تفسير سورة الفجر 03

  • 1995-12-22

تفسير سورة الفجر 03

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين حمداً يُوافي نِعَمه ويُكافئ مزيده، وأفضل الصَّلاة وأتمُّ التسليم على سيِّدنا مُحمَّد سيِّد ولَدِ آدم الأولين والآخرين، وخاتَم النّبيين والمُرسلين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيِّدينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه مِنَ النّبيين والمُرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وبعد:

سورة الفجر وما ركزت عليه:
فنحن في تفسير ما تبقى مِنْ سورة الفجر، وهي مِنَ السور التي نزَلَت على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في مكة قبل أن يُهاجر إلى المدينة، وأكثر السور المكية - إذا لم تكن كلّها - كانت تركِّز على الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، وعلى الإيمان بالقرآن، والإيمان برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والإيمان بالقيامة (اليوم الآخر ومحاسبة الإنسان على أعماله في عصر الخلود ولا موت)، فكانت تعتني بصنع وبناء إيمانِ وأخلاق الإنسان، مع ربِّه ومع خَلْقِه، فكانت مدرسة ومصنع الإنسان الفرد، الإنسان المثالي، الإنسان الملائكي، الإنسان الفولاذي.
كان أحدُهم يُحرَّق بالنَّار، ويُربَط من رجليه في السقف، ويُدخَّن أسفله بالزبل ليرجع عن دينه.. وكان بلال رضي الله عنه يُلقى في ظهيرة مكة، في منتصف النهار في حرِّ مكة وتحت الشَّمس في حرارة خمسين أو ستين ليكفر بالإسلام، وتوضَع الصخرة الكبيرة على صدره، ويقول: أحدٌ أحد، فردٌ صَمَد، وبعضهم عُذِّب حتَّى فقد بصره، وبعضهم مات تحت العذاب، فما هذا الإسلام الذي جعلهم يتلذذون بالعذاب الذي هو طرقٌ لباب الموت ليَدخله؟ ولم يُبالوا ولم يتزحزحوا قيدَ أُنملة.

تربية الصحابة في مدرسة الإيمان:
فأين هذه المدرسة التي تُربِّي الإيمان في المسلم والمسلمة؟ سورة البروج:

قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّار ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
[سورة البروج]

قصَّ الله عزَّ وجلَّ على المسلمين في القرآن قصصَ مؤمنين قبلهم حُرِّقوا بالنَّار حتَّى ماتوا ليرتدُّوا عن دينهم، فتحمَّلوا التحريق بالنَّار وفضَّلوا الموت على الحياة ولا أن يُفارقوا إسلامهم ولا دينهم. فما هو هذا الإيمان الذي تُبذَل الروح وتُخسَر الحياة ليظلَّ المؤمن مُحتفظاً برأس مالِه؟
النَّاس يظنّون أن الإيمان هو أن يقول الإنسان عن نفسه: أنا مؤمن، أنا مسلم، لكنْ فرقٌ عظيمٌ بين الملِك الحقيقي وبين جامِع القمامة الذي يقول لسانه عن نفسه إنه ملِكٌ وإمبراطور، النطق واحد لكنَّ الواقع يُفرِّق بينهما، كذلك الإسلام: حتَّى يُصنَع الإسلام الذي أراده الله عزَّ وجلَّ وبنى الجنة لأصحابه، فهذا لا يكون بلا صانعٍ وبلا أدواتِ البناء، والبناء إذا نقَصَ فيه مقدار الإسمنت أو مقدار الحديد أو اختلت الموازين الهندسية فإما ألَّا يتم البناء، أو يهبُط بعد البناء فيكون هلاكاً لأصحابه.

حُسن الاتباع:
كان الأعرابيُّ يأتي إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فيطلب منه أن يُعلِّمه شيئاً من القرآن، فيتلو عليه آيتين صغيرتين بالألفاظ:

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) يعني: يرى ثوابه وجزاءه على عمل الخير، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) يرى عقوبته على الشرور في الدنيا وفي الآخرة. فيقول الأعرابي: كفتني كفتني، هذه تكفيني في أن أُكمِّل القرآن كلَّه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

{ أفلَح وأبيهِ إنْ صدَق }

[سنن أبي داود]

فما هذا السّر؟ كان السّر هو رؤية النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وصحبته، والارتباط القلبي والروحي بين المتعلِّم والمُعلِّم برباط الحب، فإذا كان رباط الحب بين مُتحابين:

{ المرءُ على دينِ خليلِه فلْينظرْ أحدُكم من يخاللْ (1) }

[مسند أحمد]


المحاسبة على العمل:
ففي أول السورة حَلَف الله عزَّ وجلَّ الأيمان بأنكم ستُحاسَبون على أعمالكم: إن خيراً يكون الجزاء خيراً، وإن شرّاً يكون الجزاء عذاباً أليماً، وبعد أن حَلَفَ الأيمان بالفجر وبالليالي العشر قال: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ هل تكفيكم أيماني التي حلفتُها لكم لتحجُركم وتحجُزكم عن الكُفر والمعاصي وغضب الله عزَّ وجلَّ؟ هل تكفيكم هذه الأيمان قناعةً أن تُسارعوا إلى مرضاة الله عزَّ وجلَّ وأن تحجُروا وتحجُزوا وتُمسكوا أنفسكم عن معاصي الله عزَّ وجلَّ؟ نعم، بالكلام أم بالفعل؟ بالكلام الأمر سهل، إذا قلنا لك: أنت ملِك، تقول: نعم! فهل صرتَ ملِكاً؟ فيا تُرى هل تعزِمون مِنْ قلوبكم وتُصممون على أن تمتثلوا كلَّ أمرٍ مِنْ أوامر الله عزَّ وجلَّ حين تقرؤون القرآن؟
فعادٌ أمّة، وثمودٌ أمّة، وفرعون وجيشه أمّة، أمام الله عزَّ وجلَّ أحقر مِنَ حشرة ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ سوطٌ واحدٌ مِنْ سياط الله عزَّ وجلَّ فجعلهم كأمسِ الدّابر، ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ هؤلاء انتهوا ﴿لَبِالْمِرْصَادِ﴾ الله عزَّ وجلَّ يترصَّدكم ويرقُب أعمالكم فإن عملتم كما عملت ثمود وعاد وفرعون ذو الأوتاد ﴿طَغَوْا فِي الْبِلَادِ﴾ فأنت قد تطغى في أسرتك، في سوقك، في بيعِك، في شرائك، في فرائض الله، في معاصي الله عزَّ وجلَّ، الله عزَّ وجلَّ يُخبِرك بأنه يترصَّد لك، وإذا كان شخصٌ يترصَّد لك وراء العمود ولا بدَّ أن تمرَّ مِنْ أمامه فيُمسكك وأمسكك من رقبتك بيده الغليظة فهل يُمكنك أن تتخلَّص منه؟ فكيف إذا كان الله عزَّ وجلَّ هو الذي يترصَّد لك؟ الله أعلى وأعظَم وأجلُّ.

سرعة التطبيق والاستجابة:
فهل آمنتم بكلام الله عزَّ وجلَّ الذي مقتضاه أن نمشي على صراط الله المستقيم، وأن نقرأ أوامر الله عزَّ وجلَّ لنمتثلها، ووصاياه لنعملها، والأخلاق: لما أنزَل الله عزَّ وجلَّ على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
[سورة الأعراف]

فقال لجبريل عليه السَّلام: ((كيف هذه الآية؟))(2). فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: أن تصِلَ مَنْ قطعك، وتُعطي مَنْ حرَمك، وتعفُوَ عمَّن ظلمك، وتُحسِنَ إلى مَنْ أساء إليك.
كانت الآية حين تنزل يُفسِّرها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ويُفسِّرها جبريل عليه السَّلام، ويسمعها الصحابة رضي الله عنهم فتتحول فيهم مباشرةً أخلاقاً وأعمالاً وسلوكاً، هذا هو الإسلام، استجابوا:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
[سورة الأنفال]

(إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) يُحيي مكانتكم، يُحيي إنسانيتكم، يُحيي عقولكم ، يُحيي سعادتكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) يضع حجاباً بحيث:

وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
[سورة الأعراف]

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
[سورة الأنفال]

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ) الحمير؟ الخنازير؟ الكلاب؟ الجرذان؟ هل هؤلاء شرُّ الدواب؟ قال: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ) لا يسمع الحق ولا ينقاد إليه، (الْبُكْمُ) يرى المنكر والباطل فلا ينطِق بالحق ليمحوَ به الباطل، (الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) يعقِل ما يتعلَّق بدنياه وجسده، ولا يعقِل ما يتعلَّق بإيمانه وربِّه، قال الله عزَّ وجلَّ: هؤلاء الصمُّ هم شرُّ مَنْ يدبُّ وشرُّ مَنْ يمشي على وجه الأرض.
حين تقرأ القرآن هل تسأل نفسك إن كنت منهم؟ هل تتظاهر بالصمم عن كلام الله عزَّ وجلَّ حين تسمعه؟ ماذا فهمت؟ لم أفهم، ماذا عمِلت؟ لم أعمل، ماذا علَّمت؟ لم أُعلِّم؛ إذًا أنت أصمٌّ في قاموس الله عزَّ وجلَّ، أنت أطرش، لكن ذلك الأطرش معذورٌ لأنه صار أطرشاً بغير إرادته، أما أنت فتصير أطرشاً بإرادتك وبفعلك، وباختيارك وبمحضِ إرادتك، وإلى متى؟ حتَّى يأتي الكفن ويحمِّلونا في سيارة الأموات ويُنزلونا في القبر؟ إلى متى؟ اللهم اهدِنا فيمَن هديت، وإذا دعوت الدعاء فعليك أن تعزِم على أن تفعل الهداية وتمشي في طريقها وتبحث عن أهلها، أما أن تقول قولاً لا تفقهه ولا تُفكِّر فيه إلا مثل شريط المسجِّل الذي يقول هو أيضاً: اللهم اهدنا فيمَن هديت، ما نتيجة الطرفين - الشريط وأنت -؟ كلاكما لم يستفد شيئاً.

عاقبة المفسدين:
نعود إلى الآيات، قال: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ﴾ في الآيات الأُوَل ذكر الله عزَّ وجلَّ عقوبة الأمم والشعوب: عاد، وثمود، وفرعون والقِبط لما ﴿طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ كيف صبَّ ﴿عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ هذا في الدنيا، الحساب في قيامة الدنيا، وهناك قيامة الآخرة، يوجد عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، فهنا أخذوا القسط الأول في الدنيا، فهل انتهوا مِنَ الآخرة يا تُرى؟ هناك آيةٌ تقول:

مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا (25)
[سورة نوح]

مِنْ عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة.

وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
[سورة السجدة]

(وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ) وهو عذاب الدنيا (دُونَ الْعَذَابِ) قبل العذاب (الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ترى الإنسان يتلقَّى الضربة من الله عزَّ وجلَّ في الدنيا ليتَّعِظ فلا يتَّعِظ، ليعتبِر فلا يعتبِر، ليتوب فلا يتوب، فهذا:

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
[سورة البقرة]


لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين:
كنت أسمع مِنْ شيخنا هذه القصة: في اليمن يوجد قرود ويستعملونها هناك كما يستعملون الكلاب في مراقبة المحلات، فأحدهم ذهب إلى الصَّلاة وترك القرد في المحل لينتبِه إليه، فجاء لص وكلما أراد أن يدخل هَجَم عليه القرد ليعُضَّه فيتراجع، بعد عدة محاولات بلا جدوى أوحى الشيطان إلى اللص:

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
[سورة الأنعام]

كما أن الملَك يُوحي إليك بالخير فالشيطان يُوحي إليك بالشر ويُعلِّمك إياه، فالشيطان أوحى للص أن يتظاهر بالنعاس والنوم أمام المحل، وبما أن القرد يتأثَّر ويُقلِّد فقد بدأ ينعس حتَّى نام بالفعل وكأنه منوَّم مغناطيسيّاً، فدخل اللص وفتح الدرج وأخذ كلَّ ما فيه مِنْ مالٍ ودراهمٍ وهرب.
أتى صاحب المحل وفتح الدرج فوجده خالياً والقفل مكسوراً، فحمل السوط والعصا وأخذ يضرب القرد حتَّى كسَّر عَظمه. وبعد ستة أشهر عاد اللص مرةً ثانية، وأراد أن يفعل ما فعله في المرة الأولى، فبدأ يتناوم أمام المحل والقرد يُشير إليه بالنفي وكأنه يقول له: قد فعلتَ معي هذا مرةً فحفظتُ الدرس، ولن أُغَشَّ وأقعَ في المصيدة مرةً ثانية! فكم مرةً يُوقعنا الشيطان في معاصي الله عزَّ وجلَّ؟ وما هي الثمرة والربح والفائدة التي نأخذها؟ واللهِ ما استقام أحدٌ مع الله عزَّ وجلَّ حقَّ الاستقامة إلا صَدَقه الله وَعْدَه:

وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
[سورة النحل]

الحياة الحسنة.

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
[سورة البقرة]


النعمة قد تكون ابتلاء:
فبعد أن ذَكَرَ الله عزَّ وجلَّ عقاب الأمم في الجزيرة العربية وفي مصر - وهي أمثلةٌ ونماذجٌ تكفي عن ذِكر جميع الأمم - أتى إلى تربية الإنسان الفرد، قال: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ﴾ يعني إذا أراد الله عزَّ وجلَّ أن يمتحِنَه ويختبِره ﴿فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾ أعطاه المال، الجاه، الحُكم، السلطان، أعزَّه في الدنيا ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ والنَّاس يقولون: هنيئاً له ما شاء الله! الله عزَّ وجلَّ راضٍ عنه، كيف كان وكيف صار! لا يقولون إنه دخل في الفحص والامتحان فإما أن يكون مِنَ الهالكين أو يكون مِنَ الناجين.

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
[سورة القصص]

عشرة رجالٍ لم يكونوا يستطيعون حمل مفاتيح خزائنه التي كلُّ مفتاحٍ منها بقدر الإصبع، فكم هي كثيرة؟ وبعد ذلك ماذا كانت نهايته؟

فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ (81)
[سورة القصص]

فهل كانت تلك الكنوز مِنْ رضا الله عزَّ وجلَّ عنه؟ كانت فحصاً واختباراً له، فرسَب في الفحص ولم ينجح، فخسر الدنيا وذهب إلى الآخرة صفراً، خسِرَ سعادة أبَدَ الآباد.

الغنى والجاه لا يدلان على تكريم الله عزَّ وجلَّ للإنسان:
﴿كُلًّا﴾ يعني لا تظنَّ أن عقليتك هذه صحيحة، فلا الغِنى يدلُّ على كرامة الله عزَّ وجلَّ لك، ولا فقر إنسان يدلُّ على هوانه عند الله عزَّ وجلَّ، قال فيكم هذا الجهل وفيكم جهلٌ أكبر: ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ أيضاً الإسلام فرَضَ الضمان الاجتماعي وجعله مِنْ أركان الإيمان، فالضعيف في المجتمع الإسلامي - يتيماً أو مسكيناً أو عبداً أو مظلوماً - يضمن له الإسلام حقَّه في الحياة والعيش، حتَّى لو كان المواطن في ظل الدولة الإسلامية غير مسلم، لو كان يهوديّاً أو نصرانيّاً فالدولة تضمن له كلَّ وسائل الحياة، حتَّى لو أنه عجِزَ عن وفاء دَينه فعلى بيت المال أن يُؤدي عنه دينه ولو كان نصرانيّاً أو مجوسيّاً أو يهوديّاً.

العدالة والأمان في الإسلام:
هذا ما فعله سيِّدنا خالد رضي الله عنه لما فتَحَ الحيرة في العراق، كانت المعاهدة تنصُّ على أن الدولة تضمن للشعب - وهم نصارى - هذا الضمان، أُناشِد بالله مَنْ كان منكم قارئاً ومُتعلِّماً: هل أمَّنت الشيوعية لشعبها هذا؟ وهل أمَّنت أوروبا لشعوبها هذا الضمان؟ وأمريكا هل أمَّنت ذلك؟ العدالة في الحقوق وفي الاختلافات بين النَّاس، هل يسمح الإسلام بأن يُضاع حقُّ غير المسلم مع المسلم؟
لما اتُّهِم اليهودي البريء تجاه المجرم المسلم، ودافعت كلُّ قبيلة السارق المسلم عنه واتهموا اليهودي البريء، فلِمَن انتصر الله عزَّ وجلَّ وأنزَلَ وحيه مِنْ السَّماء؟ هل عند الله عزَّ وجلَّ تعصّبٌ طائفي؟ وهل الله عزَّ وجلَّ طائفي؟ هل هو ربُّ المسلمين؟ هو ربُّ العالمين، فنزَلت الآيات بتجريم المسلم السارق وتبرئة اليهودي النظيف، في قريبٍ مِنْ صفحةٍ كاملةٍ في سورة النساء.
هل المساواة في حالِ الحياة فقط؟ مرَّ على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم جنازةُ يهوديٍّ فقام لها، قالوا: يا رسول الله، يهوديٌّ وتقوم له! هل كان في زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم جمعية حقوق الإنسان وهيئة الأمم؟ أتقوم له وهو يهودي؟ قال: ((أوَليس إنساناً؟))(3)، فالإسلام راعى كرامة الإنسان ولو كان غير مسلم.
لما وزَّع الأموال على الفقراء وأتاه الوثني، النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كإنسان:

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
[سورة الكهف]

قال له: ((لستَ على ديني فلا أُعطيك)) (4) فحالًا نزل الوحي، خالق هذا الوثني يُعاتب نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم قائلاً:

لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
[سورة البقرة]

(لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) أنت لست مسؤولًا عن عقائدهم (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) أنت مسؤولٌ كرجل دولة عن كفاية الشعب مع قطع النظر عن عقائدهم ومذاهبهم، (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) ثلاثة أوامرٍ للعناية بالوثني عابِدِ الصَّنم! هل هذه بواسطة هيئة الأمم وجمعية حقوق الإنسان التي يستعملونها في كثيرٍ مِنْ الأحيان دجَلاً للتدخل في شؤون الشعوب الضعيفة من شعوب العالَم الثالث؟

عظَمة قانون الله عزَّ وجلَّ:
فيا تُرى هل هناك مِنْ قانونٍ أعظَم مِنْ قانون الله عزَّ وجلَّ؟ هل مِنْ تشريعٍ أعظَم وأرحَم وأكثر إسعاداً لكل الإنسان مِنْ قانون الله عزَّ وجلَّ؟ لكن أين مَنْ يطبُخ هذا القانون؟ أين مَنْ يطبُخ الخروف الذي عمره شهران أو ثلاثة ويحشو بطنه بالرز والفستق والسمن الحموي أو الديري، ممن يطبخه بصوفه وقرونه وأوساخه في بطنه؟ هذا خروفٌ محشو وهذا خروفٌ محشو، والأسوأ مِنْ ذلك أيضاً أن يسأله: أتحب الخروف محشوّاً بحشوِ الله أم بحشوِ عبد الله؟ كلٌّ منّا يعرف أن الله عزَّ وجلَّ أعظَم، ويجب أن يكون حشوُ الله أيضاً أعظَم مِنْ حشوِ عبد الله، فيطبُخ له الخروف بحشوِ الله: بكرشه وأمعائه وكلِّ ما في بطنه وبصوفه وزبله وأوساخه؛ فيُفسد سمعة الدين وسمعة القرآن، وسمعة الإسلام، وسمعة الإيمان والله عزَّ وجلَّ، والدين:
طَلعَ الدين مُستغيثـــاً إلى الله وقالَ العباد قد ظَلموني يتسمُّون بي وحقُّك لا أعرف منهم أحداً ولا يعرفُوني
{ كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشاء }

الدخول في بوتقة المربي:
﴿كُلًّا﴾ ارتدعوا عن هذه العقلية: أن الدنيا - الغِنى والمال والجاه والسلطان - دليلُ الكرامة عند الله عزَّ وجلَّ، والفقر والإملاق دليل الهوانِ عند الله عزَّ وجلَّ، نزِّهوا أنفسكم عن هذه العقلية السخيفة، أيضاً تضيفون إليها في أعمالكم أنَّكم ﴿لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ لا تُؤدُّون حاجته بل مع تأمين كلِّ حوائجه يجب أن تُكرِمه، أن تُدخِل السرور على قلبه ولا تكسِر خاطره، يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ خيرُ بيتٍ في المسلمينَ بيتٌ فيه يتيمٌ يُحْسَنُ إليْهِ ، وشرُّ بيتٍ في المسلمينَ بيتٌ فيه يتيمٌ يُساءُ إليْهِ ، أنا وكافِلُ اليتيمِ كهاتَين في الجنَّةِ(5) }

[صحيح البخاري]

فهل مِنْ خوفٍ إذاً على الطفل إذا فقَدَ أباه مع وجود الإسلام الذي هو أرحَم باليتيم مِنْ أمه وأبيه؟ أين هذا الإسلام؟ إسلام القرآن، عندنا إسلام الكتابة أما إسلام العمل وإسلام المعلِّم وإسلام الحكيم الذي يُعلِّم الحكمة، الذي يُزكِّي النفوس فأين هو؟ مدارسنا وأزهرنا وكلية الدعوة لا تُنتِجُ عالِماً وارثاً نبويًاً إلا أن يدخل في بوتقة المربِّي.
مولانا خالد النقشبندي المدفون في سفح قاسيون في قبَّته كان رئيس علماء العراق، مع بلوغه ما بلَغَ مِنَ العِلم إلى القمة عرَفَ الحقيقة أنه لا بدَّ أن يتعلَّم مِنَ العالِم الوارث النبوي:

{ العلماءُ ورَثةُ الأنبياءِ (6) }

[سنن أبي داود]

وجد نفسه أنه مع كلِّ هذا العِلم ليس مِنْ ورَثة الأنبياء حتَّى التقى بشيخه الوارِث في مكة وقال له: تأتي إليَّ في دلهي في الهند، ودخل عنده الخلوة ثمانية أشهر، ورجع إلى العراق فنشر الإيمان في الشرق الأوسط كلِّه! فعِلمه الذي كان قد علِمه مِنْ قراءة الكتب والشهادات كلُّه ما أفاد شيئاً حتَّى التقى بالعالِم الوارِث النبوي.
والعِلم الحقيقي ليس بالقراءة ولا الكتابة ولا الشهادة، العِلم ارتباط (المرءُ على دينِ خليلِه) فإذا عثَرت على هذا العالِم فواللهِ خيرٌ لك مما لو أنك عثَرت على كنزٍ فيه خمسون طنّاً مِنَ الألماس، لأن هذا تبطُل علَّته مع آخر نفَسٍ مِنْ أنفاسك، ما الفائدة لو أعطوك جبلاً مِنَ الألماس وأنت ميت؟ أمَا واللهِ لو رزق الله عزَّ وجلَّ الإنسان حبّاً وارتباطاً بالعالِم الوارِث النبوي فتلك سعادة الدنيا والآخرة.

اليتيم من فقد العِلم والأدب:
﴿كَلَّا﴾ ارتدعوا عن هذا الكلام، أيضًا فوق ذلك انظروا إلى أعمالكم: ﴿لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ واليتيم، ليس اليتيمُ الذي قد ماتَ والدُه، هذا يتيمٌ لكنَّ يُتمه ليس خطيراً جدّاً، سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يتيم الأب والأم:

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
[سورة الضحى]

فهل ضرَّه يُتمه بفقده لأمّه وأبيه؟ أما أبو جهل وأبو لهب فلم يكونا يتيمين، لكن لم يكن لهما أبٌ يُلقِّح أرواحهما ويُربِّي عقولهما بالحكمة، ويُزكِّي نفوسهما بالفضائل، ويرفع شأنهما بالعِلم الذي يُسعِدُ في الدنيا والآخرة، هذا هو اليتيم البائس: الذي فقدَ مَنْ يُعلِّمه الكتاب والحكمة ويُزكِّي نفسه.
ليسأل كلُّ واحدٍ منا مِنَ المستمعين والمشاهدين نفسه: هل هو يتيمٌ أم له أب؟

النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
[سورة الأحزاب]

وفي إحدى القراءات: "وهو أبوهم". ما معنى أنَّ عائشة رضي الله عنها هي أمُّ المؤمنين؟ إذاً ماذا يكون زوجها؟ إذا كانت زوجتك أمُّ أولادك أفلا تكون أنت أباهم؟ فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم بعد أن انتقل إلى الملأ الأعلى هل ترَك الأمّة بلا أب؟ بلا قائد؟ يا تُرى هل فتَّشتَ لتكون ابن أبٍ شرعي؟
هناك مَنْ يقوده ويغرس فيه الأخلاق والطِّباع شيطانٌ مِنْ شياطين الإنس، فيغرِسُ فيه الخبائث والآثام والطمع والخيانة ومساوئ ورذائل الأخلاق، ويُرضعه مِنْ حليب الخنازير فكيف سيكون؟ الرضاع يُغيِّر الطِّباع. والذي يتهيَّأ له أبٌ يُرضعه العِلم بالقرآن، ويُرضعه الحكمة، ويُرضعه تزكية النفس؛ فكذلك الرضاع يُغيِّر الطِّباع.

التحذير من عدم إكرام اليتيم:
﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ لماذا؟ هذا لو كان له عالِمٌ مِنْ (العلماءُ ورَثةُ الأنبياءِ) فهل كان يُكرم اليتيم أو يهينه؟ بل يُكرمه، وهل إكرام اليتيم فقط بالأكل والشرب واللباس؟ بل أيضاً بالعِلم والتربية والإيمان.
﴿وَلَا تَحَاضُّونَ﴾ يعني ولا تحرضون ﴿عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ فالمسكين هل هو المسكين الفاقِد لمأكله ومشرَبه وملبَسه ومسكَنه؟ هل هذا مسكين؟ ومسكين العِلم، فقير الإيمان، فقير التقوى، فقير الأخلاق، هذا أليس مسكيناً؟ أليس تعيساً وبائساً؟ ذلك المسكين لعلَّ الله عزَّ وجلَّ يغفر له لفقره.
أما فقير الإيمان.. قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ (7) }

[صحيح مسلم]

فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يَعُدُّ الفقر فقرين: فقر الدين وفقر الدنيا، فقر الدنيا ليس عاراً، أما فقر الدين فهو العار في الدنيا وفي الآخرة.
﴿لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ ابحث عن شخصٍ عمره نحو أربعين سنة وهو يتيم، اليتيم جسديّاً هو الذي فقد أباه ولم يبلغ الحِنث، يعني لم يبلغ، أما إذا بلَغَ فيرتفع عنه لقب اليتم، فإذا رأيتم يتيماً أعني يتيم العِلم والأدب، يتيم الحكمة: بدَلَ أن يضع الأشياء في مواضعها ويفهم الأمور بحقائقها؛ تراه أحمقاً، سفيهاً، مبذِّراً، أموره فوضى، ليس ناجحاً لا في دينه ولا في دنياه، هذا هو اليتيم البائس، ذاك إذا أكرَمه أحدُ فهو مُثاب، وهذا إذا أنقذه أحدٌ مِنْ يُتمه وجعل له أباً شرعيّاً يُعلِّمه الكتاب والحكمة؛ يكون قد أنقَذه مِنْ يُتمه، ومِنْ ذلِّه وهوانِه وتخلُّفه، ومِنْ شقاء الدنيا وشقاء الآخرة.

الحض على إطعام المسكين:
﴿وَلَا تَحَاضُّونَ﴾ يعني ولا تُحرِّضون ﴿عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ لا تتباهوا بالغنى وتظنُّوا الفقر عاراً، العار أن تُهينوا اليتيم سواءً كان يتيم الأب أو يتيم المعلِّم المربِّي الوارِث المُحمَّدي.
﴿وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ أيضًا إذا كان هناك شخصٌ مسكينٌ في الإيمان، ضعيفٌ في الدين، واقعٌ في غضب الله عزَّ وجلَّ فعلينا أن نُحرِّض بعضنا بعضاً لنُنقذه مِنْ مسكنته، مِنْ فسقه ومعاصيه، مِنْ غضب ربِّه، إذا لم نفعل ذلك فإن الله عزَّ وجلَّ في القرآن يُوبِّخنا على ذلك ويجعل هذه الصفات مِنْ أكبر العيوب.
أنت في سوقك وتجارتك، في زراعتك، في حيك، في بنايتك؛ ابحث كم يتيماً يوجد؟ يوجد يتيمٌ عمره سبع سنين مات أبوه مِنْ أسبوعٍ أو شهرٍ أو غير ذلك. فهذا يتيم، فإذا كان فقيراً نساعده بالمأكل والمشرب والدواء وكل ما يحتاج، وإذا كان يتيم الإيمان، يتيم المعلِّم المربِّي فأيهما أحوَج إلى المساعدة والرحمة والشفقة؟ يتيم الدين الذي ليس له مُعلِّم ولا مُربٍّ، (أنا وكافِلُ اليتيمِ كهاتَين في الجنَّةِ) فخذ هذا اليتيم وأمسك بيده فهو جائعٌ مِنَ الدين والعِلم والمعرفة ومِنْ مخافة الله عزَّ وجلَّ وخشيته، ومِنَ الأخلاق، فخذه إلى المطعم ودعه يأكل يوماً ما طعاماً طازجاً، فهو طوال عمره يأكل مِنَ البقايا في النفايات، وهو مريض:

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
[سورة البقرة]

﴿وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ فالمسكين هو الفقير العادِم أو الفقير الذي عنده بعض الشيء، فإذا كان عنده نصف إيمانٍ ونصف تقصيرٍ فهو مسكين، وإذا كان فاقداً كلُّ شيءٍ فهو فقير، كلاهما فاقد.
فيا تُرى أنتم تقرؤون سورة الفجر لأجل أن تفهموها لتعملوا بها فتكسبوا رضا الله عزَّ وجلَّ بتنفيذ أوامرها وإرشادها، أو تقرؤونها لا لتفهموها ولا لتعملوا بها ولا لتنفِّذوها؟ يا تُرى كيف قراءتكم لها؟ قبل هذه الجلسة كيف كنتم تقرؤونها؟ هل كنتم تقرؤونها بحقّ؟ الآن فهمتموها وصارت المسؤولية عليكم مضاعفة، لأنه قبل الفهم تكون المسؤولية واحدة وتتضاعف بعد الفهم.

الحرص على تعليم يتيم العلم قبل الحرص على الإطعام:
يستطيع أحدكم أن يذهب إلى جاره اليتيم الذي ليس له شيخٌ ولا مُعلِّم ولا مُربٍّ.. إلى أخيه، ابن أخيه، عمه، شريكه، أجيره، جاره.. ليُخصص في الأسبوع جلسةً لله عزَّ وجلَّ، يدعو فيها أهل البناء كلّهم، يدعو أصدقاءه على كأسٍ من الشاي وإذا كان موسَّعاً عليه يضيِّفهم الحلوى، وإذا كان موسَّعاً عليه أكثر فليزِد الضيافة في سبيل الله عزَّ وجلَّ.
﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ فلنُكرم هؤلاء الأيتام، كلُّ واحدٍ منهم لحيته بيضاء وشواربه بيضٌ وشعره أبيض وكلهم قُصَّر ويتامى:
ليْسَ اليَتِيمُ الذي قدْ مَات والِدُهُ إنَّ اليَتيمَ يَتيمُ العِلْمِ والأدبِ
{ علي بن أبي طالب }

الأدب والحب للعلماء:
أدبه مع الله عزَّ وجلَّ، مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، مع الإسلام، أدبه مع ورَثَة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قد يجد الوارِث لكن يُبغضه، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (إذا أبغضَ المسلمونَ عُلماءَهُم) (8) قد يكون وارِثاً مُحمَّديّاً ويُبغضه، لماذا تُبغضون الشَّيخ؟ آذاك؟ لا، شتمك؟ لا، أخذ مالك؟ لا، تعدَّى عليك؟ لا، آذاك بشيء؟ لا، إذاً لماذا هذه العداوة؟ عداوة الكفر للإيمان، وعداوة النفاق للتقوى.
يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إذا أبغضَ المسلمونَ عُلماءَهُم، وأظهَروا عمارةَ أسواقِهِم، وتألَّبُوا على جمعِ الدَّراهمِ، رماهُمُ اللهُ بأربعِ خِصالٍ، بالقحطِ مِن الزَّمانِ، والجَورِ مِن السُّلطانِ، والخيانةِ مِن ولاةِ الحُكَّامِ، والصَّوْلَةِ مِن العدوِّ }

[مستدرك الحاكم]

(وأظهَروا عمارةَ أسواقِهِم) صارت الأسواق مشيدةً عظيمةً لها شأنها، (وتألَّبُوا) صار ليلهم ونهارهم (على جمعِ الدَّراهمِ) همُّه في الحياة أن يُكثِر.

{ لَوْ أنَّ لِابْنِ آدَمَ مِثْلَ وادٍ مالًا لَأَحَبَّ أنَّ له إلَيْهِ مِثْلَهُ، ولا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ(9) }

[صحيح البخاري]

متى يقول شبِعت ولم أعُد أريد؟ حين يضعون القطنة في فمه، واللهِ الآن شبعتُ! إذا كنت لا تزال جائعاً فسنُشبِعك حالاً لنرسل إليك ملَك الموت فيُعطيك لقمةً واحدةً تُشبِعك طوال حياتك، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الحقائق.
(وتألَّبُوا على جمعِ الدَّراهمِ، رماهُمُ اللهُ بأربعِ خِصالٍ) إذا حصلت فيهم هذه الخصال: (أبغضَ المسلمونَ عُلماءَهُم) هناك ناس يجلسون في المجتمع فيتكلمون على الشُّيوخ، لماذا؟ الشَّيخ فعل كذا، هل رأيته بعينك؟ لا! هل رأيته بنفسك؟ لا، إذاً لماذا؟ هكذا قال النَّاس! لو أن النَّاس قالوا عنك إنك حمارٌ فهل علينا أن نصدِّق؟ اللهم أرِنا الحق حقّاً وارزقنا اتباعه وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
﴿وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ فالله عزَّ وجلَّ يقول: بدَل أن تقول ﴿أَكْرَمَنِ﴾ و﴿أَهَانَنِ﴾ قُمْ أكرم اليتيم سواءً يتيم الجسد أو يتيم العقل أو يتيم الإيمان أو يتيم العِلم، دُلَّه على أبيه ليتخلص مِنْ ذلِّ اليُتم وجوع اليُتم وهوانه.
وإذا كان مسكيناً أيضاً وفقيراً مِنَ الدين فدُلَّه على كنوز الغِنى حتَّى يصير غنيّاً بالله عزَّ وجلَّ، غنيّاً بالإسلام، غنيّاً بقرآن العِلم والعمل.

أكل التراث بغير حق:
﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا﴾، ﴿التُّرَاثَ﴾ يعني الميراث، التركة، كانوا لا يُورِّثون الضعفاء مِنَ النساء والأطفال ويقولون: الميراث لمَن حَمَل السلاح، وهذا اليتيم الذي فقد أباه أيضاً يفقد ميراثه؟ والبنت تفقد أباها وميراثها؟ فهل جاء الإسلام لنُصرة المرأة والضعيف أو لإضاعة حق المرأة وهضْمِ حقوقها؟ الآن أكثر مَنْ يُسمُّونهم مُتعلِّمين يحملون قمامة المستشرقين في الهجوم على الإسلام ويقول لك: حقوق المرأة، يعني أن حقوق المرأة في الإسلام ضائعة! ولا يعرف هذا الإنسان ذو الأذنين القصيرتين - وصاحب الأذنين الطويلتين يفهم أكثر منه - أنَّ الله عزَّ وجلَّ أنزَل سورة اسمها سورة النساء كلّها مِنْ أجل خاطر المرأة ونُصرتها وحقوقها، وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ النِّساءُ شقائقُ الرِّجالِ(10) }

[سنن أبي داود]

وَ:

{ لا فَضلَ لعَرَبيٍّ على عَجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عَرَبيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقْوى(11) }

[مسند أحمد]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[سورة الحجرات]

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ) رجالكم؟ نساؤكم؟ (أَتْقَاكُمْ).

ذمُّ حب المال:
قال: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ وصَل في حبِّه للمال إلى أنه ينسى الله عزَّ وجلَّ وينسى أوامره ووصاياه، فالمال بغضب الله عزَّ وجلَّ أو برضاه مِنْ حلال أو حرام.. وواجبات الله عزَّ وجلَّ من الزكاة وغيرها لا يُفكر فيها، يصرِف على حفلةٍ مئات الألوف، ويصرِف على بيتٍ سكنه عشرات الملايين وسيتركه بعد ذلك ويسكن في القبر، فهذا على ماذا يدل؟ هل قرأ القرآن؟ هل آمن بالقرآن؟ يجب أن نحب الله عزَّ وجلَّ حبّاً جمّاً، ونحب رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم حبّاً جمّاً، ونحب وارِث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حبّاً جمّاً، نحبه أكثر مِنْ آبائنا وأمهاتنا وأموالنا وأغراضنا.

حق الوارث المُحمَّدي:
هذا حسب نصوص القرآن والسنة، ما معنى (العلماءُ ورَثةُ الأنبياءِ)؟ مَنْ هو الوارِث؟ هو الذي يرِث واجبات مورِّثه، إذا مات الأب الذي كان يُنفق على زوجته وأبنائه الصغار، فالابن الكبير الوارِث عليه أن يُنفق على أمّه - أو زوجة أبيه - وإخوته الصغار، فهذا الواجب، وماذا له مِنَ الحقوق؟ أيضاً له مِنَ الحقوق كما عليه من الواجبات، فالعالِم الوارِث النبوي هو الذي ورِثَ الواجبات فأداها وأيضاً يرِثُ الحقوق التي يجب أن يُؤديها إليه المسلمون:

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
[سورة الأعراف]

كنت أسمع مِنْ شيخنا أنه قبل أن يلتقي بالعالِم الوارث - الشَّيخ المربي شيخه الشَّيخ عيسى - كان عنده طلاب عِلمٍ ودروس وكان عالماً وحافظاً للقرآن إلى آخره.. فلما التقى به وعرَجَ بروحه إلى السَّماء وفتح الله عزَّ وجلَّ على قلبه ما فتح بلَغ مِنْ حبِّه لشيخه -كمثال - أن شيخه أعطاه ذات مرةٍ رمانة أو برتقالة فأكلها بقشرها وبذرها لأنها مِنْ يد الحبيب، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الحب، فإذا حصل الحب ترى مُرَّه حلواً، والذهاب إليه مِنْ الطريق البعيد قُرباً، والوصول إليه مِنَ الطريق المخُوف سلاماً وأمناً، ولا ترى في الحياة إلا محبوبك تتقرَّب إليه ولو بوجودك وحياتك وروحك.
فكان يقول لنا الشَّيخ – قدَّس الله روحه -: مضى أربعون يوماً ورجعت إلى قراءة القرآن فإذا بي أرى نفسي كنت لا أفهم القرآن ولا أُحسِن قراءته، وهو حافِظٌ لكتاب الله وكان مِنْ كبار العلماء، الذي يتكلم هذا الكلام ليس طفلاً أو فلاحاً أو بدويّاً، ومَنْ ذاقَ عرَف ومَنْ عَرَفَ اغترَف.

الحساب لا محالة:
فهل أنتم تحبون المال؟ حبُّ المال لا مانع منه لكن ليس ﴿حُبًّا جَمًّا﴾ مِنْ حلالٍ أو حرام، يجوز أو لا يجوز، لا، بل المال الحلال الطاهر المطهَّر المزكَّى المُخرَج منه حقوق الله عزَّ وجلَّ، وإذا أحببت مالَك فلا بأس، إذا أحببت أهلك الحب الشرعي فلا بأس.
﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ فهنا هذه المواصفات أولاً للأمم: عادٌ وثمودٌ وفرعون، ثانياً للإنسان الفرد، ثالثاً للجماعة ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ﴾.
فبعد أن ذكر الله عزَّ وجلَّ أصناف النَّاس أمماً وأفراداً وجماعاتٍ أتت النهاية ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ لتُحاسَبُنَّ ولتُجازَوُنَّ ولتُكافؤُنَّ على الخير ثواباً وعلى الشر عقاباً.

وجوب الابتعاد عن تلك النقائص المذكورة:
قال: ﴿كَلَّا﴾ ارتدِعوا عن هذه النقائص والأخلاق والصفات والسلوك، فإذا أنت قرأتها هل تفهم كلام الله عزَّ وجلَّ؟ هذا خطابٌ مع الله، جلسةٌ مع الله، حوارٌ مع الله عزَّ وجلَّ، درسٌ مع الله عزَّ وجلَّ يُعلِّمك فيه، فهل حفظت درس الله عزَّ وجلَّ؟ وهل ستُطبِّقه كما علَّمك الله تعالى؟ تقول: أنا آمنت بكتاب الله عزَّ وجلَّ، آمنت بالقرآن، صدق الله العظيم، فإذا خرجتَ عمِلتَ خلاف كل ما قاله الله عزَّ وجلَّ لك! فهل هذا صدق الله العظيم أم كذَبَ الله العظيم؟ أعمالك تقول: كذَبَ الله العظيم، أعمالك تقول: أنا لست مؤمناً بالقرآن العظيم، إذاً لماذا تضع القرآن في الثوب المقصَّب؟ ولماذا اشتريت الطبعة التي سعرها خمسمئة ليرة وألف ليرة؟ اشترِ قرآناً بحب وارِثٍ مُحمَّديٍّ يجعل القرآن في قلبك ليهضمه قلبك الغافل ليتحوَّل فيه طاقةً وأعمالاً وأخلاقاً وإيماناً وتقوى لتُعلِّم بعد أن تتعلَّم الكتاب والحكمة والتزكية.
﴿كَلَّا﴾ ارتدعوا عن هذه النقائص: لا تحبوا المال حبّاً جمّاً، وأكرِموا اليتيم، وحرِّضوا على طعام المسكين، ولا تعتقدوا أن المال دليلٌ على محبة الله عزَّ وجلَّ لكم، ولا الفقر دليل العكس، ارتدعوا عن هذه الأشياء، ﴿كَلَّا﴾ بمعنى ارتدعوا ولا تتخلَّقوا بهذه الصفات الذميمة.
﴿إِذَا﴾ يعني واذكروا وتذكروا الوقت الذي ﴿إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ عندما تقوم القيامة وتُنسَف الجبال وتتفجَّر الأرض وتصير هباءً منثوراً فأين أصبح بناؤك وسوقك وتجارتك وأعمالك؟
﴿كَلَّا﴾ ارتدعوا عن الصفات التي ذكرتها لكم في الأقوام وفي الإنسان، نظِّفوا أنفسكم منها، وهذه تكون بمعلِّم أم بلا معلِّم؟ بمُربٍّ أم بلا مُربٍّ؟ بحكيم أم بلا حكيم؟ بمُزكٍّ أم بلا مُزكٍّ؟ لذلك وجبت الهجرة على المسلمين والمسلمات في زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ليتعلَّموا الكتاب والحكمة وتتزكَّى نفوسهم، كانت المرأة تهاجر وحدها، أم سلمة رضي الله عنها هاجرت وحدها مِنْ مكة إلى المدينة، خمسمئة كيلومتر، في الصحارى والجبال والوديان، وحدها، لماذا؟ لتتعلَّم الكتاب والحكمة ولتتزكَّى نفسها.

تعلم القرآن بمعانيه:
فأنت أيها المسلم الذي حججت عشرين حجة هل تعلَّمت القرآن؟ تعلَّمت النطق بحروفه، هل تعلَّمت أهدافه؟ أوامره فامتثلتها، ونواهيه فاجتنبتها، وأخلاقه فتخلَّقت بها؟ وهذه لا تكون إلا بمُعلِّم، أيمكن أن تصير قائد طائرةٍ بلا مُعلِّمٍ ومُدرب؟ هل يمكن أن تكون سباحاً بلا مُعلِّمٍ ومدرب؟ هل يمكن أن تصير طبيباً بلا مُعلِّم ومدرب؟ مَنْ علَّمك الإسلام؟ مَنْ درَّبك على الإسلام؟ في الواجبات لأدائها، في ترك المحرَّمات، في فضائل الأخلاق، في القلب:

أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (22)
[سورة الزمر]

(فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم) ما معنى (قُلُوبُهُم)؟ ما معنى (لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ)؟ لا يعرف شيئاً، يعرف القلقلة والمد المتصل والمنفصل، الشريط المسجِّل عنده تجويدٌ أحسَن منك بألف مرة، وصوته أجمل مِنْ صوتك بألف مرة، ما هذا هو تعلُّم القرآن.

وصف الحال حين تُدَك الأرض دكًّا:
قال: ﴿كَلَّا﴾ اترك هذه الأشياء المذمومة التي ذكرها القرآن في صفات الإنسان والأقوام وفكِّر لتعمل حين تُدَك الأرض دكّاً، حين تُنسَف الجبال، وتتفجر البراكين، وتصير الجبال والأرض:

فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا (6)
[سورة الواقعة]

وَ:

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
[سورة إبراهيم]

أين أموالُك؟ وأين سلطانُك؟ وأين رئاستُك؟ وأين إمبراطوريتُك؟ وأين جيوشُك؟ وأين ملايينُك؟
﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ نُصِبَت محكمة القضاء الإلهي:

وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
[سورة الزمر]

أي القرآن، وأيضاً كتاب أعمالِك:

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
[سورة الانفطار]

فالقرآن كتاب الله وإلى جانبه كتاب أعمالك، ففي محكمة الله يقول لك الله عزَّ وجلّ:

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
[سورة الإسراء]

اقرأ لنا كتاب أعمالك، يا تُرى هل تنطبِقُ على كتابي الذي أنزلتُه لتكون أعمالك حسب قوانينه؟ (اقْرَأْ كِتَابَكَ) هذا هو القرآن، هكذا يُقرَأ القرآن، فإذا قرأته هكذا فهل تتبدَّل أعمالك وأخلاقك واتجاهاتك، وأصدقاؤك وسهراتك، وبيعك وشراؤك، وطمعك، وأمانتك، وغضبك ورضاك؟ هل تتغيَّر أم لا تتغيَّر؟
إذا ذهب المريض إلى الطبيب المختص وكتب له وصفةً فهل يُفيده أن يقرأ الوصفة مليون مرة مِنْ غير شراء الدواء واستعماله؟ وإذا أخذ رجلٌ مشرَّد - لا بيت له ولا زوجة ولا ملابس لديه وينام في الطريق - شيكّاً بمبلغ مئة ألف دولار أو مليون دولار وأخذ يقرؤه: ادفعوا إلى، وإذا لم يمُدَّ الواو يقول له شخص آخر: أنت أخطأت، هذا مدٌّ منفصل يجب أن تمدَّه خمس حركات فأنت لا تعرف التجويد الذي هو نطق الأحرف.

اختيار الإنسان لمصيره:
هل أنت أجدت فهم كلام الله عزَّ وجلَّ فأجَدت العمل به والتعليم له؟ يا تُرى أيهما أهمّ؟ أيهما المقصود؟ تكلَّم بشكلٍ معوَجٍّ واعمل بشكلٍ مستقيم، لا بأس بأن تتكلم بشكلٍ معوَجٍّ ولكن ليكن عملك مستقيماً، وإذا تكلَّمت بشكل صحيح وكان عملك صحيحاً فهو:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
[سورة النور]

فأنتم مِنْ أيِّ قسم؟ أمامي كما تريدون، لكنْ غداً أمام الله عزَّ وجلَّ:

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
[سورة النور]

كلُّه فيلمٌ تلفازيٌّ سيُعرَض على شاشة الله عزَّ وجلَّ، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم موجود:

وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
[سورة الزمر]

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
[سورة الانفطار]

ما موقفك؟ ما محلُّك مِنَ الإعراب؟ ما مصيرك في ذلك الوقت؟ أين أوسمَتُك؟ أين وزارتك؟ أين تجارتك؟ أين شبابك؟ علينا ألَّا نغترَّ، فبين لحظة وأخرى: الله يرحمه، وربما لا يرحمه الله! هل يرحمه الله عزَّ وجلَّ بكلامك فقط؟

{ إِنَّما يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عبادِهِ الرُّحَماءُ (12) }

[سنن أبي داود]


محكمة الله عزَّ وجل:
﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ﴾ يعني انعقدت المحكمة ويُنادى: فلان الفلاني إلى المحكمة، النبي صلَّى الله عليه وسلَّم موجود، فيسأله الله عزَّ وجلَّ: هل بلَّغتَه؟ نعم، أنا يا رسول الله ما رأيت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، يا مُحمَّد، هل تركتَ بعدك وَرَثةً لك يُعلِّمونهم ما علَّمتَ أصحابك، يُعلِّمونهم الكتاب والحكمة ويُزكِّونهم؟ نعم يا ألله، هل ذهبتَ إلى الوارِث النبوي (العلماءُ ورَثةُ الأنبياءِ)؟ هل أدَّيتَ إليه حقه كما أدَّى أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حقَّه؟ صدري لصدرك وقاء، وروحي لروحك فداء.

الحب في الله للمعلم الهادي:
سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه لما اختبأ هو والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الغار عند الهجرة، وسدَّ الفتحات خوفًا مِنْ أفعى أو عقرب، بقيَ ثقبٌ لم يجد ما يسدُّه به فسدَّه بقدمه، فخرج عقربٌ أو أفعى لدغت أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم نائمٌ على فخذ أبي بكر رضي الله عنه، فما تأوَّه ولا توجَّع لكيلا يستيقظ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وهي لدغة أفعى، لكن مِنْ حرارة السمُّ دمَّعت عين أبي بكر رضي الله عنه فسقطت الدمعة على خدِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فاستيقظ وقال له: ما بِك؟ قال: يا رسول الله، قرصتني هامَّة.
فما هذا الحب؟ والحبُّ في القرآن:

قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
[سورة التوبة]

والسعادة كلُّ السعادة في الحب، والشقاوة كلُّ الشقاوة في الحب! إذا أحببتَ سعيداً تسعَد، وإذا أحببت شقيّاً تشقى، الأساس في الحب: كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (المرءُ على دينِ خليلِه فلْينظرْ أحدُكم من يخاللْ)، فما حبُّك؟ نفسيّاً، عمليّاً، سلوكيّاً، فكريّاً، ثم لماذا تحبُّ الله عزَّ وجلَّ والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم؟ لكي تمشي على هديِهما، على هدي الله ورسوله، هل مشيت؟ فعلينا أن نُشمِّر، أما أن نبقى نائمين على سكة القطار ونحن نشخر لأننا متعبون ولا نستطيع القيام فالنتيجة معروفة.

ترك صفات الأمم التي ذمَّها الله عزَّ وجلَّ:
﴿كُلًّا﴾ يعني: اتركوا كلَّ صفات الأمم والنَّاس التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ وذمَّها وانتقصها واستبدِلوا بها عكسَها، واذكروا حين تُدَك الأرض، تفنى الجبال، وتزول الدنيا وتفنى، وننتقل إلى عالَمٍ آخر.
﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ تذكروا حين تُنصَب محكمة الله عزَّ وجلَّ وتشرق الأرض بنور ربها ويُجاء بالملائكة والأنبياء شهوداً، يقال للأنبياء عليهم السَّلام: هل بلَّغتم؟ بلَّغنا، تبلَّغتم؟ تبلَّغنا، لماذا لم تعملوا؟ ماذا يكون الجواب؟
هذا هو القرآن، هل فكَّرتم فيما يذكِّرنا به القرآن؟ هل فكَّرتم ما هو الخلاص؟ إذا كانت عندك جلسة محكمةٍ غداً تفكِّر ماذا ستقول، تبحث عن محامٍ، تبحث عن صديق للقاضي ليتوسَّط لك لديه ليترفَّق بحالك، والقضية كلها: إما أن يُحكَم لك أو يُحكَم عليك، إما براءة أو تُدان، أما مع الله عزَّ وجلَّ فإما سعادة أبَد الآبدين أو شقاوة أبَد الآبدين.

جهنم تنتظر العصاة والطغاة:
﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾:

وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ (36)
[سورة النازعات]

المحكمة هنا وجهنم تنتظرك:

فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40)
[سورة النازعات]

بالنظرة، هذه النظرة هل يُؤاخذني الله عزَّ وجلَّ عليها؟ بالكلمة أسمعها، هل يأذَنُ الله عزَّ وجلَّ بها؟ بالكلمة أنطقها، بالخطوة أمشيها، بالسهرة أسهرها، بالمال أُنفقه أو آخذه، بصحبة فلانٍ أصحَبُه، هذا هو الإيمان وهذا هو الإسلام. (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ).
﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ﴾ يتذكَّر فسُوقه وفُجوره وآثامه وطغيانه وفساده وعدم مبالاته بدين الله عزَّ وجلَّ، وبعلمائه وتعلُّمه لدينه، بتربيته لأولاده، بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، بتركه لفرائض الله عزَّ وجلَّ وارتكابه لمحارمه، ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ ماذا ستُفيده؟ يندم وماذا يُفيده الندم؟ يريد أن يرجِع ولم تبقَ رجعة:

حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
[سورة المؤمنون]

﴿يَقُولُ﴾ حين يرى أنها الحقيقة وقد فاتته الفرصة وانتهى الزمن وانتهت سنة الدراسة وحان الامتحان وظهر أنه مِنْ بني راسِب، هل تعرفون بني راسِب؟
يقال إن اثنين مِنَ العرب اختلفا في ولدٍ هل هو منا أو منكم؟ فذهبا إلى قاضي العرب ليحكم بينهما هل هو مِنْ بني راسبٍ أو من بني طفاوة؟ فقال لهما: ارمياه في نهر دجلة، فإذا رسب وغرق تبيَّن أنه مِنْ بني راسب وإذا طفا على وجه الماء ولم يغرق فهو مِنْ بني طفاوة! فقه وفَهْم أليس كذلك؟ أعوذ بالله مِنْ أن تمثلوا أمام قاضٍ كهذا.

الحساب بعد التفريط:
﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾ بعد ما فرَّط وضيَّع وذهبت الحياة وذهب زمن العمل ﴿فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾ سيُعذَّب عذابًا ما عُذِّبه أحدٌ مثله، وعذاب الله عزَّ وجلَّ لا يُشبهه عذاب غيره:

يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
[سورة الحج]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
[سورة النساء]

هذا ليس كلام جرائد، تقول: الخبر الذي أُذيع أمس تبيَّن أنه غير صحيحٍ فنعتذر، ليس كلام ألف ليلة وليلة، هذا كلام ربِّ العالمين.
﴿وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ عندما يريد الله عزَّ وجلَّ أن يربط أحداً فلا أحد يربط مثل ربطه، عندما يربط عينيه يسحب منهما البصر، يربط رجليه، يربط يديه، يربط عقله، يربطه في جهنم.

النفس المطمئنة:
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾:

الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
[سورة الرعد]

فمَنْ هي النفس المطمئنة؟ هي النفس الذاكِرة.

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
[سورة الأحزاب]

(لَهُم مَّغْفِرَةً) عن ذنوبهم بعد أن تابوا منها (وَأَجْرًا عَظِيمًا) على أعمالهم الصالحة.
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ أنت نفسك مِنْ أيِّ صنف؟ هل مِنْ صنف النفس المطمئنة، أو النفس اللوامة، أو النفس:

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)
[سورة يوسف]

هل أنت ذو شهادةٍ ابتدائية أو ثانوية أو جامعية؟ فبعد أن تضيِّع الوقت ويمضي العمر ستصير أميّاً، صار عمرك تسعين سنة فهل ما زال هناك أملٌ في أن تنال الدكتوراه؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا العملَ والفرصةُ والحياة موجودة، وأن يكون المعلِّم المزكِّي موجوداً.
إذا كان مولانا خالد قد ذهب ماشياً مِنَ العراق إلى الهند، وهو رئيس علماء العراق، وهكذا عَرَفَ ما معنى العالِم الوارِث، فأنت هل فتَّشت كما فتَّش أكبر علماء العراق؟ هل رئيس علماء العراق أحوَجُ إلى العالِم الوارِث أم أنت؟ وإذا كنت لا تفكِّر فهل هذا دليلُ الفهم أم عدم الفهم؟ العِلم أم عدم العِلم؟ الإهمال أم الإهتمام؟ لو كنت تهتم وتعلَم فواللهِ لو كنت في الشرق والعالِم الرباني في الغرب ومشيت إليه زحفاً لا تكون قد فعلت شيئاً كثيراً مقابل ما تكسب مِنَ الربح الكثير.

النفس المطمئنة ترى ملائكة الرحمة عند الموت:
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ حين ترى ملائكة الرحمة عند الموت، بأجمل ما خلق الله عزَّ وجلَّ، بالوجوه الضاحكة، بالبشارة بالمغفرة والجنة، تقول لها: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ برَوحٍ وريحان، وربٍّ غير غضبان.
سأل سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن هذه الآية، فقال له: ((يا أبا بكر، إن الملائكة لتقولها لك عند موتك)) ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ عمَّا ترى مِنْ عطاء الله عزَّ وجلَّ وثوابه وجِنانه ومِنْ ملائكة الرحمة الذين يستقبلونه في السَّماوات، كلما مرَّ في سماءٍ قالوا: روحٌ طيبة، روحٌ مؤمنة، تُفتَح لها أبواب السَّماء:

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
[سورة الأعراف]

(حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ) حتَّى يدخل الجمل (فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) في ثُقب الإبرة.
فهل نحن مؤمنون بهذا الكلام؟ هل استعددنا لأن لا ندخل الجنة إلا إذا دخل الجمل في سمِّ الخياط؟ أو لأن نسمع نداءً عند الموت: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾ الصالحين في زمرتهم ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ أهذه أعظَم أم الدكتوراه؟ أهذه أعظَم أم أن تنال لقب مليونير أو ملياردير؟ إذا مات الملياردير فماذا يحدث؟ الله يرحمه، وهل هذه "الله يرحمه" صحيحة يا ترى؟ ربما لا يرحمه الله عزَّ وجلَّ ويكون لقبه: "الله لا يرحمه"، فهل كلمة الله عزَّ وجلَّ أصحُّ أم كلمتك؟

خيركم من عقم نفسه من ظلمات الذنوب:
فهذا:

{ خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ (13) }

[صحيح البخاري]

فتعلُّم القرآن ليس فقط تعلُّم النطق بحروفه أو الإجادة والتجويد في أحكام التجويد بل بفهمه فكراً، وبتطهير النفس وتعقيمها مِنْ ظلمات الذنوب ومِنْ ظلمات حبِّ الدنيا حتَّى يمتلئ قلبك مِنْ نور الله عزَّ وجلَّ ومِنْ جمال نوره فتصير عاشقاً لربك، تصير قِبلتُك في الحياة وفي كلِّ حركاتك: "إلهي أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي". وإن عثرتَ على الوارِث النبويّ (العلماءُ ورَثةُ الأنبياءِ) فقد عثَرت على سعادة الدنيا والآخرة وكنزِهما.
فإذا كنتَ طفلًا عمرك ثلاث أو أربع سنين وعثرت على كنزٍ وبجانب الكنز لعبةٌ تصدر أصوات مزمارٍ فهل تأخذ الكنز أم المزمار؟ فهل أنتم مِنْ حزب المزمار أم مِنْ حزب الكنز؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُوفِّقنا، اللهم اجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسَنه، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين.

الإسلام مُقبِل:
سبحان الله! قال: مئة يابانيٍّ يُعلنون إسلامهم: أعلن مئة شخصٍ في اليابان إسلامهم بعد أن كانوا يعتنقون دياناتٍ مختلفة، هذا ما صرَّح به الداعية الإسلامي الدكتور صالح سامرائي مدير الشؤون الخارجية في المركز الإسلامي في طوكيو، وأشهَر رئيس مجلس مدينة ساوثهامبتون البريطانية إسلامه، وقال رئيس الجماعة الإسلامية في المدينة: إن السيِّد فلاناً اعتنق الإسلام وسمَّى نفسه "علي أحمد" وهو سياسيٌّ رفيع المستوى، وعضو في حزب العمال، وقد أعلن إشهارَ إسلام رئيس مجلس المدينة البريطانية إمامُ المسجد خلال احتفال بزراعة الأشجار حضره رئيس البلدية في ساوثهامبتون.
الإسلام مقبل، روى لي بعض إخوانكم الأمريكان الذين يدرسون عندنا في المعهد أنه يُقدَّر عدد الذين يعتنقون الإسلام في أمريكا سنويّاً بمئة وخمسين ألفاً! وربما يأتيكم هذه السنة عددٌ كبيرٌ مِنْ أمريكا للدراسة في المجمع، وفي الأسبوع الماضي أقمت جلسةً مع الطلاب القادمين مِنْ إنجلترا وأمريكا، ما شاء الله عليهم! نورٌ ونار، نورٌ يضيء الطريق للسُّراة، ونارٌ تحرق الأباطيل التي تعترض طريقهم.
الإسلام مُقبل، قولوا آمين: اللهم ألهِم حكام المسلمين وأغنياء المسلمين وهيِّئ العلماء الوارِثين المُحمَّديين.

الشهادة لا تصنع الوارِث:
الشهادة مِنَ الأزهر ومِنْ كلية الدعوة ومِنْ كلية الشريعة لا تصنع وارِثاً، هذا يحتاج إلى مدرسةٍ أخرى، شيخنا - قدَّس الله روحه - كان مِنْ كبار العلماء، لما اجتمع بالوارث المُحمَّدي رأى نفسه طفلاً صغيراً! وفي أربعين يوماً نال شهادة الوارِث المُحمَّدي! لكنه لم ينقطع في هذه الأربعين يوماً عن ذكر الله عزَّ وجلَّ ولا للحظةٍ واحدة، ليلاً ونهاراً ونهاراً وليلاً، وشيخه طلب منه أن يترك دروسه وقراءة الكتب، قال له: والقرآن؟ قال: والقرآن أيضاً، إلا الصَّلوات الخمس فريضةً ونافلةً وبقية الوقت كلُّه في ذكر الله عزَّ وجلَّ، فبعد الأربعين فتَحَ الله عزَّ وجلَّ عليه، فقال له: الآن ارجع إلى ما كنت عليه: اقرأ القرآن، وارجع إلى الدروس وإلى آخره..

طاعة المربي:
عندما يطلب الطبيب مِنَ المريض أن يمتنع عن أكل الحلويات والدسم فهل معنى ذلك أن يمتنع طوال عمره؟ فقط لحين أن يتخلَّص مِنَ المرض، فهل أنتم مستعدون لأن تكونوا مع الشَّيخ بهذا المنهاج؟ الذكر الدائم، تتعلَّم الذكر، خاصة إذا كانت هناك حلقات الذكر مثل إخواننا، تذكر مع الذاكرين، والذكر القلبي النفسي ذكره الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي:

{ يقولُ اللهُ أنا مع عبدي حينَ يذكُرُني ، فإن ذكرني في نفسِه ذكرتُه في نفسي ، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منهم (14) }

[شعب الإيمان للبيهقي]

ومتى ذقتَ طعم ذكر القلب وبدأ قلبك ينبض بذكر الله عزَّ وجلَّ فواللهِ لو وُضِعت الدنيا في كفةٍ ووُضِعت هذه الحالة في الكفة الأخرى لتَجدنَّ هذه الحالة أربَح لكَ مِنْ تلك.

الجمع بين خير الدنيا والآخرة:
فإذا خلا قلبك لا يطلب الله عزَّ وجلَّ منك أن تترك الدنيا، لا، بل بالعكس:

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
[سورة الفرقان]

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
[سورة السجدة]

إذا كنتم رجالاً فصيروا أئمةً وادعوا إلى الله عزَّ وجلَّ على بصيرةٍ بقلبٍ وقالب، بعقلٍ وحكمة، والنَّاس كلُّهم بخير، وأُبشِّرُكم بأن الإسلام مُقبل، في سنة ثمانين قلت لكم أبشِّركم بأن الشيوعية ستزول خلال عشر سنين، أنا لا أعلم الغيب ولا وحيَ بعد نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم لكنَّ هذا إلهامٌ رباني، وأبشِّركم بأن القرن الحادي والعشرين هو قرن الإسلام.
فشمِّروا لكي تسجَّلوا في الجيش الإلهي في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ: الصانع مع الصناع، العامل مع العمال، الفلاح مع الفلاحين، المرأة مع النساء، التاجر مع التجار، الطفل مع الأطفال؛ لأنه:

{ ليس الإيمانُ بالتَّمَنِّي ولا بالتحلِّي ، ولكن هو ما وقر في القلبِ ، وصدقَهُ العملُ (15) }

[الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي]

وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّدٍ وآله وصحبِه.

الترحيب بأطباء:
أتاكم طبيبٌ مِنْ فرنسا مِنْ أبناء الجامع، عماد الدين الصباغ، للأمراض العصبية والنفسية وتخطيط الدماغ والأعصاب في شارع بغداد مقابل معهد الشهيد باسل الأسد، مباركٌ إن شاء الله يا دكتور عماد، والحمد لله صار من إخوانكم أطباءٌ كُثر وأخصائيون في الجراحة وفي القلب وفي الداخلية وغير ذلك.. أيضاً إذا كان الطبيب مؤمناً يكون موثَّقاً ويطمئن إليه النَّاس. الدكتور أويس الطرقجي اختصاصي في الجراحة وفي الداخلية، عدنان حلبي في الهضمية، الدكتور أبو الخير حلبي في القلبية، عدنان صباغ في الكليتين، وغيرهم كثيرون.. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل الإيمان في كلِّ طبقات النَّاس، الأطباء والصيادلة...

نعمة الله على الطالب بالشَّيخ:
الدكتور أحمد مختصٌ في الجراحة العظمية وقد درس في فرنسا أتاني يوماً من الأيام أثناء دراسته في السنة الثالثة وأخبرني أن في بصره قصوراً، وقال لي: نحن في اللاذقية والحمد لله أكرمنا الله عزَّ وجلَّ - والده غني - وأنا لست بحاجةٍ إلى الشهادة ولا إلى الطب، كم عليكم أن تشكروا الله عزَّ وجلَّ على نعمة الشَّيخ؟ الله يديم هذه النعمة عليكم! ويديم علي أنا أيضاً نعمة وجودكم، فقال لي: أريد أن أترك، لكن مِنْ أدب المريد الصادق أن يُشاور شيخه في مهمات الأمور، وأنا أريدكم أن تكونوا أسود الدنيا والدين، فقلت له: وأين ستُذهب هذه السنوات الثلاث التي درستها في الطب؟ هل سترميها؟ إذا كنت تُشاورني فأنا لا أسمح لك، فقال لي: إذا كنت لا تريد فأنا تحت أمرك وسأكمل.
كم عليكم أن تشكروا الله عزَّ وجلَّ؟ وأكمل، ونظاراته سميكة، وعندما انتهى أخبرني، فقلت له: لا لم تنتهِ بعد، عليك أن تختص، فاختصَّ – رضي الله عليه - بجراحة العظام، وما شاء الله! فكيف هي صحبة الشَّيخ؟ هل هي للدين فقط أم للدين والدنيا؟ للإثنين، وهذا للصادقين، لو لم يكن صادقاً لما شاور الشَّيخ، وحتَّى لو شاور الشَّيخ لا يمتثل أمره، والذين لم يسمعوا كلام الشَّيخ هل ضرُّوه؟ ولو بقي مِنْ عمرك ولو يوماً واحداً فاكسب هذا اليوم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
[سورة الأنفال]

استفدْ مِنْ كلِّ وجودك، مِنْ كلِّ قلبك، مِنْ كلِّ طاقاتك، الله عزَّ وجلَّ بشرعه وقرآنه، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم بدعوته لمصلحة مَنْ؟ ولسعادة مَنْ؟

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]


الإسلام قادم من الغرب:
الإسلام قادمٌ قادمٌ قادم ومِنْ أين سيأتي؟ مِنَ الغرب، ((في آخر الزمان تُشرق الشَّمس مِنْ مغربها))(16). حدثتني بهذا الحديث مستشرقةٌ هولنديةٌ مسلمة، توجد الآن هولنديةٌ مسلمةٌ تستمع إليكم وهي من الذاكرات، وتتقن خمس أو ست لغات، رضي الله عنها. والهولندية الأخرى قالت لي: أنا ترجمت أربعة آلاف حديث، وما تفسير حديث ((تشرق الشَّمس مِنْ مغربها)) عندكم؟ فعرفت أنها تحمل معنًى معيناً، فسألتها: أنت ماذا تفهمين؟ قالت: ليس كما تفهمون أنتم أن الشَّمس تشرق مِنَ الغرب بدلاً مِنَ الشرق، بل: شمس الإسلام ستشرق مِنَ الغرب!

تقبل الغرب للإسلام :
الواقع أن إخواننا وأخواتنا الذين مِنْ أوروبا وأمريكا عندما يسلمون يتقبَّلون الإسلام مئة بالمئة، أما المسلم فيتقبَّل الإسلام عندما يوافق هواه:

وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
[سورة التوبة]

كنت في الأسبوع الماضي أتكلَّم مع طلابنا الأمريكان والإنكليز الذين يدرسون معنا في الكلية عن كيفية قيامهم بالدعوة في بلادهم فقلت لهم أن يستعملوا الحكمة، فقال لي الأمريكان: لا، إذا لم نشدَّ عليهم بالإسلام مئة بالمئة لا يمكن، إما إسلام مئة بالمئة وإما لا، الإسلام بالإسم فقط مرفوض! واللهِ لله دره! وكلُّهم ما شاء الله! نساؤهم، أتتني الفرنسيات: أكمام أيديهن إلى الرسغ، الثوب إلى كعبي الرجلين، لا ترى مِنْ رؤوسهن شعرة، مطرقاتٌ بأعينهنَّ إلى الأرض، خلال ساعةٍ ونصف الساعة لا رأين سواد عيني ولا رأيت سواد أعينهن، ذاكرات، متهجدات، داعيات.
أليس عيباً علينا أن يسبِقنا هؤلاء غداً إلى الجنة وإلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فيقول لنا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: أيها المهملون، أيها الكسالى، أيها الراسبون مِنْ بني راسِب، ألقوهم في دجلة ليرسبوا هناك! فأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلكم مِنْ بني طفاوة. وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين، الفاتحة إلى روح بعض إخواننا الذين تُوُفُّوا.

الهوامش:
(1) مسند أحمد، رقم: (8417)، (4/142)، مسند الطيالسي، رقم: (2696)، (4/299).
(2) مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (ص: 24) رقم (25).
(3) ورد في الأثر
(4) ورد في الأثر
(5) صحيح البخاري في الأدب، باب من يعول يتيمين، رقم 221.
(6) سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641). والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682). سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223).
(7) سنن الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع: باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص، رقم: (2418)، مسند أحمد، رقم: (8414)، (14/138)، مسند أبي يعلى، رقم: (6499)، (11/385)، صحيح ابن حبان، رقم: (7359)، (15/359).
(8) مستدرك الحاكم، رقم: (7923)، (4/361). قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد إن كان عبد الله بن أبي مليكة سمع من أمير المؤمنين عليه السلام» وقال الذهبي: بل منكر منقطع. واللفظ: ((إذا أبغض المسلمون علماءهم وأظهروا عمارة أسواقهم وتناكحوا على جمع الدراهم رماهم الله عز وجل بأربع خصال: بالقحط من الزمان، والجور من السلطان، والخيانة من ولاة الأحكام، والصولة من العدو))
(9) صحيح البخاري, كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، رقم (6436 )، ومسلم في الرقاق، باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً، رقم (1048) .
(10) سنن أبي داود, كتاب الطهارة, باب في الرجل يجد البلة في منامه, رقم: (236), سنن الترمذي, أبواب الطهارة, باب فيمن يستيقظ فيرى بللًا, رقم: (113).
(11) مسند أحمد (23489)، (38/474)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (4774)، (17/132).
(12) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في الرحمة، رقم: (4941)، سنن الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في رحمة المسلمين، رقم: (1924)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (6494)، (2/160).
(13) صحيح البخاري, كتاب العلم, باب خيركم من تعلم القرآن, رقم: (5027).
(14) مصنف ابن أبي شيبة، رقم: (1224)، (1/108)، حلية الأولياء، (6/37)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (670)، (2/171).
(15) الفردوس بمأثور الخطاب للديلمي، رقم: (5232)، (3/404) مختصرا، مصنف ابن أبي شيبة، رقم: (30988)، (15/985)، (36359)، (19/372)، الزهد لابن أبي عاصم (1/ 263).
(16) أحاديث كثيرة مختلفة الألفاظ في معنى هذا الحديث ومنها ما ورد في الصحيحين: صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن: باب {لا ينفع نفسا إيمانها}، رقم: (4635)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان: باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، رقم: (157). ولفظه: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذاك حين: {لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل}.