميكانيك إذا تَعَلَّمَ الميكانيك بالكتاب فقط هل يصبح مهندس ميكانيك؟ إذا كان طياراً ويريد تَعلُّمَ الطيران بقراءة الكتاب هل يصبح طياراً؟ والسباحة إذا أراد تَعَلُّمَهَا بالكتاب هل يصبح سباحاً؟ فلا بد من التَعَلُّم بالأقوال مع الأعمال بالسَّماع مع النَّظر، والإسلام هو فوق كُلِّ هذا حياةٌ روحيةٌ بالله:

{ ثلاثٌ مَن كُنَّ فيهِ وجدَ بِهِنَّ طعمَ الإيمانِ ، مَن كانَ اللَّهُ ورسولُهُ أحبَّ إليهِ مِمَّا سواهُما ، وأن يُحبَّ المرءَ لا يحبُّهُ إلَّا للَّهِ ، وأن يَكْرَهَ أن يعودَ في الكفرِ بعدَ إذ أنقذَهُ اللَّهُ منهُ كما يَكْرَهُ أن يُقذَفَ في النَّارِ (6) }

[صحيح البخاري]

ليس المقصود من الكُفْرِ أن تُعلِنَ براءتَك مِنَ الإسلام، كُلُّ فريضةٍ من فرائض الإسلام هي إسلام، من ترك الصَّلاة فقد كَفَر، من ترك الصَّلاة يعني فقَدْ كَفَرَ بفرضيتها، ومَنْ مَنَعَ الزكاة فقد كَفَرَ بوجوبها، ومَنْ أفطَرَ رمضان ومَنْ عَقَّ والديه ومَنْ مَنَعَ الفقير والمسكين من حقه، فالكُفْرُ يكون عاماً كلِّياً ويكون خاصاً جزئيَّاً، فقد يَحمُلُ من يُسَمِّي نفسَه مُسلماً تسعين بالمئة أو أكثر من الكُفْرِ وهو يظُنُّ أنه مُسلم، معنى المُسلم أي المُستجيب.

الحياة التي أرادها القرآن من كلمة يُحييكم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
[سورة الأنفال]

يا تُرى يُحييكم مِنْ قُبوركم؟ نحن أحياءٌ نسمع ونُبصر ونتكلَّمُ ونَمشي، فأي حياةٍ أرادها القرآن من كلمة يُحييكم؟ يُحيي عُقولكم بفهم الأمور وحقائقها، أمور القرآن وشرائع الإسلام، تفهَمُهَا وحكمتها وغايتها وثمرتها:

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
[سورة الإسراء]

فالآن تفسير هذه الآية فسَّرها المُفَسِّرُون من ألفٍ وأربعمئةِ سنةٍ ويزيد، لكن الزمن فسَّرها تفسيراً جديداً: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ) سِفلِز وأمراض الإفرنجي، ثم جاء مَنْ توَّجَ هذه المهلكات المُسمَّى بالإيدز الذي عَجِزَ الطِّبُ في أوروبا وأمريكا والعالم كلِّه عن مقاومته، الله يقول: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) أخلاقيَّاً شيءٌ فاحشٌ تستنكره النفس، (وَسَاءَ سَبِيلًا) ساء من يسلُكُ هذا الطريق ساء طريقه، طريقه ونتيجته سيئةٌ أم حسنة، أحسَن لنفسه أم أساء؟ فلا بدَّ من العودة للقرآن، والقرآن يحتاج لهضمه، الطعام يحتاج للجهاز الهضمي، بدءاً مِنْ لُعاب الفَم والأسنان، إذا لم يكن هناك لعابٌ أو أسنانٌ حُرِمْتَ الهَضم الأول، الهضم الأول أين يبدأ؟ بالمضْغِ واللُّعاب، في المعدة الهضم الثاني في الأمعاء والكبد حتَّى يتحول دماً فيأخذه القلب ويوزِّعُهُ إلى خلايا الجسم والدماغ والرجل والعين إلى آخره.. كذلك القرآن يحتاج للهضم، حتَّى تَنْقَلِبَ الكلمات إلى أعمالٍ وأخلاقٍ يُقْرَأُ القرآن في أعمالك وأخلاقك ودَعْوَتِكَ إلى الله.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علّة خيرية أمة
أين المُسلم من قوله تعالى:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
[سورة آل عمران]

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) بماذا؟ قال: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، تُؤمِنُ بعَظَمَةِ الله وعِلْمِه:

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
[سورة النحل]

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (3)
[سورة الملك]

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

تُؤمِنُ بكلام الله ولقائِه وحِسَابِه بذلك (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) إذا كنتم (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) ولتأمُرَ بالمعروف يجب أن تعرِفَ أدب الأمر بالمعروف، ويقول النَّبيّ الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ مَن أمر بمعروفٍ ، فليكن أمرُه بمعروفٍ (7) }

[شعب الإيمان للبيهقي]

أتى أعرابيٌّ إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فاستأذن من النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُرَخِّصَ له بالزِّنا، يَسْمَحَ له بالزِّنا، فقال له: أتُحِبُّ أن يَزْنِيَ النَّاس ببناتك؟ فقال لا، قال: كذلك لا يُحِبُّ النَّاس أن تَزْنِيَ ببناتهم، بأخواتك وأمهاتك وعماتك وخالاتك.. ثم وَضَعَ يده على صدره وقال: اللهم طَهِّر قلبه وحَصِّن فَرْجَهُ، فقام من مجلس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وليس شيءٌ أبغَضَ في نفسه من الاقتراب إلى الزِّنا.

الدعوة بالحكمة وذكر مضار المنكرات
(خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)، وَ (مَن أمر بمعروفٍ ، فليكن أمرُه بمعروفٍ)،
(وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) كذلك:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
[سورة النحل]

الآن كَشَفَ العِلْمُ عن كثيرٍ مِنَ الأشياء والمُنكَرَات ذَكَرَ مضارَّها ونتائجها وعواقبها السيئة، ذكر مضارَّ المُسكِرات والمخدرات وعدم العِفَّة وهو الزِّنا، فكما قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ : لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ ؛ حتى يُعْلِنُوا بها ؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا ، ولم يَنْقُصُوا المِكْيالَ والميزانَ إِلَّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ ، وجَوْرِ السلطانِ عليهم، ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا ، ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلا سَلَّطَ اللهُ عليهم عَدُوَّهم من غيرِهم ، فأَخَذوا بعضَ ما كان في أَيْدِيهِم ، وما لم تَحْكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتَخَيَّرُوا فيما أَنْزَلَ اللهُ إلا جعل اللهُ بأسَهم بينَهم }

[سنن ابن ماجه]

(لم تَظْهَرِ الفاحشةُ) يعني الزِّنا ومثل اللواطة (لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ ؛ حتى يُعْلِنُوا بها ؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا)(8) ، هل صَدَقَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ هذا الحديث الصحابة سمِعُوهُ بآذانهم ونحن نراه بأعيننا وأوروبا وأمريكا واليابان وكُلُّ العلوم والتطور وكُلّما صنعوا دواءً لفيروسه وجرثومه الذي يحُطِّمُ دِرْعَه ويَحفَظُهُ مِنْ تأُثير الدواء في الحال يُغيُّرُ دِرْعَهُ بدِرْعٍ ثانٍ يُبطِلُ مفعول ذلك الدواء، فيصنع العلماء دواءً يناسب الدِرْعَ الثاني لهذا الميكروب والفيروس، وعندما يدخل الدواء على هذا الميكروب يخلعُ دِرْعَهُ الذي صُنِعَ الدواء لتحطيمه ويلبس دِرْعاً ثالثاً.

قوة وعزة المسلمين كما رآها النبي صلى الله عليه وسلم
الله لا يُحاربُ يا بنيّ، جعلنا الله نَفْقَهُ عنه، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لما دعا عَديُّ بن حاتم إلى الإسلام، وتمَنَّعَ عديٌّ في أول الأمر فقال له النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: لعلَّه يمنَعُكَ من الإسلام من ضعْفِ المسلمين وقوَّةِ أعدائهم؟

{ إن طالَت بكَ حَياةٌ لترَينَ الظَّعينةَ تَرتحلُ مِن الحيرةِ حتَّى تطوفَ بالكعبةِ لا تخافُ أحدًا إلَّا اللهُ، قال عَديُّ : قلتُ فيما بَيني وبينَ نَفسي فأينَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذينَ قد سَعَّروا البلادَ وأكملَ النَّبيُّ حديثَهُ إليهِ فقال : ولَئنْ طالَت بكَ حَياةٌ لتُفتَحَنَّ كُنوزُ كِسرَى قال : كِسرَى بنُ هُرمُزَ قال : كِسرَى بنُ هُرمُزَ ولَئنْ طالَت بكَ حَياةٌ لترَينَّ الرَّجُلَ يُخرِجُ مِلْءَ كفِّهِ مِن ذهبٍ أو فضَّةٍ يطلبُ مَن يقبلُهُ مِنهُ فلا يجدُ أحدًا يقبلُهُ مِنهُ }

[صححه الألباني]

(إن طالَت بكَ حَياةٌ لترَينَ الظَّعينةَ) يعني المسافرة، (تَرتحلُ مِن الحيرةِ) وفي روايةٍ من صنعاء إلى حضرموت، أي تُسافِرُ وحدها في هذه الصحراء، (لا تخافُ أحدًا إلَّا اللهُ) يعني سيحصل السَّلام والأمن والاطمئنان، كما أن ما تَرَى عليه الصحابة من الفقر.. قال له: ( ولَئنْ طالَت بكَ حَياةٌ لترَينَّ الرَّجُلَ يُخرِجُ مِلْءَ كفِّهِ مِن ذهبٍ أو فضَّةٍ يطلبُ مَن يقبلُهُ مِنهُ فلا يجدُ أحدًا يقبلُهُ مِنهُ) إذا طالت بك حياةٌ لتريَنَّ من يَعْرِضُ المال عليه فيرفُضُهُ، يعني تعميم الغنى والثروة في المجتمع الإسلامي، فلم تمضِ بعد وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فترةٌ إلا صار العرب بالإسلام -إسلام القرآن عِلْمَاً وعَمَلاً ودعوةً وتعلِيماً- إلا وصار العرب على حدود الهند وفي قلبِ أوروبا.

وصول الإسلام إلى الصين
كنت في الصين قبل خمس سنواتٍ تقريباً سألت المُسلمين هناك عن تاريخ وصول الإسلام إلى الصين، فسمعتُ ما كنتُ أجهَلُه، قالوا لي: وصل الإسلام إلى الصين في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، يا الله! لا يوجد لقب دكتوراه ولا ماجستير ولا ليسانس ولا جامعات، يوجد الجامع، والجامع في عهدِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبي بكرٍ رضي الله عنه ومنتصف خلافة عمرٍ رضيَ الله عنه كان بلا سجادٍ وبلا حُصُرٍ، كانوا يُصلُّون على التراب، لذلك إخواننا المُسلمون في إيران يُصلُّون على التراب، وإذا دخلوا المسجد يأخذون شيئاً من ترابٍ يعجنوه ويسجدون عليه حرصاً على ما كان يسجدُ عليه سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكانوا يأكلون الميتة والفطائس قبل الإسلام، فصار أحدهم يُعطِي في النهار مئة ألف دينارٍ يُوزِّعُها على الأصدقاء والأرحام والفقراء ولا يَنقُصُ من ثروته شيءٌ يُذكَر، الغِنى والعِلْمُ والحكمة، لم يُوَحِّدُوا العرب فقط بل وحَّدُوا عشرات الشعوب، صُهِرَتْ كلها وصارت أمةً واحدةً:

إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
[سورة الأنبياء]

(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) شريعةً واحدةً وعالمَاً واحداً(وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).


الإيمان بالتمنِّي وليس بالتحلِّي
لذلك رئيس وزراء إنكلترا في مجلس العموم الذي هو البرلمان حَمَلَ المَصحف في يده وقال: ما دام هذا المصحف بين أيدي المسلمين -يعني في قلوبهم وعقولهم وحياتهم وأعمالهم- فلن تستطيعوا التغلُّبَ عليهم.

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
[سورة النور]

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
[سورة البقرة]

يصيرون خلفاءَ الله على خَلْقِه.
(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) إذا آمنوا ليس الإيمان بالتَّحَلِّي فتلبِسُ لباس الإيمان واللَّحية واللَّفة وعَزَبِة وثوبٌ قصير، هذا سهل، هذا اسمه الحُليَة، اللباس حُلْيَة،

{ ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل }

[شعب الإيمان]

(ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي) فتقول أنا مُسلم (ولكن ما وقَر في القلب) هل يشكُّ أحدٌ بلدغة الأفعى أنها قاتلةٌ أو مهلكة؟ (ولكن ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل)(9) واقِرٌ في قلبك أن النَّار محرقة، فمن هذا الإيمان الحقيقي هل تَضَعُ إصبعك فيها؟ هذا الإيمان، الطفل يضع إصبعه في النَّار لأنه لم يُؤمِنْ الإيمان العلمي بأن النَّار مُحْرِقَة، والنائم قد يُلْقِي بيده وهو نائمٌ على النَّار وإلى آخره..

واجب كل مسلم
فلذلك أيها الإخوة، واجب كُلِّ واحدٍ منكم أن يقرأ القرآن طاهراً وأن يمَسَّهُ طاهراً، ليس فقط طهارة اليد والوضوء، طهارة القلب من الغَفْلَةِ عن الله وتعقيمه مِنْ حُبِّ الفواحش والمعاصي، تعطير القلب وكِسْوَتِه بكِسْوُة التقوى تقوى القلوب.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
[سورة آل عمران]

ثم واجب كُلِّ واحدٍ مِنَّا أن يأمر بالمعروف ولكن بمعروفٍ وبالحكمة والموعظة الحَسَنة وينهى عن المنكر كذلك بالحكمة والموعظة الحَسَنة، وأن يَتَعَلَّمَ (طلب العلم فريضة) ويُعَلِّمَ غيره ما تعلَّمَه، تجاوباً مع حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ألا أخبِرُكم عن الأجوَدِ الأجوَدِ؟ اللهُ الأجوَدُ الأجوَدُ، وأنا أجودُ ولدِ آدمَ وأجوَدُهم من بعدي رجلٌ علَّم عِلمًا، فنشَر عِلمَه يُبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً واحدةً }

[الترغيب والترهيب]

(ألا أخبِرُكم عن الأجوَدِ الأجوَدِ؟ اللهُ الأجوَدُ الأجوَدُ) هو الكريم الأكرم عظيم العطاء، (وأنا) يعني سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (وأنا أجودُ ولدِ آدمَ وأجوَدُهم من بعدي) بعد مقام النبوَّة في الجُود والكَرَم والعَطاء (رجلٌ) يعني إنسانٌ ولو امرأة، ليس المقصود منه الذكور أو الإناث، إنسانٌ (علَّم عِلمًا) كُلُّ العِلْم، علماً من العلوم النَّافعة ولو كان دنيوياً، إذا عَلَّمتَ بنيِّةٍ صالحةٍ مُخلِصَاً لله لتُساعد أخاك على دنياه، فالدين يَشْمَلُ علوم الدنيا والآخرة، ((علَّم عِلمًا، فنشَر عِلمَه يُبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً واحدةً(10).

بالعلم يعظم شأن الفرد
فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول بالعِلْمِ يَعْظُمُ شأن الإنسان الفرد حتَّى يكون بوَزْنِ أمَّة:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
[سورة النحل]

وتوجد أمَّةٌ لا تساوي هذا الإنسان الذي يصنعه الإسلام، إسلام القرآن وتعاليم سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم التي هي تعاليم القرآن، فهل عندكم استعدادٌ أن نكون المُسلم أي المُستجيب؟ اترك كلمة مسلم، هل أنت مُستجيبٌ لله وللرسول؟ إذا كنت جاهلاً الله والرسول يأمرانك بالعِلْم أن تتعَلَّم، إذا كنت غافِلاً أن تصيرَ ذاكِراً:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
[سورة الأحزاب]

إذا رأيت تارِكاً لواجبٍ أن تأمره بالمعروف بحكمةٍ ورِقَّةٍ وحُسٍنِ موعظةٍ حَسَبَ السُّنة النبويَّة الكريمة، فهل تعاهدون على أن نَحْمِلَ لقب مُسلم بمعنى مُستجيب أم مسلم مُزَوَّر؟ إذا أخذت ورقة خمسمئة ليرة سورية أو مئة دولار وكانت مُزوَّرة، إذا أخذت مليون قطعةٍ فهل تُغنِيكَ أم تَخْرِبُ البيت وتُفْقِرُ وتُهْلِك؟ وإذا كانت قطعةً واحدةً حقيقيةً هل تنفع أم لا؟ هل تريدون أن يكون إسلامكم مزوراً وقوليَّاً وادعائيَّاً وأمانيَّاًّ أم حقيقيَّاً وعلميَّاً بأن تتعلَّمَ وتُفَتِّشَ عن المُعلِّم؟ (طلب العلم فريضة).

تكريم العلماء عند السلف الصالح
كان السلف الصالح يُسافر أحدهم أربعين يوماً لأجل أن يسمع حديثاً نبويَّاً واحداً، كانوا يُكرِّمُون العلم والعلماء، الإمام الشافعي زار الإمام مالك في المدينة، فقدَّمَ له طعاماً، قام الاثنان ولم يشبعا، لم يكفِهِما، بعد سنتان أوثلاثة أوأربعة زاره مرةً ثانيةً وإذ رأى بيته كبيت الملوك، الخَدَم والغِنى والثروة بشكل، فبَكى الإمام الشافعي، فقال له الإمام مالك: لعلَّك ظننت أن الدنيا تُغيُّرني؟ هذه هدايا الملوك، انظر يا بنيّ كم كانوا يُقدِّرُون العلم، من؟ الملوك العظماء والوزراء، وحتَّى تعلَمَ أن الدنيا ما غيَّرتني أُشهِدُك أني قد وَهَبْتُكَ نصف ما أملك.
ومن تكريم الملوك للعلماء يذكرون عن الإمام الغزالي رضي الله عنه أنه زارَ رئيس الوزراء كان بذلك الوقت الوزير ليس رئيس الوزراء بل هو كُلَّ الوزراء، يكون وزيراً واحداً، فلما خرج من عند الوزير وهو يركبُ بغلًا بالخطأ قدَّموا له بغلة الوزير ظنَّاً منهم أنها بغلته، فإذا ببغلة الوزير مُرصَّعَةٌ بالجوهر والألماس والذهب ولا أدري ماذا.. فلما خرج الوزير رأى بغلته مُبدَّلَة فسأل.. فإذا بالإمام الغزالي يُعِيْدُ بغلته، فلما عَلِمَ أن الإمام الغزالي رَكِبَها قال والله لا تَرجِعْ، تكريماً للعِلْمِ والعلماء، فلما كَرَّموا العِلْمَ والإسلام والدين، رَفَعَهُم الله وأعزهم كما وَعَدَ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) ، صاروا خلفاء كِسْرَى وقَيْصَر، الدولتان الأعظم مثل روسيا وأمريكا في هذا العصر، لو كان أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا العصر لحققوا ما حققوه في زمنهم، (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ)، دينهم وإيمانهم في قلوبهم أرْسَى من الجبال لا تُزَحزحها العواصف ولا التيارات (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) وأيضاً من بعد ضَعْفِهِم قوةً ومن بعد ذِلَّتِهِم عزةً ومن بعد فقرِهم غَنَىً وثروة.

المكافأة والأجر حَسَب العمل

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

فجاوَبَهُم الله فقال:

أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
[سورة البقرة]

(أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ) بحَسَبِ دُعائِهم؟ لا، قال: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) إذا أردت أن تدعو الله أن يُعطيكَ الحياة الحَسَنة في الآخرة بالعمل، وإذا أردت الحَسَنة والحياة الحَسَنة الله يقول لك بالكَسْبِ والعمل (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا)، وإذا عَمٍلْتَ حَسَبَ الطَّلب، إذا طلبت الدنيا وعَمِلتَ لها وطلبت الآخرة وعَمِلْتَ لها (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) فوراً يُكافِئُكَ ويًعطيك أجْرَكَ على حَسَبِ ما تستحق، هؤلاء الأجانب عَمِلُوا للدنيا وطلبوا الحياة الحَسَنة فأُعْطُوْهَا أم لا؟ الصَّحابة طلبوا الدنيا والآخرة:

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
[سورة القصص]

وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8)
[سورة الضحى]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
[سورة التوبة]

(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) فقراً (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).

أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
[سورة البقرة]


سورة الكافرون من الحكم القرآنية
فنعودُ إلى سورة الكافرون، فهذه من الحِكَمِ القرآنيَّة (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)) فإذا كنت في أيِّ جوٍّ من الأجواء أن تدرُسَهُ وأجواءَه وقابليَّتَهُ وعلى حَسْبِهِ تُبْذِرُ بذور الحكمة والعِلْم والتزكِيَة:

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
[سورة البقرة]

فنتعاهد على أن نجتهد قبل كُلِ شيء :

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
[سورة مُحمَّد]

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

فالقلب لا يكون إلا إذا حيَّا بذِكْر الله ومحبَّتِهِ وبأن يَعْشَقَ الله عزَّ وجلَّ، فالعِشْقُ هو الحبُّ بأوسع حدوده.

الحواشي:
(1) صحيح البخاري، رقم (1913).
(2) صحيح البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب ذكر العشاء والعتمة، رقم: (/).
(3) سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641). والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682). سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223).
(4) سنن ابن ماجة، افتتاح الكتاب بالإيمان: باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (224)، «طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب».
(5) لم أجده إلا في إحياء علوم الدين للغزالي بلا سند عن أنس رضي الله عنه. (1/274).
(6) صحيح البخاري، كتاب الإيمان: باب حلاوة الإيمان، رقم: (16)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان: باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، رقم: (43).
(7) شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (7198)، (10/81).
(8) سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات، رقم: (4019). المستدرك، للحاكم، (4/582).
(9) شعب الإيمان، رقم: (65)، (1/158).
(10) مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176).