تفسير سورة القدر

  • 1996-04-12

تفسير سورة القدر

الحمد لله رب العالمين، وأفضل التحيات والتسلميات وأعطرُها على سيِّدنا مُحمَّدٍ خاتَم النبيين والمرسلين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيِّدينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه النبيين والمرسلين، وبعد:

مقدمة:
نحن الآن في تفسير سورة القدر، يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ أنزلناه يعني أنزَل القرآن في ليلة القدر والقَدْر هو الشرف والمجد والعزّة والكرامة، يعني أنزَله الله عزَّ وجلَّ في ليلةٍ ليُعظِّم فيها كرامة الإنسان ويدفَعَهُ إلى الأمام والأمجاد بالأعمال الفاضلة وبالحياة الروحية التي تصل روحَ الإنسان بروحِ خالِقها فتنتقل مِنَ الحياة الجسدية الحيوانية إلى الحياة الروحية الربانيّة، وبهذه الحياة الربانيَّة يشعر الإنسان بسعادةٍ لا يجدُها لا في طعامٍ ولا في شرابٍ ولا في متعة جنسٍ لأن سعادة الروح وحياتها بصلتها بربِّها وخالِقها.

الإسلام يدفَعُ إلى التقدُّم :
فالقرآن عِلماً به وبتعاليمه وعملاً بوصاياه وأوامره وأخلاقه وإنسانيَّته ترفعُ مِنْ شأن الإنسان فبعد أن يكون جاهلاً يدفعهُ الإنسان للعِلم ليصير عالِماً، وبعد أن تكون أطماعه الشخصية تتصرف به وتقوده يسمو به القرآن إلى الأهداف الإنسانيّة والأخلاق الفاضِلة الملائكيّة، ولأن الأديان والإيمان فيه خطورةٌ مِنْ ناحيةٍ أخرى على الإنسان عندما تتصل روحه بخالِقها بطريق الصَّلاة والذِّكر فقد يعزُفُ عن أموره الجسدية والحياتية فيُعطِّلُ عقله عن أن ينتفِعَ بما خَلَق الله له على هذا الكوكب فيجعله يُهمِل نفسَه وجسده ويحرِمَه مِنْ طيبات الحياة ويُعطِّلُ فكره فيجعله جامداً في مكانه لا يترقَّى إلى الأفضل والأحسَن في حياته الجسدية.
لذلك كان سيدنا محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ مَنْ استَوَى يَوْمَاه فهوَ مَغبُون، ومَنْ لَم يكُن يومُه خَيراً مِنْ أمسِه فهوَ مَحرُوم، ومَنْ لَم يكُنْ في زيادةٍ فهُوَ في نُقصَان، ومَنْ كان فِي نُقصانٍ فالمَوتُ خَيرٌ لَه }

[حلية الأولياء لأبي نعيم]

(مَنْ استَوَى يَوْمَاه) يعني إذا كان يومك هذا وأمسُك فإذا لم تزدد عِلماً وأخلاقاً وإنسانية وتقدُّماً في الحياة وكان يومُك هذا مثل أمسِك ولم تزدد في العلوم والمعارف والتقدُّم يقول: (مَنْ استَوَى يَوْمَاه فهوَ مَغبُون)(1)، كالذي يشتري سيارة تساوي مئةً فيشتريها بألف، أو يكون ثمنها ألفاً فيبيعها بمئةٍ فهذا اسمه مغبون، يعني إذا لم تتقدَّم يوماً بيومٍ نحو الخير والفضائل وما ينفعك في جسدك وحياتك وروحك وأخلاقِك فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (مَنْ استَوَى يَوْمَاه فهوَ مَغبُون)، إذاً الإسلام يدفَعُ إلى التقدُّم كلَّ يومٍ بل كلَّ ساعةٍ نحو الأفضل والأكمل، (ومَنْ لَم يكُن يومُه خَيراً مِنْ أمسِه فهوَ مَحرُوم) أي مِنَ الخير والسعادة (ومَنْ لَم يكُنْ في زيادةٍ) مِنَ الخير وما ينفعه وينفعُ الإنسان (فهُوَ في نُقصَان).
الشجرة توقفت عن النمو فلا يكون بعد التوقف إلا اليُبس والمرض ثم الموت فلا تصلُح إلا وقوداً للنار، (ومَنْ لَم يكُنْ في زيادةٍ فهُوَ في نُقصَان، ومَنْ كان فِي نُقصانٍ فالمَوتُ خَيرٌ لَه)، لأن الإنسان خُلِقَ للتقدُّم والزيادة مِنَ العِلم والمعرفة والأخلاق والفضائل والإنسانيَّة وإلى آخره..

تسمية ليلة القدر :
يقول الله في السورة: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ يعني أنزل القرآن دستور الله وقانونه والثقافة السماويّة لأجل أن يرفع قَدْرَ الإنسان في حياته وجسَده ومُعاملته وأخلاقه وروحانيته، وسُمِّيَت ليلة بدء صلة سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم بالسماء مِنْ طريق روح القُدس جبريل عليه السَّلام سُمِّيَت تلك الليلة ليلةَ القدر، يعني ليلة المجد أي مجد الإنسان وليلة العِز لإعزاز الإنسان وليلة الكرامة لتكريم الإنسان، ليدخل الإنسان في مدرسة الله وليكون تلميذاً وأستاذه ومُعلِّمه الله الذي أوجَدك مِنْ جرثومٍ لا تراه العيون والذي خَلَق هذه الكواكب وعوالِم الفضاء التي لا حدَّ لها ولا نهاية، الذي أعطاك هذا الجسد بأعضائه وأعصابه وتركيب عظامه وصناعة عضلاته وجلده كدرعٍ يقيكَ مِنَ الحشرات والنمل وإلى آخره..

تعاليم الله ترفع منزلة الإنسان:
هذا الإله إذا بنى لك مدرسةً هو أستاذها فماذا تكون تعاليمه وماذا تكون ثقافته وماذا تكون مرابِحك وثقافتك إذا كنت خريج مدرسة الله؟ فأتى سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم خاتم الأنبياء، وكان الأنبياء يُرسَلُون لأقوامهم ويُرسَلُون بتعاليم محدودةٍ لا تتعدَّى شؤون قبائلهم، أما سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم أتى لبناء الإنسان روحياً ولبناء عقله حكمةً وفَهماً لحقائق الحياة وأتى لمصلحة الجسد، فكان يقول:

{ ليس بخيرِكم من ترك دنياه لآخرتِه ، ولا آخرتَهُ لدنياه ، حتى يُصيبَ منهما جميعًا ، فإِنَّ الدنيا بلاغٌ إلى الآخرةِ ، ولا تكونوا كَلًّا على الناسِ }

[تاريخ دمشق لابن عساكر]

(ليس بخيرِكم) وليس بأفضلكم (من ترك دنياه لآخرتِه) أمور جسده لأمور روحه ولا من ترك آخرته لدنياه، ولكن المؤمن الكامل هو الذي (يُصيبَ منهما جميعًا)(2)، فإذا كانت تعاليم القرآن لتبني للإنسان سعادته في عالَم الأرض وفي عالَم السماء لتبنيَ سعادته في جسده وروحه وعقله وفِكره، ليُغذِّيه بالعلم والمعرفة، عندما كان يقول:

{ طلبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مُؤمن (3) }

[سنن ابن ماجه]

وعندما يقول:

{ النَّاس صِنفان: عالِمٌ ومُتعلِّمٌ ولا خَيرَ في مَنْ سِواهُما (4) }

[المعجم الأوسط للطبراني]

أليست هذه التعاليم ترفع منزلة الإنسان في الأمجاد والكرامة وتجعل له القدر العظيم والمكانة الرفيعة؟ لذلك أول ليلةٍ نَزَلَ فيها القرآن على سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم سَمَّاها القرآن وسَمَّاها الله ليلة القدر.

عظمة ليلة القدر:
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ أي القرآن وبدأنا في تنزيله ﴿فِي لَيْلَةِ﴾ لأنها تحمِلُ المجد والعزّة والسعادة للإنسان فسَمَّاها الله بليلة القدر، ثم قال تعظيماً لما أُنزِلَ فيها قال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ هل تعلم عَظَمتها؟ الليالي كلها سواءٌ مِنْ غروب الشَّمس إلى طُلوعها، لكن تُشرَّفُ الأزمان والأمكنة بما يحصل فيها من أعمالٍ تكون فيها سعادة الإنسان وتقدُّمه وارتفاع شأنه في الفضائل والمعرفة، هل تَدري ما عَظَمة هذه الليلة؟ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، قال: ﴿لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ التي بُدئَ فيها باتصال الأرض بالسماء وتلمَذَة الإنسان على تعاليم السماء التعاليم التي تُعلِّمُه أمور حياته الجسدية الدنيوية وأمور حياته الروحانية السماويّة الأخرويّة، قال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ ما أدراك ما عَظَمتها وماذا سترفع مِنْ شأن الإنسان إلى مراتب العَظَمة والمجد والشَّرف؟
كان العرب قبل نزول القرآن كانوا وثنيين يعبدون الأحجار والأصنام وكانوا خرافيين تقودُهم الخرافات وكانوا أميين جُهلاء كما نصَّ القرآن على ذلك، وكانوا أعداءً متقاتلين لا يأمَنون، وكانوا يدفنون بناتهم خوفاً مِنَ العار بأن يُعتَدَى عليها، ويقتلون صبيانهم مِنْ فقرهم ومخافة الجوع، فبَعد نزول القرآن كيف كان الحال؟ فكلُّ الأحوال تبدَّلت مِنَ الضارِّ إلى النافع، ومِنَ الشرِّ إلى الخير ومِنَ الجهل للعِلم ومِنَ الخُرافة والأوهام إلى العقل والحكمة، حتَّى صار العرب بالقرآن قادة العالم واستطاعوا بالقرآن وبما نزل في ليلة القدر ليلة الشرف وتشريف الإنسان وتمجيده، استطاعوا أن يُوحِّدوا مئات الشعوب بمئات اللغات الأجنبية بعضها عن بعض، استطاعوا كما يقول نابليون: استطاعوا أن يُوحِّدوا نصف العالم القديم، التركي مع الفارسي مع الأفغاني مع الهندي مع الباكستاني مع الروسي مع الأرمني مع الكردي يجعل منهم أمَّةً وعائلة واحدة حيث يقول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الوحدة الإنسانية بثقافة السماء:

{ مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى }

[صحيح البخاري]

(المُؤْمِنِينَ) المتخرِّجون من مدرسة الله وكتابه، فبكتابٍ واحدٍ الذي هو القرآن ومُعلِّمٍ واحدٍ صار الأسْوَدُ أخاً للأبيض وأبناء المشرق إخوة لأبناء المغرب.
وضح النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وحدة الشعوب بقوله: (المُؤْمِنِينَ)، ليست وحدةً سياسيةً لمصالِحَ قومية فالمدرسة الإلهية فوق وأرقى مِنْ ذلك بكثير، فيقول: (المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ) وداد بعضهم ومحبة بعضهم مع بعض (وتَراحُمِهِمْ) يرحم القوي الضعيف (مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى) (5) الجسد إذا صار ألم في ظفرِ الإصبع فالجسد كله تصيبه الحمى مِنْ أجل هذا الظفر، فهكذا الإيمان يُوحِّد شعوب العالم ويجعل حِسَّهم واحداً وتراحمهم وتحابُبهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى وتنادى له سائر الجسد بالسَّهَر والحمى، الجسد كلُّه يسهر مِنْ أجل ظفر، كلُّه يهتم بالظفر، هذا كان ببركة تلك الليلة التي أُنزِلَ فيها القرآن:

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3)
[سورة الدخان]


التقوى هي العِلم والعمل:
البركة هي كثرة الخير، يعني في ليلةٍ كثيرة الخير والعطاء، وهو عطاء السماء للأرض، عطاء خالِق الكون والمجرَّات والكواكب لهذا الإنسان، فما هي عطيَّة هذا العظيم إذا أراد أن يُعطي؟ أعطاه المجد والعز والعِلم والكرامة والتقدُّم والفضائل روحياً وحياتياً فنشروا العِلم لما فتحوا البلدان لم يكن الفتح الإسلامي للشعوب لينهبوا أموالهم أو يستنزفوا خيراتهم أو يُذلُّوا تلك الشعوب؛ بل كان فتحُهم لنشر العِلم والثقافة والتآخي وهذا ما حصل فكان ابن المشرق يشعر بآلام ابن المغرب، والأبيض لا يستطيع أن يتعالى على الأسود أو الغني على الفقير.
مرةً حصل شجارٌ بين بلال الحبشي وبين أبي ذرٍّ وكلاهما مِنْ أصحاب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال أبو ذر لبلال الحبشي: يا ابن السوداء! يُعيِّرُه وينتقِصُه بسواد لونه، فشكاه بلالٌ للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم فيما شتَمه به أبو ذر، فاستدعى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أبا ذرٍّ والنبي مُغضَبٌ مِنْ كلمة أبي ذرٍّ وتعاليه بلونه الأبيض على بلال بلونه الأسود، وقال له مُوبِّخاً: أما علمت أنه ليس هناك فضلٌ لابن البيضاء على ابن السوداء إلا بتقوى الله عزَّ وجلَّ؟. (6)
يعني إلا بالعِلم والعمل، التقوى تفسيرها العِلم والعمل، وخرج مِنْ جلسة المحاكمة فانحنى أبو ذرٍّ حتَّى ألصَق خدَّه بالأرض والتراب وأقسَم يميناً على بلال إلا أن يطَأ بنعلِه على خده كفَّارةً لكلمته التي عيَّره بها "يا ابن السوداء"، أليست هذه التسوية للإنسان وعدم التمييز تمييز التعالي والتفاخر بالألوان ألا يرفع شأن الإنسان ويجعل له القدر العظيم؟
كان يقول أيضاً مِنَ القدر والمجد الذي أُعطِيَ للإنسان كان يقول:

{ ا آمَن بي مَن بات شبعانَ وجارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلَمُ به (7) }

[المعجم الكبير للطبراني]

إذا كنت أيها الغني تعلم أن هناك جائعاً وتستطيع أن تُطعِمَه وتُزيل جوعَه وتأخرت فأنت لم تنل الإيمان ولا ساعةً واحدة، أليس هذا مجدٌ ورفعةٌ وتكريمٌ للإنسان؟ لما يقول سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم لتعاليم ليلة القدر(طلَبُ العِلم فريضَةٌ).

{ إنما النَّاس صَنفان عالِمٌ ومُتعلِّمٌ ولا خيرَ في مَنْ سِواهما (8) }

[المعجم الأوسط للطبراني]

أليست هذه هِبَةُ القدر والمجد العظيم مِنَ الله للإنسان ومِنَ السماء للأرض؟

ليلة القدر وبقية الأيام:
فلما نسمع تلاوة هذه السورة ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ أيُّ شيءٍ أُنزِلَ هذه الليلة؟ أُنزِلَ القرآن.

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
[سورة العلق]

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ بسبب بدء نزول القرآن فيها صارت ليلة القدر ولها الشرف ولها المجد، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، إذا وازنَّاها ببقية الأيام والليالي قال: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ﴾ للإنسان ﴿مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ قبل ليلة القدر وقبل فتح مدرسة السماء والقرآن، فكيف كان العرب قبل الإسلام؟ ماذا كان شأنهم وماذا حصَّلوا عليه مِنْ قدرٍ ومجدٍ وعِلمٍ وحضارةٍ وتقدُّمٍ وروحانيةٍ وربانيةٍ بعد نزول القرآن؟ إذاً القرآن أنزَله الله عزَّ وجلَّ ليُعظِمَ قدر الإنسان بالعِلم والعمل والاخلاق والفضائل والإنسانية لما يقول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ الخلقُ كلهم عيالُ اللهِ وأحبُّ الخلقِ إليهِ أنفعهم لعيالِه }

[المعجم الكبير للطبراني]

(الخلقُ) لا الإنسان، بما يشمل أيضاً الحيوان، يقول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (الخلقُ كلهم عيالُ اللهِ) عائلة الله والله هو ربُّ العائلة، كما أن الأب هو ربُّ عائلته، (الخلقُ كلهم عيالُ اللهِ وأحبُّ الخلقِ) وأقربُهم إلى الله، إذا أردت أن تكون محبوباً لله وقريباً منه (وأحبُّ الخلقِ إليهِ أنفعهم لعيالِه)(9)، كلما تستطيع أن تنفع النَّاس وترحم الحيوان وترحم كلَّ ذي روحٍ فبهذا القدر مِنَ الرحمة والحنان والعطف على المخلوقات تكون محبوباً لله وتكون مُقرَّباً إليه.

لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ :
فليلة القدر بما أُنزِلَ فيها مِنَ السماء مِنْ عِلمٍ يرفع مِنْ شأن الإنسان خيرٌ مِنْ ألف شهرٍ مضت على الإنسان وليس فيها ليلة القدر وليس فيها صلة الأرض بالسماء وانتساب الإنسان ودخوله في المدرسة الإلهية التي يكون أستاذها ومُعلِّمُها الله كما يقول القرآن:

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
[سورة العلق]

(الرَّحْمَنُ) الربُّ الإله الرحمن (عَلَّمَ الْقُرْآنَ)، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ بل ملايين الشهور والإنسان في جهلٍ وفقرٍ وفي عدم طمأنينةٍ وحروبٍ وتقاتلٍ ليس خيراً مِنْ ألف شهرٍ بل مِنْ كلِّ الدهر إذا عاش في ظلِّ الجهل والتخلُّف والبُعد عن تعاليم الله عزَّ وجلَّ، لماذا صار لها المجد؟

هدية السماء في ليلة القدر:
قال لأنه ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ نزلت مِنَ السماء جيوش العِلم والمعرفة، ملائكة السماء تنزَّلت فيها بأعظم هديةٍ مِنَ السماء وهي القرآن لتُبنَى على أُسِسِه شخصية الإنسان الرباني، إنسان العِلم والعقل والحياة السعيدة، ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ﴾ بالعلوم والمعارف والإلهام والتعليم، فكان طيلة نزول الوحي والنبوَّة على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لثلاثةٍ وعشرين سنةً كان جبريل روح القدس يتنزل على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فتارةً يراه بصورة إنسانٍ وتارةً يراه في الفضاء يملأ الفضاء كله، وتارةً كان يُلقى الوحي في قلبه لا يراه ولكن كما أن الإنسان يسمع بواسطة الجهاز الخاص ومَنْ بجانبه لا يسمع، هكذا كانت صلة سيِّدنا مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم بالسماء.
ذُكِرَت حياته قبل النبوة مِنْ ولادته إلى نبوته، وكلُّ أحوال النبوة ما تُرِكَ مِنَ شؤون حياته وتعاليمه وشخصيته وأكله وشربه ونومه لم يترك شيءٌ إلا وسُجِّلَ، ثم نتيجة التعاليم أنه وُحِّدَ نصف العالم تصديقاً للقرآن عندما يقول:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً) وسعادةً ومجداً وقدراً عظيماً ليس للعرب والمسلمين.

القرآن رحمةٌ للعالمين:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) مرةً كان يُوزع المعونات على الفقراء، فأتى وثنيٌّ -عابد الأصنام-يطلب المساعدة، فقال له النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم والنبيُّ إنسانٌ مثلنا مثله، فقال له: أنت لست على ديني فلا أعطيك، فبتلك اللحظة الله العليم بذات الصدور والذي بكلِّ شيءٍ عليم والذي هو:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

يُنزِلُ عليه روح القدس حالاً بعتابٍ ربانيٍّ: لمَ عامَلت هذا الإنسان ولم تُعطِهِ المساعدة؟ مع أنه وثنيٌّ وعابِدُ صنم، ولكن أليس خلقاً من مخلوقاتي؟ وسُجِّلَ العتاب في القرآن العظيم في سورة البقرة يقول تعالى للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم في هذه الحادثة:

لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
[سورة البقرة]

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) أنت لست مسؤولاً عن أديان النَّاس، أنت مسؤولٌ عن إعانة أيِّ إنسانٍ يحتاج إلى المعونة وأنت تستطيع أن تُساعده وتعاونه، أنت مسؤولٌ عن هذا بقطع النظر عن لونه ولغته ودينه، (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) أما مِنْ حيث المساعدة قال: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) نفعُها ومردودها عائدٌ إليك والله سيُكافئك على هذه المساعدة، (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) فعاتبه الله: لم فعلت؟ يجب أن تُعطيه، فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه: ردُّوا عليَّ المشرك فأعطاه كما يُعطي غيره.

الحاجة إلى التعاليم الإلهية:
فهذه التعاليم الإلهية ما أحوَجَ إنسان القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين وكلّ قرون الحياة إلى تعاليم الله حيث توجِبُ مساعدة الإنسان لأخيه الإنسان، إذا كان غنياً أن يُقدِّم له المال وإن كان جاهلاً أن يُعلِّمَه، وإذا كان مُسيئاً له أن يعفوَ عنه ويصفَح:

وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
[سورة الشورى]

وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22)
[سورة النور]

(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) عن مَنْ؟ عن المسيئين(أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) ألا تعملون السيئات مع الله؟ أنتم مُسيئون مع الله، ألا تُحبون أن يعفوَ الله عن إساءاتكم؟ هكذا أنتم اعفوا عن سيئات المسيئين ليعفوَ الله عنكم وعن إساءاتكم.

حقيقة الأديان السماوية:
فهل أتت كلُّ الحضارات والثقافات بتعاليم إنسانيةٍ عالميةٍ خالدة، الشيوعية أتت سبعين سنة بالحديد والنَّار، فهل استطاعت أن تستمرَّ وتبقى؟ أما دين الله وتعاليمه وقوانينه، وقد دخل عليها في الأديان كلّها في اليهودية والمسيحية والإسلام تشوهَّت حقائق الأديان، الأديان بحقائقها كلُّها سُمو، سيِّدنا إبراهيم وموسى وعيسى ومُحمَّد عليهم السَّلام، كلّها للارتقاء بالإنسان إلى أعلى درجات الحياة، وأتى سيِّدنا مُحمَّد خاتماً ويحمل معه الإسلام لا ليقطَع المسيحيَّ عن مسيحِه وعن إنجيله السماوي ولا ليقطَع اليهوديَّ عن موسى عليه السَّلام وأنبيائه، حَمَلَ رسالة الإسلام وحَمَلَ معه رسالة موسى عليه السَّلام وعيسى ونادى: مَنْ لا يُؤمن برسالة موسى عليه السَّلام وعيسى فهو كافرٌ برسالة مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، فالإسلام هو مَجمَع الأديان الإبراهيمية كما ذكر القرآن هذا الموضوع في آياتٍ متعددةٍ وكثيرة.
فتلك الليلة التي أُنزِلَت فيها هذه التعاليم التي هي القرآن أليست جديرةً أن تُسمَّى ليلة القدر العظيم وليلة المجد الذي وهَبتهُ السماء لإنسان هذه الأرض؟ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ﴾ ما عَظَمة هذه الليلة وأمجادها وعطاءاتها للإنسان؟ ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ بل خيرٌ مِنَ دهرٍ لا تعاليم سماوية فيه، لماذا صارت هذه العَظَمة؟ قال لأن الملائكة تتنزَّل بالحياة الروحية لتُلَقِّحَ بها حياة الإنسان الجسدية الحيوانية، فتنقُله مِنْ حياةٍ حيوانيةٍ إلى حياةٍ ملائكية، ولتنقل عقله الخرافي إلى عقل الفلاسفة والحكماء، ولتنقله مِنْ رهبانيةٍ يظلِم فيها جسده ويخالِفُ فيها قوانين الله.
الله عزَّ وجلَّ خلق الإنسان وخلق أعضاءه ليقوم كلُّ عضوٍ بما خُلِقَ له ووُظِّفَ له، وخَلَقَ له النعم ليتمتَّع بها ويشكُر خالِقها وواهبَها ومُعطيها، قال: تنزَّلُ الملائكة بهذه العلوم والمعارف وبهذه الهبة والعطاء السماوي لحياة الإنسان أخلاقياً وعِلمياً وأخلاقياً وربانياً وعالمياً وبإذن ربِّهم، هكذا أراد الله وأمر وشَرَع، ليُصافح أبناء سيِّدنا المسيح ويضمَّهم إلى صدره.

موقف المسيحيين من الإسلام:
ولما عَرَفَ المسيحيون في حياة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حقيقة الإسلام أتوا إليه وقد قرؤوا في إنجيلهم البُشرى بالنبي الذي سيأتي بعد سيِّدنا المسيح، فلما رأوا فاضت أعينُهم مِنَ الدمع خشوعاً وفرحاً لتحقيق ما بشَّر به سيِّدنا المسيح كما بشَّر سيِّدنا موسى عليه السَّلام بسيِّدنا المسيح عليهم السَّلام، وأنزل الله في شأن هذا الموقف عن المسيحيين قوله في سورة المائدة:

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
[سورة المائدة]

(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً) يعني محبةً للمسلمين (لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) هم أكثر النَّاس محبةً ووداداً وقرباً لم؟ قال: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) لأنهم قرؤوا البشارة في إنجيلهم (وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) عن الاعتراف بهدية السماء.
(وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) لما تلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عليهم القرآن فاضت أعينهم بالدمع (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا) يعني بمُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم (فَاكْتُبْنَا) سجِّلنا (مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ).
تنزَّل الملائكة بالعلوم والحكمة والسياسة السماوية فصار يحكم جزيرة العرب كلّها، ونزل جبريل فقال له: إن الله يُخيِّرُك أتريد أن تكون ملكاً نبياً كداود وسليمان عليهما السَّلام أم عبداً نبيّاً؟ لا تأخذ صفة المُلك وأبَّهة الملوك، فنظر سيِّدنا مُحمَّد في وجه جبريل فأشار إليه أن تواضَع، فقال: عبداً نبياً، فمع أنه صار حاكم الجزيرة العربية كان ينام على الحصير حتَّى كان يُؤثِّرُ في جنبِه الشريف، وكان إذا أتاه العبد أو الجارية لحاجةٍ مِنَ حوائجها تُمسك بيده فيذهب معه مع العبد أينما أخذه لخلاصه مِنْ ظلامته أو ضياع بعض حقِّه، صلَّى الله عليه وعلى كلِّ أنبياء الله ورُسله وسلَّم.

آداب الطلب من الله:
﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر﴾ يعني مِنْ أجل كلِّ أمرٍ عظيمٍ يُحقق سعادة الإنسان ومجده وتقدُّمه في جسده وروحه وعقله وحياته، كما يُعلِّمُنا القرآن أن نطلب من الله:

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

(رَبَّنَا آتِنَا)أعطنا (فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) يعني الحياة الحسنة في كلِّ شؤون الحياة (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) ويقول بالدعاء وحده لا تُعطى مِنَ الله ما تطلُب، إذا لم تقرن الطلب القولي بالطلب العملي، فيقول في آيةٍ أخرى للطلب العملي:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
[سورة النحل]

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) في أعمالهم وسلوكهم وعلومهم ومعارفهم (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) الحياة الحسنة (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) أعظَمُ وأكبر (وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) جنات إقامةٍ وخلودٍ وأبَد، وهل حقق الله للمؤمنين الأولين الحياة الحَسَنة في الدنيا؟ كانوا كالوحوش ضائعين في صحراء الجزيرة العربية، فجعل الله منهم وبهم هيئة الأمم، هيئة الأمم ماذا تُلقَّب؟ هيئة الأمم المتحدة، لا، الإسلام جعل هيئة الأمم الموحَّدَة، جعلهم لا أمماً بل أمَّةً واحدة:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)
[سورة البقرة]

لا إفراط ولا تفريط ولا ضياع ولا تضييع.

ليلة القدر سلامٌ من السماء للأرض:
﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ فكان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُعلِّمُ النَّاس أمور دنياهم كأمور السياسة والعائلة والمعاملة وكلَّ أمور الحياة فيما يتعلق بحياة الإنسان جسداً وروحاً وعقلاً وقلباً وإيماناً، ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ﴾ أجل ﴿أَمْرٍ﴾ يهِمُّ الإنسان ويُحقق سعادته.
﴿سَلَامٌ هِيَ حتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ فليلة القدر التي نزل فيها القرآن نزلت الملائكة تُحيي الإنسان في تلك الليلة، تحية السماء للأرض وتكريمها له، فطيلة تلك الليلة سلامٌ سلام وتحيةٌ تحية، وبنزول هذا القرآن لما تمثَّل في الإنسان عِلماً وفَهماً وعملاً وسلوكاً وأخلاقاً ومعاملةً وإنسانيةً مع كلِّ الشعوب.

قصة ابن عمرو بن العاص فاتح مصر مع القبطيّ:
لما حصل سباق الخيل في مصر وكان مِنَ المتسابقين ابن عمرو بن العاص فاتح مصر وسبَقَه قبطيٌّ نصرانيٌّ في السباق ما جعل ابن عمرو يغضب فهو ابن الملك مثلاً فكيف يسبِقُه شخصٌ مِنَ الشعب ونصرانيٌّ أيضاً، فأخذ القضيب وضربه على رأسه غضباً لماذا تجرأ فسبَقَه في سباق الخيل؟ فذهب القبطي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه ظلامته وعدوان ابن رجل الدولة عليه، فاستدعى عمر رضي الله عنه الضارب واستدعى والده الفاتح ورجل الدولة لمصر كلّها، وفي جلسةٍ واحدةٍ ليست كمحاكم هذا الزمان يحتاج الإنسان عشرين سنةً ليأخذ الحكم، في الإسلام المحكمة تقضي المشكلة بجلسةٍ واحدة، ولما تحققت ظلامة القبطي النصراني مِنَ المسلم وابن فاتح مصر أعطى عمر القضيب للقبطي، ولما ضرب ابن فاتح مصر ابن عمرو القبطيَّ ضربه وكان يستعلي عليه قائلاً: أنا ابن الأكرمَين، أنا أبي هو الذي فتح مصر له كرامته كيف تسبقني؟ فعمر أعطى القضيب للقبطي، وقال له: اضرب ابن الأكرمَين حيثما ضربك، على رأسك اضربه على رأسه أو على بدنك اضربه على بدنه، فضربه بمحضر عمر رضي الله عنه وأصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فضربه ونحن نحبُّ أن يضربه، يعني المجتمع الإسلامي كلُّه قام على العدل والإنسانية، لأنه قبطيٌّ فحقه ضائع؟ لا، قال: فضربه ونحن نحب أن يضربه، حتَّى توقف قال: ونحن نحبُّ أن يتوقف، لأنه إذا ضربه حسب ما يستوفي بذلك حقه، فقال عمر للقبطي: اضرب بالقضيب على رأس أبيه، من أبوه؟ فاتح مصر، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين ما ذنبي؟ أنا لم أضربه، ابني ضربه، فقال: إن ابنك ضرب القبطي النصراني بسلطانِك وجاهِك، لو لم تكن أنت والده لما تجرَّأ على أن يعتدي عليه.

العدالة في الإسلام:
هل يوجد حكمٌ عادلٌ في الدنيا بمثل هذه الواقعة مِنْ أمريكا إلى اليابان يُنصرُ فيها الإنسان الضعيف الأضعف تجاه الإنسان القوي الأقوى؟ هذه التعاليم وهذا العدل وهذه الأخلاق مِنْ أين أتت؟ مِنْ مدرسة القرآن، هذا هو المجد والقدر الذي أُنزِلَ عند نزول القرآن وهل تستحق تلك الليلة أن تُسمَّى ليلة القدر والمجد؟ مجد الإنسان وشرفه وكرامته، مَنْ الذي ركَّز على مجد الإنسان وشرفه؟ هو خالِق الإنسان، هذا البرنامج يُسمَّى الدين والإسلام، ما معنى الإسلام؟ المسيحي هو المنتسِبُ لسيِّدنا المسيح، واليهودي المنتسِبُ لسبطٍ مِنْ أسباط بني إسرائيل، أما الإسلام معناه الاستسلام والاستجابة والانقياد لتعاليم القرآن، كقصة القبطي وقصة المشرك الوثني، فلما سيِّدنا عمر قال: اضرب والده قال: ما ذنبي؟ قال: إنه ضربه بسلطانك، فقال القبطي: لا يا أمير المؤمنين، أنا أخذت حقي، فقال: أما والله لو ضربته ما منعناك منه، لأن ابنه ضربك بسلطانه، ثم التفت موبِّخاً لعمرو بن العاص قائلاً له: متى استعبدتم النَّاس؟ تُذلِّون الشعب والشعب غير المسلم، متى استعبدتم النَّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ أيُّ مبدأ؟

مبادئ هيئة الأمم:
هيئة الأمم أنشأت مبادئاً لكن هل هي صادقةٌ في تنفيذها؟ تأتي الدول صاحبة الفيتو تجعل قوانين مجلس الأمن تُطبَّق على الضعفاء لكن لا تُطبَّق على أصحاب الفيتو، هل هذا عدلٌ وهل هذا يليق بأمم الأرض وشعوبها؟ أما قانون الله فيُنفَّذُ على كلِّ مخلوقٍ ولو كان على مُحمَّدٍ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، مرة صعد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم على المنبر وقال:

{ أيها النَّاس! لعلِّي ألقى ربِّي فمَن كان لهُ عندي حقٌّ مِنْ مالٍ فهذا مالي، ومَن لهُ عندي مِنْ حقٍّ في بدنٍ فهذا بدَني، ومَنْ كنتُ سَبَبته فليسُبَّني، لا يقُل بأن مُحمَّداً يغضَب، فإن مُحمَّداً لا يغضَب مِنَ الحقِّ }

[وَرَد في الأثر]

(أيها النَّاس! لعلِّي ألقى ربِّي) يعني أنا ميتٌ وبعد الموت سنلقى الله (فمَن كان لهُ عندي حقٌّ مِنْ مالٍ) أخذت مِنْ ماله (فهذا مالي، ومَن لهُ عندي مِنْ حقٍّ في بدنٍ) ضربتُه (فهذا بدَني، ومَنْ كنتُ سَبَبته فليسُبَّني، لا يقُل بأن مُحمَّداً يغضَب، فإن مُحمَّداً لا يغضَب مِنَ الحقِّ)(10)، هذا هو قانون السماء، هذه هي سياسة السماء، السَّلام العالمي لا يحصل إلا بقانون السماء، أما القانون الذي يضعه البشر يستعمله القوي لمصلحته ولا يُبالي بحقِّ الضعيف، وبسبب أُميَّة الأقوياء وجاهليتهم بثقافة السماء التي هي دين الله عزَّ وجلَّ والاستسلام لها والانقياد لها.

ليلة القدر ليلةٌ يرفع الله بها قدر الإنسان:
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ هل تستحق تلك الليلة أن تُسمَّى بليلة القدر والشرف؟ القدر لمن؟ غروب الشَّمس وشروقها شيءٌ مِنْ قوانين الطبيعة، أما القدر قدر الإنسان، الليلة التي سيرفع الله بها قدر الإنسان ويُشرِّفُه ويُنقذه ويُسعِده وينقُلُه مِنَ الظلمات إلى النور.

الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
[سورة إبراهيم]

مِنْ ظلمات الجهل والعدوان والفقر والتخلُّف إلى مقابلها مِنَ الصفات التي تُسعِدُ الإنسان وترتقي به إلى درجات القدر والمجد.
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ بدأ إنزال القرآن في ليلة القدر والمرويُّ أنها كانت الليلة السابعة عشر مِنْ رمضان، أول نزول القرآن:

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
[سورة الأنفال]

هذا لا يُهمّنا، المهم مِنَ الموضوع أن نتفقَّه وأن نتثقَّف ونتعلَّم تعاليم الله الذي لا يُفضِّلُ غنياً على فقيرٍ ولا قوياً على ضعيفٍ ولا أبيضَ على أسود، هذه التعاليم مع كلِّ تقدُّمِ الإنسان هل وصل إلى أن يكون سيره في هذه الحياة على هذا المستوى؟

أسباب انتشار الإلحاد اليوم:
نجد مجلس الأمن وهيئة الأمم يتصرَّف فيها الأقوياء في نصرة مقاصِدهم ومطالبهم ويدوسون حقوق الضعفاء والفقراء، فهل هذا مجدٌ للإنسان والإنسانية؟ هل هي قدرٌ وكرامةٌ للإنسان والإنسانية؟ لا كرامة ولا سعادة للإنسان إلا بالعودة إلى مدرسة الله وثقافة السماء، لماذا الإنسان في عصرنا الحاضر مُبتعدٌ عن تعاليم الله وعن ثقافة السماء؟ مَنْ المسؤول عن ذلك؟
في لقاءٍ لي مع سيادة البابا في الفاتكان وقد دعاني دعوةً خاصةً لإلقاء محاضرتين إحداهما في الفاتيكان بعنوان (مستقبل الإسلام والمسيحية في العصر الحديث)، والأخرى طلبها لألقيها في جامعة ميلانو بعنوان (التسامح الديني في الإسلام)، في اللقاء وقد حددت الجلسة بخمس عشرة دقيقة ومدير مكتبه قال لي قبل دقيقة أنا أدخل للإعلام بانتهاء الوقت حتَّى لا يكون هناك إحراج، وبانتهاء الوقت دخل فأشار البابا له بيده أن يرجع ولا يدخل، وبقينا في الحوار ستين دقيقة، أثناء الحوار قلت له: يا سيادة البابا هل تعلم مَنْ خلق الإلحاد والبُعد عن الدين في عصرنا الحاضر؟ قال مَنْ؟ قلت له: أنت، فرأيته تأثَّر فقلت له: وأنا معك، فنحن رجال الأديان نعرِضُ الدين بغير حقيقته السماوية، الماء عندما ينزل مِنَ السماء يُعطي الحياة، ولكن عندما يختلط بأوساخ الإنسان يُعطي المرض وقد يُعطي الهلاك، ولذلك لما رأى الإنسان بأن الدين يُؤخِّره ويُخالف العقل والمنطق والواقع ابتعد عنه وهو معذورٌ في هذا.. لكن لو وُفِّقَ أكثر يدرس الدين مباشرةً فيجد أنه الحياة وماء الحياة كما يقول القرآن:

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
[سورة الأنبياء]

ففي النهاية قلت له: ولئن استمررنا نحن رجال الأديان على ما نحن عليه سينتهي الإيمان مع الإنسان وسنكون نحن رجال الأديان مسؤولين أمام الله يوم الدين، نحن أضعنا دين الله عزَّ وجلَّ، لذلك يجب مِنْ أجل السَّلام وسعادة الإنسان فرداً وعائلةً ومجتمعاً ووطناً وعالمياً أن نقوم بثورة، هل سمعتم؟ لكن لا ثورة سلاحٍ وإسالة دماء، بل ثورةً فكريةً وعلميةً وإيمانيةً وعقائديةً ندرس الأديان مِنْ منبعِها الأصيل، نأخذ المسيحية مِنْ سيِّدنا المسيح والإسلام مِنْ سيِّدنا مُحمَّد ونستعمل وسائل الإعلام وعلى قاعدةٍ بأن كلَّ شيءٍ يُنسِبَ للمسيح أو إلى سيِّدنا موسى عليه السَّلام او إبراهيم يجب أن يتطابق مع العقل الناضج ومع مصلحة وتحقيق سعادة الإنسان، وكلُّ ما يتنافى مع هذه القاعدة لا يأتي الانبياء بما يُضِرُّ بالإنسان أو يُخالف الحقائق ويُخالف الواقع، هل يستطيع المسيح أو سيِّدنا مُحمَّد أو إبراهيم أن يقول عن عمامتي البيضاء أنها سوداء؟ هذا مُخالفٌ للواقع، سيقول بيضاء.
فما أتت أديان السماء إلا للنهوض بالإنسان لتسلِّكَهُ الصراط والطريق المستقيم لتُحقِّق سعادته، في زمن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم والخلفاء الراشدين لم تكن هناك سجونٌ ولا شرطةٌ ولا محاكم، لماذا؟ لأن التربية السماوية استقرَّت في ضمائر وعقول وأحاسيس الإنسان المؤمن، فكان لا يُفكر إلا بحقه بل يرضى بدون حقِّه، أما أن يعتدي على غيره فهذا لم يوجد في قاموس أفكارهم ولا واقعهم ولا حياتهم، ما أحوَجَ إنسان هذا العصر وقد صار بين يديه مِنَ الأسلحة الفتاكة المدمِّرة لا لعدوه فقط بل تُدمِّرُه قبل عدوه وتُدمِّرُ معه الإنسان والحيوان والنبات، وكلما مرَّ الوقت تزداد هذه الأسلحة نمواً وخطورة وإهلاكاً، هل هذا تقدُّمٌ إنسانيٌّ وهل هذا هو العِلم الذي يُنتِجُ الهلاك والإهلاك؟

تحقيق دين الله عزَّ وجلَّ:
فلا بدَّ مِنْ أن تكون هناك استعمالٌ لوسائل الأعلام والأقمار الصناعية لتُحقق دين الله الذي أُنزِلَ مِنَ السماء كما أن المطر ينزل لحياة الإنسان أنزل الله الأديان لحياة العقول والنفوس والأرواح، تحت عنوان وحدة الأديان، حسب ما يدعو له القرآن، يقول في آياتٍ متعددة:

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
[سورة البقرة]

(قُولُوا) أيها المؤمنون (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) القرآن (وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) أنبياء التوراة (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ)ممن نعرِف وممن لا نعرِف (مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ) لله (مُسْلِمُونَ) يعني مستجيبون ومنقادون وطائعون، وسيِّدنا المسيح وموسى عليهما السَّلام لم يقُل أقلَّ مِنْ ذلك، لأنهم خريجوا مدرسةٍ واحدةٍ وأستاذهم واحدٌ وهو ربُّ العالمين.

استعادة شرف ومجد ليلة القدر:
فإذا رجعنا هذه الرجعة فسنستعيد شرف ومجد ليلة القدر، أُنزِلَ مِنَ السماء في زمن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم على قلبه، فهضَمه قلبه فتحوَّل عِلماً وحكمة وأخلاقاً سماويةً وأعمالاً فاضلةً ورحمةً وكرامةً للإنسان كلِّ الإنسان، وما أهوَنَ تحقيق هذه الفكرة بوجود وسائل الإعلام فيصير إنسان المشرق بتعاليم الله أخاً لإنسان المغرب، وأبناء المسيح يصيرون إخوةً لأبناء سيِّدنا مُحمَّد وفي سورة الأنبياء لما يذكر الله عدداً من أنبياء التوراة في آخرهم يذكر سيدتنا مريم، ثم يقول في خاتمة قصَصِهم:

إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
[سورة الأنبياء]

(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) يعني ملتكم، إن هذه التعاليم إن هذه أمتكم وملَّتكم ملةً واحدة، مع تعداد الأنبياء (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)فإذا كنا عبيد الله أفضل أم أن نكون عبيد شهواتنا وأجسامنا ونكون عبيداً لمن خلَقنا ووهبنا السمع والبصر ووهَبنا نعمة الحياة والوجود والهواء والماء والشَّمس والقمر.

وجوب تعلُّم الإيمان وتعليمه:
لذلك يجب على كلِّ واحدٍ منا مَنْ يُؤمن بالله وأنبيائه، الإيمان لا يكتفي منك أن تجعله حكراً على نفسك، بل يُوجب عليك أن تُعلِّمَه للآخرين لتحقيق سعادة الإنسان وأخوته للإنسان كما يقول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره (11) }

[ورد في الأثر]

﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾ في الليلة ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ مِنْ أجل كلِّ أمرٍ يُهمُّ الإنسان وهي سلامٌ وتحقق السَّلام ونزلت بالسَّلام ﴿حتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾، لذلك كلُّ واحدٍ منا يجب أن يقوم بما قام به سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وبما قام به أنبياء الله أن يقوم بنشر وتعليم تعاليم الله ليكون المؤمن الحقيقي مؤمن العِلم والروح والأخلاق والعقل والحكمة وسعادة الدنيا والآخرة المادة والروح.
وختاماً أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتبِّعون أحسنه، اللهم اجعلنا هادين مَهديين ولا تجعلنا ضالين ولا مُضلِّين، ولا تُخزِنا في هذه الدنيا ولا يوم الدين، وصلى الله على سيِّدنا مُحمَّدٍ وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم وعلى أخويه سيدينا موسى وعيسى، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، والحمد لله رب العالمين.
إذا تكرَّم علينا البروفيسور القسيس دان نايس أستاذ الكتاب المقدس في جامعة نوتر لور في ولاية أونتاريو الكندية بكلمة، فإخوانه أبناء مُحمَّد يُرحبون بكلمةٍ مِنْ ابن السيد المسيح وباسم الوفد مِنْ إخواننا أبناء السيد المسيح وأخواتنا المرافقات لرفاقهم فيهذه الزيارة، فأهلاً وسهلاً.

رئيس الوفد يتكلم والمترجم يترجم:
أحبُّ يا سماحة الشَّيخ أن أشكركم على هذه الدعوة، بسم الله الرحمن الرحيم، إننا نأتي إليكم بكل تحياتنا كوفدٍ يضمُّ أساتذة الجامعة وأساتذة الكنيسة أيضاً، إننا مِنْ كنيسة المنونايت في كندا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، لقد أتينا لنتعلَّم شيئاً عن الممارسة الدينية للأديان في سوريا، في الجمعة الماضية وتواً بعد وصولنا إلى دمشق صعدنا جبل قاسيون المطلَّ على هذه المدينة والتي بدَت لنا كبحرٍ أثناء النهار وفي الليل أجمل مِنَ النجوم، لقد كنا نمتِّعُ أعيننا بهذه المدينة، عندما سمعت آذاننا الأذان والدعوة إلى الصَّلاة وسمعنا التلاوة والأذان يصعد مِنْ آلافٍ مِنَ المساجد في دمشق، لذلك وقفنا في صمتٍ لنستمِع ونعجَب بإيمان المسلمين في هذه المدينة، لكي نتمتَّع وتُصغي آذاننا لصلوات وإيمان المؤمنين في مدينة المؤمنين، وفي هذا اليوم يوم الجمعة لقد تشرَّفنا بدعوتكم لنا بأن نكون معكم ونشارككم في صلواتكم وعبادتكم، لأننا نُؤمن أن النَّاس الذين يعبدون الله الواحد الأحد رغم أن هذه العبادة تكون في طرقٍ متعددةٍ إننا نؤمن أن هؤلاء النَّاس المؤمنين يجب أن يعرفوا بعضهم بعضاً ويجب أن لا نكون غرباء عن بعضنا.
ويجب أن لا نسمح أيضاً لوسائل الإعلام أن تفرِضَ تصوراتنا عن بعضنا بعضاً، لن نستطيع أن نكون غرباء عن بعضنا البعض في هذا العالَم أكثر مِنْ ذلك، لأن هذا العالم أصبح صغيراً بفضل التلفاز ووسائل الإعلام الشاملة الواسعة، لذلك إن تعرفنا على بعضنا بعضاً وجهاً لوجهٍ هو الذي سوف يُسهِمُ بالسَّلام على هذا الكوكب، وإننا نرحب بكم أيضاً بأن تزورونا، لقد أتينا مِنَ الغرب كأناسٍ مؤمنين، وبسبب إيماننا فإننا لا نوافق دائماً ولا نتفق دائماً أو ندعم دائماً ما يقوله الغرب أو يفعله فيما يتعلق بالشرق الأوسط، إننا نؤمن ونعبد الإله الواحد، الإله الواحد الذي كلَّمنا مراراً وتكراراً عن طريق الأنبياء، هذا الإله الواحد الذي يدعو للسلام والعدل، لذلك فإننا نؤيد وندعم السَّلام العادل والشامل في هذه المنطقة، إننا نؤيد وندعم السَّلام الذي يحترم حقوق كلّ الشعوب، وإننا أيضاً لندعم ونؤيد ونعمل في هذا المجال.
إننا نؤمن أن الشعوب جميعاً الذين ينحدرون مِنْ هذه الديانات السماوية الثلاث يجب أن يكون لهم جميعاً حق الوصول بالتساوي إلى القدس، ولا يحقُّ لأي فئةٍ أن تُسيطر وتحرِمَ الآخرين مِنَ مدينةٍ بهذه القدسية، لقد استمتعنا بزيارتنا لسوريا ولقد تشرَّفنا بدعوتكم لنا بأن نكون بين أيديكم في هذا الصباح، وإننا ندعو الله أن يعيش الشعب السوري بسلامٍ وازدهار، وأن يعيش المسلمون والمسيحيون في سلام، وشكراً.

الهوامش:
(1) حلية الأولياء لأبي نعيم، (8/35).
(2) تاريخ دمشق، لابن عساكر (65/197).
(3) سنن ابن ماجه، كتاب المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (224).
(4) المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (7575)، (7/307)، سنن الدارمي، رقم: (252)، (1/312)، حلية الأولياء لأبي نعيم بلفظ مقارب، (1/212).
(5) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة النَّاس والبهائم، رقم: (6011)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: (2586)
(6) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية، رقم: (30)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان والنذور، باب إطعام المملوك مما يأكل، رقم: (1661).
(7) المعجم الكبير، للطبراني، رقم: (751)، (1/ 259).
(8) المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (7575)، (7/307)، سنن الدارمي، رقم: (252)، (1/312)، حلية الأولياء لأبي نعيم بلفظ مقارب، (1/212).
(9) المعجم الكبير للطبراني، رقم: (10033)، (10/86)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (7045)، (9/521)، حلية الأولياء لأبي نعيم، (3/102).
(10) المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (2629)، (3/104).
(11) ورد في الأثر