تفسير سورة الانشقاق 02

  • 1995-09-08

تفسير سورة الانشقاق 02

بسم الله الرحمن الرحيم, يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأصلِّي وأسلِّم على سيِّدنا مُحمَّد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيِّدينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه مِنَ النبيين والمُرسَلين، وآل كلٍّ وصَحْب كلٍّ أجمعين، وبعد:

فنحن لا نزال في تفسير سورة الانشقاق، والانشقاق كالسور التي قبلها كان معظمها يدور حول حياة الخلود للإنسان في غير هذا الكوكب المسمَّى بالأرض، وربع القرآن كما وَرَد في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أو نصف القرآن بالأصح يدور حول حياة الخلود، يقول صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ {إِذَا زُلْزِلَتْ} [الزلزلة: 1] تَعدِلُ نصفَ القرآنِ (1) }

[سنن الترمذي]

وسورة الزلزلة تدور كلُّها حول حياة الخلود والدار الآخرة والمصير الأبَدي والسعادة الأبَدية أو الشقاء الأبَدي للإنسان.
فإذا عَقَل المسلم والمسلمة القرآن:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

تنبيهٌ وإيقاظٌ للعقل والفكر؛ لكنْ (لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ) القلب يعني لمن في قلبه خشيةُ الله عزَّ وجلَّ، ولمن في قلبه محبَّة الله عزَّ وجلَّ، ولمن في قلبه مخافةُ الله عزَّ وجلَّ؛ (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أو كان له فكرٌ وعقلٌ يُفَكِّرُ في القرآن، فالإيمان والقرآن لا يُهضم ويُثْمِر إيمان العمل وإيمان السعادة وإيمان النجاح في الدنيا قبل الآخرة إلَّا لمن كان له قلب، والقلب هو روح الإنسان الذاكرة، وروح الإنسان التي امتلأت مِنْ خشية الله عزَّ وجلَّ، ومِنْ محبة الله عزَّ وجلَّ، ودخلت مدرسة الإيمان وحَظِيت بالمعلِّم الوارِث النبوي:

{ العلماء وَرَثة الأنبياء (2) }

[سنن ابن ماجه]


العِلم الحقيقي:
فكانت الهجرة إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حياته فرضًا على كلِّ مسلمٍ ومسلمة، لماذا الهجرة فرض؟ ليتعلَّم المسلم علوم القرآن:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[سورة البقرة]

والعِلم الحقيقي هو الذي يُوجِبُ العمل؛ فإذا عَلِمَ الإنسان الأفعى عِلمًا حقيقيًّا فلا يضع يده بين أنيابها، وإذا عَرَفَ الذهب لا يُلقيه على قارعة الطريق، وإذا لم يُوجِب العِلم العمل فالجهل خيرٌ منه؛ لأنَّ الجاهل بالشيء لا يُلام، فيقول لا أعلم، فالذي يأخذ السُّم ويشربه وهو جاهلُ فلا يُلام؛ أمَّا إذا أخذ السُّم وتجرَّعه وهو يعلَم أنَّه سمٌّ فيُلام في الأرض وفي السماء، فلا تظنَّ يا بنيَّ أن العِلمَ هو أن يكون معك شهادة الأزهر، لا، أكثر النَّاس يعلمون، هل يوجد مَنْ لا يعرف الحلال والحرام؟ هل يوجد مَنْ لا يعرف أنَّ الصَّلاة فرضٌ وواجبة؟ والصوم والزكاة والحج وبرُّ الوالدين والأمانة والصدق؟ هل هناك مَنْ لا يعرف أنَّ الزنا حرامٌ وشرب الخمر حرام، والغيبة والأذى والكذب وإيذاء النَّاس؟

{ الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ(3) }

[صحيح البخاري]

لكنَّنا نحتاج عِلم القلب، العِلم النَّافع الذي عَناه الله عزَّ وجلَّ بالقرآن:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ) ينتفع به وبتلاوته وسماعه (لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ).

القلوب التي تخلو من ذكر الله:
قلوب متى منه خَلَت فنفوسُ لأحرف وسواس اللعين طروسُ وإن مُلئت منه ومِنْ نور ذكره فتلك بدورٌ أشرقت وشمــوس
{ عبد الغني النابلسي }
(قلوب متى منه خَلَت) إنْ خلت القلوب مِنْ خشية الله عزَّ وجلَّ (فنفوسُ) يقال لها النفس أمارة بالسوء، (لأحرف وسواس اللعين طروسُ) تصير ورقةً يكتب بها الشيطان ما يُريد مِنْ وساوسٍ ومِنْ إلقاء الإنسان في معصية الله عزَّ وجلَّ، (وإن مُلئت منه) ومِنْ نورِ ذِكرِه (فتلك بدورٌ أشرقت وشمــوس)، فلا بدَّ مِنَ المعلِّم الذي يُعلِّم الكتاب العِلم النافع، ويُحيي قلبك بذكر ومحبَّة وخشية الله عزَّ وجلَّ، وبالحكمة، (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) الفِكر والتفكُّر في الأمور وعواقبها، (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) يُفكر حتَّى يجعل الشيء الذي يتفكَّر به وبعاقبته كأنَّه مشهودٌ له ويراه أمام عينيه، لذلك ما يراه حسنًا بعقله يعمله، وما رآه سيئًا بعقله يجتَنِبُه، لذلك لا بدَّ مِنَ المعلِّم الذي يُعلِّم الكتاب والحكمة والمزكِّي الذي ينقُلَك مِنَ الظلمات إلى النور، ومِنْ الغفلة إلى ذكر الله عزَّ وجلَّ والحضور، ومِنْ نسيان الله عزَّ وجلَّ إلى خشية الله عزَّ وجلَّ، ومِنْ محبَّة ما سواه إلى امتلاء القلب بمحبة الله عزَّ وجلَّ، فإنْ لم يصِر لك هذا المعلَّم وهذا المزكِّي فلم تستفِد في حياتك مِنَ العِلم ولا مِنْ ورّثة الأنبياء.

محور سورة الانشقاق:
فسورة الانشقاق تدور حول الإيمان باليوم الآخر، بالحياة الأخرى بعد هذه الحياة، وكما قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ سورة الزلزلة تعدِلُ نصف القرآن؛ لأنَّ سورة الزلزلة كلُّها تدور حول يوم القيامة والآخرة والحساب والجنة والنَّار، فجَمَع الله عزَّ وجلَّ لك نصف القرآن في سورة الزلزلة:

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
[سورة الزلزلة]

(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) انظروا إلى دقة حساب الله عزَّ وجلَّ وما أعظَم خطره، (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) يعني يرى ثوابه والمكافأة عليه في الدنيا وفي الآخرة، يقول الله تعالى:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة النحل]

فمالذين استجابوا لكلام الله عزَّ وجلَّ هل أصابوا في الدنيا الحياة الحَسَنة، والدولة الحَسَنة والنصر الحَسَن، والعزَّة الحَسَنة والكرامة الحَسَنة، والتاريخ الحَسَن؟

وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

في الدنيا وفي الدار الآخرة.

عصيان أمر الرسول فشل وهزيمة:
والذين عَصوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأعرضوا عن كتاب الله هل نجحوا يا تُرى أم فشلوا، وهل سعِدوا أم شقوا وهل انتصروا أم انهزموا؟ ماذا فعل الله عزَّ وجلَّ بأبي جهلٍ وبأبي لهب؟ مع أنَّ أبا لهبٍ كان عمَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لكنَّه:

مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
[سورة المسد]

وما أغنى عنه ذلك النسب، بل زاده نسَبه مقتًا مِنَ الله عزَّ وجلَّ وبُعدًا عن الله عزَّ وجلَّ، وكان يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأقاربه: ((يا فاطمة ابنة رسول الله)) ((يا صفية عمَّة رسول الله)) يا فلان ويا فلان لأقاربه:

{ يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ؛ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شيئًا، يا بَنِي عبدِ مَنَافٍ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شيئًا، يا عَبَّاسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا فَاطِمَةُ بنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي ما شِئْتِ مِن مَالِي، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا(4) }

[صحيح البخاري]

ابن نوح لـمَّا وعد الله عزَّ وجلَّ نوحًا عليه السَّلام بأنْ يُنجيه وأهله وأغرَقَ ابنه الكافر:

وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
[سورة هود]


العمل للآخرة:
فسورة الانشقاق وما قبلها: سورة الانفطار وسورة المطففين، والمرسَلات وسورة النبأ:

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)
[سورة النبأ]

والمرسلات والقيامة كلُّها تدور حول القيامة وحول المصير الأبَدي، يعمل الإنسان في هذه الحياة عشرين سنةً ليؤمِّن المستقبل لخمسين أو ستين سنةً إنْ عاشها، يا تُرى كم يجب عليه أنْ يعمل للعمر الذي لا نهاية له؟ وإذا بالإنسان بغفلته عن القرآن يقرأه وهو سكرانٌ إذا قرأه، ويسمعه سكرانًا إذا سمِعَه:

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
[سورة الحج]

ويقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إنَّكم على بَيِّنَةٍ من ربِّكم ما لم تَظْهَرْ فيكم سكرتانِ سكرةُ الجهلِ وسكرةُ حبِّ العيشِ وأنتم تأمرون بالمعروفِ وتنهَوْنَ عنِ المنكرِ وتجاهِدونَ في سبيلِ اللهِ فإذا ظهرَ فيكم حبُّ الدنيا فَلَا تأمُرونَ بالمعروفِ ولا تنهوْنَ عنِ المنكرِ ولا تُجَاهِدونَ في سبيلِ اللهِ القائِلُونَ يومئذٍ بالكتابِ والسنةِ كالسابقينَ الأولينَ منَ المهاجرينَ والأنصارِ }

[مسند البزار]

(سكرةُ حبِّ العيشِ) حب الحياة الجسدية وما يتعلَّق بها مِنْ مالٍ وأكلٍ وشربٍ وزواجٍ وسكنٍ وكذا.. فتسكر وتنسى وتغفل عن حياة الخلود، وعن الله عزَّ وجلَّ، وعن أوامر الله عزَّ وجلَّ، وعن الدار الآخرة، (سكرةُ الجهلِ)(5) الجهل نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يحمينا مِنَ الجهل، ليس معنى العِلم أنْ تسمع فقط؛ بل أنْ تسمع بسمعك وبقلبك، كثيرٌ مِنَ النَّاس في زمن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يسمعون وقال الله تعالى:

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
[سورة الأنفال]

المهم:

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
[سورة البقرة]

أمَّا أنْ تكون:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (93)
[سورة البقرة]

فسيكون عذابه مضاعفًا عند الله عزَّ وجلَّ.

سورة الانشقاق تذكرك بالمحكمة الإلهية:
فسورة الانشقاق يعني السورة التي تذكر لك حساب الله عزَّ وجلَّ، وتُذكِّرُك بمحكمة الله عزَّ وجلَّ على أعمالك وعلى مصيرك الأبدي وعلى مستقبلك الخالد، لا بل إذا أتقَن الإنسان إيمانه وإسلامه.. ولا تظنُّ يا بُنيَّ أنَّه مِنَ الممكن أنْ تصير طبيبًا مِنْ غير كلية الطب وأساتذة الطب، ولا تظنَّ أنَّك ستصير نجارًا مِنْ غير مُعلِّم ومدرِّب النجارة، فإذا قلت أنا مسلم فمَنْ هو أستاذك في الإسلام؟ فهل يُورِّث الطبيب الطبَّ لأبنائه بمجرد انتسابهم لأبيهم؟ أنْني أنا ابن الطبيب فهل يصير ابن الطبيب طبيبًا؟ إذا كان أبوه مسلمًا، فهل لأنَّ أباه مسلم يكون هو مسلمًا؟ الإسلام عِلمٌ وبالتعلُّم والمعلِّم، وحكمة بصحبة الحكماء ومحبة الحكماء، وتزكية بصحبة المزكِّين ومحبة المزكِّين.
ولذلك كانت الهجرة إلى المدينة، وليس المقصود منها المدينة ولا جدرانها ولا شوارعها؛ بل شُرِّفَت المدينة بالإنسان، فلا يُشرَّفُ الإنسان بالمكان؛ بل الإنسان هو الذي يُشرِّفُ المكان، وليس الزمان هو من يُشرِّفُ الإنسان؛ بل الإنسان هو الذي يُشرِّف الزمان، لذلك كان يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ خَيْرُ القرونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ }

[صحيح البخاري]

(خَيْرُ القرونِ) يعني خيرُ الأزمنة وخيرُ العصور (قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (6)
مكة والكعبة أشرَف بقاع الأرض لمَّا هاجر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم منها صارت الهجرة منها وهجرها فريضةً على كلِّ مسلم أنْ يتركها ولا يهاجر إليها؛ ولكنْ يُهاجر منها، مكة والكعبة:

رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
[سورة إبراهيم]

فبِمَن شُرِّفت؟ بإبراهيم عليه السَّلام الذي بنى مسجده المتواضع في بنيانه.

تأثير الإيمان الحقيقي:
لذلك حتَّى نؤمن بسورة الانشقاق وبالقرآن الإيمان الحقيقي، والإيمان الحقيقي هو الذي يقلب معاني القرآن في قارئه أو مستمِعه إلى عملٍ صالح، وإلى سلوكٍ مستقيم، وإلى أخلاقٍ فضيلة، وإلى قلبٍ مملوءٍ مِنْ خشية الله عزَّ وجلَّ، ومِنْ محبة الله عزَّ وجلَّ، ومِنْ ذكر الله عزَّ وجلَّ، فهل يستطيع مَنْ عضَّه ثعبانٌ ألَّا يتألم؟ وهل يستطيع ألَّا يصرخ؟ كذلك إذا دخل الإيمان في القلب فلا يستطيع المؤمن الحقيقي إلَّا أنْ يستجيب للإيمان، ويكون ذلك المنادي الذي قال عنه القرآن:

رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
[سورة آل عمران]

فيا تُرى هل صار المسلم مُناديًا؟ وهل دعا إلى الله عزَّ وجلَّ استجابةً لأمر الله تعالى:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
[سورة النحل]

فهل هذا الكلام موجَّهٌ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقط؟ لا؛ بل إلى كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة.

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)
[سورة البقرة]

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
[سورة آل عمران]

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
[سورة آل عمران]

ليس بأقوالهم بل بأعمالهم قبل أقوالهم، وبسرائرهم قبل علانيتهم، وبصِدقهم وإخلاصهم قبل أنْ يظهروا للناس بكلامهم وادعائهم.

أخذ كتاب الأعمال من أول حالات يوم القيامة:
مضى معكم في السورة حالةٌ مِنْ حالات القيامة وهي أخذ كتاب الأعمال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ ففي الدنيا:

يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
[سورة مريم]

يعني اعمل بما في كتاب الله بكلِّ قوةٍ وبكلِّ نشاطٍ وهمة، فهذا يؤتى ويعطى كتاب أعماله بيمينه، وعندما يرى بأنَّه مِنَ السعداء فيُنادي:

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
[سورة الحاقة]

(هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) انظروا كيف نجحتُ بسعادة الأبد، لماذا؟ قال: (إِنِّي ظَنَنتُ) يعني تيقَّنت، (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) ما هي العيشة الراضية؟(فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) ماذا في الجنة؟ أشجارها (قُطُوفُهَا) وثمارها (دَانِيَةٌ) وكيف هو مجتمعها؟ قال:

لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
[سورة الغاشية]

(لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً) لا يُلغي أحدٌ أحدًا، ولا يغتاب أحدٌ أحدًا، إلى آخر الآيات..
فيا تُرى هل مَلأَت معاني القرآن قلبَ المسلم والمسلمة وعقله وفكره حتَّى ظهرت فيه أعمالاً في أعماله، وفي أخلاقه وفي سلوكه، وفي خلوَته وفي صحبته مع النَّاس؟ إذا لم يصِر المسلم والمسلمة بهذا المعنى فعليه أنْ يذهب إلى الطبيب، طبيب العقول والقلوب، ليُداوي عقله ليفهم الحقائق ويعمل بمقتضاها، ويُداوي قلبه حتى يُؤتَى القوة:

يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
[سورة مريم]

ليستطيع أنْ يُنفِّذ ويتحمَّل مسؤوليته ومسؤولية أوامر الله عزَّ وجلَّ ليسعَد بها.

كل النَّاس هلكى إلا العاملين:
ولا يكفي أنْ يسعَد المسلم بل وليُسعِد الآخرين، فإنْ لم يكن المسلم سعيدًا ومُسعِدًا، عالِـمًا ومُعلِّمًا، يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ النَّاسُ كلُّهم هلكى إلَّا العالِمون ، والعالِمون كلُّهم هلكَى إلَّا العامِلون ، والعامِلون كلُّهم غرقَى إلَّا المخلصون ، والمخلصون على خطرٍ }

[ورد في الأثر]

(النَّاسُ كلُّهم هلكى) هلاكٌ وفناء، وجودهم كالعدم، (إلَّا العالِمون) هل العِلم يُنال ويسقط منهمرًا مِنَ السماء مثل المطر؟ لا؛ بل بالمعلِّم وبالإقبال على مجالس العِلم، (والعالِمون كلُّهم هلكَى) إنْ تعلَّمت فأنت أيضًا هالك، (إلَّا العامِلون) للعِلم شرفُ العمل به، إذا أخذت الشيك بمليون دولار، فلو قرأته طوال عمرك وحفظته ونغمت به، وجلبت أفضل المطربين وغنوا لكَ به، ولا خبز لديك فهل ستشبع حينها؟ وإنْ كنت عاري الثياب وبرداناً وغنَّيت بالشيك فهل ستدفأ يا تُرى؟ إلى آخره..
أكثر النَّاس قرآنهم مثل هذا الشيك للقراءة لا ليحفظه في المصارف فيسعَد به ويُسعِد الآخرين به، (والعامِلون كلُّهم غرقَى إلَّا المخلصون) (7) يكون عملك خالصًا لوجه الله عزَّ وجلَّ، لا تفكر برياءٍ ليراك النَّاس، تعمل بقدر جهدك ليراك الله عزَّ وجلَّ فقط، ولا سمعة ولا ليسمع النَّاس بعملك، لا؛ بل تكتفي برؤية الله عزَّ وجلَّ، وبعِلم الله عزَّ وجلَّ، وبمشاهدة الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ العمل لله عزَّ وجلَّ فوالله لن ينفعك النَّاس يا بنيَّ، لا إنْ رؤوك إلَّا إذا كنت عملت وجَهرت بالعمل ليقتدي الآخرون بك:

{ مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بهَا بَعْدَهُ (8) }

[صحيح مسلم]


أخذ الكتاب باليمين:
﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ فلاحِظ نفسك، وقدِّر أنَّ تلك الساعة حصلت، وأخذت كتابك بيمينك وأخذت شهادة وسعادة الأبد، وإنْ فاتك شيءٌ مِنَ الدنيا فهل تحزن عليه أو على شيء مِنَ الماضي؟ وإنْ أخذت كتابك بشمالك أو وراء ظهرك فيا تُرى هل ينفعك مالُك أو جاهُك أو سلطانُك.. والحياة يا بنيَّ، الحياة تنقضي بين عشيةٍ وضحاها، في الأسبوع الماضي كان أحد إخوانكم عندما آتي أراه عند باب الجامع، وكان لديه مرض القلب فآخذه معي بالمصعد، وفي يوم السبت كانت وفاته، وكان مِنْ أخلص الخلَّص يعني أبناء المسجد، مِنْ طفولته إلى شيخوخته في تقوى الله عزَّ وجلَّ، وفي ذكر الله عزَّ وجلَّ، وفي مجالس الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، وأكرَمه الله عزَّ وجلَّ بأولادٍ ما شاء الله هم نسخةٌ عن والدهم، وإذ اتصلوا بي يوم السبت وأخبروني بوفاة والدهم، فقدِّر أنك إن كنت ذلك الإنسان، فهل هذا يا تُرى بعيد عنَّا؟ فإنْ كنت أنت ذلك الإنسان فعلى أيِّ شيءٍ ستندم، وأيُّ شيءٍ ستتمنى؟ ستتمنى لو أكثرت مِنَ الصالحات، وتتمنى لو اتقيت الله عزَّ وجلَّ حق التقوى، فذاك يا بنيَّ ذهبت الفرصة عليه؛ لكنْ نحن الآن الفرصة بين أيدينا.

مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ:
﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ والذي كان كلام الله عزَّ وجلَّ، وشرع الله عزَّ وجلَّ، ودين الله عزَّ وجلَّ وراء ظهره، وليس مهتمًا لا بحلالٍ ولا بحرام، ولا عن رضا الله عزَّ وجلَّ ليرغب فيه، ولا عن غضب الله عزَّ وجلَّ ليتجنَّبه، ولا يبحث عن أحباب الله عزَّ وجلَّ ليتعلَّم تقوى الله عزَّ وجلَّ، دائمًا مع الفسقة ومع الجهلة، ومع الجاهلية في مجالس اللهو واللغو والبطالة، وتضييع العمر وتضييع الشباب؛ ثمَّ بلحظة:

فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
[سورة النازعات]

بلحظةٍ واحدةٍ انتقل مِنَ الدنيا إلى الآخرة، نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا الاستعداد للقائه، والتشمير للمستقبل الخالد، مستقبل أبَد الآباد.
﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ فليُحاسب كلُّ واحدٍ منكم نفسه، يا تُرى هل نأخذ أوامر الله عزَّ وجلَّ باليد اليمنى؟ أم نرميها وراء ظهرنا؟ لا نبالي ولا نفكر لا في أنَّ الله عزَّ وجلَّ أمَرَ، ولا بأنَّنا سنلقى الله عزَّ وجلَّ، ولا بأنَّنا سنُحاسَب:

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

مرَّ سائلٌ على عائشة رضي الله عنها وكان بيدها عنقودٌ مِنَ العنب فأخذت منه حبةً وأعطتها للسائل، قالوا: ما هذا يا أم المؤمنين؟ تُعطين للفقير حبة عنب؟ قالت لهم: "سبحان الله ما أسرع ما نسيتم قول الله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) " هذه حبة العنب كم ذرةً فيها، فأرادت أنْ تعطيهم درسًا بألَّا تحتقر عمل الخير مهما كان صغيرًا وحقيرًا:
افعلِ الخيرَ ما استطعتَ ولو كانَ قليلًا فلن تحيطَ بكلِّهْ وَمَتَى تَفْعَلُ الْكَثِيرَ مِنْ الْخَيْـــــرِ إذَا كُنْتَ تَارِكًا لِأَقَلِّهِ
{ منقول }
لذلك مَنْ لا يعمل مِنَ الأمر إلَّا إذا صار كثيرًا فهذا لن يعمل شيئًا أبدًا، اعمَل ولو مثقال ذرة، هذا مِنَ الفقه في الدين.
حال الإسلام والمسلمين الآن معلومٌ للجميع، لا تيأس ولا تقنَط، وليس واجبًا عليك أنْ تصنع الإسلام وحدك في كلِّ الدنيا ومع كلِّ النَّاس والعَالَمِ؛ بل اعمل كما عملت عائشة رضي الله عنها لتُعلِّم الآخرين؛ دعا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في عهده النَّاس إلى الصدقة والتبرع مِنْ أجل بعض الأمور الإسلامية، فأتى رجلٌ بنصف ماله والبالغ مئة ألف درهم، وأتى شخصٌ آخر بدرهم، وهو لا يملك إلَّا درهمين، فذكر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بما معناه بأنَّ الرجلين عند الله عزَّ وجلَّ في مرتبةٍ واحدة؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ تصدَّق بنصف ماله.

قصة رمزية في صدق الطلب :
كنت أسمع قصةً مِنْ شيخنا قدس الله عزَّ وجلَّ روحه، وهي قصةٌ رمزيةٌ ليست حقيقية؛ لكنَّها للتعليم، يقول: قال أحد الشيوخ في مجلس إرشاده بأنَّ مَنْ أراد شيئًا مهما كان عظيمًا وصدق في الطلب؛ بأنْ يبذل إلى المطلوب ما يملكه يصل إلى مطلوبه، فسمع بعض الدراويش مِنْ إخوانه؛ أنَّه إنْ طلب شيئًا مِنَ الله عزَّ وجلَّ مهما كان عظيمًا فإنْ صدق في الطلب فسيُحقق الله عزَّ وجلَّ له مطلوبه، قال: أنا والله لأبرهِنَ للناس صدق كلام شيخي، ففكر وهو رجلٌ درويشٌ أيضًا، ليس معه مالٌ ولا يملك شيئًا مِنَ الأشياء، ففكر ما هو أعظَم شيءٌ بالنسبة له، فقال والله أريد أنْ أصير صهر الملك، أن أخطب ابنة الملك فهذا أعظَم شيء، وسأصدق في الطلب وقد قال الشَّيخ إنْ صدق المرء في الطلب يُحقق الله عزَّ وجلَّ له المطلوب، شخص درويش فما الذي يُوصله إلى الملوك؟ ففكر كيف سيصل إلى الملك ليخطب ابنته، وفي يومٍ مِنَ الأيام وإذ خرج الملك بالعربة وتجرها الخيل فألقى بنفسه أمام سنابك خيل العربة، قبل عشرة أمتار أوقف سائق العربة الخيول بالطبع، وانزعج الملك وسأله الملك عن سبب توقفه، فقال له بأنَّ شخصًا ألقى بنفسه أمام العربة، فأمر بتوقيفه إلى أنْ يعود ليرى قصته.
الخلاصة: جلبوه حينما عاد الملك، لماذا فعلت هكذا؟ قال له: والله أنا جئت أخطب ابنتك وأصير صهرك، وهو حافٍ وملابسه مرقعة، وأشعث الشعر، وكان الملوك وقتها مِنْ أهل الإيمان وذوو تربية، فتوسَّع معه وقال له: لكن يا بنيَّ مَنْ يريد أنْ يخطب بنات الملوك عليه أنْ يُقدِّم مهرها. قال له: اطلب ما هو مهرها لأقدمه. فأخرج له الملك لؤلؤةً مِنْ خزانته أضاء بها المكان وقال له: مهر ابنتي هذه اللؤلؤة. قال له: أين توجد هذه؟ قال له: في البحر الفلاني. فذهب ذلك الدرويش، إلى أنْ وصل إلى البحر -ليكن بعِلمكم القصة رمزية- وأين يكون اللؤلؤ على الساحل أم في أسفل القاع؟ في القاع، ففكر كيف سيصل؟ فأخذ دلوًا وصار يغرف مِنَ البحر، وأين يسكبه؟ على البر، قال: حتَّى يجف البحر، فمتى ما جفَّ البحر ينزل إلى القاع ويأخذ اللؤلؤة فيصل لمطلوبه. فهل هذا معقولٌ يا بنيَّ؟ وهذا الصادق الذي يُوصله الله عزَّ وجلَّ إلى مطلوبه، أنْ تعمل ما يمكن مهما كان قليلاً وحقيرًا:

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
[سورة الزلزلة]

افعلِ الخيرَ ما استطعتَ ولو كانَ قليلًا فلن تحيطَ بكلِّهْ وَمَتَى تَفْعَلُ الْكَثِيرَ مِنْ الْخَيْـــــرِ إذَا كُنْتَ تَارِكًا لِأَقَلِّهِ
{ منقول }
فمكث هذا الدرويش ليلاً ونهارًا مثل المحرك، يملأ ويُفرِّغ ويملأ ويُفرِّغ، ويقال أنَّ الله عزَّ وجلَّ ألقى الرعب في قلوب السمك، قال تعالوا وانظروا إلى هذا يريد أنْ يُجفِّف البحر، وإنْ فرغ ماؤه ستموتون، فكلموه لماذا تصنع هكذا؟ غدًا يجفُّ البحر، ألقى في قلوبهم الرعب، قالوا ما الذي فعلناه معك؟ هل أضعنا لك ولدًا أم أغرقنا لك أحدًا؟ قال: لا أبدًا. قالوا: لماذا إذًا تصنع هذا؟ قال: أنا أريد أنْ أجلب لؤلؤةً مِنْ قاع البحر ولن أستطيع الوصول، لذلك أريد أنْ أجفف البحر. قالوا: إذًا قل مِنَ البداية، اترك البحر وسنجلب لك الذي تريده. فغطسوا وكلُّ واحدةٍ أخرجت له لؤلؤةً، تفضل ولا تُثقِل علينا. انظروا يا بنيَّ:

لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (24)
[سورة الأحزاب]

أصحاب رسول الله رضي الله عنهم؛ لـمَّا كان بلال رضي الله عنه يُوضع على ظهره وتُوضع صخرة على صدره في حرِّ مكة وتحت حرارة شمسها، وصهيب بن شعيب رضي الله عنه لا أدري ما يصنعون به، والثالث كيف يُعذبونه، والرابع ماذا يفعلون به، ومات الخامس تحت التعذيب.. هل كان يخطر في البال ذاك الوقت بأنَّ هذا العمل سينتج أمةً أولها في إندونيسيا وآخرها في مراكش؟ هل يدخل هذا في العقل؟ أليست مثل قصة ذاك الدرويش؟ لكنْ إذا صدقنا مع الله عزَّ وجلَّ وبدأنا بما يمكن مهما كان قليلاً بالصدق والإخلاص فالله عزَّ وجلّ يخرق العوائد يا بنيَّ، نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا الصدق والإخلاص والإيمان العملي لا إيمان التمنِّي والأماني، فرجَعَ هذا وملأ الدلو باللؤلؤ البلدي، ودخل على الملك، وقال له: ماذا فعلت يا درويش الخير؟ قال له: جلبت لك المهر. قال له: مثل اللؤلؤة؟ قال له: الآن سترى. جلب الدلو وأفرغه مثل الذي يفرِّغ بعض البصل أو البطاطا، وقال له: خذ وانتقي منها ما شئت. فلمَّا رآها الملك دُهِشَ كثيراً فهذا يساوي كلَّ المملكة، قال والله تستحق، نادوا القاضي لنزوِّجه. فقال له: لا، فليبارك لك الله بابنتك وبمملكتك؛ لكنْ لأثبت للناس صدق كلام شيخي أنَّه إذا طلب الإنسان شيئًا وأخلص فيه وكان العمل لله عزَّ وجلَّ فمهما كان عمله ضئيلاً وصغيرًا إلَّا وسيُثَمِّره الله عزَّ وجلَّ ويُنمِّيَه أكثر ممَّا يظن ويرجو ويأمل.

السير على هدي القرآن وتزكيته:
وهكذا نحن يا بنيَّ في هذا الوقت وفي كلِّ وقت، فامشوا على هدي القرآن والعِلم والحكمة والتزكية والإخلاص والصدق مع الله عزَّ وجلَّ، وهذه لحيتي والله:

وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
[سورة الحج]

أبو هريرة مَنْ هو أبو هريرة رضي الله عنه؟ وعمر مَنْ هو عمر رضي الله عنه؟ عمر رضي الله عنه كان دلالاً، ومَنْ هو أبو بكر رضي الله عنه؟ كان أبو بكر رضي الله عنه بائع ثياب، فإلى أيِّ شيءٍ تحوَّلوا بعد إسلامهم وصدق إيمانهم؟ هل إلى أباطرة؟ نسيَ النَّاس الأباطرة، كم أتى أباطرة؟ بالمئات، فيا تُرى هل خُلِّدوا في القلوب والعقول كما خُلِّد أبو بكر أو كما خُلِّد عمر رضي الله عنهما؟ والآن يا بنيَّ لم يتغيَّر الله عزَّ وجلَّ ولم يتغيَّر قانون الله عزَّ وجلَّ ولا يتغيَّر:

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
[سورة الزلزلة]

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
[سورة يوسف]

والحساب قائم، ستُحاسب إنْ عملت وإنْ لم تعمل، والوقت يمضي يا بنيَّ، فلماذا يذهب عمرك، ولماذا يذهب شبابك، ولماذا تذهب طاقاتك؟ أين نتاج عملك الذي ستأخذه معك حين تموت؟ هل سيُسحَب معك المنزل إلى القبر أو تُنزِل السيارة إلى القبر؛ أو يتحوَّل مالُكَ إلى أنكر ونكير لترشوهم؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا العِلم الحقيقي.

الحاجة إلى النقد العلمي العقلاني المقنِع:
ويلزم للعِلم المعلِّم وتلزَم الحكمة للحكيم، وتلزم التزكية مزكٍّ، فكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مُعلِّمًا وأستاذ الحكماء وإمام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، والآن وبعد الآن أنا لم أيأس وهذه لحيتي فالقرن الواحد والعشرون قرن الإسلام، سيظهر الإسلام في كلِّ العالَم، أتتني البارحة رسالة مطبوعة وتُرجِمَت هنا مِنْ إنجلترا عن أستاذ في جامعة وولفز أسلَم ويشرح معنى الله والألوهية وينقُدُ الشرك بالله عزَّ وجلَّ؛ لكنْ النقد العلمي العقلاني المقنِع.. المسلمون لا يعملون هكذا وهذا الإنجليزي أستاذ الجامعة وفي وولفز وفي لندن يصير:

وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)
[سورة الأحزاب]

أليس الأولى والأحرى أنْ يقوم المسلمون بهذا العمل، ذاك أسلم عن عِلمٍ ودعا عن عِلمٍ يقيني، فالمسلم يكتفي بأنَّ أباه مسلم فلذلك يصير هو مسلماً أيضًا، أبوه طبيب ولذلك هو طبيبٌ ويضع لافتةً ولوحةً فلان الفلاني الطبيب الجراح المختص بالكليتين وبالقلب؛ لأنَّ أباه كان طبيب كليتين فلذلك هو بالميراث صار طبيب قلب وطبيب كليتين، فإنْ أشار إليه النَّاس بأصابعهم فبأيِّ أصابع يشيرون له؟ بالخنصر أم بالإبهام أم بالسبابة؟ لا، والشيطان بأي إصبعٍ يُشار له أيضًا، فشدوا الهمة يا بنيَّ ولا تيأسوا، هل تتذكرون ماذا قلت لكم في سنة الثمانين في هذا المجلس؟ قلتم لكم: انتظروا عشر سنوات وستنتهي الشيوعية، مَنْ يذكر ذلك منكم فليرفع لي إصبعه لأرى، وهكذا الآن يُلهمني الله عزَّ وجلَّ بإلهامٍ وأرى التباشير ظاهرةً، لذلك كونوا مِنْ جند الإسلام لكنْ إسلام العِلم، إسلام الحكمة، إسلام السلوك، إسلام الأخلاق، علِّموا النَّاس الإسلام بأعمالكم، وبسلوككم وبأخلاقكم وبتواضعكم، بإخلاصكم؛ حتَّى إذا لقينا الله عزَّ وجلَّ ووُزِّعت كتب الأعمال نأخذ كتابنا باليمين؛ لأنَّنا أخذنا أوامر الله عزَّ وجلَّ في كتابه بأيماننا؛ وإنْ رمينا كتاب الله عزَّ وجلَّ خلف ظهورنا فسنأخذ كتاب أعمالنا يوم القيامة بيسرانا ومن وراء ظهورنا.

الحرص على أعمال تُبيض وجهنا عند الله عزَّ وجلَّ :

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
[سورة آل عمران]

أترضون أنْ يدهن شخصٌ وجوهكم بالطلاء الأسود ثمَّ تنزلون إلى السوق؟ أترضون؟ لماذا لا ترضون؟ لأنَّه فضيحة أليس كذلك؟ فإذا كنتم يوم القيامة بسوادٍ لا يتغيَّر وأمام الله عزَّ وجلَّ، وأمام أنبياء الله عليهم السَّلام، وأمام مخلوقات الله، هل آمنتم بهذه الآية (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ)؟ لنحرِص على أعمال تُبيِّض وجهنا عند الله عزَّ وجلَّ، وهل حذرنا بهذه الآية مِنْ أعمالٍ تسوِّدُ وجوهنا أمام الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة؟ هذا هو الإيمان بالقرآن، فالإيمان بالسُّم إنْ لم يُبعدك عنه، والإيمان بالأفعى إذا لم يجعلك الإيمان تجتنبها، فإنْ قلتَ آمنتُ بالأفعى وأخذتها وتريد وضعها على شَفتك، وتقول آمنتُ، يا تُرى أيهما أصدق كلامك أم أفعالك؟ إذاً بكلامك مؤمنٌ وكافرٌ بأفعالك:

{ إِنَّ اللهَ تعالى لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ ، ولكنْ إِنَّما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم (9) }

[صحيح مسلم]


الوجود الجسدي على الأرض هو أحقر الموجودات :
ثم قال الله تعالى بعد ذلك: ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ يعني أقسم ﴿بِالشَّفَقِ﴾ الشفق هو الحمرة التي تظهر بعد غروب الشَّمس، ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾ وبالظلام إذا أقبَل، ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ إذا صار بدرًا واكتملت صورته، ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ أنتم لم تدركوا مِنْ وجودكم إلَّا هذا الوجود الجسدي على سطح هذه الأرض، وبمفارقة الروح تنتهي الحياة، وهل انتهى معك يا تُرى كلُّ شيء؟ لا، وجودك الجسدي على هذه الأرض هو أول الموجودات وأحقرها، وأصغرها وأقصرها، فما تزال أمامك حياةٌ وحياة... أمامك بعد مفارقة الروح للجسد الحياة في عالَم البرزخ، في عالَم الروح، وأنت في جسدك ترى الملائكة وهي تقول لك تفضل، وأمامك في القبر سؤال القبر وفتنة القبر، نقول في التحيات في كلِّ صلاة:

{ اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِن فِتنةِ القبرِ (10) }

[سنن النسائي]

تذكُر بلسانك فيا تُرى هل تجعل بأعمالك حصناً ووقايةً مِنْ فتنة القبر؟

من صور عذاب القبر:
مرَّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على قبر وهو راكبٌ على بغلته، فجفِلت به بغلته حتَّى كاد يسقط عنها؛ مع عدم وجود موجبٍ لجفلان البغلة، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ هذه الحيوانات ترى ما لا ترون)، ومعنى الحديث:

{ مَرَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحَائِطٍ مِن حِيطَانِ المَدِينَةِ، أوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ في قُبُورِهِمَا، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يُعَذَّبَانِ، وما يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ ثُمَّ قالَ: بَلَى، كانَ أحَدُهُما لا يَسْتَتِرُ مِن بَوْلِهِ، وكانَ الآخَرُ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ. ثُمَّ دَعَا بجَرِيدَةٍ، فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ، فَوَضَعَ علَى كُلِّ قَبْرٍ منهما كِسْرَةً، فقِيلَ له: يا رَسولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هذا؟ قالَ: لَعَلَّهُ أنْ يُخَفَّفَ عنْهما ما لَمْ تَيْبَسَا أوْ: إلى أنْ يَيْبَسَا }

[صحيح البخاري]

(فَسَمِعَ صَوْتَ إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ في قُبُورِهِمَا) يعني تُعذب أرواحهما، (كانَ أحَدُهُما لا يَسْتَتِرُ مِن بَوْلِهِ) يصلي وثيابه نجسة ولا يُنظِّف نفسه، وهذا عقاب البول على خرقة، فكيف إنْ كان الشيطان قد بال في عقلك، وبال في مخك، فماذا سيخرج مِنْ مخك؟ فإنْ خرج مِنْ مخك الأعمال الصالحة ففيه الخير والنور، وإنْ خرجت منه أعمال الرذالة وأعمال السفاهة وأعمال المعاصي والآثام فمعناه أنَّ الشيطان قد بال في المخ، وهذا الدليل: الأعمال، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (وكانَ الآخَرُ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ)(11) النَّمام، سُئِلَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن شرار النَّاس، مَنْ هم شرار النَّاس؟ قال:

{ شرارُ عبادِ اللهِ : المشَّاؤونَ بالنميمةِ، والمفرِّقونَ بينَ الأحبَّةِ، الباغونَ للبُرءاءِ العنتَ }

[رواه الطبراني]

(المشَّاؤونَ بالنميمةِ) يأتي فينقل خبر فلان لفلان، فيقول له أتعرف ماذا قال فلان عنك؟ كذا وكذا (المشَّاؤونَ بالنميمةِ، والمفرِّقونَ بينَ الأحبَّةِ، الباغونَ للبُرءاءِ العنتَ)(12) الذي يتَّهم البريء بما هو منه بريء، يقول لك هكذا صنع فلانٌ معك، وهكذا قال لك ويكون كاذبًا، فهذا بالنسبة للنَّمام، فلم يذُم الله عزَّ وجلَّ النمامَ فقط؛ بل ذمَّ مَنْ يُصغِي إلى النمام، فقال تعالى:

وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11
[سورة القلم]

(هَمَّازٍ) مُغتاب، (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) فقُل للنَّمام حينها أنت تكلمت عن فلان فهل أنت مستعدٌ لأحضره وتتكلَّم أمامه؟ فتقطع حينها الموضوع مرةً واحدةً:

{ أَلَا أُنَبِّئُكم بخِيارِكُم ؟ خِيَارُكُمُ الذين إذا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ (13) }

[مسند أحمد]

قال لك بصحبتهم وبرؤيتهم ينطبع بقلبك مراقبة الله عزَّ وجلَّ، وخشية الله عزَّ وجلَّ، وطاعة الله عزَّ وجلَّ، وتقوى الله عزَّ وجلَّ.

معنى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾:
قال تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ فنحن الآن في طبقِ حياة الجسد، وسننتقل مِنْ هذا الطبق إلى حياة الروح بلا جسد، سننتقل مِنَ التجارة والصناعة والزراعة إلى الاستنطاق عندما ينزل الميت في قبره، يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ استَعيذوا باللَّهِ من عذابِ القبرِ مرَّتينِ، أو ثلاثًا، زادَ في حديثِ جريرٍ هاهنا وقالَ: وإنَّهُ ليسمَعُ خفقَ نعالِهم إذا ولَّوا مدبرينَ حينَ يقالُ لَهُ: يا هذا، مَن ربُّكَ وما دينُكَ ومن نبيُّكَ ؟ قالَ هنَّادٌ: قالَ: ويأتيهِ ملَكانِ فيُجلِسانِهِ فيقولانِ لَهُ: مَن ربُّكَ ؟ فيقولُ: ربِّيَ اللَّهُ، فيقولانِ: ما دينُكَ ؟ فيقولُ: دينيَ الإسلامُ }

[صحيح البخاري]

(وإنَّهُ ليسمَعُ خفقَ نعالِهم) وهم نازلون فينزل عليه الملَكان، (مَن ربُّكَ وما دينُكَ ومن نبيُّكَ؟)(14)، (فيقولُ: دينيَ الإسلامُ) ما هو الإسلام؟ هو الاستجابة والطاعة لأوامر الله عزَّ وجلَّ، هل أنت مسلم؟ فقد أمَرك الله عزَّ وجلَّ بالصَّلاة، فهل استجبت لأمر الله عزَّ وجلَّ وصلَّيت؟ لا، كاذبٌ في الحياة وكاذبٌ أيضًا على الملائكة؟ هاتوا السوط ويضربونه، حسنًا ما هو دينك؟ الإسلام، حسنًا كنت غنيًّا فهل استجبت لأمر الله عزَّ وجلَّ في الزكاة؟ لا، ما هو الإسلام؟ المسلم هو المستجيب والملبِّي والمُطيع لأوامر الله عزَّ وجلَّ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
[سورة الأحزاب]

هل ذكرت الله عزَّ وجلَّ عند غضبك؟ أو إذا سببت أو ضربت أو تعدَّيت ستُحاسب، فإنْ لم تذكر الله عزَّ وجلَّ عند غضبك، وحساب الله عزَّ وجلَّ لك عند غضبك، وعند شهواتك، وعند رغباتك وعند أطماعك لأنَّك لست مسلمًا فتكذب أيضًا على الملائكة وفي قبرك، هل تكذب على الملائكة؟ فماذا يلزم هذا؟ الضرب، فرأت البغلة جزءً مِنْ عذاب القبر فجفِلَت مِنْ رهبتها حتَّى كاد أنْ يسقط رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عنها، فهل آمنا بفتنة القبر، وهل آمنا بكلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟

ذكر الله عزَّ وجلَّ للشفق:
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾ مَنْ الذي يصنع الشفق؟ ومَنْ الذي يُدوِّر الأرض أمام الشَّمس ليصير ليلٌ ونهار، وصباحٌ ومساءٌ وشفقٌ وغروبٌ وشروق، فيذكر الله عزَّ وجلَّ الشفق لتذكر عظمة خالِق الشفق، وإذا ذكر لك ظلام الليل فتتذكر مَنْ الذي يصنع ظلام الليل، ومَنْ الذي يصنع النهار، ومَنْ الذي يُدوِّر الأرض حول نفسها، ومَنْ يُديرها حول الشَّمس لتصير الفصول الأربعة، فهل تسير السيارة بلا سائق؟
أتاني نائب أساقفة إنجلترا مِنْ أسبوع، في إنجلترا لا يوجد بابا، رئيس كنائسهم هو البابا عندهم وهذا هو نائبه، فسألني خلال الجلسة وهناك مُسجِّلٌ بيننا يسجل الحديث، فقال لي: إذا سألنا سائلاً ما هو الدليل على وجود الله عزَّ وجلَّ؟ فأخذت المسجل وقلت هذا المسجل يدلُّ على وجود الله عزَّ وجلَّ. قال لي: كيف؟ قلت له: يا تُرى هذا المسجِّل صار بنفسه؛ أم صنعه صانع؟ قال لي: لا؛ بل صنعه صانع. قلت له: وهل يمكن أنْ يكون مسجِّلٌ بلا صانع؟ قال لي: لا، بالطبع. فقلت له: يا تُرى هل المسجِّل أعظَم أم الأرض والكواكب والنجوم والشموس والأقمار أعظَم؟ هذا لا يمكن أنْ يكون بلا صانع فهل هذا الكون يمكن أنْ يكون كلُّه بلا صانع؟ قال لي: تمام، اكتفيت، إلى آخره..

تذكر خالق الكون بعظمته وقدرته:
فيُذكرنا الله عزَّ وجلَّ بالشفق لنتذكر صانع الشفق، وظلام الليل لنتذكَّر صانع الليل والنهار، ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ مَنْ الذي يجعله مِنْ خيطٍ يزيد ويزيد إلى أنْ يصير بدرًا كاملاً، فكلُّها أيمانٌ يحلف الله عزَّ وجلَّ لنا الأيمان، فإنْ قال الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة لنا: حلفت لكم أيماناً ولم تصدقوني، فهل حقارةً بي؛ أم لأنِّي كاذب فيما أقول؟ فبماذا سنُجيب الله عزَّ وجلَّ؟ أو احتقارًا لي لأني لست بالعظيم و لا أستطيع أنْ أفعل ما أقول؟ فيا تُرى يا بنيَّ هل نحن نتجاوب مع القرآن وأهداف القرآن كما يجب أنْ يكون؟ ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ الآن في طبقة حياة الجسد، وقبلها كنا في طبقٍ آخر، كنا في طبق الجنين في بطن الأم، وقبل أنْ نكون أجنةً كنا في طبقٍ قبله: حيوان منوي وبويضة، البويضة في الأم والحيوان في الأب، اجتمعا في الرحم (مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) وقبل ذلك لم نكن:

هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
[سورة الإنسان]

(إِنَّا خَلَقْنَا) أوجَدنا الإنسان (مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) مختلطةً فالحيوان مِنَ الرجل والبويضة مِنَ المرأة، (نَّبْتَلِيهِ) نريد أنْ نُوجده إلى الدنيا ونمتحِنه؛ (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) يا تُرى ما الذي أوجدنا مِنْ طبقة وقبل الحيوان المنوي والبويضة ماذا كنا؟ كنا طعاماً؛ تعشينا ونزلوا في المعدة ولا أدري ماذا؟ وصاروا دمًا وذهب الدم إلى الخصيتين، صنعوا الحيوان المنوي وإلى مبيض المرأة صنعوا البويضة، فمِنْ كم طبقة انتقل؟ من الطعام إلى دم ثمَّ إلى حيوان منوي فإلى بويضة وإلى (نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) ثمَّ إلى (نَّبْتَلِيهِ)، (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا) هل سمعت كلام الله عزَّ وجلَّ؟ لماذا أعطاك أذنًا، هل لتسمع الغناء والرقص؟ بل لتسمع كلام الله عزَّ وجلَّ وتعيَه وتحوِّله إلى عملٍ وإلى امتثالٍ لتسعَد وتُسعِد الآخرين (سَمِيعًا بَصِيرًا).
﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ فإذا قلنا النطفة طبق، والجنين في بطن الأم بمراحله طبق، ثم رضيع هذا طبق، ثم شابٌ أيضاً طبق، ومِنْ ثم الشيخوخة، ومِنْ ثم رحمه الله، وبعد ذلك أنكر ونكير.

القطع بعدم دخول الكفرة الجنة:
بعد ذلك:

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
[سورة الأعراف]

(لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) لأرواحهم، (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) يعني في ثقب الإبرة، فهل يدخل الجمل في ثقب الإبرة؟ وفي تفسيرٍ آخر يقولون أنَّه الحبل الذي تُربط به السفن، يقال له أيضًا ماذا؟ جمل، فلن تدخل حبال السفن والزوارق البحرية في خُرم الإبرة، وكذلك لن يدخل الجمل الذي هو زوج الناقة في خُرم الإبرة، كذلك (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) فأعرضوا عن امتثال وطاعة الله عزَّ وجلَّ عندما تخرج أرواحهم مِنْ أجسادهم، (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ) لأرواحهم، (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ) ما هو الجمل؟ الحيوان، وما هو الجمل في التفسير الثاني؟ الحبل الذي يربط السفن، فهل يوجد أيٌّ منهما يدخل في خُرم الإبرة؟ قال أيضًا الذي لم ينقَد لأوامر الله عزَّ وجلَّ وكذَّب بها وأعرَضَ عنها فهو لن يدخل الجنة مثلما لن يدخل الجمل مِنْ خُرم الإبرة؟ فهل نصدق كلام الله عزَّ وجلَّ؟ حسنًا إنْ لم ندخل الجنة فأين سنبقى إذًا؛ في الصالحية أم في المهاجرين، وهل يوجد هناك صالحية؟ هناك إمَّا جنة وإمَّا نار، فإنْ لم تُوجد الجنة؛ فإلى أين؟ هذا كلام أطفالٍ صغار، وهل يمزح الله عزَّ وجلَّ معنا؟ أم :

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۚ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
[سورة السجدة]

لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
[سورة يس]


غفلة الكفرة عن وعيد الله عزَّ وجلَّ:
صفة الكفار وهي الغفلة عن حقائق القرآن، وما أكثر المسلمين الغافلين الآن، يسمع القرآن، يا تُرى إنْ قال له الشرطي عند الإشارة على يمينك، فهل سيُخالف؟ والله عزَّ وجلَّ يُخاطبنا بصريح العبارة ونُخالف، يا تُرى نحن مؤمنون بالله عزَّ وجلَّ أكثر أم إيمان السائق بالشرطي أكثر؟ لا تغتروا بأنفسكم ولا تكذبوا عليها يا بنيَّ، فالحساب:

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)
[سورة الأنبياء]

(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ) العادلة، (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) أعمالك لو كانت مثقال حبةٍ مِنْ خردل (أَتَيْنَا بِهَا) نعرضها عليك (وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ)، فما أعظَم مدرسة القرآن يا بنيَّ، وما أعظَم شهادة القرآن لما يُفحَص قرآنه في أعماله، نجد القرآن محفوظًا في أعماله وفي أخلاقه وفي فكره، وفي وجدانه وفي نظرته وفي حديثه، وفي أعماله وفي معاملته، والمسألة يا بنيَّ بين لحظةٍ وأخرى فينما أنت في الدنيا بنفس والنَّفَس الآخر تكون في الآخرة.

طبقات يوم القيامة:
﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ وبعد طبق حياة البرزخ توجد طبق مواقف يوم القيامة:

يَوْمَ يَقُومُ النَّاس لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
[سورة المطففين]

والحساب في محكمة الله عزَّ وجلَّ:

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ۖ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
[سورة المائدة]

(مَاذَا أُجِبْتُمْ) هل استجاب النَّاس لكم فيما بلَّغتموه من شرائعي وأوامري؟ (قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ويقول تعالى لسيِّدنا عيسى عليه السَّلام:

أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
[سورة المائدة]

تُسأل الأنبياء عن واجباتها في التبليغ، ويُسأل النَّاس هل استجبتم لأوامر الله عزَّ وجلَّ فيما بلَّغكم به أنبيائي ورسلي؟ أين نحن ذاهبون يا بنيَّ؟ عندما يعلم الطالب بأنَّ امتحانه آخر السنة فالطالب الموفَّق لا يضيع وقته، ليلاً ولا نهارًا، وكلُّ وقته في البيت والمدرسة في الدراسة والقراءة وإلى آخره.. والذي في اللهو واللعب والضحك، وفي الملاهي والمهازل، وبعد الامتحان ذاك يبكي والآخر:

هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21)
[سورة الحاقة]

(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) عرف أنَّ لديه امتحانًا، (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) والحياة بين عشيةٍ وضحاها، في الصباح تكون في الدنيا وفي المساء أين تكون؟ في الآخرة، فهل نحسب حساب الآخرة يا بنيَّ؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُوفِّقنا لذكر الله عزَّ وجلَّ وذكر الدار الآخرة.

استجابة المسلمين اليوم:
ثمَّ قال الله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ هؤلاء كفار قريش، ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾ يعني لا يخضعون لأوامر الله عزَّ وجلَّ ولا يستجيبون له، فهل استجاب كفار قريش وعابدي الأصنام في نهاية الأمر أم لم يستجيبوا؟ استجابوا وصار منهم أبو بكرٍ وعمر والمهاجرون والأنصار رضي الله عنهم:

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
[سورة التوبة]

المسلمون الآن هل يؤمنون كما آمن أولئك الوثنيون عبدة الأصنام؟ الذين صاروا أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصاروا خير القرون وخير الأجيال، وصاروا أمجاد العِلم والحضارة، والفتوحات وتحرير شعوب العالم وتحرير أنفسهم استجابةً للقرآن، فهل يستجيب مسلمو اليوم كما استجابوا ليقطفوا أمجاد القرآن كما قطفوا، لماذا؟ لأنَّنا لا نفكر، ونحن نيامٌ ولا يوجد مَنْ يُوقظنا، هل استيقظتم الآن مِنَ النوم أم ما زلت نائمين ؟ يجب أنْ نقوم.

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
[سورة الغاشية]

والنَّاس بخيرٍ والعالَم الغربي الآن والذي كان يُقال عنه صليبي هو الآن المهيأ للإسلام، فعندما يفهم الإسلام يُعطي كلَّ وجوده للإسلام، نحن مُسلمي القول ولكنْ لا نُعطي للإسلام إلَّا الإسم ولقب مسلم؛ أمَّا أعمال الإسلام وجوهر الإسلام وأمَّا ثمرات الإسلام وأمجاد الإسلام.. بالإسم يا بنيَّ لو تعلمنا قصة ذلك الدرويش أنَّني لا أستطيع أنْ أشتري جوهرةً مِنَ السوق وأقدِّمها للملك مهراً ابنته؛ لكنْ بصدق همته وإخلاصه وحدود طاقته ليست المتواضعة بل اللاشيء؛ لكنَّه لما كان صادقًا بحدود الإمكان:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
[سورة محمد]

فوصل الله عزَّ وجلَّ قوته اللانهائية بقوة الدرويش اللاشيء فسخَّر له حيتان البحار في قيعانها لتلبِّي طلبه وتقضيَ حاجته:

لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (24)
[سورة الأحزاب]


الصدق مع الله عزَّ وجلّ:
فهل نصدق مع الله عزَّ وجلَّ فنقوم بتعليم النَّاس الخير والدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ وبالحكمة والموعظة الحسنة:

اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
[سورة طه]

لمن الخطاب هنا؟ لموسى وهارون عليهما السَّلام (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا):

{ كلمةُ حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ (15) }

[مسند أحمد]

فهل يوجد مَنْ هو أعظَم جورًا مِنْ فرعون؟ فكيف تكون كلمة الحق عند سلطانٍ جائر؟ بالفظاظة والغلاظة، وبالدم الثقيل وبالتكفير ولا أدري ماذا؟ (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) ذهب موسى وهارون عليهما السَّلام إلى فرعون، وقالا له قولاً لينًا فهل هذه الآية لموسى وهارون عليهما السَّلام فقط؛ أم لكلِ مسلمٍ ومسلمة وإلى يوم القيامة؟ تُفتِّش على أحد الفراعنة أو على طاغيةٍ على الله عزَّ وجلَّ لا يُصلي؛ لا يُزكي أو لا يذكر الله عزَّ وجلَّ؛ أو لا يصوم أو لا يأتي إلى مجالس العِلم والإيمان: ولأنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا، خير لك من الدنيا وما فيها.
يا تُرى ألا تستطيع أنْ تهدي شخصًا في الجمعة؟ وأنتِ أيتها المسلمة ألا تستطيعين أنْ تهدي امرأةً؛ جارتك أو ابنة عمك أو ابنة خالك أو قريبتك، فهل سيصلُح إنْ قصدنا أم لا؟

الإنسان والإرادة:
كان شيخنا يُداعبنا في بعض الأوقات فيقول: سأسألكم سؤالاً؛ تفضل سيدي. يقول: يوجد حجرٌ إذا أراد أنْ يتكلم سيتكلم، وإذا أراد أنْ يغنِّي سيغنِّي، وإنْ أراد أنْ يقرأ القرآن سيقرأ القرآن، فما هو هذا الحجر؟ هل تعرفون هذا الحجر؟ وعندما نعجز عن الرد يقول: كلُّ الأحجار تنطبق عليها هذه الصفات، شيخي لكنَّ الأحجار لا تغني ولا تتكلم. قال: الحجر إذا أراد أنْ يُغنِّي سيغنِّي؛ لكنْ هل له مِنْ إرادة؟ إنْ كانت له إرادة سيغنِّي؛ لكنْ إنْ كان فاقد الإرادة، والله سيدي أكثر خيرك عرَّفتنا.
فالشاهد؛ هل أنتم لديكم إرادة أم ليس لديكم إرادة؟ إنْ أردتم أنْ تغنُّوا فهل ستغنون، وإذا أردتم أنْ تدعو إلى الله عزَّ وجلَّ، فهل ستصير دعوةً أم لن تصير؟ وبالحكمة والموعظة الحسنة وبالحكمة والتواضع وبالرفق والشفقة، وأرجو من الله عزَّ وجلَّ أن يكتب لكم:

{ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ }

[صحيح البخاري]

(رَجُلًا واحِدًا) إنسانًا واحدًا (خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ)،

{ لأنْ يهديَ اللهُ على يديْكَ رجلًا خيرٌ لك مما طلعتْ عليه الشمسُ وغربتْ (16) }

[صحيح مسلم]

مِنَ الدنيا وما فيها.

آمن السابقون فصاروا خير القرون:
قال تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أيضًا مع تكرار القرآن والدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، فهل آمنوا؟ آمنوا، فصاروا خير القرون، وصاروا مِنَ السابقين الأولين وصاروا مهاجرين وأنصاراً، فماذا صرنا نحن مِنَ المهاجرين أم مِنَ الأنصار؛ أم مِنَ السابقين؟ ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فهؤلاء خيرٌ منَّا إذًا؛ لأنَّهم آمنوا بعد ذلك، فهل نحن آمنا وأسلمنا أو استجبنا؟ حوَّلنا القرآن إلى عملٍ وإلى سلوكٍ وأخلاق، وبعدما حوَّلناه إلى سلوك وأخلاق هل علَّمنا النَّاس بأعمالنا وأخلاقنا ودعوتنا إلى الله عزَّ وجلَّ؟ وهذه وظيفة الأنبياء عليهم السَّلام ووظيفة المؤمنين الحقيقيين، ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾ لم يكونوا يستجيبون ولا يخضعون، بعد ذلك استجابوا وامتثلوا وخضعوا، يا تُرى نحن ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ هل آمنا وهل استجبنا، هل خضعنا، فهل نسأل الله عزَّ وجلَّ ألَّا يجعلنا مثلهم؟ لا؛ بل نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا مثلهم، فلمَّا دُعوا استجابوا؛ ولـمَّا نُودوا إلى الإيمان آمنوا، ولـمَّا طُلب منهم الخضوع والركوع لأوامر الله عزَّ وجلَّ خضعوا وركعوا وسجدوا.

كذب الكفرة حرصًا على دنياهم:
قال تعالى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾ لماذا كذبوا؟ منهم مَنْ كذَّب حرصًا على جاهه؛ لأنَّه صار زعيمًا فإذا أسلم ماذا سيكون؟ فهكذا يوسوس الشيطان له؛ مع أنَّه إذا أسلم سيُعزُّه الله عزَّ وجلَّ أكثر مِنْ عزِّه في كفره، وبعضهم كان حسدًا فكيف ليتيم أبي طالب أن يصير زعيمنا ورأيسنا، فالأمر ليس أمر دنيا؛ بل أمر أرضٍ وسماء، دنيا وآخرة، عزُّ الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ في قلوبهم مِنْ حقدٍ وحسدٍ وجهلٍ وكبرياء وغباء، ومع كلِّ هذا استجاب بالمئة تسعةٌ وتسعين ولم يستجيب واحدٌ أو واحدة مِنَ المئة، والذين لم يستجيبوا أبو جهل فأوتي برأسه مثل رأس اليخنة أُلقيَ عند أقدام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، مقطوع الرأس، فهل هكذا أشرَف له؟ وأبو لهب ما ذُكِرَ كافرٌ في هذه الأمَّة بإسمه؛ إلَّا هو، ومَنْ هو؟ عمُّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ونسبه أنْ يكون عمَّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والعم بمنزلة الأب؛ ومع ذلك لم تُفِده عمومته ولا أبوَّته ولا نسَبه إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، بل بالعكس يكون عذابه مضاعفًا؛ إذا كان قريبًا مِنَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أو مِنْ نواب النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا يسلك الشيء الذي يتناسب مع نسبه فيكون عذابه مضاعفًا في الدنيا والآخرة:

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
[سورة الأحزاب]

(وَمَن يَقْنُتْ) مَنْ يُطِع الله عزَّ وجلَّ الطاعة مع الدوام؛ أمَّا إذا أطعته وانقطعت فهذا ليس اسمه قنوت، القنوت أي الاستقامة وعدم الانقطاع عن طاعة الله تعالى، (وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ) وفوق المرتين (وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا) نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُفهِّمنا كلامه يا بنيَّ، ويرزقنا القلب ليهضم كلام الله عزَّ وجلَّ، والعقل والفكر لنفهمه حق الفهم.

النتيجة والعاقبة للتقوى:
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ ماذا يوجد بقلوبهم وعلى ماذا ينوون ولماذا يخططون:

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
[سورة آل عمران]

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
[سورة الطارق

بعد قليل سترى النتائج والعواقب:

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (132)
[سورة طه]

فماذا كانت العاقبة؟ أخزى الله عزَّ وجلَّ مَنْ أصرَّ على ضلاله في الدنيا قبل الآخرة، ومَنْ استجاب أعزَّه الله عزَّ وجلَّ في الدنيا قبل الآخرة، ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ أيُّ بشارة؟ ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ مَنْ ينوون الحقد والمكر والشر للإسلام ولم يخضعوا ولم يؤمنوا لقوا العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لكنَّ الذين آمنوا وصدقوا وأيقنوا والإيمان واليقين الإيمان الحقيقي الذي يُنتِج العمل، أمَّا إذا آمنت ولم تُنتج فهذا اسمه كذبٌ في الإسلام؛ تكذِب على نفسك وتكذِب على النَّاس، وتكذِب على الله عزَّ وجلَّ، فهل سيُفيدك الكذب في هذه المراحل الثلاث؟

عطاء الله غير مَمْنُونٍ:
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ﴾ مكافأة، ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ عطاءٌ لا ينقطع، فالممنون هو المقطوع ﴿لَهُمْ أَجْرٌ﴾ مكافأة ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ غير مقطوع، فالمكافأة التي كافأ الله عزَّ وجلَّ بها أبا بكرٍ رضي الله عنه في الدنيا هل انقطعت عنه ؟ لا؛ بل إلى أنْ لقي الله عزَّ وجلَّ وانتقل إلى مكافأةٍ الآخرة، المكافأة الخالدة. ماذا صنع الله عزَّ وجلَّ بعمر رضي الله عنه وماذا كانت مكافأته؟ جعله فوق الأباطرة ولم ينقطع عنه بالآخرة؛ بل إلى أبدِ الآباد، فأيُّهما خيرٌ أنْ تكسب سعادة الدنيا والآخرة أو تخسر الدنيا والآخرة؛ أو لو كسبت الدنيا ماذا لك مِنَ الدنيا يا بنيَّ؟ فهل يأكل الفقير أكثر ويملأ بطنه أكثر أم الأغنياء؟ الفقير الذي يعمل عملاً شاقاً في الجلسة كم رغيفًا يأكل؟ رغيفًا أو رغيفين، وكم يأكل الغني من الخبز؟ قطعة خبز، والأكل مِنَ المائدة حوالي ملعقة أو ملعقتين، إذًا فالفقير هو الذي يتنعَّم أكثر في الدنيا، ومع امرأته مَنْ الأقوى؟ قولوا، وعند نومه مَنْ ينام، ويغرق في نومه أكثر؟ وأمَّا ذاك فبالمنومات وغيرها.. فإذًا يا بنيَّ نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا التوفيق، وأنْ يرزقنا الله عزَّ وجلَّ فهم كلام الله عزَّ وجلَّ، وكلام أولياء الله وكلام أحباب الله، ويرزقنا الصدق:

{ المرءُ على دينِ خليلِه فلينظُرْ أحدُكم من يخالِل }

[مسند أحمد]

(على دينِ خليلِه) على دين حبيبه (فلينظُرْ أحدُكم من يخالِل) (17).
لا إيمان لمن لا محبَّة له.

محبة الله ورسوله:

قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
[سورة التوبة]

(قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) ماذا يوجد أحبابٌ للإنسان أكثر مِنْ أولئك؟ (وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا) كلُّ ثروته (وَمَسَاكِنُ) القصور (تَرْضَوْنَهَا) فإذا كانت هذه الأشياء مجتمعةً أو منفردةً إذا كانت (أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) عليك أنْ تحب الله عزَّ وجلَّ والنَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أكثر من كل هذه الأشياء، حسنًا والشَّيخ؟ لـمَّا يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (العلماء ورثة الأنبياء) الآن إنْ أحببنا الله عزَّ وجلَّ فمن المستفيد الله عزَّ وجلَّ أم نحن؟ وإنْ أحببنا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فهل نحن المستفيدون أم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ وإنْ أحببنا وارِث النَّبيِّ فلمن مردود المحبة؟ فبماذا ستنفع الشَّيخ إنْ أحببته وبماذا ستضرُّه إنْ كرهته؟ وتُخمِّن مِنْ حماقتك أنَّك إنْ أحببته ستُلبسه تاجًا مِنْ ألماس فعقلك دون عقل الأطفال، قال إذا ما كانت محبة الله عزَّ وجلَّ والنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وبحكم كلام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (العلماء ورثة الأنبياء) يعني يجب أنْ تُحب وارِث النَّبيِّ كما تحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فماذا سيُورِّث النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم الوارِثَ البستان أم الدكان؟ سيُورِّثه ما يجب للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ حبٍّ وامتثالٍ واستجابة، يقول لك النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هذا نائبي، إنْ غاب الطيار الأصلي وأتى نائبه فماذا سيستلم؟ كلُّ ما يستلمه الأصلي، فيا تُرى هل هكذا نُعامل الوارِث النبوي، وإنْ عاملناه هكذا فمَنْ هو الرابح أنت أم الشَّيخ؟ الشَّيخ ليس بحاجة ولا لأيٍّ منكم على الإطلاق وهذا مِنْ فضل الله عزَّ وجلَّ ومن كرم الله عزَّ وجلَّ، فإنْ أحببنا الله عزَّ وجلَّ فما الذي سنُعطيه لله عزَّ وجلَّ؟ وإنْ أحببت النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فماذا ستُعطي النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ أنا أقول لكم بأنَّني في غنىً عن الكل بفضل الله عزَّ وجلَّ وبكرم الله عزَّ وجلَّ، إذًا المحبة لأجل مصلحتكم وسعادتكم، ولتحقيق كلام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ اللهمَّ إني أسألُك حُبَّكَ ، وحُبَّ من يُحبَّك ، وحُبَّ عملٍ يُقرِّبُنِي إلي حُبِّكَ (18) }

[سنن الترمذي]


لا يخفى على الله شيء:
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ ماذا تُضمر وبماذا تُفكر وماذا تُخفي عن النَّاس؛ أمَّا عن الله عزَّ وجلَّ فلا يخفى، ومَنْ الذي سيُكافئ الصالح والطالِح؟ الله عزَّ وجلَّ، يعرف الله عزَّ وجلَّ ماذا تنوي وماذا تفعل، فلا تستطيع أنْ تنكر أمرك على الله عزَّ وجلَّ، ولا أنْ تلعب، فيهلكك، ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ﴾ إنْ لم يتوبوا ويُنيبوا ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ موجع؛ لكنْ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ليس آمنوا فقط ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ﴾ في الدنيا والآخرة، فهل أعطاهم الله عزَّ وجلَّ المكافأة في الدنيا أم لم يُعطِهم؟ وهل تنقطع بالموت وتكون أجرًا ممنونًا مقطوعًا؟ لا، مِنَ الدنيا إلى الآخرة، اللَّهم إنَّا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك مِنْ سخطك والنَّار.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم والحمد لله رب العالمين.

الهوامش:
(1) سنن الترمذي، كتاب فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في إذا زلزلت، رقم: (2894)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه، رقم: (12510)، (3/146).
(2) سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223). وأبو داود، أول كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، رقم: (3641). والترمذي، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682).،
(3) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم: (52)، صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم: (1599).
(4) صحيح البخاري، كتاب الوصايا: باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب، رقم: (2753)، كتاب تفسير القرآن: باب {وأنذر عشيرتك الأقربين}، رقم: (4771)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان: باب {وأنذر عشيرتك الأقربين}، رقم: (206).
(5) مسند البزار، رقم: (2631)، (7/80)، حلية الأولياء، (8/48).
(6) صحيح البخاري، رقم: (2652).
(7) ورد في الأثر.
(8) صحيح مسلم، كتاب العلم: باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، رقم: (2674).
(9) صحيح مسلم، في كتاب البر والصلة والآداب: باب تحريم ظلم المسلم وخذله، رقم: (2564).
(10) سنن النسائي, كتاب الاستعاذة, باب الاستعاذة من فتنة القبر, رقم: (5515).
(11) صحيح البخاري، كتاب الوضوء: باب ما جاء في غسل البول، رقم: (218)، كتاب الجنائز: باب عذاب القبر من الغيبة والبول، رقم: (1378)، صحيح مسلم، كتاب الطهارة, باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، رقم: (292).
(12) رواه الطبراني في المعجم الأوسط، رقم: (7697)، (7 /350) وفي الصغير، رقم: (835)، (2/89).
(13) مسند أحمد، رقم: (17998)، (29/521).
(14) صحيح البخاري في الجنائز، باب الميت يسمع خفق النعال، رقم (1338)، ومسلم رقم (2870) في الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه.
(15) مسند أحمد، رقم: (18830)، (31/126)، سنن ابن ماجة، كتاب الفتن: باب الأمر بالمعروف والنهي المنكر، رقم: (4012)، سنن النسائي، كتاب البيعة: فضل من تكلم بحق عند إمام جائر، رقم: (7786).
(16) صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب طهارة الجلود الميتة بالدباغ، رقم: (363).
(17) مسند أحمد، رقم: (8028) (13/398)، (8417)، (4/142)، مسند الطيالسي، رقم: (2696)، (4/299)، حلية الأولياء، (3/165)، شعب الإيمان، رقم: (8990)، (12/44).
(18) سنن الترمذي، أبواب تفسير القرآن: باب ومن سورة ص، رقم: (3235)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. مسند أحمد، رقم: (22109)، (36/423).