تفسير سورة الهمزة

  • 1996-07-12

تفسير سورة الهمزة

الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل وأعطرُ التحيات والتسليم على سيِّدنا مُحمَّدٍ حبيبِ ربِّ العالَمين، وعلي أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخوَيه سيِّدَينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه مِنَ النبيين والمُرسلين، وآلِ كلٍّ وصحْبِ كلٍّ أجمعين، وبعد:


فهم القرآن الكريم وتطبيقه:
نحن الآن في تفسير سورة الهُمزة، ومرَّ معكم في الأسبوع الماضي تفسير سورة العصر، وعاهدتمُوني على أن تُؤمنوا بها عِلماً وعملاً وتعلِيماً، هل نفَّذتُم العهد؟ هل كنتم تتواصون مع مَنْ تَلقون على الحق وترك الباطل وبالصبر وعدم الجَزَع في تحمُّل الأمور الواجبة.
القراءات الأربع عشر معروفة، ولكن قراءة الصحابة ألا يجب أن تُضاف للأربع عشرة قراءة؟ كانت قراءتهم للقرآن يقرؤونه عشر آياتٍ عشر آيات، فلا يقرؤون العشر الثانية حتى يُتقنوا الأولى عِلماً وفهماً وعملاً وتعليماً للآخرين، وأما أن نقرأ القرآن مثل إذا قرأ الإنسان الحوالة وفيها الثروة العظيمة بالملايين فمهما قرأ ورتَّل ووضعها على الأنغام الموسيقية، إذا لم يذهب للبنك ويقبضها يبقى طوال عمره فقيراً وجائعاً وعرياناً ويصير مضحَكَةً للشيطان ولكلِّ مَنْ يراه، كذلك القرآن حوالةٌ من الله عزَّ وجلَّ بالجنة لمَنْ يؤمِن به إيمان العَمل ثم التعليم، اللهم اجعلنا مِنَ الذين يستمِعون القول فيتَّبِعون أحسنه.

الإيمان بالقرآن الكريم:
نحن الآن في سورة الهُمزة، الهَمْز واللَّمْز هو كنايةٌ عن انشغال الإنسان بنشر عيوب النَّاس والطَّعن في أخلاقهم والجرح لعواطفهم بما يسوؤهم مِنْ كلامٍ وغيبةٍ وتنقيصٍ وإظهار معايِبٍ أو بالكذب والافتئات بأن يكذب على النَّاس لينقِّصَهم ويحُطَّ مِنْ أقدارهم، سواءً بالمواجهة مع بعضهم البعض أو غِيبة ذلك الإنسان المطعون فيه، فالله عزَّ وجلَّ دعانا إلى الإيمان بالقرآن، وهذه السورة مِنْ سور القرآن، والإيمان هو:

{ ليسَ الإيمانُ بالتَّمنِّي ولكنهُ ما وقرَ في القلبِ وصدَّقَهُ العملُ }

[الجامع الصغير للسيوطي]

(ليسَ الإيمانُ بالتَّمنِّي) فتفرَحُ بقولك أنك مؤمنٌ فهذه أمنية، ولا بالتحلي حيث تجلِسُ وتتهيأ بزيِّ أهل الإيمان، (ولكنهُ ما وقرَ في القلبِ) استقرَّ يقيناً وتصديقاً وحقيقةً لا يُخالطها شكٌّ ولا واحدٌ بالمليون (ولكنهُ ما وقرَ في القلبِ وصدَّقَهُ العملُ)(1)، فإذا آمنت بالقرآن ولم تُصدِّقهُ بالعمل فلم تُؤمن بالقرآن، إذا آمنت بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم ولم تتَّبع سُنَّته ولم تُنفِّذ وصاياه فما وقَرَ في القلب ولا صدَّقَه العمل.

العاقل لا ينظر في عيوب الآخرين:
فنحن في هذه السورة سورة الهُمزة، الإنسان الهُمزة واللُّمزة مِنْ طبيعته وشأنه أن يذكُر معايِب النَّاس ونقائِصَهم وكأنَّه يرى نفْسَهُ أنه الأفضل والأكمل والذي لا عيب فيه ولا نَقْص، فهذا مُنتهى السُّخف في الإنسان أن يشتغِل بعيوب النَّاس ويتناسى ويتعامى عن عيوب نفسه، إذا ذكَرَ عيوبَ النَّاس فماذا يستفيد مِنْ تنقِيصهم وذِكْرِ معايبِهم؟ هل يستفيد شيئاً؟ ثم الذين ذكَرَهم بسوءٍ هل يستفيدون شيئاً؟ يكون موضِع مقتِ النَّاس واحتقارهم، وفوق كلِّ ذلك وأخطر من ذك سيكون موضِع احتقار الله له وغضب الله عليه واستحقاقه أن يعِدَهُ الله بالويل.

وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا ۖ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)
[سورة الهمزة]

(وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) فالإنسان العاقل هل عنده فراغٌ يصرِفُه ليُشغِلَ نفسه بغيره مِنْ غير أي فائدةٍ تعُود عليه؟ بل بالعكس لا بدَّ لهذا الكلام الذي انتقَصت به الآخرين أن يصِلَ لهم، فستكسِب مقْتَ واحتقار وعداوات النَّاس مِنْ غير أي ربحٍ في مقابل ذلك، يعني إذا سبَبْتَه في غيابه أو حضوره أو انتقصته أو ازدريته، السَّباب والمُغتاب هل يربحان؟ هل يأخذ عشرين ليرةٍ على غِيبته؟ هل يكتب الله له حسنات؟ يربح رضا الشيطان وغضب الرحمن وأذهَبَ مِنْ عُمره قطعةً مِنَ الزَّمن بدل أن يربح فيها كان هو مِنَ الخاسرين، وتداخَلَ في شؤون الآخرين، و:

{ من حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُهُ ما لا يعنيهِ (2) }

[سنن الترمذي]


وعيد الله تعالى بالويل للهمَّازين اللمازين:
فالله عزَّ وجلَّ بعد بسم الله الرحمن الرحيم يقول في شأنه: الويل لهذا الإنسان من رجلٍ أو امرأة، في السهرات، كثيرٌ مِنْ مجالس النَّاس يلغوا بعضهم على بعض، فلان كذا وفلانة كذا، فلانةٌ فعلت، وفلانةٌ تركت، وفلانةٌ لبِسَت، بينما صفة المؤمنين؛ ألا نريد الموت على الإيمان؟ مِنْ يريد الموت على الإيمان سيَحيَى عليه ليموت عليه، يموت المرء على ما عاش عليه ويُحشَرُ يوم القيامة على ما مات عليه، فالله وَصَف المؤمنين فقال:

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
[سورة المؤمنون]

اللغو هو الكلام الذي لا يوجد فيه إثمٌ ولا معصيةٌ ولا غضبُ الله، وصف الله المؤمن أنه لا يتكلَّم كلاماً لا فائدة مِنه ولا خيرَ فيه، أما أن يتكلَّم بعيوب النَّاس فهل أنت مُبرَّأٌ مِنَ العيوب؟ اذكر عيوب نفسك وجاهِدها حتى تتخلَّص مِنْ عيوبها فهو الفرض والواجب عليك، لذلك قال الله في حقِّ هؤلاء النَّاس: (وَيْلٌ) الخسارة والخزي وغضب الله عزَّ وجلَّ، ولمن يُسجَّل ولمن يحوَّل؟ قال: (لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) الهُمزة هو الذي يغتاب في غياب الشخص الذي ينتقِصُه، والثاني هو الذي ينتقِصُه في حضوره ومواجهته ومُجالَسَته، وصف الله المؤمنين فقال:

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
[سورة الحج]

المؤمن يُصغِي لكلام الله في هذا الموضوع عندما يقول:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83)
[سورة البقرة]

الأَولى والأَحْرى: انظر إلى ما فيكَ يكفيك، ابحث عن عيوبك وفتِّش عن نقائِصِك لتتخلَّص مِنها، أما الآخرون أنت لست مسؤولاً لا عن عيوبهم ولا عن نقائِصِهم.

مدرسة الإيمان تهذِّبُ النفس:
ولكن هذا كلُّه سَبَبُه أنَّ المسلم لم يدخل مدرسة الإيمان والتربية والتزكية:

قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)
[سورة الشَّمس]

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ) وخسِرَ (مَنْ دَسَّاهَا) أهمَلَها كالأرض المُهملة التي لا مُزارع لها فتُنبِتُ الأشواك وتُربِّي الأفاعي والحشرات الضارة، ويذهب الزمن ولا فائدة ولا منفَعَة، ويذهب العُمر ويصبح عُمره خمسين وستين وقد يكون قد قرأ القرآن مئات المرات لكن قراءةً بلا فهمٍ وبلا قصدِ العمل ولا التطبيق.

{ أشدُّ النَّاسِ عَذابًا يومَ القيامةِ عالِمٌ لم ينفَعهُ اللَّهُ بعِلمِهِ }

[المعجم الصغير للطبراني]

أشدُّ النَّاس ندامةً وخسارةً يوم القيامة (عالِـمٌ لم ينفَعْهُ الله بعِلمه).
السيدة عائشة رضي الله عنها ومِنْ شأن المرأة أن تَغار مِنْ ضَرَّتها، فمرةً ذكر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ضَرَّتها صَفية أمامها، وصَفية كان أهلها مِنَ اليهود فأسلَمَت وصارت زوجة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فذكَرَها النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فغارَتْ عائشة رضي الله عنها، فقال له: حسْبُكِ مِنْ صَفية أنها قصيرة! لو لم يوجد فيها عيبٌ من العيوب فيكفي عيبٌ يُنزل من شأنها حتى لا تصلُحَ لتذكُرَها أمامي فهي قصيرة، فغضب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقال:

{ يا عائشة لقد قُلتِ كلمةً لو أُلقت في بحرٍ لأنتنته!(3) }

[سنن أبي داوود]

هذا الكلام النبوي الذي يقوله النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَظهَر الإنسان في الدار الآخرة، النَّتَن هو المعاصي وقُبحها وفظاعة منظرها ورائحتها وشكلها، قالت يا رسول الله ما قلت إلا ما فيها؟ هي قصيرةٌ ولم أكذب، هل سأقول أنها طويلة؟ لكنها تقول أنها قصيرة تنقيصًا لها واحتقارًا وتزهيدًا، فقال: (لو قلتِ غيرَ ما فيها) لو كنتِ كاذبةً: طويلة وهي قصيرة (لبَهَتِّيها) يعني لأتيتِ بالكذب والافتراء والبهتان.

فهم وتطبيق التعاليم النبوية:
يا سبحان الله يا بنيّ! المسلم يقول لك في رمضان: أنا قرأت ختمةً واثنتين وثلاثة، قُل ماذا فهمت وعلِمت مما قرأت؟ ليس المقصود أن تقرأ الشيك بل أن تفهَم الشيك والحوالة وتذهب إلى البنك فتقبض ما هو لك، كذلك القرآن ليس لك مِنْهُ إلا ما علِمته وعمِلت به ثم علَّمته للآخرين، وإلا فقرأ عشرين ختمةً ولا يزال هُمَزةً لمُزة، عندما يقرأ كلام الله وهو يقول له: (وَيْلٌ) الهلاك والخسارة والخِزي للمُغتاب والطَّعان والعَيَّاب على الآخرين، لا يُعطي سَمْعَهُ لله ولا إصغاءه واهتمامه لكلام الله ولا يُحاول أن يفهم ما يُخاطبه به الله، فهل قرأ هذا كتاب الله؟ هل هذا مؤمنٌ بكتاب الله؟
توفَّانا الله على الإيمان، ما معنى توفَّانا الله على الإيمان هل تفهم ما معناها؟ هل آمنت بالقرآن وهل فهِمته لتُؤمن به؟ هل تستطيع أن تُؤمن بما تجهَل؟ علبةٌ مختومةٌ يقولون له: فيها جوهرةٌ ثمنها مئة ألف ليرة، اشترِهَا، هل تقبل أن تدفع مئة ألفٍ وأنت تجهلُ حقيقتها؟ فكيف تقول أنا مؤمنٌ بالقرآن وأنت تجهَل أوامِره ووصاياه وآدابه والعَمَل به؟

عاقبة الهمز واللمز:
عندما تقول: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) يعني الخسارة والدمار والخِزي وسوادُ الوجه، فإذا كنت أنت الهُمزة اللُّمزة إذاً أنت تقول أن الخسارة وسواد الوجه والخِزي يوم القيامة لي، فماذا استفدنا مِنَ القرآن؟ المقصود مِنَ القرآن إذا قرأت الآية فإن وجدت الله عزَّ وجلَّ يُحذِّرُك عن شيءٍ وينهاك عنه أن تقول صدق الله العظيم وطاعةً لله ورسوله الكريم، يا ربي لا تُؤاخذني بما مضى وأُعاهدك بعدما سمعت كلامك ما عِشْتُ إلى أن ألقاك أن لا أكون هُمزةً ولا مُغتاباً ولا طعَّاناً للناس ولا لمُزة، لا في حضورهم ولا في غيابهم، فما رأيكم هل لديكم استعدادٌ أن تؤمنوا بهذه السورة؟ فالإيمان بالقرآن أن تفهَمَه وتعلَمَه وتعمَل به وتُطبِّقه ثم أن تقوم فتُعلِّمه وتُبلِّغه للآخرين فإذا فعلت ذلك فقد آمنت بالقرآن وبسوره.

وعد الله تعالى للمؤمن:
إذا صرت هذا المؤمن:

فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
[سورة النساء]

إذا صرت هذا المؤمن:

وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
[سورة الحج]

إذا صرت هذا المؤمن:

يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚوَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
[سورة المنافقون]

أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا أميين لا يقرؤون ولا يكتبون، حتى تُوفي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكن عند كل المسلمين ولا مصحفٌ واحد، كان مكتوباً على الحجارة وأكتاف الخِراف والعِظام وعلى الورق، هذا عنده عشرةٌ والآخر خمسةٌ الذي يحفظونه، لكنهم كانوا مُؤمني العمل، كان القرآن يُقرأ في أعمالهم وسلوكهم ومُسارعتهم إلى أداء فرائض الله في التحرُّزِ والابتعاد عن محارِمِ الله.
فهل أنتم مُستعدون؟ الله يُحذِّرنا ويُنذِرُنا بأن المُغتاب للناس في حضورهم بوقاحةٍ أو في غيابهم الويل له والخسارة عليه والخِزي له، إذا كنت سائق السيارة وخالفت وأعطاك الشرطي إشارة قف، ماذا تفعل؟ وهو إنسانٌ مثلُك مثله، فإذا كان الذي يأمُرك هو ربُّ العالمين! إذا قال الطبيب لك: ويلٌ لك إذا لم تستعمل الدواء لثلاثة أشهرٍ يومياً، الخسارة لك والخطَر عليك، تُصدِّق أم لا؟ تدفع أيضاً المال وتُطبِّقُ كلام الطبيب خوفاً على نفسك مِنَ الويل والخسارة ومِنْ سوء العاقبة، فإذا كان ربُّ العالمين أصدق الصادقين يقول: الويل لك إذا كنت هُمزةً لمُزة، تذكُر عيوب النَّاس في حضورهم وغيابهم، الأخ مع أخيه والشريك مع شريكه والجار مع جاره في السَّهرات.

عدم الخجل من تطبيق شرع الله:
إذا كان هناك مجلسٌ فيه معصيةٌ لله تأمُرهم بحكمةٍ وتنهاهُم بحكمة، إذا لم يستجيبوا تقول لهم: إذاً اسمحوا لي، فهذا مجلسٌ صار مُخالفاً وفيه معصيةٌ لله مثل مجلس الخمر، فالشرع لا يسمح لي أن أجلس معكم، فإذا أحببتم أن أقوم تنفيذاً لأمر الله، أو إذا أحببتم أن أجلس فلا يكون في مجلسنا هَمزٌ ولا لَـمز، ولكنك لا تفعل وتقول: والله أستحيي! لماذا إذا أراد أن يأخذ أحدٌ محفظةً مِنْ جيبك لماذا لا تستحيي؟ عندما تقبِض على يده وتقول المعزوفة إلى آخرها هل تستحيي؟ تقول له: أيها اللص أيها النَّشال، هل تستحيي أن تُمسك يده وتمنَعَه عن أخذ الحقيبة؟ في شؤون الله تستحيي أما في شؤونك لو أراد الرخيص الذي ثمنه خمس ليرات هل تستحيي أن تُمسك يده وتمنعه مِنَ السَّلب والأخذ؟ وفي حقوق الله لو هُدِمَ الدين أمامك تستحيي فهذا دليل ضعف إيمانك.

الإيمان يظهر في السلوك:
لا نقول عدم الإيمان، لا، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في هذا الموضوع وفي كلِّ المواضيع:

{ يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى البَيْتِ أَوْ إِلَى الكَعْبَةِ فَقَالَ: مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ }

[سنن الترمذي]

(يا مَعشرَ مَن آمَنَ بلِسانِه) بلِسانه يقول أنا مؤمنٌ ومسلمٌ وشافعيٌّ وأنا أدرس الشريعة وأنا أخذت شهادةً مِنَ الأزهر، (يا مَعشرَ مَن آمَنَ بلِسانِه، ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبِه) عندما تُؤمن بقلبك أن هذه أفعى هل تضعُها تحت قميصك؟ ما الذي يمنعُك؟ الإيمان القلبي بأن لدغتها قاتلة، صحيح؟ وإذا كان عِقداً ثميناً هل يوجد مانعٌ أن تضعه تحت قميصك لكي لا يسرقه أحدٌ منك؟ لماذا تحرِص عليه كلَّ هذا الحِرص؟ لإيمانك بغلاء ثمنه حتى لا يتسلَّط عليك مُتسلِّط، فالنبي يقول: (يا مَعشرَ مَن آمَنَ بلِسانِه، ولم يُفضِ) ولم يصِل (الإيمانُ إلى قلبِه: لا تَغتابوا المُسلمينَ) لا تُنقِص النَّاس ولا تُعِبْ عليهم، انظر إلى ما فيك يكفيك، ألا توجد فيك عيوب؟ وإذا لم توجد فهل أنت مسؤولٌ عن الآخرين؟ لكن هذا ضعف الإيمان والتربية.

التحذير من تتبع عورات النَّاس:
(لا تَغتابوا المُسلمينَ، ولا تتَّبِعوا عَوراتِهم) يوجد كثيرٌ مِنَ النَّاس يُحبون أن يستكشِف نقائِصَ الآخرين خِلسةً، وينظُر مِنْ أعلى الحائط ويُتابع أسرار النَّاس وأمورهم الخاصة هذا تتبُّعٌ لعورات الآخرين، (لا تَغتابوا المُسلمينَ، ولا تتَّبِعوا عَوراتِهم؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ) ستدرُس حتى تكشِف عورته، فالله أيضاً يبعَثُ مِنْ يكشِفُ عورتك وعيوبك ونقائصك، وتُفضَحُ أمام أهل الأرض والسماء لأن الله يُهدد، (وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)(4) لو كان في بيته وفي غرفته الخاصة وأغلق الأبواب وأنزل الستائر وقام بناقصةٍ يفضحه الله لأنه يُحب أن يتتبَّع فضائح الآخرين.

الأفضل والأصلح للمؤمن أن يحاول إصلاح نفسه:
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) مَنْ هو الهُمزة واللُّمزة؟ الذي يذكر عيوب النَّاس ويجعل نفسه أنه هو البريء مِنْ كلِّ العيوب، إذا سأله أحدٌ أنت فيك عيوبٌ ونقائصٌ أم لا، ماذا يقول؟ هل يستطيع أن يُبرِّئ؟ فبدلاً مِنْ أن تشتغِل بعيوب النَّاس اشتغِل أولاً بعيوبك، لأن انشغالَك بعيوب النَّاس يزيدك عيوباً وآثاماً ووِزْراً عند الله عزَّ وجلَّ، أما ذِكرك لعيوب نفسك ومحاولة إصلاح نفسك هذا لعلَّه أن ينفعك ويُفيدك فاعمل بشيءٍ ينفعُك لا بشيءٍ يضرُّك، وأضاف إلى ذلك أن هذا اللَّماز الهَماز هو: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ) ليس له همٌّ مِنَ الحياة ولا هدفٌ مِنَ الحياة ولا مِنَ الدراسة ولا الوظيفة ولا التجارة ولا الزراعة إلا جَمْعُ المال، ومِنْ غرامِه بالمال دائماً يأتي للصندوق ويعُدُّ! هل نَقُصَ منهم شيءٌ أو زاد، يعني يعبُد المال، (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ).

المؤمن همه الله و الدار الآخرة:
أما المؤمن همُّه الله والدار الآخرة، همُّه في صباحه أن يُعمِّر نهاره بطاعة الله وفي مسائه يرجع فيُحاسِبُ نفسَه هل ربِحَ في يومه مرضاة الله وتجنَّبَ سَخَطَه؟ فإن عمل سيئةً يحاول مَحوَها بحسنة، وإن عمِلَ الحسنة شَكَرَ الله عزَّ وجلَّ، قال: لا هذا همُّه الطَّعن في النَّاس وجَمْعُ المال ولا همَّ له إلا المال (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ)، أما أن يكون عليه:

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

لا تتكلَّم كلمةً إلا ملَكٌ يُراقبك (عَتِيدٌ) يعني حاضرٌ لا يغيب ولا يُفارقك، مثل المُسجِّل، فلو وضعت مُسجِّلاً لنفسك وفي المساء تسمع المُسجِّل انظر يا ترى هل ترضى عن كلِّ ما تلفَّظْتَ به؟ فكيف غداً إذا وقفت بين يدي الله عزَّ وجلّ:

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
[سورة النور]

هذه المُسجِّل يشهد على المطربة بكلِّ غنائها، وإذا خرجت كلمات الإثم والفواحش والغِيبة وما شابه مِنْ شخصٍ وغداً أسمَعَهُ الله فقال له: اسمع كلامك :

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
[سورة الإسراء]

(اقْرَأْ كِتَابَكَ) انظر إلى أعمالك، هذا شريط الفيديو المُسجَّل (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا).
فلما قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لعائشة رضي الله عنها لما قالت عن ضَرَّتها أنها قصيرة قال عن كلمتها أنها تُنتِن بحراً! فهذه كلمةٌ صغيرة، غداً سيَلقى الله بمليون كلمةٍ وروائحه تملأ الأرض والسماء كيف سيَلقى الله؟ إذا أراد دخول الجنة ويُريد أن يملأها إنتاناً وروائح كريهةً هل يُدخلونه الجنة؟ هل يُقابلونه مع الأنبياء والمُرسلين وأولياء الله الصالحين؟ أهل الجنة يقولون: يا ربِّ إذا كان كذلك نحن سنخرج، إذا دخل هذا، فالله عزَّ وجلَّ حاشا أن يضع الشيء في غير موضِعِه.

محاسبة النفس الدائمة:
(وَيْلٌ) الخسارة والخِزي والشقاء والتعاسة لـمَن لا يُؤمن بكلام الله ولا يتفهَّم أوامر الله ولا يحذَرُ مما حذَّر منه الله وما نهى عنه، الله ينهانا عن الهَمز، لا يوجد لك عملٌ إلا الكلام على النَّاس؟ تكلَّم عن نفسِك وحاسِب نفسَك، كان سيِّدنا عمر يقول: حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزنوا، كُنْ حَسيب نفسِك لتنجو مِنْ أن تُحاسب يوم القيامة، (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ) همُّه في المال حلالاً كان أم حراماً، أما الزكاة وحقوق الله وحقوق الأرحام والفقراء والإسلام، حق الإسلام الآن يا بنيّ، الإسلام أفقر شيءٍ في وجودنا، أغنياء المسلمين تجِدُهم بُخلاء في بذل المال في إعادة بناء الإسلام وتجديده.

سبب ضعف الإسلام اليوم:
فالإسلام ضعيفٌ لماذا؟ لعدة أمور: فقَدنا العُلماء الرَّبانيين والمعاهد التي تُعلِّم وتُربِّي وتُنشِئ العلماء الصالحين، فإنشاء المعاهد والإنفاق عليها ورصْدُ الميزانيات بحسَبها يا تُرى بدون ذلك هل يقوى الإسلام؟ يُنفق على عَمارته وبنائه وعلى حفلِ رفاقه وسهرةٍ مِنْ سهراته وعلى وليمة العُرس، يوزعون أشياء كثيرةً لا ينتفع منها لا المُعطي ولا الآخذ، يُقدِّمون أشياء لا توجد منها فائدةٌ فقط للشكل، هذه لو أعطيناها للفقراء وطلاب العِلم وأرسلنا لهم عبوتين مِنَ السمن هل سيتكلَّم النَّاس عليك؟ إذا تكلَّموا هم أفضل أم إذا تكلَّم الله عليك أفضل؟ إذا ذمَّك الله أعظَم أم إذا ذمَّك النَّاس؟ دَعْ النَّاس يذمُّوك ودَعْ الله يمدحُك، وإذا قال للمجتمعين: نحن ثمن الحلوى أو الصحون وكذا سنُقدِّمُها للمعهد الشرعي أو لكذا، وهذا تأخذونه في صحيفتكم يوم القيامة حسناتٍ في ميزانِكم، هل تقبلون؟ لأن الذي يأخذ الحلوى الآن لا يُسمن ولا يُغني مِن جوع، ليس شرطاً، ولكن الهدف الأجر والثواب، في الأعراس والأفراح تُنفَقُ مئات الألوف بلا أي نتيجةٍ نافعةٍ ومفيدةٍ إلا الرياء والسُّمعة وإظهار النفس أمام النَّاس بالمظهر الحَسَن، لكن يا تُرى هل ظهر أمام الله بهذا العمل بمظهرٍ حَسَن، أليس هذا مِنَ التبذير وصَرف المال في غير موضِعِه؟ ذكر العلماء أن صرف المال في غير موضِعِه قلَّ أو كّثُرَ يُحكَم على صاحبه بالحَجْرِ ويُنصَبُ له وليٌّ يتصرَّف عنه لكي لا يصرِفَ المال إلا في ما يعود بالفائدة والنَّفع إن كان في الدنيا أو الآخرة.

الغنى شرطٌ لأداء الزكاة:
فالمال وجَمْعُه جيد، والله عزَّ وجلَّ دعا في القرآن إلى أن يكون المسلم غنياً لا أن يكون فقيراً، فلما قال الله عزَّ وجلَّ:

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
[سورة البقرة]

ما معنى آتوا الزكاة يعني كونوا فقراء ومُعدَمين؟ الفقير المُعدَم هل تجب عليه الزكاة؟ لا تجِب، فإذا قال الله كونوا مُزكِّين وآتوا الزكاة، كيف يا ربي؟ أدوا الصَّلاة، كيف سنُصلي؟ توضؤوا واستُروا عوراتكم ونظِّفوا أجسامكم وأبدانكم مِنَ النجاسات ثم صلُّوا، فكذلك الزكاة هل تكون بلا غنى؟ يعني كونوا أغنياء لتُؤدوا الزكاة للفقراء، الله امتنَّ على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في القرآن بالغِنى أم بالفقر؟ قال:

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8)
[سورة الضحى]

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) كنت يتيماً وضعيفاً ولا أحد يعرِفُك فآويناك ورعيناك حتى جعلناك أعزَّ النَّاس، (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) لا تعرِف:

مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)
[سورة الشورى]

(فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا) يعني فقيراً (فَأَغْنَى).

ذمُّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم للفقر :
النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وضَّح أكثر مِنْ مرةٍ فقال:

{ كادَ الفقرُ أن يكونَ كُفرًا }

[المعجم الأوسط للطبراني]

فالله عزَّ وجلَّ لم يذُمَّ الغِنى لكن ذمَّ الغنيَّ البخيل وذمَّ البُخل وذمَّ مانع الزكاة وقاطِع الأرحام ومَنْ لا يُؤدِّي حقَّ الله في ماله، أما الغنيُّ الذي يُوفِّقُه الله عزَّ وجلَّ فيقوم بعمل الخير ويُعيد بناء الإسلام، في هذا الوقت يفرحُ المسلمون ببناء المسجد وهو شيءٌ عظيمٌ وجميل، لكن المسجد جدراناً وسقفاً هل يبني إسلاماً وإيماناً وعِلماً وحكمة وأخلاقاً؟ المُهم هو روح المسجد الذي هو الإيمان، يصرِفُون على المسجد ملايين، فهل يصرِفُون على إمام المسجد ملايين؟ إذا فُتحت قريحَتُهُم يُعطي له شي أربعة آلاف ليرة؟، فأنت الذي عمَّرتَ المسجد مصروفك العائلي الشهري كم؟ يقول خمسون ألفاً وسبعون ألفاً، ولكن إمام المسجد لا يُكلِّفُك كما يُكلِّفك كلب الحراسة، هل عمَّرت مسجداً؟ لا والله، بل عمَّرتَ جدراناً.

المسجد الحقيقي هو مسجد العلم والحكمة والتزكية:
أما المسجد الحقيقي هو مسجد العِلم والحكمة والتزكية، مسجد بناء الإيمان، يجب أن تبحث عن الإيمان الذي يُعلِّم الكتاب والحكمة ويُزكِّي النفوس، لو دفعنا له بالشهر مليون ليرةٍ ذهباً فوالله نحن الرابحون، فالمسلمون مِنْ هذه الناحية إذا كرَّموا الإيمان أو العالِم، أطال الله عمرك بالدعاء! الشيخ هو الذي يدعو.
أتى رجلٌ لزيارة الشَّيخ علي الدقر عليه رحمة الله وقدَّس الله روحه، وكان الشَّيخ علي الدقر مِنْ أولياء الله ومِنْ كبار العلماء، وعمِلَ مدرسةً كبيرةً ربَّى فيها العلماء فبقوا خمسين سنةً ولا تزال بقاياهم حافظت على الإسلام وطردَ المُبشِّرين مِنَ الريف السوري، أتى أحد التجار إليه وصار طوال جلسته يدعو للشيخ، أطال الله عمرك وأبقاك الله لنا ومدَّ بحياتك، الخلاصة: وانتهى المجلس، فلما أراد النهوض قال له الشَّيخ اجلس، قام الشَّيخ إلى الصندوق وأحضر ليرتين من الذهَبْ وقال له: تفضَّل هاتان الليرتان مني لك، فقال: أعوذ بالله شيخي! وهو تاجرٌ كبير، فقال: لا هذه لك مكافأة، مكافأة ٌعلى ماذا؟ أعوذ بالله، قال له: يا بنيّ كان التاجر إذا جاء للشيخ يسأله، الغني إذا جاء للشيخ يقول له: شيخي المصلحة الإسلامية ومدرستك والطلبة وكذا ماذا يحتاجون؟ سمنٌ وأرزٌ ونقودٌ وملابس؟ فيُقدِّم للشيخ المال والشَّيخ يُقدِّمُ له الدعاء، فأنت يا بنيّ قدَّمت لي الدعاء فأخذت وظيفتي وتركتني مُعطلاً بلا وظيفة، لذلك أرغب أن آخذ وظيفتك التي كنت تُقدِّم فيها المال فخُذ هاتين الليرتين، أرجوك يا شيخي شيخي جزاك الله خيراً والله علمتني وأيقظتَني وإلى آخره.

إنفاق المال على شيءٍ مهمٍّ للإٍسلام:
إذا جَمَعَ الله المال بين يديك اجتهِد أن تحوِّلَه وتجعله حوالاتٍ للدار الآخرة، وأعظم شيءٍ يُصاب به المال في هذا الوقت أن يُصرَفَ على إعادة بناء الإسلام وتجديده بإنشاء المدارس وطلبة العِلم، وأيضاً طالب العِلم لا يغترُّ بدراسة المواد، والله لو أخذ مئة دكتوراه إذا لم يدخل مدرسة القلوب ويفنى فناءً كاملاً في ذِكْرِ الله ومحبَّة مَنْ يدلُّه ويُعرِّفُه بالله فلا تنفَعُه شهادته ودراسته كلها، واقعاً عملياً الذين يأخذون الشهادات ماذا يخرج منهم مِنْ إنتاجٍ في بناء المجتمع الإسلامي؟ كلُّ همِّه أن يبحث عن وظيفةٍ ويأخذ خمسةً أوستة آلافٍ ليأكل الخبز والعيش، هل استفاد شيئاً مِنَ الدراسة والشهادة؟ لذلك إذاً كلُّ المسلمين مسؤولون كلٌّ واحد حسَبَ طاقته وإمكانه، إذا جَمَعَ الله له المال بين يديه لا ينشغِل به للدنيا بل ليفعل شيئاً مُهماً للإسلام.
(الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ) ينسى الآخرة والموت أنه إذا مات سيُجرَّدُ مِنْ كلِّ ما جَمَع ويُحاسبه الله عن كلِّ ما مَلَكَ، فتجمَعُ مالاً حلالاً وتكون همَّتك أن تستعمل المال لإعادة بناء الإسلام، ما هو حال العرب والمسلمين اليوم ببُعدِهِم عن الإسلام؟ هل هم أقوياء؟ إسرائيل مِنْ خمسين سنةٍ وقامت بأربع حروبٍ ولم ننتصر عليها، والعرب عشرون دولة، أما لما كان الإسلام فهَزَمَ الدولتين الأعظم الشرقية والغربية الاستعمارين الفارسي والروماني ووحَّدَ العرب ووحَّدَ نصف العالم القديم، وكما كان يقول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ، ألَمْ أجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بي، وكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فألَّفَكُمُ اللَّهُ بي، وعَالَةً فأغْنَاكُمُ اللَّهُ بي (5) }

[صحيح البخاري]

هذا هو الإسلام، فإذا لم نجد ثمراته فمعناه أن شجَرته غير موجودةٌ أو أنه شجرةٌ غير مُثمرة.

العمل الصالح هو الذي يبقى للإنسان:
لذلك ذمَّ الله جامِعَ المال الذي ليس له همٌّ إلا أن ينظُر إليه ويتباهى به ويفرح به ويفتخِرَ ويتَعالى به ويصرِفَه في حرامٍ أو إسرافٍ أو مُباهاة:

{ إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ : صدقةٍ جاريةٍ ، وعلمٍ ينتفعُ به ، وولدٍ صالحٍ يدعو له (6) }

[صحيح مسلم]

يعمَلُ عملاً ثابتاً بعد موته، يبني مسجداً لكن لا يبنيه فقط بالجدران، يجب أن نبني الرجال الذين يُعيدون بناء الإسلام، إسلامَ القوَّة والوحدة والذي يُعزُّ العرب ويُوحِّدُهم ويجعل كلمة العرب والمسلمين هي الكلمة العليا.
(يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) يفرح بالمال وجمعِه وتعداده والنظَر له، هل يظنُّ أن هذا المال سيبقى معه خالداً مُخلداً؟ أو أنه سيُجَرَّدُ مِنْ ماله ونقدِه ودارِه وزوجتِه وأملاكِه وألقابِه وحُكمِه وسلطانِه ولا يبقى معه إلا عملُه، وَرَدَ في الحديث أن الميت إذا مات يتبعُه للقبر ثلاث، فلما يدخل القبر يدخل معه أحدُهم ويُفارقه اثنان، فالذي يتبعُه أهله وماله، سيارته الحديثة يركب بها أهله أو حسب ما يتيسَّر، وعبدُه يخرج ويُشيِّعُه، وعمَله، وعندما يُوضّعُ في القبر يرجع الأهل والمال ويبقى معه العمل، وفَّقنا الله للعمل الصالح ورزقَنا المال الحلال الطيِّب لنُحسِنَ صَرْفَه قبل كلِّ شيء، يوجد فقراءٌ ومساكين صحيح، ولكن أفقرُ الفقراء هو الإسلام، أن ننفق على الإسلام لنُعيد إليه قوَّته وعِزَّه.
ما كلُّ مدرسةٍ تُنتِجُ العالِم الوارِثَ النبوي:

{ العلماءُ ورَثةُ الأنبياءِ (7) }

[سنن أبي داود]

فالعالِم الوارِث هو الذي يُعلِّمُ القرآن، لا تلاوة كلماته، يُعلِّمُهم حقائقه ومعانيه وأهدافه، ثم يُعلِّمُهم الحكمة والتي هي العِلم الذي يجعلك ناجحاً في كلِّ عملِك ومنتصراً في كلِّ معركةٍ ورابحاً في كلِّ تجارة، الحكمة هي الصواب في القول والعمل وفِعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغِي وعلى الشَّكل الذي ينبغِي، فالذي يأخذ الشهادات العلمية هل يتخرَّج وارِثاً يُعلِّم النَّاس الكتاب والحكمة ويُزكِّي النفوس؟ فيسْحَبُ الكذب ويضعُ الصدق، فيسْحَبُ الرياء ويضعُ الإخلاص، فيسْحَبُ الكسل والخمول ويزرع الهمَّة وقوة العزيمة.

الانشغال بالمال على حساب الدين:
(يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) مشغولٌ بالمال ليلاً نهاراً على حساب دينه، لا يتعلَّم دينه ولا يُفتِّشُ عن المُعلِّم ولا عن المُزكِّي ولا عن مُعلِّم الحكمة، الصحابة كانوا أميين لا يقرؤون ولا يكتبون وكانوا خُرافيين وعَبَدَة أوثان، فصاروا أعظَم رجال السياسة والحُكم في العالَم كلِّه، عمر رضي الله عنه صار إمبراطوراً، وعثمان رضي الله عنه إمبراطوراً وأبو بكرٍ رضي الله عنه إمبراطوراً، أين درسوا؟ لم يدرُسوا إلا القرآن مِنَ المُعلِّم الأول، وأعطاهم شهادةً وهي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ حكماءُ علماءُ، كادوا مِن فِقْهِهم أن يكونوا أنبياءَ (8) }

[حلية الأولياء]


النَّبيّ هو من يصنع أمَّة:
من هو النَّبيّ؟ هو الذي يصنع الأمَّة الراقية، أمَّة العِلم والعقل والحكمة والأخلاق والفضائل، فإذا كان العالِم بنَّاءً على هذا المستوى فهو عالِم، وإذا كان لا يُحقِّق هذا الموضوع فهذا حامل ورقةٍ اعرِضْها للبيع والشراء لا تجلِب قرشاً، وعملياً لم تُفِدْهُ بشيءٍ إلا إذا توظَّف، وتوجد وظائفٌ أجيرٌ عند التاجر يأخذ راتباً أكثر منه، لذلك يا بنيّ كلٌّ منا يجب أن يجتهد ليدخل مدرسة القرآن، هذه المدرسة التي دخل فيها أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فجعلهم الله ملوك الدنيا وملوك الأرض والسماء، أعزَّة الحياة وبعد الوفاة، أبو بكرٍ وخالد وعمر رضي الله عنهم تُوفُّوا منذ ألف وأربع مئة سنةٍ ويزيد، فيا تُرى هل لا يزالون أعزَّةً كِراماً؟ وكم مِنْ أحياء الأمة الإسلاميةاليوم والتي تُمثِّل مليار مسلمٍ ويزيد فهل حالها المسلمين في موضع العِزَّة والكرامة؟ لا، لا في أمور الدنيا كالأمم المُتقدِّمة ولا في أمور الآخرة.

افتقاد الأمة للعالِم الوارث:
والسبب فقد العالِم الوارِث المُحمَّدي، إذا لم يكن العالِم عالِمَ اللسان والقلب وعالِم العقل الحكيم يُدبِّرُ للمجتمع أمر دينه وأمر دنياه فليس بعالِم، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في ميدان السياسة كسياسيّ أعظَمُ إنسانٍ سياسيٍّ وُجِدَ على هذه الأرض، لا يوجد عملٌ في الحُكم الذي حَكَمَ فيه المسلمون في الجزيرة العربية كان خاطئاً أو فاشلاً، مِنْ نصرٍ إلى نصر، ومِنْ قوةٍ إلى زيادة قوة، ومِنْ فقرٍ للمجتمع إلى غِنى، ومِنْ جهلٍ في المجتمع إلى عِلمٍ وثقافةٍ وفهم، ومِنْ ظُلمٍ وفوضى وعدوانٍ إلى عدلٍ وتحابُبٍ وأمةٍ كالجسد الواحد، في ميدان التعليم: لما أوتي بالهرمزان قائد جيوش الفرس أسيراً إلى المدينة دخلوا به على سيِّدنا عمر رضي الله عنه وهو نائمٌ في المسجد على التراب، الإمبراطور قاهِرُ الأباطرة لا يوجد قصرٌ ولا حرسٌ ولا نياشينٌ بل على التراب، فرأوه نائماً يتصبَّبُ العَرَق في جبينه وصاروا يتهامَسون لكي لا يستيقظ، قال الهرمزان: من هذا؟ فقالوا: عمر، فبهذه الحركة استيقظ عمر، فقال الهرمزان: إنك لنبيٌّ، لـمَن؟ لعمر رضي الله عنه، فقال له: لست نبيَّاً ولكن أعمل عَمَل الأنبياء، ما معنى اتباع السُّنة؟ اتباع الطريقة طريقة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحياة والأعمال والأخلاق هذه هي السُّنة.
أما أن تأخذ السُّنن الرخيصة فتُرخي لحيتك، هذه سُنَّةٌ على العين والرأس وهي سُنَّةٌ مُكرَّمة، أن تُقصِّرَ ثوبك أيضًا سُنَّة لكن أيُّ إنسانٍ يقوم بها، لكن هل تستطيع فِعْل سُنَّة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في بناء الأمة؟ هل تستطيع أن تفعل سُنَّة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في بناء العُلماء وبناء العقول الحكيمة والقضاء على الفقر وجعل المجتمع كلَّه في غِنى وسعةٍ وإيثارٍ وسخاءٍ وعطاءٍ وبذل المُهَجِ والأرواح في سبيل المُثُل العليا؟ أليست هذه مِنْ سُنَّة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ إلى آخره.

الغيبة والهمز واللمز تورث العداوة:
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) وهنيئاً لمن لا يكون هُمزةً ولا لمُزة، هل يوجد منكم مَنْ يهمِزُ ويلمِزُ في مجتمعاته وسهراته ومجالِسه؟ هل يستطيع رفع إصبعه؟ يخجل أليس كذلك؟ لكن غدًا إذا كَشَفَ الله هَمزكَ ولمَزكَ أمام الله في مواقف القيامة ومواقف النبيين تلك أصعب أم هنا؟ ترفع إصبعك وتقول أنا همَّازٌ ولمَّاز، أما هناك إذا كَشَفَك الله وأيضاً كلُّ همزُكَ ولمزُكَ عُرِضَ عليك أمام الله عزَّ وجلَّ أيُّ الموقفين أعظَم وأخطر وأخجل وأخزَى؟ فلنتُبْ لله يا بُنيّ مِنَ الهَمْز واللَّمْز وكلِّ شيءٍ لا يُرضي الله عزَّ وجلَّ، يا تُرى بذلك نكون رابحين في الدنيا أم خاسرين؟ ومهما اغتبت إنساناً إلا تبلُغ غيبتك له وتصل إليه، فماذا تكسِب؟ تكسِب عداوته، مثلما سبَبته سيسُبُّك ومثلما شتمته سيشتِمُك، ماذا ربحت؟ فلو كان الأمر تجارةً فهي خاسرة، هذا في الدنيا، وفي الآخرة؟ لا جعلنا الله مِنَ الأخسرين أعمالاً.

المال لا يشتري الخلود:
(الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ) يظنُّ (أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) هل سيبقى خالداً مُخلَّداً يفرح بالمال والأملاك وبالأبنية والتجارات والسيارات؟
والله سيُسحَبُ مِنْ رجليه، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرَّاً، ويُجرِّدُ مِنْ ثيابه ويُلبَّسُ كَفَنه ويُغسَّلُ لا في حوض الاستحمام المنزليّ بل على المُغتسل الخشبي، وإذا وضعوه في حوض الاستحمام المنزليّ لا يُفيده، ويحمِلُونه لا بالسيارة الحديثة، بل يحملونه بالنَّعش، السيارة الحديثة أول مرةٍ يركبُها في حياته، تمشي بلا وقودٍ ولا عجلاتٍ ولا مُحرِّك، فيا تُرى هل هيَّأنا أنفُسنا لهذه الساعة؟ القرآن يُحذِّرُنا إذا لقينا الله ونحن الهُمزة اللُّمزة، (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) هل تُحبون أن تلقوا الله بهذه الصفات؟ فالآن توجد فرصةٌ أن نتجرَّدَ مِنْ هذه الثياب المُنتِنة ونلبس لباسَ التقوى:

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
[سورة الأعراف]

ذلك للذين يُؤمنون بآيات الله.

الدنيا مطيَّة المؤمن:
(كُلًّا) معنى كلَّا يعني أيها الإنسان تُبْ إلى الله مِنَ الهَمْزِ واللَّمْز، ارتدِع عن الهَمْز واللَّمْز وعن أن تكون كمَن: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ) فلا يكون همُّك إلا جمعُ المال وتعداده، أما أن تجمع المال مِنَ الحلال وتصرِفَه في طاعة الله وتبنيَ به الإسلام بحسب الإمكان فهذا شيءٌ حَسَنٌ وعظيم، و:

{ المؤمنُ القويُّ خيرٌ منَ المؤمنِ الضَّعيفِ وفى كلٍّ خيرٌ }

[أخرجه مسلم]

المساجد والإنفاق في زمن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في ميادين الجهاد كان مِنَ الفقراء أم الأغنياء، الإنفاق على الفقراء كان ينزِلُ مِنَ السماء أم مِنَ الأغنياء؟ ف:

{ نِعمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالحِ }

[صحيح الألباني]

وأحدُهم سبَّ الدنيا في مجلِس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال:

{ لا تسبوا الدنيا فإنّها مطيَّةُ المؤمنِ عليها يبلغُ الخيرَ وبها ينجُو من الشرِّ(9) }

[الديلمي في مسند الفردوس]

فبها يصل رحِمَه وبها يُرضي ربه، الحج هل يكون بلا مال؟ والجهاد هل يكون بدون مال؟ وبناء مدارس العلماء هل يكون بدون مال؟ الإنفاق على الفقراء وكسْبُ الثواب هل يكون بدون مال؟

الردْعٍ والزَجْرٍ عن الصفات المذمومة:

كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)
[سورة العلق]

عن الهَمْزِ واللَّمٍز وجمعِ المال عشقاً وعبادةً له، أما أن يجمعَه ليستعمِله في مرضاة الله ويُسخِّره في تقوية دين الله فنِعْمَة المال ونِعَمُ الدنيا مَطيَّة المؤمن، (كَلَّا) لا تكن هُمزةً ولا لمُزة، ولا تكن مِنَ الذين: (جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ) عشقاً للمال ونسياناً لله وحقِّه، وارتدِع عن أن تكون ممن نسيَ الآخرة بشغفِكَ وعشقِكَ للمال، إذا جمعت المال وأغناك الله فاذكُر دائماً الموت والدار الآخرة لتجمع الدنيا والآخرة.
(كَلَّا) هذا حرف ردْعٍ وزَجْرٍ عن الصفات المذمومة التي ذُكِرت قبل هذه الكلمة، (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) إذا لم يترك الهَمْزَ واللَّمْزَ وعبادة المال ويذكُر الله ويُقبِل عليه ويُؤدِّي واجبات الله ويتعلَّم ما أوجَب الله أن يتعلَّمه، ويُحافظ على مدرسة الإيمان ومجالِس العِلم والذِّكر، ويبحث عن العالِم النبويِّ والوارِث المُحمَّديِّ الذي سعادته في الدنيا والآخرة مرتبطةٌ بارتباطه بالوارِث المُحمَّدي، إذا عاش الإنسان وملَكَ المليارات مِنَ الذهب والعمارات ذات السبعين والثمانين طابقاً ولم يكن له مَنْ يُعلِّمُه الكتاب والحكمة ويُزكِّي نفسه فهذا هو الخاسِر والمُفلس، سيخسَر مالَه وعُمره وأملاكه وذهَبَه وفضَّته وحُكمه وسلطانه ويلقى الله بعمله الذي لا يُبيِّضُ وجهه.
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عن هذه الصفات، فالهمَّاز واللمَّاز منكم هل تسمعون ما يقول الله؟ ستنتهون أم ستبقون همَّازين ولمَّازين؟ والذي جمع المال وعدَّده عبادةً للمال وعشقاً له لا ليؤدِّي حقَّ الله مِنه وحقَّ الفقراء والإسلام والعِلم، سنترك (جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ) لجمعه وتعداده إلى أن نجمعه مِنَ الحلال ونصرِفَهُ في مرضاة الله، (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) ستنتهون أم لا؟ الهمَّاز واللمَّاز، والذي ليس همَّازاً ولمَّازاً فليقُل الحمد لله، اللهم اهدنا إلى الطَّيب مِنَ القول، اللهم اجعلنا مِنَ الذين يقولون للناس حُسناً ولا تجعلنا ممن يجمع المال عبادةً له وأن نجعله إلهنا ومعبُودنا.

الحُطمة هي الأمر العظيم:
(كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) ما هي الحُطمة؟ هي الأمر العظيم، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ) أمرها كبير، قال: (نَارُ اللَّهِ) إذا أردت إشعال النَّار وإذا أشعَل الله ناراً فنار كلِّ واحدٍ على حسب قدرته وقوَّته وعَظَمَتِه، فنارُ الله عزَّ وجلَّ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[سورة التحريم]

(نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) ماذا يوجد في أعماق قلبك مِنْ آثامٍ ونوايا سيئةٍ وتخطيطٍ يُغضِب الله، تنوي أن تغدُر بفُلانٍ وتأكُل ماله وتخوض بعِرْضٍ ومالٍ وأمانةٍ مع فلان، فالنَّار ستدخل في خطايا نفسِك ويقاصِصُك الله عزَّ وجلَّ على ما أخفيته على النَّاس ولم يخْفَ على الله عزَّ وجلَّ.

معنى مؤصَدة:
(الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) عندما يدخلونها تُغلَّق أبوابها وتُوصَد (في عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) السجون عندما كانوا يُغلِقُونها لكي لا يهرب المساجين يضعون عموداً مواجه البابين ويربطُونهم، والعامود يكون ممدوداً مِنْ أول الأبواب إلى آخرها، هذا تمثيلٌ لمفهوم الإنسان في ذلك العصر، المقصود أنها دخولٌ بلا خروجٍ لمن حمَلَ هذه الأوصاف، ومَنْ سلَكَ هذا السلوك، ولم يُؤمن بكتاب الله إيمان اليقين والعمل، ثم لو عمِلَ وفهِمَ ولم يُعلِّم.. قام النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مرة خطيباً على المنبر فقال:

{ ما بالُ أقوامٍ لا يُفقِّهون جيرانَهم، ولا يُعلِّمونهم، ولا يَعِظونَهم، ولا يأمرونهم، ولا ينهونهم ؟! وما بالُ أقوامٍ لا يتعلَّمون من جيرانِهم، ولا يتفقَّهون ! ولا يتَّعِظون ؟! واللهِ لَيُعلِّمَنَّ قومٌ جيرانَهم، ويُفقِّهونهم، ويعِظونهم، ويأمرونهم، وينهونهم، ولَيَتَعَلَّمنَّ قومٌ من جيرانهم، ويتفقَّهون، ويتَّعِظون، أو لأُعاجِلنَّهم العقوبةَ }

[المعجم الكبير للطبراني]

(ما بالُ أقوامٍ لا يُفقِّهون جيرانَهم، ولا يُعلِّمونهم، ولا يَعِظونَهم، ولا يأمرونهم، ولا ينهونهم) إذا غاب عن بالهم شيءٌ يُذكرونهم ولا يأمُرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر، لمَ ؟ ما دُمت صار لديك فقهٌ ستُفقِّه وعِلمٌ ستُعلِّم، فصرت تفهَم أشياءً جارك لا يَعلَمُها ستُعلِّمُه وتُفَطِّنُه، (وما بالُ أقوامٍ لا يتعلَّمون من جيرانِهم، ولا يتفقَّهون ! ولا يتَّعِظون ؟!) إذا أمَرَهم أحدٌ ونَصَحهم كذلك لا يستجيبون، ثم قال: (لَيُعلِّمَنَّ قومٌ جيرانَهم، ويُفقِّهونهم، ويعِظونهم، ويأمرونهم، وينهونهم) ويتعلَّم ويتفقَّه (من جيرانهم، ويتفقَّهون، ويتَّعِظون، أو لأُعاجِلنَّهم العقوبةَ)(10).

المُعلِّم يُعلِّمُ والعالِم يُعلِّم والجاهل يتعلَّم:
ما هذا الدين يا بنيّ؟ هذا دينٌ وحضارةٌ وثقافةٌ وإحياء أمةٍ مِنْ الرميم، الجسم عظامه صارت تراباً فأتى الإسلام للإنسان وهو رميمٌ فأعاد له الحياة وأجمل وأقوى وأعلَمَ وأنضَر الحياة، فالمُعلِّم يُعلِّمُ والعالِم يُعلِّم والجاهل يتعلَّم، فقال: أو العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، المسلمون الآن يا بنيّ أليسوا مُقصِّرين؟ العالِم في التعليم، العلماء كثيرون ولا يُعلِّمون، والجهلاء كثيرون وكثيرون ولا يتعلَّمون، والنبي يقول: (أو لأُعاجِلنَّهم العقوبةَ) حال المسلمين الآن في ضعفِهم وتمزُّقِهم، اثنان وخمسون دولة، الإسلام هل يسمح أن تكون هناك اثنان وخمسون دولة؟ الولايات المتحدة كلُّ ولايةٍ بمثابة دولة، وأكبر مِنْ كثيرٍ مِنَ الدول الإسلامية الصغيرة ومع ذلك هي الولايات المتحدة الأمريكية، الصين أكثر مِنْ مليار صينيٍّ صاروا أمةً واحدة، يعني عدد الصين كعدد المسلمين وهم دولةٌ وأمةٌ واحدة، والله يقول:

إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
[سورة الأنبياء]

أين القرآن؟ هذه الآية وحدَها هل هي موجودةٌ على الواقع؟ أما المسلمون الأُوَّل وحَّدوا أنفسهم ووحَّدوا العرب وصاروا كلُّهم بلداً وأمةً ودولةً واحدة، هل اكتفوا؟ أضافوا الأمم الأخرى فوحَّدوا عشرات الأمم وجعلوا منهم أمةً واحدة:

{ لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ ، ولا لأبيضَ على أسودَ ، ولا لأسودَ على أبيضَ : إلَّا بالتَّقوَى }

[شعب الإيمان للبيهقي]

والتقوى عِلمٌ وعمل.

الأفضلية في الإسلام:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[سورة الحجرات]

(يَا أَيُّهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) فالتفرُّق والتميُّز بين القبائل وبين الذَّكر والأنثى للتفاضُل؟ قال لا: (لِتَعَارَفُوا) أما مِنْ حيث الأفضل (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ) مِنَ القبائل والأقوام حتى الذَّكر والأنثى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) يا تُرى إذا كان الرجل فاسِقاً عاصِياً آثماً أفضل أمِ المرأة إذا كانت أمَةً جاريةً سوداءَ مملوكةً أيُّهما أفضل عند الله، الذكر أمِ الأنثى؟ التفاضُل عند الله بالذُّكورة والأنوثة؟ كانت أمُّ الدرداء الصغرى تُلقي درسها في جامع الأموي، وكان مِنْ تلامذتها الذين يحضُرون دروسها الخليفة الإمبراطور عبد الملك بن مروان، ابن تيمية لما عدَّ أساتذته وشيوخه يعدُّ أربعةً مِنْ أساتذته كانوا مِنَ النساء، فهذا الإسلام العظيم الذي جعل مِنَ العبيد ملوكاً ومِنَ العرب الذين كانوا يعيشون في الصحراء جعلهم خيرَ أمةٍ أُخرِجَت للناس، الفُضيل بن عياض كان أفريقياً مِنَ النَّوبة، غليظ الشفتين، كان هارون الرشيد الإمبراطور العظيم يُقبِّل يده، فالفضل للألوان أمِ الأحسابِ أمِ للتقوى بالعِلم والعَمَل؟ فهذا الدين الذي يدفع إلى العِلم كلُّ عِلمٍ ينفعُك في دينك ودنياك فتُعلُّمه فريضةٌ على كلِّ مُسلم.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ) هل تَرضَون أن يرمِيكُم الله في الحُطمة؟ نَبْذاً، كيف عندما تأكل التَّمرة وتُصفِّي النَّواة ماذا تعمَلُ بالنَّواة؟ تبصُقُها، هذا ما اسمه؟ نَبْذٌ يعني سيُلقَى في نار جهنم كما تُلقى النَّواة مِنْ فَمِ آكلها، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) تؤاخذك على أعمالك الظاهرة وعلى الباطنة، (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) مُغلقةٌ ومُطبَقة (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)، فما رأيكم أن تكونوا مِنْ أصحاب الحُطمة أم جنات الفردوس نُزلاً؟ لكن هل تكون الجنات مجاناً؟

الجنة لها ثمن :
كلُّ شيءٍ له ثمن:

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
[سورة التوبة]

كانوا في ذلك الوقت قبل كلِّ شيءٍ ستدفع روحك ودمك ثمناً للجنة، الآن لا يوجد جهاد، جهاد الحرب هذا صار شأنه قائمٌ وراجعٌ إلى الدول، ولكن يوجد جهادان الجهاد الأكبر أن تنتصر على نفسِك وأهوائك وبُخلك وغَفْلَتك وآثامِك وجَهْلك ومعاصيك وآثامك بالتقوى والعِلم هذا هو الجهاد الأكبر، ثم الجهاد الكبير بعد الأكبر أن تقوم داعياً إلى الله، تُعلِّم النَّاس ما تعلَّمته وتُبلِّغُهم ما بَلَغك عِلمُه ومعرفته:

فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
[سورة الفرقان]


الرجوع إلى القرآن قولاً وعملاً:
فإذا تفهَّم كلُّ واحدٍ منا يا بُنيّ إسلامه بمعناه الحقيقي والله عندئٍذ أيُّ بلدٍ سواءٌ كان دمشق وحماة وحلب وسوريا وأندونيسيا، إذا رجعنا للقرآن عِلماً وعملاً، لا نقرؤه على الأموات، إذا الأموات بحالِ حياتهم لم ينتفعوا مِنَ القرآن فماذا يستفيدون منه بعد موتهم؟ إذا لم يأكل الميِّت طوال عمره البقلاوة بعدما يُنزِلونه في قبره لو بدَلَ التراب دفناه بقنطارٍ من البقلاوةٍ هل يستفيد شيئاً؟ كذلك إذا لم تستفِد طوال عمرك مِنَ القرآن بشيءٍ فبعد موتك هل تستفيد مِنَ القرآن؟
يُقال أنَّ ميِّتاً مات فأحضروا شيخاً ليقرأ على قبره، فجاء الميِّت في اليوم الثاني في المنام إلى أهله وقال لهم: لأجل الله أقبِّلُ أيديكم وأرجلكم لا تحضروا الشَّيخ إلى قبري ليقرأ، أحرقَني وذبَحني، لماذا؟ قال: لأنه لما يقول:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
[سورة هود]

يكون أنكرُ ونَكِير جالسين فيقولان: أيُّها الملعون ألم تكن مِنَ الظالمين؟ ويضربونني لساعةٍ الزمان حتى يكسروا عظامي، يقول الشَّيخ صدق الله العظيم، يأتي الشَّيخ الثاني:

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
[سورة البقرة]

فيقوم أنكرُ ونَكِير ويقولان: أيُّها الملعون ألم تكن آكل ربا؟ ضربٌ لساعةٍ من الزمان فيكسرون عظامي، يستريحون، فيأتي شيخ ثالث ويقول:

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاس يَسْتَوْفُونَ (2)
[سورة المطففين]

فيقوم أنكرُ ونكِير ويقولان: أيُها الملعون ألم تكن تلعب بالكيل والميزان؟ فيكسرون عظامي، يجلِسون ويقول الشَّيخ صدق الله العظيم، فيأتي الرابع: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ).
فالشاهد يا بنيّ جَعَلَ الله القرآن ربيع قلوبنا وتنعكِسُ معانيه في مرآة أعمالنا وحياتنا، سُئلت سيدتنا عائشة رضي الله عنها عن خُلق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت:

{ كان خُلُقُه القُرآنَ }

[صحيح الجامع للألباني]

مَنْ ينظر إلى أخلاقه يقرأ القرآن في أعمالِه وأخلاقِه، اللهم اجعل القرآن أعمالنا وأخلاقَنا وحياتَنا ودستورَنا، واجعلنا مِنَ العُلماء العالمِين المُخلِصين المقبُولين عند الله عزَّ وجلَّ، وصلَّى الله على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم.

الحواشي:
(1) الجامع الصغير للسيوطي، رقم: (2/248).
(2) سنن الترمذي، أبواب الزهد، باب/، رقم: (2317)، سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، رقم: (3976).
(3) سنن أبي داود، أول كتاب الأدب، باب في الغيبة، رقم: (4875).
(4) سنن الترمذي، أبواب البر والصلة، باب ما جاء في تعظيم المؤمن، رقم: (2032)، ونصه: ((عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى البَيْتِ أَوْ إِلَى الكَعْبَةِ فَقَالَ: مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ)).
(5) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، رقم: (4330)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام ...، رقم: (1061).
(6) صحيح مسلم في كتاب التعبير، باب العين الجارية في المنام، رقم: (2682).
(7) سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641). والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682). سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223).
(8) حلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني، (9/279).
(9) رواه الشاشي في مسنده (1/387، رقم 383)، والديلمي في مسند الفردوس (5/10، رقم 7288) عن ابن مسعود. قال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر».
(10) المعجم الكبير للطبراني كما عزاه له الهيثمي في بغية الرائد (1/403)، ومعرفة الصحابة لابن منده كما عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/301).