تفسير سورة الغاشية 01

  • 1995-11-24

تفسير سورة الغاشية 01

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمداً يُوافي نعمه ويُكافئ مزيده، وأفضل الصلوات وأتمُّ التسليم على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّدٍ وعلى آله وصحْبِه أجمعين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيِّدينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه مِنَ النَّبيين والمُرسلين، وآل كلٍّ وصحْب كلٍّ أجمعين، وبعد:

التعايش مع الآخرين:
تعرفون قصة السارق المسلم مع المتهم اليهودي، وكان اليهوديُّ بريئاً، وكيف أنَّ الوحي والقرآن دافع عنه وأثبت له براءته، ورجَّع التهمة على السارق المسلم، والانتصار للوثنيّ، الوثني لا يعبد الله عزَّ وجلَّ عكس اليهودي الذي يعبد الله عزَّ وجلَّ لكنْ بترتيبٍ معين.
فلو صار التعريف بالإسلام على المستوى الأوسع في الأقمار الصناعية، وفي كلِّ يومٍ ساعةٌ للتعريف بالإسلام والتعريف عنه، فهذا أقوى مِنْ مدافعنا وطائراتنا ودبابتنا وصواريخنا.. تلك صواريخ للتدمير والمآسي والسفالات والأيتام والفقر والخراب.. أمَّا بصاروخ التعريف بالإسلام تكون المحبة بدل العداوة وبدل الجفاء، ويكون الإقبال بدل الحروب ويكون التعاون بدل ما يُنظَر إلى العالم الإسلامي بالنظرة المتخلِّفة.
فيُنظَر للإسلام النظرة المتقدِّمة فوق تقدُّمهم هم لم يتقدموا وإنما تقدَّمت الآلة كان مركوبهم حيواناً حصان أو حمار فصار مركوبهم حديداً بسرعة أكثر وصار الحمار يطير، الذي تطور هو الحمار أمَّا سائق الحمار فلا يزال في حيوانيته وفي وحشيته، كان الإنسان يستضيء بالشمعة فصار يستضيء بالكهرباء وكان الطريق طيناً فصار مُعبّداً، فالذي ترقَّى هي الأشياء المادية غيَّر الإنسان؛ هل ترقَّى الإنسان مِنْ قاسٍ إلى رحيم؟ ومِنْ ظالمٍ إلى عادل؟ ومِنْ معادٍ لكلِّ النَّاس -إلَّا أنا- إلى أنْ يُحب كل النَّاس ويُحب الخير لهم جميعاً؟ وهل انتقل من استئثاره بالخير لنفسه في الماديات والمعنويات إلى أنْ يحب الخير لكل النَّاس؟ لا،الإنسان في تردٍ، ولو ركب الطائرة فالدبور يطير والبعوضة تطير، الإنسان تقدُّمه في إنسانيته وأخلاقه وحكمته وروحانيته وربانيته، وأنْ يُحب للناس ما يُحبه لنفسه، هل تتذكرون ذكرت لكم حديثاً وَرَد في الأثر، كان صلَّى الله عليه وسلَّم بعد كل صلاة يقول: ((اللَّهم ربنا وربَّ كلِّ شيء، أنا أشهد أنَّك أنت الإله وحدكَ لا شريك لك، وأنَّ مُحمَّداً عبدُك ورسولك، وأنَّ عبادَك كلَّهم أخوة))، وإذا أتبعنا الحديث بالحديث الآخر:

{ لا يُؤمِنُ أحَدُكم حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه (1). }

[صحيح البخاري]


أمثلة من تعامل الصحابة مع الآخرين:
كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه إذا ذبح ذبيحةً في بيته وكان له جارٌ يهودي، كان يقول: "هل أهديتم مِنْ ذبيحتنا لجارنا اليهودي؟"، ففي الإسلام إذا كان المواطن غير مسلم وإذا كان مواطناً شريفاً يتعامل مع المواطنين الآخرين تعامل المواطن مع المواطن فلهم ما لنا مِنَ الحقوق وعليهم مِنَ الواجبات ما علينا، تتذكرون أمير حمص عندما قدَّم استقالته لسيِّدنا عمر رضي الله عنه -أظن اسمه سعيد بن عامر رضي الله عنه- وكان مِنْ خِيار الصحابة ورعاً وتقوىً وعدالةً، فسأله: لماذا؟ قال له: غضبت مِنْ نصرانيٍّ فقلت له: أخزاك الله، فخيشت يوم القيامة أنْ يُحاسبني الله عزَّ وجلَّ على حديث النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذي يقول:

{ مَنْ آذَى ذمِّيًّا فأنا خَصمُه، ومَنْ كنتُ خَصمَه خصمْتُه يومَ القيامةِ }

[صحيح البخاري]

(من آذَى ذمِّيًّا) ما معنى ذميّ؟ يعني: أعطاه المسلمون ذمّة الله عزَّ وجلَّ وعهده وعهد رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ألَّا يُظلموه وأنْ يُعطوه حقوقه وأنْ يُعاملوه كما يُعاملون أنفسهم، أعطوه ذمَّتهم وشرفهم وعهدهم، فلذلك كون الذمة بمعنى الشرف والعهد نُسِبَ إلى الذميّ، فالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (مَنْ آذَى ذمِّيًّا فأنا خَصمُه، ومَنْ كنتُ خَصمَه خصمْتُه يومَ القيامةِ)(2)، لن يكسب الدعوة إذا كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو خصمه والله عزَّ وجلَّ هو القاضي، فهل يُخاصم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بباطل؟
هذا الإسلام المجهول.. هناك أناسٌ في أمريكا يُظهرون الإسلام بمظهر التعصب والجفاف، يعمل لحيةً ولفةً هذا شيءٌ مِنَ السنة ليس عليه شيء؛ لكنَّ اللفة واللحية فأبو جهل كان له لفةٌ ولحية، وأبو لهب كان له لفةٌ ولحية، هذا كان شعار العرب عموماً وشعار الفُرس الذين كانوا يحلقون اللحى ويتركون الشوارب، والآن أوروبا حلَقَت الكل إلى آخره..

الإسلام هو الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ:
الإسلام أمره عظيم، وكلمة إسلام تعني الاستجابة لكلِّ أوامر الله عزَّ وجلَّ ونداءاته والخضوع لكلِّ ما يدعو له الله عزَّ وجلَّ، فإنْ لم تكن أنت بهذا المستوى فلست مسلماً وإذا ادّعيت الإسلام وأنت لست مسلماً فاسمك منافق، فإذا قال الله عزَّ وجلَّ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
[سورة الأحزاب]

أليس هذا أمراً فهل استجبت لهذا الأمر وهل لبَّيت هذا النداء؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) فإذا فعلت فقد أسلَمت لهذا النداء واستجبت فأنت به مسلم وأنت له مُستجيب.

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
[سورة النور]

هذا أمر، فهل استجبت له؟ هل غضضت بصرك؟ فإنْ فعلت فأنت به مسلم، ها قد كسبت نقطتين في الإسلام.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
[سورة البقرة]

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
[سورة الإسراء]

هل استجبت؟ وتواضعت لهما، لم تنظر بهما نظرةً تزعجهم أو كلمةً تؤذيهم، فإنْ استجبت فقد أسلمت لهذه الآيات، وإنْ لم تستجب فقد كَفَرت، وإذا ادَّعيت الإسلام وأنت بهذا الحال فأنت منافق، تدعي الإسلام ولا تستجيب له هذه صفة المنافق.

ما أكثر ما يترك المسلمون اليوم من أحكام الإسلام:
لذلك إذا كان الإسلام ألف سهمٍ فكم سهماً نحن آخذون مِنَ الإسلام وكم سهماً تاركين مِنَ الإسلام؟ فالقرآن كلُّه مِنْ أوَّله من سورة الفاتحة إلى سورة النَّاس، هل فهمت هذا القرآن كلمةً بكلمة وجملةً بجملة لكي تستجيب لها وتحوِّلها مِنْ قراءةٍ إلى عملٍ وإلى خلق؟ فإذا قال الله عزَّ وجلَّ لا تشربوا الخمر فإذا انقطعت عن الخمر فقد أسلَمت:

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
[سورة الإسراء]

فإذا تُبْتَ عن الزنا فقد أسلَمت بهذا الحكم القرآني:

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
[سورة النساء]

الإحسان إلى الجار، فإذا أحسنت إلى الجار فقد أسلمت بهذه الآية، وإذا لم تُحسِن إلى الجار فقد كفرت بهذه الآية وإذا ادَّعيت أنَّك مسلمٌ ولم تتخلَّق ولم تستجب فأنت منافق، فيا تُرى هل أكثر النَّاس كافرون؟ الكافِر هو الذي يترك أوامر الإسلام ولا يدَّعي الإسلام هذا اسمه كافر؛ أمَّا إذا ترك أوامر الإسلام وادَّعاه فاسمه منافق، والمسلم الذي عَرَف الإسلام وفهِمَه فيقرأ القرآن للفهم، كيف تقرأ الجريدة؟ وهل تقرأ الجريدة للثواب أم للبركة؟ يسألونك ماذا في الجريدة فتقول لهم كلَّ ما قرأت، وإذا سألوك ماذا فهمت مِنَ القرآن، فهذا أكبر الذنوب وأكبر الأخطار على إيمان الإنسان:

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
[سورة البقرة]

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
[سورة البقرة]

إلى آخره..

الحرب على العداوة بالحب والتعاون:
لو صار هناك تعريفٌ بالإسلام فما أحوج الدول العربية إلى التعريف بالإسلام.. ألا تريد أنْ تُحارب عدوَّها واستعمارها، الحرب في أمريكا؛ ولكنْ ليست حرب تدميرٍ وتخريبٍ وسفكاً للدماء؛ بل حربٌ على العداوات وحربٌ على الأحقاد وحربٌ لتحقيق التعاون والحب، فإذا صارت الكنيسة مسجداً وصار الأمريكي يُقبل يد الشَّيخ وصار يأتي إلى الكعبة، فهل هذا النصر أفضل؛ أم إذا خربنا المدن وقتلنا الأطفال ويتَّمنا النساء في الطرفين، أيُّهما أفضل؟ وإذا صاروا مُريدين وقدَّموا لنا كلَّ التكنولوجيا، يعني المُريد يقول له الشَّيخ ماذا عندك من التكنولوجيا فهل سيبخل على الشَّيخ بشيءٍ مِنَ التكنولوجيا؟ لا يعطونا شيئاً ويُخفون عنا كلَّ شيء، فالحاجز الذي بيننا وبينهم جهلهم بالإسلام، ويوجد إسلاميون لأمرٍ ما لا نعرفه.. لا نعرف إذا كان عقله عقل مراهق بهذه السلبية التي يقومون بها مِنَ الإرهاب وغيره.. وهذا لا يُقرُّه الإسلام، وإنْ كان غباءً فالغباء أيضاً لا يُمثِّل الإسلام، فلو عرَضَ هؤلاء الإسلاميون الإسلامَ بجماله وروحانيته وبأخلاقه وبشرح قرآنه، والله أمريكا أقرب إلى الإسلام مِنْ كثيرٍ ممَّن وُلِدوا مسلمين ومِنْ خمسين أبٍ مسلم؛ لأنَّ أولئك مِنْ أمّةٍ تربَّت على تعشُّق الحقيقة والبحث عنها وهكذا في أوروبا وفي اليابان وإلى آخره..

الغاشية اسم من أسماء القيامة:
نرجع إلى درسكم في سورة الغاشية، فالغاشية هي اسمٌ مِنْ أسماء يوم القيامة، ولها أسماءٌ كثيرة فتُسمَّى بالقارعة وتُسمَّى الواقعة وتُسمَّى القيامة وأسماءٌ كثيرةٌ متعددة ومِنْ جملتها اسمها الغاشية، الغاشية مثل غطاء الرأس عندما يضعه الإنسان ليُغطِّي رأسه فكذلك سميت الغاشية لأنَّ ما فيها مِنْ أهوالٍ ومِنْ أخطارٍ وعواقبٍ لشقاءٍ أبديٍّ للإنسان أو نعيمٍ أبدي، ولا يعرف الإنسان مصيره إلى أيِّ النتيجتين والنهايتين؛ فمع الالتحام ومع عَرْضِك على محكمة الله عزَّ وجلَّ، وتسوقك الملائكة إلى المحكمة، وأضابير أعمالك مِنْ يوم بلوغِك إلى يوم وفاتك كلها مُسجَّلة في صحف الملائكة وستعرض أعمالك على الله عزَّ وجلَّ، ويُذكِّرك الله عزَّ وجلَّ بنعمه مِنْ حين لم تكن شيئاً مذكوراً إلى أنْ صرت حيواناً منويّاً في النطفة، إلى أنْ جعل لك السمع والأبصار والأفئدة، وإلى أنْ خلقَ لكَ الشَّمس والقمر والفواكه والثمر والزوجات والوَلَد إلى آخره.. فبماذا شكرتني؟

إرسال الله الرسل والشرائع للإنسان لتكون عليه حجة:
أرسلت لك أشرف ملائكتي وأشرف أنبيائي يحملون رسالاتي إليك، فماذا استجبت لأوامري في رسالتي، وماذا عملت بوصاياي، وماذا عملت بقانوني، فهذا في الحساب؛ أمَّا في الجزاء:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[سورة التحريم]

فلمَّا يرى الإنسان هذه المواقف وهذه المصاعب وهذه المشاهدات:

يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
[سورة الدخان]

الخوف والرعب العظيم هذا قبل أنْ تتبيَّن النتائج؛ أمَّا إذا تبيَّنت نتيجة الإنسان ممَّن غضب الله عزَّ وجلَّ عليه، وممَّن أعرَضَ عن الله عزَّ وجلَّ فأعرَضَ الله عزَّ وجلَّ عنه، وممَّن لم يبالِ بأوامر الله عزَّ وجلَّ فلا يُبالي الله عزَّ وجلَّ به، وممَّن أعرَضَ عن أوامر الله عزَّ وجلَّ فأعرَضَ الله عزَّ وجلَّ عنه:

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
[سورة التوبة]


أهوال القيامة:
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ هل تعرِفُ ما هي أهوالها، وما هي أخطارها، وهل تعرف أين مصيرك؟ قد تكون في الدنيا ملِكاً أو قد تكون عظيماً وقد تكون غنياً كبيراً وأينما تذهب يُعظِّمك النَّاس ويُكرموك ويُحيّوك في بيتك وفي الشارع وكذا.. أتى الملك وأتى الوزير وأتى البيك وأتى القاضي.. وهناك يقول صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ يُحشَرُ المتَكَبِّرونَ يومَ القيامةِ أمثالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجالِ يغشاهمُ الذُّلُّ من كلِّ مَكانٍ ، يُساقونَ إلى سجنٍ في جَهَنَّمَ يسمَّى بولُسَ تعلوهُم نارُ الأَنْيارِ يَسقونَ من عُصارةِ أَهْلِ النَّارِ طينةَ الخبالِ (3) }

[سنن الترمذي]

جسمه بحجم النملة الحمراء الصغيرة؛ لكنَّ شكله بني آدم، لتطأه أقدام أهل الموقف، بمقدار ما كان يتعالى ويتكبَّر على مخلوقات الله عزَّ وجلَّ في حال الدنيا، فهكذا يذله الله عزَّ وجلَّ جزاء كِبره وتعاليه على مخلوقات الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة.

يوم يشهد على الإنسان كل شيء:
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
[سورة النور]

ماذا قلت في السهرة وماذا تكلّمت في السيارة، وبماذا اغتبت فلاناً، وبماذا طعنت عرض فلان، وكيف تعدَّيت على فلان؛ فكلُّ أعمالك مسجّلةٌ على شريط فيديو إلهي، تُعرض أعمالك أمام الله عزَّ وجلَّ وأمام الأنبياء في المحكمة الإلهية ويقول الله عزَّ وجلَّ لك: أما أرسلت إليك رسولي؟ أما أنزلت عليك وحيي وقرآني؟ أما فتحت لك المساجد؟ أما هيَّأت لك العُلماء والشيوخ والمربِّين؟ أما أنعمت عليك بنعمة السمع والبصر والزوجة والأولاد وكذا.. فكيف شكرتني على نعمي عليك؟ ماذا سيكون جوابه؟ إذا قَتل فحُكم المحكمة:

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)
[سورة الحاقة]

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) يجعلون الأغلال والجنازير في رقبته، (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أدخلوه إلى جهنم، (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا) طولها (سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) يشكونه في سلسلة إلى جهنم مثلما يُشكُّ اللحم ويشوى.

من شك بكلام الله عزَّ وجلَّ فهو كافر:
هذا كلام الله عزَّ وجلَّ فإنْ شككت بحرفٍ منه فأنت كافر، وإنْ لم تؤمن به ولم تتُب إلى الله عزَّ وجلَّ ولا ترجع إلى صراط الله عزَّ وجلَّ، ليتكَ كنتَ مجنوناً؛ فالمجنون ليس عنده إدراكٌ هو معذورٌ أمَّا أنت فعاقلٌ وتعرف بأنَّ الماء ماء، والأرض أرض، والسماء سماء ولا تعمل بمقتضى عقلك! فسيُعاملك الله عزَّ وجلَّ بالمعاملة حسب ما نطَقَ في قرآنه الكريم، فيا تُرى هل لك خبرٌ لـمَّا قرأت ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ يكون لديه خبر، هل عرفت ما الذي يحدث في البلد، هناك أمرٌ عظيمٌ في البلد، فمعنى ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ هل تعرف ما هي الغاشية؟ الغاشية أمرٌ عظيمٌ يكون فيه مستقبلك إلى أبدِ الآباد، السجين في سنةٍ أو سنتين أو عشرة سنوات؛ أو خمسة عشر سنةً أو بالموت يتخلّص مِنْ سجنه؛ أمَّا هناك:

إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
[سورة طه]

(لَا يَمُوتُ فِيهَا) فيستريح (وَلَا يَحْيَى) الحياة الهنيئة السعيدة.

التهيّؤ للغاشية:
فذهب مِنْ عمرك القسم الكبير ولم يبقَ إلَّا القليل فمتى ستستدرِك وتتوب إلى الله عزَّ وجلَّ ومتى ستتهيَّأ للقاء الغاشية؟ نقرأ الغاشية فإذا سألته ما معنى الغاشية لا يعرفها، ولماذا سُمِّيت بالغاشية؟ لأنَّ عذابها وخوفها ورعبها وعذابها.. قال الله تعالى:

فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
[سورة المزمل]

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا) كيف ستنجون مِنْ يومِ ومِنْ أهواله (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) الطفل الذي عمره سنتان يشيب مِنْ أهوالها، فهل خوف الكبير أكثر أم الصغير الذي لا يدرك؟ يا تُرى إنْ شابَ الذي عمره سنتان فهل تُفكِّر أنت في ذلك الموقف ماذا سيحدث لك؟ أنت ستشيب ويسقط شعرك وكذلك جلدة رأسك إنْ لم يسقط رأسك مِنْ شدة الخوف، فهل استعددت لهذا اليوم؟

سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ:
وهناك أناسٌ في ذلك اليوم:

{ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ (4) }

[صحيح البخاري]

(سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ) جالسون على المنصة إلى جانب الرئيس أو إلى جانب الملِك عن اليمين وعن الشمال.
(سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ) انظروا كيف قدَّر الإسلام رجلَ الدولة وكم كرَّمه وكم قدَّسَه فجعله في أعلى درجات القرب إلى الله عزَّ وجلَّ، إذا عَدَل وأنصَف ولم يظلم وأدَّى إلى كلِّ ذي حقٍّ حقه، ولا يُشتَرط بأنْ يكون الإمام العادل رئيس جمهورية فقط فلو كان شرطيّاً يخاف الله عزَّ وجلَّ ويتقيه ولا يظلم ويحافظ على النظام ويحافظ على القانون ويرفُق بالنَّاس فقد يدخل في هذا الوصف، ولو كان هذا المقام له درجاتٌ لكنَّ العدل يرفع شأن العادِلين.
(وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللهِ) مِنْ أول شبابه أكرَمه الله عزَّ وجلَّ برفاقٍ صالحين وبمدارس العِلم والفكر والتقوى حتَّى أمضى عمره ولقيَ ربه، نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا منهم، (وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ)كيف يكون قلبه معلقاً بالمساجد؟ بأعمدتها أم بأضوائها أم بسجادها، متعلِّقٌ بالحكمة في المساجد وبمجالس العِلم والتقوى والتزكية في المساجد إلى آخر الحديث.. وهناك أناسٌ:

يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
[سورة القمر]

ومِنْ شعورهم:

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)
[سورة الرحمن]

(بِالنَّوَاصِي) بشعر رأسه (وَالْأَقْدَامِ) تُمسكُه الملائكة مِنْ شعر رأسه ومِنْ قدميه فيصير مثل الكرة ويرمونه فيتدحرج مِنْ رأس جبل جهنم إلى قعرها وأسفلها.

المراد من حديث الغاشية الإيمان بها:
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ هل آمنت بالغاشية، هل آمنت بالقيامة، هل آمنت بالواقعة، وهل آمنت بالقارعة؟ نرى أكثر المسلمين الذي يغشّ والذي يكذب والذي يأكل الحرام وينظُر الحرام والذي يجلس في مجلس الحرام ويستمع إلى الكلام الحرام ولا يتورَّع عن فعل محارِم الله عزَّ وجلَّ، ويُهمل فرائض الله عزَّ وجلَّ ولا يُبالي بها فهل آمَنَ هذا بالغاشية، وهل آمن بالقيامة وهل آمن بالقرآن، وهل آمن بأنَّ ما أخبَرَ به النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان صادقاً وهل آمن بأنَّ هذا يُكلِّمه الله عزَّ وجلَّ؟ فإنْ لم يُؤمن فهذا ليس بمؤمن ولم يشُمَّ رائحة الإيمان.

وجوب طلب الإسلام من مدارس الإسلام:
لماذا؟ هل يصير أحدكم نجاراً عند بائع الصّبار؟ وإذا أتى شخصٌ إلى بائع الصبار فهل سيصير نجاراً؟ وإذا كان عند الحداد فهل سيصير نجاراً؟ وإنْ كان عند البستاني فهل سيصير صيدليّاً؟ فإذا لم يطلب الإسلام مِنْ مدارس الإسلام ومِنْ مدارس الإيمان، وإذا لم يفتش عن المعلِّم المربِّي والمزكي الحكيم ولو حبوًا على يديه ورجليه، ولو على الثلج والوحل والمطر ولو لمدة عشرين يوماً أو خمسين يوماً حتَّى يصل، وهكذا فعل المسلمون في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين هاجروا مِنْ مكة إلى المدينة، لماذا؟ لينتسبوا إلى مدرسة القرآن والإسلام والإيمان وليكونوا مسلمين حقّاً، فالذي يصير نجاراً يُهاجر لصحبة معلّم النجارة، والحداد يُهاجر إلى معلِّم الحدادة، والصيدلي إلى كلية الصيدلة، والحشاش والسكير سيُهاجر إلى الخمارات، هل أصحابه مِنَ المهاجرين والأنصار؟ بل مِنَ الحشاشين والسكارى:
عَنِ المَرءِ لا تَسأَل وَسَل عَن قَرينَهُ فَكُلُّ قَرينٍ بِالمُقارِنِ يَقتَــــــدي
{ طرفة بن العبد }

النَّاس في الغاشية على قسمين:
قال: ما هو حديث الغاشية؟ قال: لها أحاديث كثيرة، قال: فحدِّثنا عن بعضها. قال: النَّاس على قسمين: قسمٌ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾، قسمٌ مِنَ النَّاس يظهر بالذل والهوان والخوف والرعب وسواد الوجه مِنْ سوء أعمالهم وفسقهم وكُفرهم وجورهم وطغيانهم وغشِّهم وإيذائهم لمخلوقات الله عزَّ وجلَّ وتركهم لفرائض الله عزَّ وجلَّ وارتكابهم لمحارم الله عزَّ وجلَّ، وإذ يُحشرون يوم القيامة:

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
[سورة آل عمران]

يخرج مِنْ قبره ووجهه أسودٌ مثل الفحم، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾ فلمَّا يظهر على وجهه أثر الغضب الإلهي والسواد من الكفر والآثام والمعاصي يرفع رأسه أم يكون رأسه منخفضاً؟ ﴿وُجُوهٌ﴾ أولئك النَّاس ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ يعني ذليلةً مهانةً وحقيرةً نادمةً ومخزيةً، فيا تُرى عندما قرأت هذه السورة هل قدَّرت ماذا سيكون وجهك يوم الغاشية؟
يا تُرى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ أم ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ أو:

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
[سورة عبس]

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) مثل الفجر عندما يطلع ويُسفِر ويطلع النور، هناك وجوه يخرج النور في وجهها يوم القيامة مثلما يخرج في الفجر عند إسفاره وانفجاره، (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ) غبرة الذل والمعاصي والكفر والآثام، (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) غبارٌ مع سواد (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ).
لا تظن أن الكافر هو الذي لا يكون مسلماً مجوسيّاً أو كذا.. لا إذا تركت الصَّلاة فأنت بها كافر، وإذا لم تغضَّ بصرك عن الحرام فأنت كافرٌ بـ:

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
[سورة النور]

وإذا كنت تغتاب النَّاس فأنت كافرٌ بقوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
[سورة الحجرات]

وإذا كنت لا تؤدي الزكاة فأنت كافرٌ بكلِّ آيات الزكاة، ولذلك قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمِ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ (5) }

[سنن النسائي]


الرجوع إلى الله قبل ساعة الموت:
لذلك يجب أنْ نكتسب الفرصة قبل أنْ يُفاجئنا الموت الذي لم يُحدد له وقتٌ معينٌ يأتي به إليك، أخونا أبو غنيم عليه رحمة الله كان مِنْ كبار الإخوان والمحبين، حضر الدرس يوم الجمعة وهو راجعٌ بسيارته إلى منزله، في السيارة توفاه الله عزَّ وجلَّ، لا يعاني مِنْ شيء يتحدث مع أولاده وقال لابنه وقد مرَّ على محمصة: انزل واشترِ لنا بعض الموالح، قال نزلت وأخذت كيلو ورجعت كان قد سلَّمها في السيارة، فإذا حدثت معك هذه الحادثة وإذا لم تحصل في السيارة فسوف تحصل بغيرها، فإذا أتاك الموت -وهذا ممكنٌ في كلِّ لحظة- إذا أرسلوا لك خبراً أنْ جهِّز نفسك تريدك المخابرات، فإذا كنت ترتدي ثياباً متسخة فهل ستبقى على حالتك أم ترتدي اللباس المناسب؟ وإذا لم يُعيِّنوا لك الوقت يعني في أي لحظة قد يستدعوك فلهذا تكون جاهزاً لذلك يجب أنْ نكون مُهيِّئين، فيجب إذا أتانا الطلب للقاء الله عزَّ وجلَّ أنْ نكون مُهيِّئين لاكتساب كمال رضا الله عزَّ وجلَّ وللتوبة الكاملة وللصدق في إيماننا فنلقى الله عزَّ وجلَّ مع الصادقين ومِنَ الصادقون.

خير الزاد التقوى:
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ هل استعددت للغاشية؟ وهل تزوَّدت:

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
[سورة البقرة]

هل تزوَّدت للغاشية؟ وهل تعلَّمت وهل علَّمت؟ يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ليسَ منِّي إلَّا عالِمٌ أو مُتعلِّمٌ (6) }

[مسند الفردوس للديلمي]

فهل هاجرت إلى وارِث رسول الله كما هاجر أصحابه رضي الله عنهم إلى نبيِّهم؟ رحِمَ الله أم حسن التي كانت تساعدهم في البيت -رحمة الله عليها وغفر الله عزَّ وجلَّ لها - كانت بلدها على حدود تركيا، فمرةً سألتها ما الذي جاء بك إلى الشام؟ قالت لي: والله يا شيخي أنا كنت أستمع إلى حديثك في الراديو أنا وزوجي أبو الحسن مرةً ومرةً، فقال لها زوجها: والله يا بنت الحلال أنا أريد أنْ أرى هذا الشَّيخ لقد أحبه قلبي فأريد أنْ أنزل إلى الشام وأراه، فأتى إلى الشام وجاء إلى الجامع ورجع إليها وقال لها: والله يا امرأة لا يوجد أمامنا إلَّا الهجرة إلى الشَّيخ مِنْ حدود تركيا ورحمة الله عليها وغفر الله عزَّ وجلَّ لها ولنا كان حبها حبّاً بلا حدود، كانت تقول والله لو أخرجتموني ولو رميتموني والله سأضرب الباب بالأحجار، رحمة الله عليها وغفر الله لها، هذه الهجرة لأنَّهم عرفوا بعض المعرفة وعن بعد، فنسأل الله عزَّ وجلَّ ألَّا يترك غطاءً على عيوننا ولا على عقولنا أو على قلوبنا، نهر بردى ينبع من الزبداني ولا ينتفع منه سكانها بشيءٍ وأرض الغوطة البعيدة هي التي تشرب منه، فإذا لم تتواضع الأرض لماء الحياة لا تنقلب صحراؤها إلى جنة.

التحضير والاستعداد ليوم الغاشية:
فما معنى ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ يعني هل استعددت للغاشية؟ هل جردت أعمالك وفتَّشت ما هي أعمالك وحسناتك وسيئاتك:

فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة (7)
[سورة القارعة]

وهل كثُرَت حسناتك على سيئاتك؟ وهل محوتَ سيئاتك بالحسنات؟ قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ اتَّقِ اللَّهِ حيثُ ما كنتَ، وأتبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ النَّاسَ بخلقٍ حسنٍ (7) }

[سنن الترمذي]

فإذا قال الله عزَّ وجلَّ لك: هل فهمت الغاشية، وهل علِمتَ حديث الغاشية؟ أجل، وهل استعددت الغاشيةوماذا حضَّرت لها؟ يا تُرى هل أنت واثِقٌ مِنْ أنَّ حسناتك أكثر مِنْ سيئاتك، ونورك أكثر مِنْ ظلامك، وإرضاؤك لله عزَّ وجلَّ أكثر مِنْ سخطك، وطاعاتك أكثر مِنْ ذنوبك، فهل تُبْتَ مِنْ خطاياك، وهل تركت قرناء السوء واستبدلتهم بالصالحين، وهل تركت مجالس الجهل والإثم إلى مجالس التقوى والعلم والفكر؟ هذا معنى ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ فهل آمنت بها، وهل عمِلت بمقتضاها، وهل استعددت للسفر إليها؟ ما هي الغاشية؟ أنا لا أعلم.

العظة بذكر حال النَّاس يوم البعث وحالهم يوم الغاشية:
قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ كيف إذا كان شخص قاتلاً وأمسكوا به وربطوه ويضربونه بالسياط فكيف يكون رأسه؟ و عندما يدخلونه إلى التحقيق هل يكون رأسه مرفوعاً ومبتسماً ضاحكاً أم ذليلاً حقيراً يتمنى أنَّه لم يُخلق؟ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ طوال حياتها في الدنيا في العمل، والنَّصَب وهو التعب، تتعب في دنياها وفي النهاية عند موتها فكلُّ أعمال دنياها:

وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
[سورة الفرقان]

جمع الثروة والجاه وصار وزيراً وملِكاً وسلطاناً ومليارديراً صار وصار.. ﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ والنهاية (فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) متى ما وضعوه في الكفن والقبر فكلُّ الذي كان يفرح به وأضاع دينه وآخرته وجنَّته ورضا ربه من أجله فقده وبقي أمامه الغاشية، فهو مِنْ أي نوعٍ مِنَ الناس في الغاشية؟

ضياع عمل الدنيا:
قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ﴾ عملها في الدنيا التي نصَبَت وتعِبَت وشقيَت به وهلَكَت كله صار هباءً منثوراً، ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ إلى نار جهنم يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ نارُكُمْ جُزْءٌ مِن سَبْعِينَ جُزْءًا مِن نَارِ جَهَنَّمَ (8) }

[صحيح البخاري]

هناك:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[سورة التحريم]

تصبح الحجارة حطباً فتحرِقُها وتحترق بها، فكيف سوف تتحمَّلها وأنت لا تستطيع أنْ تتحمَّل لذعة سيجارة.

جزاء الصبر على المعصية:
يُقال بأنَّ رجلاً مِنَ الصالحين كان فلاحاً أو راعٍ أو كذا.. في المساء وهو راجعٌ إلى قريته نزل المطر والثلج ورأى امرأةً والظاهر أنها انقطعت مِنْ كثرة الثلوج فلم تجد مأوىً لها إلَّا زاوية منزل أحد العباد في البرية فأوت إلى غرفته، وخلوة الرجل بالمرأة الأجنبية شرعاً لا تجوز ولكنْ في مثل هذه الحال مِنَ التهلكة فالضرورات تبيح المحظورات، فاستغاثت به وفتَح لها وجلست، بعد ساعة لم ترَ إلَّا ووضع إصبعه على نار الشمعة فحرق رأس الإصبع وتألَّم كذا إلى آخره فتعجَّبت منه، وبعد ساعةٍ أحرق إصبعه الآخر، إلى أنْ طلع الفجر كان قد حرَقَ أصابعه كلها، والمرأة خائفة وقالت في نفسها: أنَّ هذا مجنون وقد يتعدَّى عليها إلى آخره.. فلمَّا أصبح الصباح خرج أهلها ليتفقدوها حتَّى وصلوا إلى مكان هذا الرجل العابد، سألوه قال لهم موجودة، الخلاصة قالوا لها: إنْ شاء الله لم يتعدَّ عليكِ. قالت: لا؛ لكنَّ هذا مجنون وتقولون عنه أنه صالح، ما المشكلة؟ قالت: طوال الوقت وهو يحرق أصابعه، فسألوه: لماذا؟ فقال لهم: والله عندما دخلت ابنتكم إليَّ راودني الشيطان أن أعصي الله عزَّ وجلَّ بها، فتذكَّرت القرآن وتذكَّرت الغاشية ونارها الحامية وجهنم والوقوف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، فقلت: يا نفسي أريد أنْ أسألك سؤالاً، قالت له: إنْ كان عن جهنم فمن هنا لجهنم يُدبِّرها ربُّ جهنم، قال: لا أريد أنْ أُجربك على نار الشمعة فإذا تحملتها فافعلي ما تشائين؛ لأنَّ الشمعة بسيطة، فعندما وضع إصبعه على نار الشمعة، كيف؟ قالت له: لا كفى، فسحب إصبعه؛ ثمَّ بعد ساعة راودته نفسه مِنْ جديد فقال لها: الإصبع الآخر؟ حتَّى طلع الفجر، فعلت ذلك مجاهداً للنفس وناصحاً لها حتَّى حصل الذي حصل. فقالوا: ما دام أنَّك عففت فنحن سنزوِّجُك إياها ومهرها علينا والمنزل علينا وكل النفقات علينا، وكما وَرَد:

{ إنَّكَ لن تدَعَ شيئًا اتِّقاءَ اللَّهِ إلَّا أعطاكَ اللَّهُ خيرًا منهُ (9) }

[مسند أحمد]


موعظة النفس بذكر حديث الغاشية:
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ هذه الآية إذا صادفَت القلب النقي والعقل الذكي تكفيه درساً له طوال حياته إذا أراد أنْ يُقدم على الكلمة الكاذبة والفاحشة والنظرة الحرام والاستماع إلى الغيبة والنميمة والفواحش وإلى الجلسة الحرام والأكل الحرام والبيع الحرام، كلمة الغاشية ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ ذليلة خائبة، تودُّ أنْ تبتلعها الأرض ولا تُحشَر في ذلك الموقف في محكمة الله عزَّ وجلَّ رب العالمين الذي يقول:

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

ويأتي الغبي الجاهل الذي لا مربّيَ له ولا معلِّم ويقول عن الله عزَّ وجلَّ: (غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا القرآن: (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
[سورة البقرة]

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
[سورة المجادلة]

(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ) تتحدثون أنتم الثلاثة همساً، (وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) وإذا كنت وحدك وتريد أن تفعل شيئاً فهل تؤمن أنَّ الله عزَّ وجلَّ معك:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

هذا القرآن الذي يجب الإيمان به عندما تقول آمنت بالقرآن ولا تعرف معنى الإيمان ولا تعرف معنى القرآن فهذا يضحك الشيطان عليك وأنت تضحك على نفسك وهذا سببٌ مِنْ أسباب تخلُّف المسلمين وضعفهم وما وصَلَ إليه المسلمون.

القرآن كتاب الدنيا والآخرة:
القرآن كتاب الدنيا والآخرة، وكتاب العزِّ والقوة والغِنى، والشرف والكرامة في الدنيا والآخرة، لـمَّا فتح النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مكة لقيَ أبا سفيان فقال له:

{ يا أبا سفيانَ قد جئتكم بالدنيا والآخرةِ فأسلِموا تسلَموا }

[مجمع الزوائد ومنبع الفوائد]

(جئتكم بالدنيا والآخرةِ) لم آتكم بالآخرة وبالجنة لا بل بخير الدنيا والآخرة، (فأسلِموا تسلَموا) لأنَّ الإسلام ليس الآخرة فقط هذا خطأ فالدنيا قبل الآخرة، ولذلك عندما أسلم أبو سفيان رضي الله عنه، ماذا كانت النتيجة؟ أصبح ابنه يزيد حاكم فلسطين، وصار معاوية رضي الله عنه إمبراطور الدولة الإسلامية وبقيَ الحكم في ذريته مئة سنة، فهل هذه آخرة أم دنيا، وقبَض الدنيا قبلاً أم الآخرة؟

النبوّة نوعان:
العرب في الإسلام أخذوا أولاً كمبيالة الدنيا أم كمبيالة الآخرة؟ وهذا القرآن:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة النحل]

والإحسان بالعقل الحكيم: فعل ما ينبغي -واجبك- في الوقت الذي ينبغي وعلى الشكل الذي ينبغي، فالحكمة وضع الأمور في مواضعها فهذه ثلث الإسلام، فإذا كنت حكيماً في كلامك، وطعامك وشرابك وابتسامتك، ووقتك وسهرك ولبسك، ومنزلك، و الحكمة:

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُواْ الْأَلْبَابِ (269)
[سورة البقرة]

النبوَّة نوعان:

فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
[سورة الأنبياء]

الحكمة: العقل الكامل الناضج الذي لا يُخطئ هدفه، والعِلم بحقائق الأمور فعندما تعرف العقرب بحقيقته فما هي نتيجة الحكم؟ تدوسه بحذائك، وعندما تعرف حقيقة الألماس فما هي نتيجة المعرفة؟ تضعها قلادةً في عنق زوجتك، وعندما تكون جائعاً ويكون عندك عِلم بوجود الطعام فما هو مقتضى العِلم؟ تذهب لتأكل ممَّا رزقك الله عزَّ وجلَّ، صحيح؟ فالنبوّة عِلمٌ وعقلٌ حكيم، عقلٌ بلا عِلم أو عِلمٌ بلا عقل لغير النبوّة فالنَّبيُّ الله عزَّ وجلَّ يُزكِّي نفسه في أصل خلقتها.

الحاجة إلى المعلم والمزكي:
وغير الأنبياء يحتاجون مزكّياً ومهذِّباً ومربٍّياً، فتحتاج إلى المزكَّي لتضيف إلى العِلم والحكمة التزكية، ابحث عن المزكِّي ليُطهِّر لك نفسك مِنْ رذائلها وأخلاقها وعيوبها ونقائصها وكذبها وكسلها وجهلها وجاهليَّتها؛ لتكون الإنسان السعيد في الدنيا قبل الدار الآخرة، هذا هو القرآن وهذا هو الإسلام وهذه هي الحياة السعيدة، وهذا هو مستقبل الشريف الكريم، في الشخص في الأسرة وفي العائلة وفي المجتمع وفي الدولة وفي العالَم.

مسؤولية المسلم في هذه الحياة:
فالمسلمون مسؤولون مسؤوليةً كبرى، كلُّ واحدٍ منكم كلكم صغيركم وكبيركم ذكراً أم أنثى، ما تتعلَّموه أن تُعلِّموه لغيركم، كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً (10) }

[صحيح البخاري]

عندما حضَر الجن صلاة الفجر ورجوع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في بطن نخلة -وهو اسم مكان- وهو يصلي الفجر، فأتى الجن ووقفوا خلف النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثمَّ اقتدوا به وحدث ما حدث إلى آخره.. قال الله عزَّ وجلَّ:

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
[سورة الأحقاف]

(يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ) أنتم لا تستمعون القرآن الآن؟ (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا) لكي نفهم معاني القرآن وماذا طلب القرآن منا، (فَلَمَّا قُضِيَ) انتهى القرآن (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ) بأيِّ صفة نائمين؟ أم لاعبين أم شاربين؟ قال تعالى: (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) بلَّغوهم كلَّ ما سمعوه من النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهؤلاء ماذا؟ الجن والعفاريت، فهل أنتم أفضل أم الجن؟ عندما سمع الجن الكلمة ذهب ليُبلِّغها لغيره وغيره يبلِّغُها لغيره.
هل يقصُّ الله عزَّ وجلَّ علينا الحكايات في القرآن! لكي يعلِّمنا كيف إذا سمعنا العِلم والقرآن والحكمة فلا نكون احتكاريين فنُبلِّغها ونعلِّمها للآخرين، ونُعلِّمها بأعمالنا قبل أنْ نُعلِّمها بأقوالنا، لا نكون فقيه اللسان جهول القلب، لا، فقيه اللسان وفقيه القلب وفقيه العمل، يُقرأ العِلم في أعمالنا وفي أقوالنا وفي كلِّ تصرفاتنا.

أقيمت الحجة بالتبليغ:
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ والله أتاني، وهل أتاك أنَّ بجانبك يوجد أفعى كبيرة؟ هل أنت متأكد؟ ما هذا الكلام تمايل على يمينك، فعندما ترى الحديث صادقاً فماذا تفعل؟ هل تمدُّ يدك لفمها وتقول لها مرحباً؟ أو تأخذها وتضعها في حضنك؛ أو تحملها وتضعها على رقبتك، أو تلفّها على قبعتك! هل هكذا إذا جاءك حديث الأفعى؟ إذا كنت عطشاناً وأتاك حديثٌ بأنَّ مياه الفيجة وصلت فما هي نتيجة عِلمك بمجيء الفيجة؟ تركض إلى الفيجة وتملأ أوانيك بالماء لحوائجك، فإذا أتاك حديث الغاشية وعِلمها وحقيقتها فماذا يكون أثر الإيمان؟
بعدها يُفصِّل لك الغاشية: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ هل تريد أنْ تلقى الله عزَّ وجلَّ بوجه المجرمين، وبوجه الطغاة، وبوجه الفاسقين والمجرمين والكافرين، والمنافقين والغشاشين والمخادعين، أم بوجه الصادقين المؤمنين والمتَّقين الخاشعين، والأمناء الأمنين، والمزكِّين الصالحين؟ هكذا يُقرَأ القرآن، هذه هي القراءة التي قال الله عزَّ وجلَّ عنها:

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
[سورة المزمل]


الأمور بنتائجها:
﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ لماذا أصبحت ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾؟ لأن كلَّ أعمالها التي عملتها وتعِبَت بها كلَّها ذهبت:

وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
[سورة الفرقان]

﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ إذا بعد الحقوق وبعد الجامعة، وبعد الدكتوراه، وبعد القصر، وبعد الصيفية، ويوم مع السيارة المرسيدس، والملايين والأملاك، والوزارات والملوك وكذا.. ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ الأعمال بخواتيمها، إذا أخذوك إلى مكانٍ وأطعموك أحسن الطعام وأحسن الشراب وألبسوك أحسن اللباس وبعدها رمَوكَ مِنْ فوق المبنى إلى الأسفل فهل هذه المقدمة تليقُ بهذه النتيجة؟ فإنْ كانت المقدمة الدنيا ونتيجتها ﴿نَارًا حَامِيَةً﴾ فهل تليق؟

الحرص على جنة الدنيا والآخرة والخوف من عذاب النَّار:
إذاً لماذا لا نكون في جنة الدنيا والآخرة:

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
[سورة الرحمن]

وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
[سورة النحل]

الحياة الحسنة المؤمن الواعي ذو العقل الحكيم، ذو النفس المزكَّاة الذي تعلّم الله عزَّ وجلَّ في يُعزُّه الدنيا قبل الدار الآخرة، وهذا كلام الله تعالى:

يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
[سورة المنافقون]

﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ إلى جهنم، في النَّار والحرارة يصير الإنسان عطشاناً ويريد أنْ يشرب، فيأخذوه إلى (عَيْنٍ آنِيَةٍ) والعين تغلي مثل ابريق الشاي عندما تغلي ماؤه، اشرب فعندما يشرب، قال الله تعالى:

يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
[سورة الحج]

(يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) أمعاؤه وجلده يذوبان، هذا كلام القرآن، فقط؟ (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) أيضاً فوقها سياطٌ وعصيٌّ ومزاريب مِنْ الحديد، والله لا تتحمَّلون خيزرانة ولا قضيب صفصاف، فيا تُرى هل نؤمن بكلام الله عزَّ وجلَّ هذا؟ لو قال لك الشرطي سأصفعك، فهل نقارن بينهما؟ صفعة وَ (مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) مِنْ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ الشرطي من أجل صفعةٍ أو مخالفةٍ تقول له كما تأمر ولا تعود إلى مخالفته، وإذا كان معك فهل تُخالفه وتمشي على الشمال؟ إذا كان الله عزَّ وجلَّ معك يسمعك ما تقول وينظُرك ماذا تفعل ويعلم سرائر نفسك: ما في داخلك بماذا تفكر وماذا ستفعل:

يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
[سورة غافر]

فما أعظم هذه التربية الإسلامية، وما أعظم هذا الإنسان الذي يخرج مِنْ مصنع القرآن؛ ولكنَّه مصنعٌ يُخرج عندما يتواجد مديروه وعماله؛ أمَّا مصنعٌ بلا مديرٍ ولا عمال سيصدأ ولن يُخرج شيئاً، الآن أين مديرو مساجدنا وصنَّاعها ودروسها والتزكية والعلوم فيها، أسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُبدلنا ما هو خير ويملأها عِلماً وحكمةً وتزكيةً.

من أنواع العذاب في الآخرة:
﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ﴾ في الفندق يوجد كلُّ شيء، توجد عين جارية؛ لكن عينٌ آنية، ويوجد عمل ﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ يصعد إلى جبال جهنم ويرموه مِنْ فوق جنهم إلى أعمق قعر وديانها؛ ثمَّ يصعد إلى الأعلى، ووَرَد في حديث للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بأنَّ المؤتمن -صاحب الأمانة- إذا لم يُؤدِّ أمانته يُلقى في جهنم وتُلقى أمانته مِنْ رأس جبلٍ إلى أسفله، ويُقال انزل وأحضرها، فينزل ويحملها؛ حتَّى يصل إلى رأس الجبل ثمَّ تُلقى إلى قعر الوادي، فيبقى هكذا إلى أنْ يحكم الله عزَّ وجلَّ فيه حكمه الأخير، هذا لمن لم يُؤدِّ الأمانة.

الإيمان يتطلب التطبيق:
يا تُرى ما معنى الإيمان بالقرآن؟ تقول آمنت! ما معنى الغداء؟ تقول تغديت! وما معنى الزواج؟ تقول تزوجت! ما معنى الإيمان؟ الإيمان أن تُصدِّق بأنَّ هذه نظارة ثمَّ تضعها على عينيك وتقرأ بها، وإن وضعتها أسفل قدمك ودست عليها فهل هذا إيمانٌ أم كفر؟ يا تُرى هل إيمان النَّاس إيمانٌ أم إيمانٌ شيطاني؟ إيمان حقيقي؟ يا تُرى هل يغشّون الله عزَّ وجلَّ أم يغشّون أنفسهم؟ من يضرُّون؟ الذين لا يمشي على الطريق المستقيم ففي آخر الطريق وفي منتصفه وفي أوَّله هل هو رابح؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُعطينا العقل، عقل الموفَّقين وليس عقل المساكين المخذولين الأشقياء، ولا المحرومين، الكافرين، ولا المنافقين، المغرورين، يقول لك غفورٌ رحيم.

العقوبة القرآنية:
الثلاثة الذين تخلَّفوا في غزوة تبوك عن الجهاد، عندما رجَع النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم من تبوك دعاهم وسألهم ما عُذركم؟ قالوا يا رسول الله لا عُذر لدينا، سبعون واحداً مِنَ المنافقين اعتذروا وهم كاذبون، فقبل النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عذرهم لكنَّ القرآن فضحهم وقال عنهم كاذبين، وثلاثةٌ كانوا صادقين فقالوا: والله يا رسول الله لا عُذر لدينا، فأمر الصحابة بألَّا يُكلِّموهم ولا يجلسوا معهم.
هذا جندي متخلِّفٌ عن الجندية فما هو حكمه الآن في المحاكم العسكرية، ماذا يفعلون به؟ السجن لسنة، فما هذا الحكم الإسلامي؟ لا سجن ولا أيّ شيء، هذا الذي تصنعه الدولة كحكم؛ لكنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم له ترتيبٌ آخر، فلا يجلس معهم أحد، ولا يردوا عليهم السَّلام، أحدهم ذهب ابن عمه عندما طرق باب بستانه فرد عليه فسمع صوته فلم يرد، افتح لي فلم يفتح له فقفز من فوق الجدار ودخل إلى البستان وسلَّم عليه فلم يرد، قال: ألا تعلم أنِّي أحبُّ الله عزَّ وجلَّ ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ لم يردّ عليه، فعاد مِنْ فوق الجدار، وبعد خمسة عشر يوماً أمرهم النبي ألَّا يخالطوا نسائهم، أيضًا مقاطعة نساؤهم، فأي حكمٍ في الدنيا يُنفَّذ بكلِّ دقة وبكلِّ أمانة وبلا شرطة وبلا قيود وبلا سجن؛ إلَّا تربية الإيمان، أيضاً اعتزلتهم نساؤهم، خمسون ليلةً لا يسكن لهم دمعٌ في عيونهم من البكاء، فهذا الإسلام إذا أذنب فيعرف ما هي لدغة الذنب، لدغة الأفعى بعد ساعة أو ساعتين أو بعد ثلاث أو خمس ساعات يسكن ألمها؛ أمَّا إنْ لدغك الإيمان وعاقبك فلا خمسون يوماً ولا خمسون شهراً؛ حتَّى تاب الله عزَّ وجلَّ عليهم، ونَزَلت آياتٌ في سورة التوبة:

وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
[سورة التوبة]

سيختنقون لماذا؟ بسبب ذنبٍ واحد، ونحن نقوم بمليون ذنب، ولا نشعر بشيء لماذا؟ لأنَّ قلبنا ميت، فإذا ضرب شخصٌ ميتاً بخنجر فهل يتألّم؟ وإنْ قلع له عينه فهل سيشعر؟
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلُ الْهَوَانُ عَلَيْهِ مَآ لِجُرْحٍ بِمَيّتٍ إيـــلامُ
{ المتنبي }
فنسأل الله عزَّ وجلَّ ألَّا يُميت قلوبنا، المؤمن الحي بالذنب القليل.. لـمَّا أعرض النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن ابن أم مكتوم، آخذه الله عزَّ وجلَّ فورًا وعاتبه وجعل معاتبته مخلداً دائماً إلى يوم القيامة في:

عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (1)
[سورة عبس]

فالإسلام والفقه في الدين هذا هو الفقه، إلى آخره..

طعام جهنم:
﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ﴾ الضريع: شوكٌ ينبت في الصحارى، تأكله من الجبال إذا كان أخضرَ؛ أمَّا إذا كان يابساً فيكون سمّاً ولا يصلح إلَّا للنار، فما هو غدائهم؟ الضريع، فإنْ قالوا لهم غيروا لنا الطعام فيغيِّرونه إلى الزقوم، وإنْ قالوا أيضاً نريد غيرها فمِنْ (غِسْلِينٍ) مِنْ عصارة أهل النَّار، وهذا كلام الله عزَّ وجلَّ وليس كلام جرائد ولا كلام قيلَ عن قال ولا كلام حديثٍ ضعيف، كلام رب العالمين، أنت مؤمنٌ بالقرآن؟إذا آمنت بأنَّ هذه أفعى فهل تأخذها وتُقبِّلها؟

الإيمان الحقيقي بالقرآن:
يا تُرى هل نحن مؤمنون بالقرآن الإيمان الحقيقي؟ وليس الإيمان الذي يضحك الشيطان فيه علينا، نأخذ القرآن ونقبٍّله! المهم أن لا تُقبِّل الجلد بل تَقبَل كلام الله عزَّ وجلَّ عِلماً وعملاً، ولا يكفي، بل وتعليماً بأعمالك، وبأخلاقك وبسلوكك، وبجلساتك وبسهراتك وفي الباص، وأين ما كنت، ذكراً أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، فهكذا كان المسلمون في زمن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، في الحرب، يلتحق بالحرب وعمره ثلاثة عشر عاماً، إلى أين هو ذاهب؟ إلى رحلة استكشافية! ذاهبٌ إلى الموت وهو طفل، فهكذا كان إيمانهم، والذي عمره تسعون سنةً وقدمه عرجاء ويذهب إلى الجهاد، إلى أين؟ إلى الموت، هذا هو الإيمان، فالإيمان إذا لم يُصدِّقه العمل سيكون أمانيَّ، والأماني لا توصل إلى شيءٍ لا في الدنيا ولا في الآخرة.

لا ينفع الإنسان نسبه:
لا يوصل النسب إلى شيءٍ لا في الدنيا ولا في الآخرة، فماذا كان أبو لهب؟ عمَّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والعمُّ مثل الأب؛ لأنَّه رفض الإيمان فماذا قال الله عزَّ وجلَّ عنه؟

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
[سورة المسد]

لم يذكر الله عزَّ وجلَّ ولم يقُل: تبت يدا أبي جهل، مع أنَّ أبا جهلٍ كان أسوأ منه، لكنْ لأنَّه قريب النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومع قرب الماء فالعين عنده وهو يشتكي العطش! (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) مليون مرة، فالقصة يجب أنْ نكون مسلمين حقيقيين، مؤمنن حقيقيين بالقرآن، ونقرأ السورة فسورةٌ واحدة تكفيك طول العمر، والقرآن كله:

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
[سورة البقرة]

فما رأيكم أنْ تصنعوا لكم غداءً مِنْ ضريع ﴿لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾؟

أصحاب الوجوه الناعمة:
قال هذا قِسم، والقِسم الثاني: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾

تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
[سورة المطففين]

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)
[سورة عبس]

مضيئةٌ وجميلةٌ مملوءةٌ بالنضرة والفرح والسرور في عينيها وفي خدودها وفي ابتسامتها ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ عندما تأخذ كتابها بيمينها وتعرف منزلتها في الجنة لقاءً لها:

كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
[سورة الذاريات]

ويقولون الحمد لله الذي وفَّقنا لهذه الأعمال حتَّى قطفنا وجنينا منها هذه الثمار وهذه العطاءات الإلهية، يرضى عن عملهم في الدنيا أم لا يرضى؟ والقِسم الآخر: على كيفه في لهوه، وفي فسقه وفي لعبه، وفي فجوره وفي جهله، وفي جاهليته، يا تُرى هل يكون بسعي نفسه راضياً؟ ويقول يا ليتني:

يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
[سورة الحاقة]

(يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) وإذا كان قد جمع المال مِنَ الحرام وفسَق وفجَر فيقول: (يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) يا ليتني لم أكُن في الحياة، (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) إذا كان غنيّاً، وإنْ كان ملكاً أو حاكماً وطغى وتجبَّر (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) النتيجة (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) اجعلوا الأغلال في عنقه (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) إلى آخر الآيات..

منازل المتحابين في الله عزَّ وجلَّ:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾ النعيم والنعمة والنعومة والسعادة تُقرَأ في وجوههم:

ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
[سورة عبس]

﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ يقول صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ وجبتْ محبتي لِلْمُتَحابينَ فِيَّ، و المتجالسينَ فِيَّ، والمتباذلينَ فِيَّ (11) }

[مسند الإمام أحمد]

النجوم والكواكب عاليةٌ أم ليست عالية؟ فهكذا ينظر أهل الجنة إلى أهل الحبِّ في الله عزَّ وجلَّ، هل رأيت أحداً تحبُّه في الله عزَّ وجلَّ فإنْ أحببته في الحشيش فماذا ستصير؟ حشاشاً، وإنْ أحببته لأنَّه مقامر، فماذا ستصير؟ مقامراً، وإنْ أحببته لأجل التقرب بحبِّه مِنَ الله عزَّ وجلَّ؟ فهؤلاء هم المتحابون في الله عزَّ وجلَّ، قال صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الغُرَفِ مِن فَوْقِهِمْ، كما يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ في الأُفُقِ }

[صحيح البخاري]

مع الفارق في علوِّ الدرجات، فما رأيكم أنْ تبقوا تحت أم فوق؛ أم في ﴿نَارًا حَامِيَةً﴾ أم ﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾؟ الذي في ﴿عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ فليرفع لي إصبعه لأرى.

الجنة يلزمها العمل:
والذي يريد أنْ يكون من أصحاب ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾ فليرفع لي إصبعه، يعني الذي يريد عملياً سيمشي؛ أمَّا بالتمني والأهواء والأماني فهذا لا يصير شيئًا أبداً، والله كأس الشاي لا يصير إلَّا إنْ دفعت ثمنها وهذا المكتب لا يصير إلَّا بثمنه، والمذياع بثمنه، والنظارة بثمنها، فهل سعادة الأبد بلا ثمن؟ وبالكذب؟ بالعكس تريد أنْ تزرع الذرة لتحصد فستقًا؟ مع أنَّ الفستق جيد، فإنْ زرعت الشوك وتظن أنَّك ستحصد الزنبق فهل هذا فيه عقل؟ فأيُّ منزلةٍ تريدون؟

يقسم أهل الغاشية إلى قسمين:
لقد قَسَم الله عزَّ وجلَّ أهل الغاشية إلى قِسمين ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾ فهل تريدون الأول أم الثاني؟ الذي يريد الأول فليرفع لي إصبعه، فلن تكونوا مِنْ قِسم ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾ بالعمل سواءً أكان حلالاً أم حراماً، يجوز أو لا يجوز، وننسى كلَّ شيء إلَّا مصلحتنا وشهواتنا وأهوائنا وغشنا وكذبنا وفجورنا، فهذا لا يصحّ،

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
[سورة النساء]

المسألة ليست بالأماني، هل يصير شيءٌ بالأماني؟ هذه النظارة إنْ ذهبت إلى بائع النظارات وقلت له أعطني نظارةً على نية أنك ابن حلال، فهل سيعطيك؟ أو ناكشة أسنان، أو كأس الشاي هل سيعطيك إياها بلا ثمن؟ فكيف نريد أنْ نأخذ سعادة الدنيا والآخرة بالكسل وبالخمول وبالأماني وبالغفلات وبالبطالة، هل يصح؟ لا يصح، الصحابة بذلوا أرواحهم ودماءهم وأموالهم ووأرواحهم، وهجروا أوطانهم وسفكوا دماءهم حتَّى نالوا الذي نالوه، فآتاهم الله عزَّ وجلَّ:

وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
[سورة النحل]

فشمّروا يا بني لا نعرف الموت متى يكون، ففي شهرين أو ثلاثة كم أخاً فقدنا مِنْ إخوتنا؟ وكلّهم ماتوا فجأةً، الأخ عدنان القاضي رحمه الله كان محامياً، وقع وهو خارجٌ من المسجد، أخونا أبو بشير الجبان رحمة الله عليه، وأبو غنيم، فؤاد مارديني، وعددٌ مِنْ إخوانكم أسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يغفر لنا ولهم، شيخ أحمد الكنافي؛ وكله فجأةً يعني عملية قلب، لذلك استعدوا قبل أنْ تتفاجؤوا ونندم ولا ينفعنا الندم يا الله.

لا تنال الجزاء بالأمنيات:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾ هل تُنعِّم وجهك؟ يوجد أناسٌ يُنعِّمون أرجلهم، ويُنعِّمون لا أدري ماذا، ويدهنون جسدهم ويغسلونه بالصابون لأجل أنْ يُنعِّموه، فالآن نعِّمه لأجل الآخرة، يعني التنعيم الأبدي الخالد، المبرد هنا وأين تظهر النعومة؟ تظهر هناك، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا منهم بالعمل لا بالأمنية والتمنّي.
﴿لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ لما ترى ما أعطاها الله عزَّ وجلَّ تقول والله لو عملت طول حياتي سجدةً واحدةً وما انصرفت عن السجدو إلى غيره والله قليل؛ بالنسبة لما أعطاني الله عزَّ وجلَّ مِنَ العطاء الكثير ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾ لا تسمع كلمة لغو، ولا كلمة كذب، ولا كلمة اكتئاب، ولا تهمة ولا شتيمةً، فكلُّه:

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
[سورة الواقعة]

وكلُّ كلامهم سلامٌ وأمان، وسرور:

{ اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الآخِرَةِ }

[صحيح البخاري]

﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾ معهم عيون وأنهار:

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
[سورة النساء]

﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾ وَرَد في الأحاديث: أنَّ الإنسان وهو في سريره:

{ إنَّ أدنَى أَهْلِ الجنَّةِ منزلةً لمَن ينظرُ في مُلكِهِ ألفَي سنةٍ يرَى أقصاهُ كما يرَى أدناهُ وإنَّ أفضلَهُم منزلةً لمَن ينظرُ إلى وجهِ اللَّهِ جلَّ وعزَّ كلَّ يومٍ مرَّتَينِ (12) }

[مصنف ابن أبي شيبة]

أكبر مزرعة الغوطة مثلاً كم مساحتها؟ ثلاثون كيلومتراً؟ بكم يُقطعون هؤلاء؟ بربع يوم، الله سيعطيك ملكاً مسيرته ألفا سنة!

خسارة من لا يفهم كلام الله عزَّ وجلَّ:
فهذا الذي لا يفهم كلام الله عزَّ وجلَّ، فماذا يكون هذا؟ يعني الحمار إنْ كلَّمته عن هذه المعاني هل يفهم؟ وإنْ كلمت بني آدم عن هذه المعاني ولم يفهم شيئاً، فمن الأفضل هو أم الحمار؟ الحمار أفضل؛ لأنَّه لم يؤتَ قوةً ليفهم كلام القرآن، لا يفهم إلَّا بلغة الحمار؛ أمَّا نحن فيخاطبنا الله عزَّ وجلَّ بلغة الإنسان، فكم نحن في جهلٍ وفي غفلةٍ وفي ضلال، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ أدنَى أَهْلِ الجنَّةِ منزلةً لمَن ينظرُ في مُلكِهِ ألفَي سنةٍ يرَى أقصاهُ كما يرَى أدناهُ)، فكم أعلاهم منزلةً وكم هي مملكته؟ قال: (وإنَّ أفضلَهُم منزلةً لمَن ينظرُ إلى وجهِ اللَّهِ جلَّ وعزَّ كلَّ يومٍ مرَّتَينِ).

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)
[سورة القيامة]

وجوهك كلها مملوءةٌ مِنَ النضرة والجمال:

إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
[سورة القيامة]

ولا يرون نعيماً في الجنة أعظَم مِنَ النظر إلى وجه الله الكريم، اللَّهم اجعلنا مِنَ الناظرين إلى وجهك الكريم بفضلٍ منك يا أكرَم الأكرمين.
﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ ما هو الكوب؟ الذي ليس له رقبةٌ وليس له ممسك، هذا ما اسمه؟ ﴿وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾ على الأنهر، أينما تريد أن تشرب فالكؤوس على الطاولات ولكن على ترتيب الآخرة لا على ترتيب الدنيا، فهناك:

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
[سورة السجدة]

﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾ المتكآت، فأين ما ذهبت فهذه الأسرة والمتكآت لكي تسند ظهرك، ﴿وَزَرَابِيُّ﴾ سجاد ﴿مَبْثُوثَةٌ﴾.

يحدثنا الله عن الجنة بلغة الدنيا:
هكذا يخاطبنا الله عزَّ وجلَّ بلغة الدنيا؛ أمَّا الحقيقة:

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
[سورة السجدة]

يقول الله عزَّ وجلَّ:

{ أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ (13) }

[صحيح البخاري]

مهما تصوَّرت نعيم الجنة، يقول الله عزَّ وجلَّ: سررٌ وأنهار وقصورٌ وعيونٌ يُفهِّمنا بحسب لغتنا أما الحقيقة فهي فوق وأعظَم وأجلُّ وأكبر مِنْ كل هذا، وكان يقول صلَّى الله عليه وسلَّم في حديثٍ آخر:

{ أَلَا هل مُشَمِّرٌ للجنةِ فإنَّ الجنةَ لا خَطَرَ لها هي ورَبِّ الكعبةِ نورٌ يَتَلَأْلَأُ ورَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ وقَصْرٌ مَشِيدٌ ونَهْرٌ مُطَّرِدٌ وفاكهةٌ كثيرةٌ نَضِيجَةٌ وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ وحُلَلٌ كثيرةٌ في مَقَامٍ أبدًا في خُضْرَةٍ ونُضْرَةٍ في دارٍ عاليةٍ سليمةٍ بَهِيَّةٍ قالوا نحن المُشَمِّرُونَ لها قال قولوا إن شاء اللهُ (14) }

[صحيح ابن حبان]

(أَلَا هل مُشَمِّرٌ للجنةِ) يلزمها تشمير، وليس تشميراً عاديّاً؛ بل تشميراً بالهمة والإرادة، ما دامت أمامنا حياة الخلود والنعم التي تعجَز عن إدراكها العقول، ورأس إصبعٌ من الجنة خيرٌ مِنَ الدنيا وما فيها، فكَمْ مِنَ الجنون أنْ يُعرِض الإنسان عن كلام الله عزَّ وجلَّ ويعيش بأهوائه وجهله وجاهليته غافلاً عاصياً مدبراً مُعرضاً، (أَلَا هل مُشَمِّرٌ للجنةِ) فبماذا يكون التشمير؟ بالهمة بالطاعة بالإنابة بصحبة الصالحين بمحاسبة النفس فهذا هو التشمير، (فإنَّ الجنةَ لا خَطَرَ لها) يعني لا مثيل لها، (فإنَّ الجنةَ لا خَطَرَ لها) أي لا مثيل، (هي ورَبِّ الكعبةِ نورٌ يَتَلَأْلَأُ) يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الزوجة هناك:

{ على كل زوجةٍ سبعون حُلَّةً، يُرَى مُخُّ ساقِها من ورائِها }

[سنن الترمذي]

تلبس سبعين فستاناً (سبعون حُلَّةً) فحُلّة فوق حلّة وفوق حلّة، سبعين فستاناً، فهل هناك مَنْ تلبس سبعين! قال: (يُرَى مُخُّ ساقِها) عظم ساقها مِنْ تحت هذه السبعين فستان والثياب السبعين.
(هي ورَبِّ الكعبةِ نورٌ يَتَلَأْلَأُ ورَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ) كلها مروجٌ وخضارٌ وأشجارٌ وتهب فيها الريح، وترى هذا النسيم وهذه الورود كلُّها تذهب يميناً وشمالاً، (وقَصْرٌ مَشِيدٌ) قصورٌ عالية، (ونَهْرٌ مُطَّرِدٌ) أنهارٌ ملأة أحلى مِنَ العسل وأشدُّ بياضاً مِنَ الثلج وأطيب رائحةً مِنَ المسك، (وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ وحُلَلٌ كثيرةٌ في مَقَامٍ أبدًا في خُضْرَةٍ ونُضْرَةٍ في دارٍ عاليةٍ سليمةٍ) حياة الأبد وفي دارٍ سليمةٍ مِنَ الأمراض، ومِنَ المزعجات ومِنَ الظالمين، ومِنَ الغبار ومِنَ الغريق، ومِنَ الحر ومِنَ البرد، (أَلَا هل مُشَمِّرٌ للجنةِ) قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها، قال: (قولوا إن شاء اللهُ) فقال القوم: إنْ شاء الله. (أَلَا هل مُشَمِّرٌ للجنةِ) مشمِّرون، فكيف ستشمِّرون؟ بالذِّكر الكثير:

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
[سورة الإسراء]

يجب عليك أنْ تحفظ جوارحك عن معصية الله عزَّ وجلَّ، فهذا هو التشمير، فبماذا يكون التشمير؟

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
[سورة آل عمران]

بماذا يكون التشمير؟

{ إنَّ أهلَ الجنةِ لَيتراءون أهلَ الغُرَفِ في الجنةِ كما تُراءون الكواكبَ في السماءِ }

[صحيح الجامع]

أن تحبَّ أحباب الله هذا التشمير، تشمير الدنيا بالعمل لها في البيت والعمل؛ أمَّا تشمير الآخرة بالعمل الجاد الصادق والمُخلص والعمل الكثير.

الخير أن تكون من الداعيين إلى الله:
اللَّهم اجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، اللَّهم اجعلنا مِنْ أهل القرآن عِلماً وعملاً وتعليماً وتنفيذاً:

{ ألا أخبرُكُم بالأجوَدِ الأجوَدِ اللَّهُ الأجَودُ الأجوَدُ وأنا أجوَدُ بني آدمَ وأجوَدُهم من بعدي رجلٌ علمَ علمًا فنشرَ عِلمَه يبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً وحدَهُ (15) }

[مسند أبي يعلى]

الذي تتعلَّمه فعلِّمه بلسانك وأعمالك وسلوكك وقلبك وإخلاصك ليس لسانك بشكلٍ وعملك عكس ما تقول:

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
[سورة الصف]

ما هو المقْت؟ هو أشدُّ الغضب يعني: إنْ قلتم شيئاً وعملتم عكسه فسيغضب الله عزَّ وجلَّ عليكم غضباً شديداً، يعني يمقُتُكم، وإذا كان أشدَّ المقت يعني: غضبٌ على غضب، أي غضب مضاعف (أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)، فهل أنتم مستعدون للتشمير؟ (أَلَا هل مُشَمِّرٌ للجنةِ) قالوا: نحن المشمرون لها، قال: (قولوا إن شاء اللهُ)، (هي ورَبِّ الكعبةِ نورٌ يَتَلَأْلَأُ ورَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ وقَصْرٌ مَشِيدٌ ونَهْرٌ مُطَّرِدٌ وفاكهةٌ كثيرةٌ نَضِيجَةٌ وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ وحُلَلٌ كثيرةٌ في مَقَامٍ أبدًا في خُضْرَةٍ ونُضْرَةٍ في دارٍ عاليةٍ سليمةٍ) هل بقيّ حاجةٌ للذهاب إلى لبنان وإلى المصايف وإلى أوربا وإلى سويسرا؟

{ اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الآخِرَةِ }

[صحيح البخاري]

وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّدٍ وآله وصحبه والحمد لله ربِّ العالمين.

الهوامش:
(1) صحيح البخاري، كتاب الإيمان: باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، رقم: (13). صحيح مسلم، كتاب الإيمان: باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه، رقم: (45).
(2) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم: (6502).
(3) سنن الترمذي, أبواب الزهد, باب /, رقم: (2492), سنن النسائي, كتاب الرقائق, باب/, رقم: (11827).
(4) صحيح البخاري, كتاب الزكاة, باب الصدقة باليمين, رقم: (1423), صحيح مسلم, كتاب الزكاة, باب فضل إخفاء الصدقة, رقم: (1031).
(5) سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، رقم: (1079)، سنن الترمذي، أبواب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، رقم: (2621)، سنن النسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، رقم: (463).
(6) مسند الفردوس للديلمي, (3/419).
(7) سنن الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في معاشرة الناس، رقم: (1987)، سنن الدارمي، من كتاب الرقاق، باب في حسن الخلق، رقم: (2791)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (21392)، (5/152).
(8) صحيح البخاري, كتاب بدء الخلق, باب صفة النار وأنها مخلوقة, رقم: (3265), صحيح مسلم, كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها, باب في شدة حر نار جهنم, رقم: (2843).
(9) مسند أحمد، رقم: (20739)، (34/ 342).
(10) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم: (3461).
(11) موطأ الإمام مالك، كتاب الشعر، باب ما جاء في المتحابين في الله، رقم: (1711)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (22083)، (5/232).
(12) مصنف ابن أبي شيبة, رقم: (34024), (7/38).
(13) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم: (3244)، كتاب تفسير القرآن: باب قوله: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}، رقم: (4779)، (4780)، باب قول الله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله}، رقم: (7498)، صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم: (2824)، (2825).
(14) صحيح ابن حبان، باب وصف الجنة وأهلها، رقم (7381)، (16/ 389).
(15) مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176).