تفسير سورة الفجر 02

  • 1995-12-15

تفسير سورة الفجر 02

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصَّلاة وأتم التسليم على سيِّدنا محمد سيِّد ولد آدم الأولين والآخرين وخاتَم النبيين والمرسلين وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم وعلى أخويه سيِّدينا موسى وعيسى وعلى جميع إخوانه مِنَ النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ وصَحْب كلٍّ أجمعين، وبعد:


ما سبق من سورة الفجر:
فنحن لا نزال في تفسير سورة الفجر، سبَقَ معكم أن الله عزَّ وجلَّ استفتَحها بأربعة أيمانٍ وأقسام، حلَف الله عزَّ وجلَّ بهذه الأيمان للإنسان فهل يا تُرى صدَّق الإنسانُ ربَّه فيما يُخبره وهو الخالِق العظيم وهو مصدر الحياة والعطاء والإحسان؟ فما الذي جعل اللهَ عزَّ وجلَّ يحلِفُ اليمين للإنسان؟ عادةً الصغير يحلِفُ للكبير، والضعيف يحلِفُ للقوي، فخالِق الكون عزَّ وجلَّ - رحمةً وحناناً وعطفاً ولإنقاذ الإنسان مِنْ شقاء الدنيا والآخرة - يُعلِّمه ويُخبره ويقول له: إذا كنت لا تصدِّق فسأحلِف لك يميناً، والمسلم يقبِّل المصحف ويقول: صدق الله العظيم، ولكنه في الوقت نفسه يقول: كذَب الله العظيم!

تصديق الله عزَّ وجلَّ يكون بالتطبيق:
يقول له: لا تشرب السّم، ويحلِفُ له يميناً أن هذا سُم فيجيبه: صدق الله العظيم هذا سُم، وبعد ذلك عمليّاً يشربه فهذا قوله: صدق الله العظيم، أما عمله فـ: كذب الله العظيم! وفي سورة الفجر أربعة أيمان.

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
[سورة الضحى]

(وَالضُّحَى) أيضاً يمين.

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)
[سورة الشمس]

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)
[سورة الطارق]

كم يميناً حلَفَ الله عزَّ وجلَّ لنا؟ مئة يمين أو مئتي يمينٍ فهل صدَّقتم اللهَ عزَّ وجلَّ؟
يأتي طبيبٌ مسلم أو غير مسلم أو ملحد أو شيوعي فيُعطيك وصفةً ويقول لك كذا وكذا.. فتقول له: صدق الطبيب العظيم! مِنْ غير أن تقول له صدق ومِنْ غير أن يحلِف لك تُطبق الوصفة حسب الكتابة، فيا تُرى أنت كمسلمٍ وأنت كمخلوقٍ مِنْ لا شيء:

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
[سورة الإنسان]

كل منا قبل أن يُوجَد هل كان شيئاً؟ مَنْ الذي جعله شيئاً؟ شيئاً إنساناً، ولو شاء أن يجعله شيئاً سحليةً أو حماراً فكله من الماء، أو بغلاً أو تيساً أو فأرةً، فخلق:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
[سورة التين]

وأرسل له أشرف ملائكته وأشرف أنبيائه وأعظم كُتبه وتكفَّل بحفظ القرآن فلا يُغيَّر ولا يُبدَّل، كلُّ الكتب السَّماوية دخلها ما دخلها.
فهل يا تُرى المسلم والمصلي وأنتم الموجودون الآن في الجامع تصدِّقون الله عزَّ وجلَّ؟ بالأعمال، تقول: صدق الله العظيم، الكلام سهل، وإذا لم تصدِّق فأنت كافر! الذي يكذِّب كلام الله عزَّ وجلَّ بأعماله وسلوكه ولا يُهمِّه بأنه إذا استجاب إلى الله عزَّ وجلَّ أو أعرض عنه لا يُحسُّ بأنه أعرَض، هذا ميت الإيمان، ليس عنده إيمان، هل يضع الإنسان الحي إصبعه في النار أو في فم الأفعى؟ لأنه يؤمن بأن في هذا العمل ضرره أو هلاكَه، فهل أنت مؤمنٌ بكلام الله عزَّ وجلَّ أن معصيته مُهلكة وأن طاعته مُسعدة؟ هل صدَّقت الله عزَّ وجلَّ في يمينه؟ لا صدَّقت كلامه فعمِلْت به، ولا صدَّقت أيمانه فبَرَرته في يمينه!
هل أنت إنسان؟ الكلب البوليسي مثل بقية الكلاب، لكنه بالتعليم يتعلَّم ويستجيب لما تعلَّمه، فأنت إذا تعلَّمت ولم تستجِب، أو لم تتعلَّم، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ طلَبُ العِلمِ فَريضةٌ }

[ورد في الأثر]

فأيُّ إنسانٍ أنت؟ هل أنت مسلم؟ أيُّ مسلمٍ أنت؟ المنافقون كانوا يقولون أنهم مسلمون لكنَّ الله عزَّ وجلَّ قال:

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
[سورة المنافقون]


عظمة الفجر:
ندخل في السورة: بعد بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالْفَجْرِ﴾ يعني أُقسِم بالفجر، مَنْ يستطيع أن يُخرج الفجر ونوره وضياءه ويزيده حتَّى يصير شمساً مشرقةً ونهاراً مُضيئاً يُضيء عليك كلَّ الدنيا مجاناً لتقوم بأعمالك وحياتك ولوازم أسرتك وغير ذلك؟ فهذا الفجر الذي أقسَم الله عزَّ وجلَّ به:

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
[سورة الإسراء]

الوقت الذي تجتمع فيه ملائكة الليل وملائكة النهار الذين يُحصون أعمالك، أعمال الليل لها ملائكة، شرطة إلهية، وأعمال النهار تُحصيها شرطة إلهية، فأنت هل صدَّقت الله عزَّ وجلَّ؟ هل صدَّقت كلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟
واللهِ أريد أن أذهب لزيارة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فأنت أيها الراغب بزيارة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم هل صدَّقته؟ هل تقبّلتَ كلامه ونفَّذته؟ ذهبت ورأيت نافذةً مِنَ النحاس فوضعت يدك عليها! فماذا استفدنا؟ رجعنا كما كنا، فهل سنبقى سكارى؟ هل سنبقى معرضين والموت ينتظرنا خلف الباب؟ وهو يمشي سقط، وهو داخلٌ إلى البيت سقط، أراد أن يدخل مِنَ الباب فسقط، بماذا ستُقابل الله عزَّ وجلَّ؟

كل كلمة تصدر عنك تسجَّل:

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (3)
[سورة الإنفطار]

ما معنى هذا؟ ما معنى أن الإنسان:

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

كلماتك يكتبها الملَك كالمُسجِّل، كلُّ كلمةٍ تصدر عنك تُسجَّل، ما معنى قول الله عزَّ وجلَّ:

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
[سورة الإسراء]

لا يصحُّ أن تسمع كلاماً أيها المتكلم، إذا أتاك نمامٌ وبلَّغك خبراً عن إنسانٍ، صادقاً أو كاذباً، كما حرَّم الله عزَّ وجلَّ النميمة حرَّم الاستماع إليها، إذا جاءك نمامٌ وقال لك: فلانٌ قال كذا وفلانٌ تكلم هكذا؛ قال الله عزَّ وجلَّ:

وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
[سورة القلم]

(حَلَّافٍ مَهِينٍ) ولو حلَفً لك الأيمان المغلَّظة، (هَمَّازٍ) مُغتاب (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)، يا تُرى كم مرةً أنت قرأت هذه الآية؟ وكم مرةً سمعتها؟ هل صدَّقت الله عزَّ وجلَّ ونفَّذت أمره وانتهيت عند نهيه؟
معنى مسلم: هو الذي يستجيب لأوامر الله عزَّ وجلَّ بالطاعة والانقياد فهل استجبت وعملت وانقدت؟ أنت لست مسلماً! لماذا؟ لأنه هل تصير طبيباً مِنْ غير كلية الطب وأساتذة الطب؟ هل تصير سباحاً من غير أستاذ السباحة ومِنْ غير بحر؟ هل تصير طياراً مِنْ غير أساتذة الطيران وتدريب الطيران؟ فمَنْ علَّمك الإسلام؟ ومَنْ درَّبك؟ ومَنْ ربَّاك؟ مَنْ شيخك؟ شيوخك في الكذب كثيرون، وكذلك في الغيبة، وفي الحرام في القول والعمل كثيرون، فكيف ستلقى الله عزَّ وجلَّ؟

فضل الليال العشر:
والله عزَّ وجلَّ يقول لك: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ ليالي عشر ذي الحجة، كلُّ الحجاج مُحرمون وتاركون لدنياهم ومُقبلون على الله عزَّ وجلَّ ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾:

{ إنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ (1) }

[صحيح مسلم]

حلَفَ بنفسه، والمخلوقات:

وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
[سورة الذاريات]

حلَفَ لك بنفسه وبالوجود كلِّه، ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ أيضًا إذا يسري فيه الساري ويُسافر فيه المسافر، أو الليل عندما يسري ويأتي بعده النهار، هنا يوجد يمين ولكنْ لا يوجد جواب، كما تقول: والله إذا فعلتَ كذا لأفعلنَّ كذا.. هنا لم يذكر الله عزَّ وجلَّ الجواب -الجواب الظاهر- فيعني بهذه الأيمان الأربعة: أنَّ أعمالكم مُحصاةٌ عليكم:

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
[سورة الإنفطار]

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

الله عزَّ وجلَّ يحلِفُ لكم بالفجر فهل صدَّقتم كلامه؟

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
[سورة البقرة]

هل تصدِّقون كلام الله عزَّ وجلَّ صدَق الله العظيم؟ (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)هل تصدِّقون الله عزَّ وجلَّ؟ ويحلِفُ لكم أيماناً:

هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
[سورة الحديد]

هل تصدِّقون الله عزَّ وجلَّ؟ إذا كنت تصدِّق الله عزَّ وجلَّ وتعمل أعمالاً بخلاف ما يأمرك الله عزَّ وجلَّ به فأنت إذاً لست مؤمناً بكلامه ولا مُصدقاً بقرآنه ولا تتقبَّل حلف أيمانه، فمَنْ أنت؟ وإذا متَّ فأين سيحشرك الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة ومع مَنْ؟ والموت أقرب مِنْ سواد العين إلى بياضها، فماذا ننتظر؟

هل تكون كل أعمالكم حسب أوامر الله عزَّ وجلَّ؟
﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ﴾ هل تكفيكم هذه الأيمان لتَقْنَعوا وتُؤمنوا بكلامي، وتنفِّذوا أوامري، وتقبلوا وصاياي، وتكسبوا رضاي، وتتوبوا مِنْ ذنوبكم؟ والموت في كلِّ لحظةٍ محيطٌ بكم، ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ﴾ يعني يمينٌ مقنع، هل اقتنعتم؟ الله عزَّ وجلَّ يسألنا فأجيبوه، هل اقتنعتم؟ وهل تكون كلُّ أعمالكم بحسب أوامر الله عزَّ وجلَّ؟ حلَفَ لكم أيماناً فإذا قلتم إنكم قبِلتم ثم عملتم بخلاف ما يدعوكم إليه الله عزَّ وجلَّ فأنتم إذاً لم تقبلوا كلامه ولا صدَّقتم أيمانه ولا باليتم ولا يُهمُّكم غضبه ولا رضاه! فلو أن الله عزَّ وجلَّ خَسَف بنا الأرض، أو أنزل علينا صواعق مِنَ السَّماء، أو سلَّط علينا الأعداء مِنْ كلِّ الجهات لكنا نستحق أكثر:

وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
[سورة السجدة]

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ) أولاً يضربنا الله عزَّ وجلَّ بالعصا الصغيرة الخفيفة قبل العصا الكبيرة، قال: (لَعَلَّهُمْ) يكتفون بالصغيرة ولا يحتاجون إلى الكبيرة.

القرآن أتى ليعلِّمك الدنيا والآخرة:
هذه السورة وحدها تكفي لأن تصنع الإنسانَ الصادق المستقيم ذو الأخلاق الناجح في الحياة، لأن القرآن أتى ليُعلِّمك الدنيا والآخرة، ليُعلِّمك ما يُسعد جسدك وروحك، أرضك وسماءك، ليجعلك أعزَّ أهل الأرض وأغناهم وأقواهم وأكرَمهم عند الله عزَّ وجلَّ وعند خلقه، الذلُّ في معصية الله عزَّ وجلَّ، الهوان والحقارة والضياع في مخالفة أوامر الله عزَّ وجلَّ.
﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ ما هو الحِجر؟ يعني أن هذه الأيمان تكفي للعقلاء لأن يصدِّقوا، فإذا لم يُصدِّقوا فمعنى ذلك أنه لا عقل لهم ولا حِجر فيهم، إذاً الدابة لها عقل ضمن ما خلقها الله عزَّ وجلَّ مِنْ أجله، أما أنت فلا عقل لك والحيوان خيرٌ منك، كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ مرَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ببعيرٍ قد لحِقَ ظَهْرُهُ ببطنِهِ فقالَ اتَّقوا اللَّهَ في هذهِ البَهائمِ المعجَمةِ فاركَبوها صالِحةً وَكُلوها صالحةً }

[صحيح أبي داود]

(اتَّقوا اللَّهَ في هذهِ البَهائمِ المعجَمةِ) التي لا تتكلَّم، (فاركَبوها صالِحةً) بأن تكون قوية، أشبعها لتستطيع خدمتك، (وَكُلوها صالحةً) أَسمِنها بالطعام.

{ فرُبُّ مركوبةٍ خيرٌ من راكبِها وأكثَرُ ذكرًا للهِ منه(2) }

[مسند أحمد]

ربما يكون البغل الذي يجرُّ العربة أحسَن مِنْ سائق العربة (وأكثَرُ ذكرًا للهِ منه) قال الله عزَّ وجلَّ:

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
[سورة الإسراء]

فالله عزَّ وجلَّ يسألكم: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ﴾ هل تكفي الأيمان التي حلَفتها تكفي لكم لتقنَعوا بأني صادقٌ ولست بكاذب؟ ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ﴾ هل لكم قناعة؟ أما إذا لم يكن هناك عقل، كيف يعني ليس هناك عقل؟ يوجد عقلٌ ولكنه ألقاه في القمامة، قذَفَ به في أماكن النجاسات، كالجرذ: لا يُفكر إلا في المجاري والأماكن القذرة، بعكس النحلة فهل رأيت نحلةً جالسةً على غائط، أو داخلةً في المجاري؟ أين ترى النحلة؟ إما على الياسمين أو في الورود أو في الحدائق:

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
[سورة النور]


صاحب العقل يقتنع:
الله عزَّ وجلَّ يسألكم: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ﴾ في الأيمان التي حلفتها هل قنِعتُم بكلامي بأني صادقٌ لا أكذب يا أصحاب العقول؟ ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ يعني لذي عقلٍ وفكرٍ وفهم، إذا لم تقتنع فمعنى ذلك أنه ليس لديك عقلٌ ولا فكرٌ ولا أنت إنسان:

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
[سورة الأعراف]

(كَالْأَنْعَامِ) كالدواب، (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) إن هم إلا كالحمير بل الحمير أفهم، (بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) القرآن هو الذي يتكلم، فإذا سجَّلك القرآن في قائمة الحمير، الحمار لا يعصي الله عزَّ وجلَّ، الحمار أمره الله عزَّ وجلَّ بطاعة الإنسان فتراه مطيعاً: يُحمِّله فوق طاقته فلا يعترض، يُجرَح ظهره ولا يتكلَّم، يُجوِّعه ولا يقول شيئاً.
فأنت من أنت؟ ليتك لم تكن إنساناً! ليتك كنت حيواناً، ليتك لم تُخلَق، كان أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ عُمق فهمهم يقول أحدهم: يا ليتني كنت تِبنةً وأكلتني شاة وأخرجتني مع ما يخرج ولم يكن عمر شيئاً مذكوراً! أبو بكر رضي الله عنه يقول: يا ليتني كنت كبش أهلي فأتاهم ضيوف فذبحوه لضيوفهم، فطبخوه فأكلوني فأخرجوني مِنْ حيث ما تخرج فضلات الطعام، ولم يكن أبو بكر شيئاً مذكوراً، هل كان هؤلاء أغبياء ونحن الناس الأذكياء؟ يكفينا شقاءً، يكفينا جهلاً، يكفينا جنوناً، ومتى أتى الموت فليس هناك يا أمي ارحميني ولا:

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
[سورة المؤمنون]

انتهى الأمر، لا يمكنك أن تزيد في رأس مالك في الآخرة ولا شعرةً واحدة.

عذب الله العصاة بأبسط الأساليب:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ عاد مجموعةٌ مِنَ العرب كأمَّة، عصوا أمر الله عزَّ وجلَّ وكذَّبوا رسولهم هوداً، ونهاهم وكرَّر عليهم وأكَّد تعليمهم فأعرضوا وأعرضوا وأعرضوا.. فماذا فعل الله عزَّ وجلَّ بهم؟ سخَّر عليهم بعض عوامل الطبيعة، سخَّر عليهم الريح والهواء والعواصف:

سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)
[سورة الحاقة]

ما معنى (حُسُومًا)؟ يعني متتابعةً بلا انقطاع، ترفع الشخص مِنَ الأرض إلى الفضاء، ثم ينضرب بالأرض، (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ) أعجاز النخل تعني جذور النخل المهترئة التي إذا ضُربت من الأعلى تتمزَّق وتتفتَّت تفتتاً.
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ يعني ألم تعلم؟ أما بلَغك؟ ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ برؤية العقل، برؤية القناعة، برؤية القلب، هل اتَّعظتَ بعاد؟ أمّة، آلاف، مئات الآلاف، لما أصرُّوا على معصية الله عزَّ وجلَّ لم يُعجزوه، إذا أتت ضربة الله عزَّ وجلَّ وأمَر الله عزَّ وجلَّ بتنفيذ الحكم فالعويل لا يُحيي الميت، والصراخ على الغريق في وسط البحر لا يُنقذه مِنَ الغرق، ﴿كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ هناك عادان: عاد الأولى عاد إرم، قال إن هذه عاد إرم، و﴿ذَاتِ الْعِمَادِ﴾ كانوا طِوالاً جِساماً وأحجامهم عظيمة أعظَم قبائل العرب ويرفعون الخيام بالأعمدة، ﴿الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾ في الجزيرة العربية كانوا أقوى القبائل وأغناها وأعظَمها:

وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
[سورة الحاقة]

عند الله عزَّ وجلَّ توجد ريحٌ تطيِّر الخيام وتطيُّر الناس وتطيُّر الدول والملوك، وتطيُّر فرعون وهامان.
فما أنت؟ تريد أن تُناطح الله عزَّ وجلَّ أو تستحقره وتقول: مَنْ هو الله؟ الله أعمى لا يراني، وأطرش لا يسمعني، وهذا الكلام الذي يتكلَّمه في القرآن كلُّه كلامٌ في كلام، هذا كلام مزاحٍ يُمازحني به

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

هذا كذب! صدق الله العظيم، أيضاً أنت كاذبٌ في قولك: صدق الله العظيم، وما آخرة الكذب يا تُرى؟ القبر، القيامة، سورة الغاشية..
﴿وَثَمُودَ﴾ أيضاً ثمود، كانت عادٌ في جنوب الجزيرة العربية وثمودٌ في شمالها في مدائن صالح، لما مرَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بمدائن صالح في غزوة تبوك أمَر الجيش أن يمشوا بسرعة، الجِمال والخيل ألا يمشوا ببطء، قال:

{ لا تَدْخُلُوا علَى هَؤُلَاءِ القَوْمِ إلَّا أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فإنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فلا تَدْخُلُوا عليهم؛ أنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أصَابَهُمْ (3) }

[صحيح البخاري]

يعني أن المغضوب لله عزَّ وجلَّ يُؤثر شُؤمه في مَنْ يمرُّ على قبره! فكيف إذا جلس مع المشؤوم وأكل معه وضحك له، وضحك للملعون وصاحَبَه وشاركه في لعناته؟ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: اركضوا ولا تمشوا ببطءٍ عندما تمرون بقوم في قبورهم ((فإنهم في وادٍ ملعون)) الأرض صارت ملعونة.

قداسة الأرض من سكانها:
وهناك مخلوقاتٌ تصير الأرض بوجودهم مقدَّسة:

إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
[سورة طه]

هو وادٍ قاحل، ومكة:

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
[سورة إبراهيم]

صارت مقدَّسةً بمَنْ؟ بالإنسان الذي هو إبراهيم عليه السَّلام، المدينة كانت قرية مِنَ القرى، قُدِّست بالإنسان: سيِّدنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، أنت تقدِّس السهرة أو تنجِّسها، تُنجِّس رفيقك أو تُقدِّسه، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا مقدَّسين ومُقدِّسين، طاهرين ومطهِّرين، ذاكرين ومُذكِّرين، بالقول وبالعمل وباللسان وبالقلب.
﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ﴾ كان فرعون قد ثبَّت جذوره في الأرض بجنوده ومملكته وجعل نفسه إلهاً:

فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
[سورة النازعات]

وهل هناك تثبيت جذورٍ أكثر مِنْ أن يجعل نفسه إلهاً؟ فماذا فعل الله عزَّ وجلَّ به؟

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
[سورة يونس]

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً) فأغرقه الله عزَّ وجلَّ في البحر - البحر الأحمر - وهو الآن موجودٌ في متحف مصر، وهذه مِنْ معجزات القرآن، (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) نعوذ بالله مِنْ أن يجعلنا عبرةً للناس، ونسأله سبحانه أن يجعلنا مُعلِّمين للناس بأعمالنا وإيماننا وأخلاقنا وسلوكنا.
﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ﴾ طغوا بكفرهم ومعاصيهم وفسادهم وفسقِهم وفُجورهم، بأكلهم الحرام، بقولهم الحرام، بسهراتهم الحرام، ﴿طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ فسَدوا في أنفسهم وأفسَدوا غيرهم، يوجد أناسٌ صالحون ومُصلحون، طاهرون ومُطهِّرون، ويوجد أناسٌ فاسدون ومفسدون، مغضوبون وكلُّ مَنْ جالَسَهم أو نظر إليهم مغضوب، النظر في وجه العالِم عبادة، فإذا كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قد أمَر بالمسارعة عند مروره بقبور المغضوب عليهم، فكيف بمَنْ يسهر معهم ويأكل معهم ويضحك لهم ويتنزَّه معهم وليله ونهاره معهم؟ ماذا سيُصيبه؟
تطعيم الشجر: تكون شجرة مشمش كلابي فتضع لها لصقةً صغيرةً مِنَ شجرة المشمش البلدي، وبعد أسبوع مِنْ صحبة هذه القشرة الصغيرة للشجرة الكبيرة تتحوَّل الشجرة الكبيرة مِنَ مشمش كلابي إلى بلدي! ما السبب؟ الصحبة والرابطة وعدم المفارقة، بصحبة أسبوعٍ تصبح طول عمرها سعرها غالٍ، وإذا وضعت الكلابي على شجرة البلدي؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا صحبة ومحبة ومُساهرة ومُلازمة الذين يُحبّهم الله عزَّ وجلَّ، ويُبعدنا عن صحبة وملازمة وحتى النظر إلى مَنْ يمقتهم الله عزَّ وجلَّ ولا يُحبّهم.

لن يترك الإنسان سدى:
﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ يُفسِد بأقواله وأعماله وحركاته، بأكل الحرام، بعدوانه وظلمه وضربه، بخيانته وغشِّه، ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ حين يحكم القاضي بالإعدام هل يُعدمون المجرم في نفس الساعة؟ هناك إجراءاتٌ قد تستغرق شهراً أو شهرين وربما تصل إلى سنة، لكنه في النتيجة سيُعدَم، فهل أنت يا تُرى مِنَ ﴿الَّذِينَ طَغَوْا﴾؟ هل أهلكهم الله عزَّ وجلَّ لأن اسمهم عاد أو ثمود أو فرعون؟ بل أهلَكهم لأنهم ﴿طَغَوْا﴾ تجاوزوا حدود طاعة الله عزَّ وجلَّ إلى معصيته بلسانهم، بعينهم، بأذنهم، بيدهم، برجلهم، بسهراتهم، بمصاحباتهم وأصحابهم، بذهابهم وإيابهم، بجهلهم وفسقِهم وضلالهم.

أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)
[سورة القيامة]

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) لو كان الله عزَّ وجلَّ يريد أن يتركك سدى: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) لو تركك سدًى فماذا تكون؟ كنت تكون دون المخاط، أتخجل أكثر لو أن المخاط وقع على ثوبك أو المني؟ فهل تركك الله عزَّ وجلَّ نطفة؟ أما جعلك إنساناً محترماً وأبا فلان؟ وأبا التقوى؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا مِنَ الموفَّقين، ويجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتبِّعون أحسنه.

عقوبة من يبالغ في الفساد أكبر:
﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ﴾ ما اكتفى بأنه فاسد، لا، بل يُريد أن يُعلِّم غيره أيضًا الفساد: يسرق ويُعلِّم غيره السرقة، يكذب ويُعلِّم الآخرين الكذب، يغشُّ ويُعلِّم غيره الغش، يخون ويُعلِّم غيره الخيانة، بالقول والعمل، بالحلال والحرام، وبعد ذلك؟ ﴿طَغَوْا فِي الْبِلَادِ﴾ ما أفسدوا بل أكثروا ﴿فِيهَا الْفَسَادَ﴾ ثم ماذا؟ هذا دورك، ودور الله عزَّ وجلَّ؟ ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ هل يكون الماء أقوى إذا كان ماشياً على الأرض أو إذا كان نازلاً مِنْ فوقٍ إلى تحت؟ ومتى يكون الصب صبّاً؟ عندما يكون الماء بغزارةٍ وبقوة، فمعنى ذلك أنه سينزل عليهم مِنَ العذاب بالقوة وبالشدة وبالصبِّ بالسرعة المتناهية.

تعدد أنواع العذاب:
﴿سَوْطَ عَذَابٍ﴾ السوط هو الكرباج المؤلف مِنَ الجلد وفي داخله سيخٌ مِنَ الحديد، هذا أشدُّ ما يعذب به الإنسانُ الإنسانَ، فكيف بسوط الله عزَّ وجلَّ؟ عادٌ أرسل عليهم سوطاً مِنَ الريح والعواصف، فرعون أرسل له سوطاً مِنَ الغرق، ثمود: صيحة ملَك:

وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
[سورة هود]

يوجد سوطٌ آخر: يُرسل الله عزَّ وجلَّ عليه الفقر، وسوطٌ ثالث: المرض، وسوطٌ رابع: يضعه الله عزَّ وجلَّ في مكانٍ لا يموت فيه ولا يحيا، يضعه في مكانٍ يتحيَّر فيه بنفسه، هذا في الدنيا، هذا:

وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
[سورة السجدة]

(الْعَذَابِ الْأَدْنَى) والقسط الأول مِنَ العذاب، (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى)
الأصغر (دُونَ) يعني قبل (الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ) ربما تتذكَّر أن أعمالك كلَّها مسجَّلةٌ وكلَّها أنت محاسَبٌ عليها وهذا بعض الجزاء، حتَّى تتوقَّف وتتوب عما بقيَ ولا تزيد على ما فعلت.

الإيمان يقتضي الاستجابة:
هذه سورة الفجر، يا تُرى هل آمنا بها؟ الإيمان أليس هو الإيمان بالقرآن؟ هل آمنت أنت بهذه الآيات كإيمانك بالأفعى والعقرب؟ ما هو مقتضى الإيمان بالعقرب؟ أن تضعه عند شواربك وتُمسكه مِنْ مخالبه وتقول له يا عيني ويا حبيبي وتلامس به شفتيك وأنفك؟ أهذا معنى إيمانك بالعقرب؟ أهذا إيمان؟ أن تُمسك بالأفعى بدل المسبحة، أهذا إيمانك بأنها أفعى وقاتلة وسمّها زعاف؟ أهذا إيمانٌ أم كُفر؟ وإذا قلتَ: أنا مؤمنٌ بأن الأفعى سامّةٌ وقاتلةٌ وعمِلت هذا العمل فماذا يقول الناس عنك؟ مجنون؟
الحمار إذا رأى الأفعى يبتعد عنها، الشاة تبتعد عن الأفعى أليس كذلك؟ فإذا كنت تعتبر نفسك إنساناً ولا تبتعد عن شيءٍ أخطر مِنْ مئة ألف أفعى وهو غضب الله عزَّ وجلَّ في الدنيا وفي الآخرة؟ أفتتوبون إلى الله عزَّ وجلَّ؟ وكلٌّ منكم يعرف ماذا فعل حديثاً وقديماً، في الليل والنهار، وإذا لم تتوبوا فهل تُعجزون الله عزَّ وجلَّ؟ إذا لم تتُب وزاد الوقود الذي سيُشعلونك به فهل هذا ربحٌ لك؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا العقل (المجنون مَنْ يعصي الله) (4).

تنوع البشر في الاستجابة والإيمان:
والآن إلى درسكم الجديد: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ﴾ ذكَر الله عزَّ وجلَّ في الآيات السابقة الشعوب والجماعات، والآيات الآتية الخطاب فيها موجَّه للإنسان الفرد، تلك كانت لقبيلة عاد، لقبيلة ثمود، للشعب القبطي في مصر -شعب فرعون- يعني أممٌ عصت الله عزَّ وجلَّ فلم يُهملها الله عزَّ وجلَّ من عذابه في الدنيا وهذا العذاب الأصغر، الآن يُخاطب الله عزَّ وجلَّ الإنسان الفرد، كلُّ واحدٍ منا يُخاطبه الله عزَّ وجلَّ، يقول: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ الآيات تقول إن الناس على قسمين: غنيٌّ وفقير، موسَّعٌ ومضيَّقٌ عليه، فكيف يجب أن يكون المؤمن في الحالتين؟ في حالة الغنى كيف يجب أن يكون، وفي حالة الفقر كيف يجب أن يكون، فهنا يذكر الله عزَّ وجلَّ الإنسان غير المؤمن، الإنسان مثل المعدن الخام، عندما يُخرجون الحديد مِنْ باطن الأرض يكون كلُّه كنايةً عن حصى وتراب، يُؤخَذ إلى معامل التصفية والإذابة والتصنيع حتَّى يصير سيارةً أو طيارةً إلى آخره..

الابتلاء بالنعمة:
قال: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾ يعني أغناه، لا تظن أن الغنى والثروة كما يقول الناس: واللهِ إن الله راضٍ عن فلان، ما شاء الله! كان لا يملك شياً والآن يملك الملايين؛ إذاً هل الله عزَّ وجلَّ راضٍ عن قارون الذي كان عشرة رجال لا يستطيعون حمل مفاتيح خزائنه؟ قال: لا، الغنى فحصٌ واختبارٌ وابتلاء، الله عزَّ وجلَّ يُريد أن يفحَصك بالغنى: هل تكون شاكراً لنعمائه؟ هل تكون مُؤدياً لفرائض الله عزَّ وجلَّ في مالك؟ هل تصل به أرحامك؟ هل تُخرِج زكاتك؟ هل تبني المساجد ومعاهد العِلم؟ كل ما يعود بالخير على المحتاجين.
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ﴾ يعني إذا ما اختبره وأراد فحصَه وامتحانه، ﴿فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾ كرَّمه وأعطاه وأغناه، يوجد أناسٌ أذكى منه يكونون أُجراء عنده، يكون الناس آباؤهم كذا وكذا وهو كان مِنَ الدراويش، وأراد الله عزَّ وجلَّ أن يرفع أناساً ويخفض آخرين، ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ الناس يقولون: إن الله عزَّ وجلَّ راضٍ عن فلان، ما شاء الله! عنده مزرعة، بناء، مصنع، معمل، أليس كذلك؟ إذاً هل هذا الكلام الذي يقوله الناس صحيح أم خاطئ مقارنةً بكلام الله عزَّ وجلَّ في القرآن؟ إذاً هل يفهم الناس كلام الله عزَّ وجلَّ بأنه يجب ألا يتكلموا هكذا؟ يجب ألا يقولوا ﴿أَكْرَمَنِ﴾ بل أن يقولوا: الله عزَّ وجلَّ مبتليه بالغنى، أعانه الله، يا تُرى هل يكون شاكراً لأنعُم الله عزَّ وجلَّ، مُؤدياً لفرائضه، لزكاته في ماله؟ و:

{ إنَّ في المالِ حقًّا سوَى الزَّكاةِ (5) }

[سنن الترمذي]

هناك زكاة الفرض وزكاة النفل، مثل فرض الظهر وسنّة الظهر.
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ﴾ يعني إذا ما امتحنه الله عزَّ وجلَّ وفحصَه واختبره، ﴿فَأَكْرَمَهُ﴾ امتحنه بماذا؟ بالغنى، بالحُكم، بالجاه، بالسلطان، بالمكانة، بنفاذ القول، هذا كلُّه امتحانٌ وليس إكراماً، الإكرام إذا أنعَم الله عزَّ وجلَّ عليك بنعمه مِنْ مالٍ أو جاهٍ أو حكمٍ أو سلطانٍ فتكون متقياً لله عزَّ وجلَّ في مالك، في حكمك، في قضائك، تمشي على منهاج الله عزَّ وجلَّ، مالِك: دائماً تؤدي الزكاة بالفرض والنفل، تفعل الصدقات الجارية، تتفقَّد الفقراء والمساكين إلى آخره..

الابتلاء بالقلة :
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ﴾ ما معنى ﴿ابْتَلَاهُ﴾؟ هذه ﴿مَا﴾ زائدة، "ما" بعد "إذا" زائدة أليس كذلك؟ يعني: فأما الإنسان إذا ابتلاه ربه، بماذا يريد أن يبتليه ويمتحنه ويفحَصه؟ قال: ﴿فَأَكْرَمَهُ﴾ جعله مِنْ أهل النعيم ورفع كرامته ومكانته وعظَّمه: جعله حاكماً أو وزيراً أو أميراً أو ملكاً أو إمبراطوراً إلى آخره.. ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ انظروا كم يُحبّني الله عزَّ وجلَّ وكم هو راضٍ عني، أيضًا هو يغترُّ، والناس أيضًا يغترون، ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ﴾ هناك فحصٌ مِنْ نوعٍ آخر: ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ ضيَّق عليه الرزق ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾.
الله عزَّ وجلَّ يقول: لا، هذا خاطئ ﴿كَلَّا﴾ اخرس! هذا كلامٌ غير صحيح، هذا كلامٌ مهووس، هذا كلامٌ ليس حسب قانون الله عزَّ وجلَّ، هناك أنبياءٌ ماتوا من الجوع، عندنا مدرسة الجوعية يُقال أنه مات فيها سبعون نبيّاً مِنَ الجوع، فقلة الدنيا لا تدلُّ على هوان الإنسان على الله عزَّ وجلَّ، الصحابة رضي الله عنهم في أوَّل إسلامهم كان أحدهم يبقى أربعاً وعشرين ساعةً على تمرةٍ واحدة، مرةً أتى الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وقد ربط كلٌّ منهم على بطنه حجراً تحت الحزام مِنَ الجوع، فكشف النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عن بطنه فإذا هو قد ربط حجرين تحت الحزام!
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ﴾ هذا الإنسان التراب، هناك ترابٌ يتحوَّل بالتصفية والتنقية إلى ذهب، ومنه ما يصبح رخاماً ومنه ما يُحمَل إلى قصور الملوك؛ وهناك ما يُصبح أرضاً ومجاريَ وغطاءً للكُنُف.
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ﴾ الحياة كلُّها اختبار:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
[سورة البلد]

﴿إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾ أعطاك المال لتصير به كريماً مُكرَّماً عند الله عزَّ وجلَّ عندما تُحسِن اكتسابه مِنَ الحلال وتصرِفه في مرضاة الله عزَّ وجلَّ يكون ذلك تكريماً وتكون هذه نعمةٌ مِنْ نعَمِ الله عزَّ وجلَّ عليك.
﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ﴾ فحصٌ مِنْ نوعٍ آخر: ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ ألم يبتلِ الله عزَّ وجلَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالفقر؟ أما كان يبيت الليلة والليلتين والثلاث وليس عنده طعام؟ ينام طاوياً، هل نجح في الامتحان؟ هل عصى الله عزَّ وجلَّ بالفقر؟ لا، فصار أشرَفَ خلق الله، وأصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان أحدهم يقول: كنا ليس لنا إلا ثوبٌ واحدٌ إزار - يعني ما يغطي النصف الأسفل من الجسم - إذا ربطناها على أجسادنا لا تصل إلى نصف ساقنا.

تقصير الثوب :
هؤلاء الذين يُقصِّرون أثوابهم إلى نصف الساق: الصحابة رضي الله عنهم فعلوها مِنْ فقرهم لأن ثوبهم لم يكن يصل إلى كعب أرجلهم، والذي يكون إزاره طويلاً يصل إلى كعبيه كان يربطه بحبلٍ إلى عنقه ليرتفع قليلاً فلا يدعس عليه، وهؤلاء مع ذلك فيهم خير، أنا ما رأيت إنساناً لا خير فيه، خرجت منهم فئةٌ سمّوا أنفسهم "جماعة الهجرة والتكفير"، لِمَ لا تقولون: "جماعة التعليم والإرشاد"؟ لا، بل الهجرة، يعني لا يجوز أن نبقى في بلد الإسلام، إذاً إلى أين تريد أن تذهب؟ إلى تل أبيب؟ إلى لندن؟ إلى فرنسا إذا لم تبقَ في بلدك الإسلامي؟
وهل يمنعك أحدٌ مِنَ الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ وبالحكمة والموعظة الحسنة؟ إذا كنت تدعو بغير الحكمة والموعظة الحسنة فالله عزَّ وجلَّ يمنعك! قال:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
[سورة آل عمران]

ما معنى هذا؟ يعني لا تنصح بفظاظةٍ وغلاظة، الله عزَّ وجلَّ منَعَك، فبالفظاظة والغلاظة يكونون مُخالفين للقرآن، ولأنهم فشلوا فبَدل أن يعطوا للناس الإيمان أعطوهم التكفير، هم مختصون بالتكفير لا بالتعليم والتهذيب والتربية، والهجرة يعني اتركوا بلدكم ودعوا إسرائيل تأتي وتحتلها.
رأيت كلمة للشيخ محمد الغزالي يقول فيها: "هؤلاء الناس ليست مصيبتهم قلَّة الدين بل قلة العقل". أصلًا العقل مِنَ الدين، إذا لم يكن هناك عقلٌ لم يعد يجب عليك لا صلاةٌ ولا صومٌ ولا حجٌّ ولا زكاة: "إذا أخذ ما أوهَب، أسقَط ما أوجَب".

المغرور بغناه والجزوع من الفقر:
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ﴾ فالله عزَّ وجلَّ ذكر نوعين مِنَ الناس: الغني المغرور بغناه، والفقير الجزوع مِنْ فقره، الله عزَّ وجلَّ ذكر المصلِّي فقال:

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)
[سورة المعارج]

(إِنَّ الْإِنْسَانَ) أي الإنسان الخام (خُلِقَ هَلُوعًا)، الإنسان يُخلَق أميّاً ثم يصير مُتعلِّماً، بماذا يصير مُتعلمِّاً؟ بالدراسة والجد والهمة، أيضاً كلُّنا خُلِقنا فقراء، ثم نغتني بالشغل والعمل والاستقامة والأخلاق، كلُّ واحدٍ بحسب سعيه:

وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)
[سورة النجم]

أما أن يجلس مثل النفساء ويطلب مِنَ الله عزَّ وجلَّ أن ينزل عليه الذهب ِمْن فوق فهذا لا يكون.

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)
[سورة الإنسان]

(إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا) ما عنده صبرٌ على شدائد الحياة، (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) أيضًا: قويٌّ لا يساعد بقوته على الخير، غنيٌّ لا يساعد بغناه مَنْ يحتاج إليه، قال: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) المصلي لا يكون جزوعاً في الشدائد، ولا منوعاً عندما يعطيه الله عزَّ وجلَّ مِنَ النِّعَم والخيرات، (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) أين الصَّلاة وفقه الصَّلاة التي تشفيك مِنَ الهلَع ومِنَ المنَع ومِنَ الجزَع؟ تعلَّمت الصَّلاة التي فيها ركوع جسدك وسجود جسدك، شيءٌ جيد، هل تعلَّمت الصَّلاة التي تنهاك عن الفحشاء والمنكر؟ هل تعلَّمت الصَّلاة التي تعقِّم فيك الهلع والجزَع والمنَع؟ تقتل هذه الجراثيم حتَّى تجعلك الإنسان الذي يُحبّه أهل الأرض وأهل السَّماء.

الأرض تتبارك بالصالحين:
بقاع الأرض تُخاطب بعضها بعضاً، تقول إحداهما للأخرى: يا جارة، هل مرَّ عليك اليوم أحدٌ ذكر الله عزَّ وجلَّ عليكِ؟ الأراضي تتخاطفك تُحبِّك أن تجلس عليها لتتبارَك بك، الجماد يعرف قدرك، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا منهم، ليس بالدعاء والتمني بل بالتشمير والتفكير وبالعزم والهمة، فهل أنتم ﴿أَكْرَمَنِ﴾ ونعَّمني أو ﴿أَهَانَنِ﴾؟ ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾ فيكون شاكراً بالقول وبالعمل.
يُقال إن رجلاً في زمن بعض الأنبياء طلب مِنَ النبي أن يدعو له أن يُغنيه الله عزَّ وجلَّ، فاستجاب الله عزَّ وجلَّ دعاء النبي، لكن طلب منه أن: أَخبره بأني أُغنيه إما في أوَّل عمره أو آخره، فليخترْ، فقال له: لي زوجةٌ صالحةٌ سأشاورها، فروى لامرأته فسألته: أنت ما رأيك؟ قال لها: في آخر العمر نكون قد تعبنا وعجزنا فيكفينا الله عزَّ وجلَّ أمرنا، فقالت له: لا، هذا ليس رأيي بل في أوَّل العمر، قال: لماذا؟ قالت: في أوَّل العمر إذا كفانا الله عزَّ وجلَّ نستعمل حياتنا وأعمارنا وأجسامنا في طاعته ونكون أقوياء على الطاعة ونحن مُكْتفون، فقال للنبي: في أوَّل العمر، وأغناه الله عزَّ وجلَّ في أوَّل العمر.
وفتح الله عزَّ وجلَّ عليه، هناك أناسٌ في عشر سنين أصبحوا يملكون عشرات الملايين، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا مِنَ الشاكرين ولا يجعلنا مِنَ المغرورين، غداً يخلعون عنه كلَّ شيء ولا يأخذ معه إلا الكفن والقطنة. فأنشأ سوقاً فيه مِنْ كل ما يحتاجه الإنسان مِنْ مأكلٍ ومشربٍ وملبّس، وفي أوَّله حمامٌ يدخله الفقير فيستحم، ومنه إلى المطعم، ثم إلى محلات الألبسة، وفي آخر السوق وقبل أن يخرج يضع في جيبه عشرين أو ثلاثين ألف ليرة، وهكذا قضى أوَّل عمره بعد أن فتح الله عزَّ وجلَّ عليه.
فلما صار في منتصف العمر قالت له زوجته: شغِّل المكابح، فالله عزَّ وجلَّ قد وعد بإغنائنا نصف العمر، وإذا ذهبت الثروة فسنُهان! فأجابها: عندما أعطانا هل أعطانا بجهدنا أو بفضله؟ وإذا أراد أن يأخذ منا فمهما شغَّلنا المكابح فلا فائدة، لو أن السيارة هوَت مِنْ رأس الجبل فهل يُفيدها بشيءٍ تشغيل المكابح؟ قال لها: واللهِ إن الله عزَّ وجلَّ عوَّدني على فضله فلا أغيِّرُ عادتي مع عباده، ومرَّت سنةً ثم ثانيةً وثالثة وما زال الله عزَّ وجلَّ يزيده، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إلى نبيِّ ذلك الزمان أن قُلْ لعبدي فلان لأنه شكرني و:

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْلَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
[سورة إبراهيم]

فقد أغنيته في آخر عمره كما أغنيته في أوَّل عمره! هذا هو الفقه في الدين:

{ من يُردِ اللهُ به خيرًا يفقِّهْهُ في الدينِ (6) }

[متفق عليه]

لأن كلَّ شيءٍ ينبغي أن يكون أيضاً بحكمة:

وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
[سورة الفرقان]


لا يتقولنَّ الإنسان على الله عزَّ وجلَّ:
﴿كَلَّا﴾ يعني ارتدع واسكت ولا تتكلَّم بهذا الكلام الفارغ بأن تقول: الله يُحبّه وأعطاه والله غاضبٌ على فلان ولم يُعطِه؛ هذا كلامٌ باطل. قال: وهناك إنسانٌ آخر مثل الأول لا يفهم، هذا يُخطئ في أقواله، والثاني: ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ ذاك مغرورٌ بنفسه، وهذا في أعماله مخالفٌ لأوامر الله عزَّ وجلَّ، الله عزَّ وجلَّ أعطاه وأكرمه فيجب أن يمدَّ يده إلى الضعفاء، ودائماً يحضُّ القرآن على اليتيم وعلى المسكين حتَّى لو كان عدوّك وعدوَّ الإسلام:

وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
[سورة الإنسان]

يعني عاملوا أسيركُم - العدو المُقاتل المُحارب - كما تُعاملون يتيمكم ومسكينكم بالرأفة والرحمة والحنان.
هذا قرآنٌ وإسلامٌ وإيمان، هذه حقوق الإنسان، يا تُرى هل يوجد في قوانين الدنيا كلِّها قانونٌ لحقوق الإنسان كما هو في القرآن؟ لكن أين القرآن؟ القرآن حبرٌ على ورق! أين قرآن العمل الذي تراه العيون أعمالاً وأخلاقاً وسلوكاً؟ أين القرآن بثمراته عزةً وقوةً وعظَمةً و:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
[سورة آل عمران]

أين مَنْ يصنع قرآن العمل في القلوب والعقول؟ يملأ القلوب حكمةً ونوراً ويقيناً، والنفس أخلاقاً وفضائلَ وأعمالاً صالحة؟ أين مَنْ يصنع هذا الإيمان؟

معاني الإيمان يصنعها المُعلم:
كان إمام المسجد هو الصانع، أين الإمام الذي يحمِل هذه المعاني؟ الإمام يكون بائع الخضار الذي بجانب الجامع لأن الراتب ألف ليرة! هل يوجد أجيرٌ في كلِّ البلد يأخذ راتباً ألف ليرة؟ فمعنى أن راتب الإمام ألف أو ألف وخمسمئة ليرة أنه لن يصبح أحدٌ إماماً، يجب أن يكون راتب الإمام خمسين ألف ليرة، ويكون له سيارةٌ وسائق!

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
[سورة الحج]

بلغ مِنْ فقر قلوب المسلمين في معرفة قدر الإمام أنني أنا شخصيّاً لما اشتريت سيارةً في سنة سبع وأربعين صار الناس ينظرون إلي مُندهشين، وكادت تنزل علي الصواعق: شيخٌ وعنده سيارة! أعوذ بالله! يا لطيف! هل سمعتم؟ ماذا؟ الشَّيخ عنده سيارة! أعوذ بالله! متى؟ مَنْ؟ وإذا رأوا عاهرةً أو راقصةً أو مغنيةً فهل يوجد أحدٌ مِنْ مُريديها - عندما يأتي المريدون ليحضروا الدرس - لا يجلب معه بِرّاً يبرُّها به؟ وإذا لم يجلب معه برّاً ألا يطردونه؟ هل يدخلونه إلى جامعها أو ينال بركاتها؟
لقد وصل المسلمون إلى درجة أن الشَّيخ لو اشترى لنفسه سيارةً لخرجت عيونهم دهشةً وحسداً، هل هذا إيمان؟ هل هذا إسلام؟ هذا كُفر!

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
[سورة الحج]

نحن: ومَنْ يُعظِّم شعائر إبليس.. ولماذا هكذا ينصر الله عزَّ وجلَّ علينا اليهود؟ ولماذا أخذوا فلسطين؟ ولماذا العرب عشرون دولة؟ ولماذا المسلمون خمسون دولة؟ ولماذا الإسلام سبعمئة إسلام؟ السبب هو بعدنا عن فقه القرآن، وكلُّ واحدٍ منكم عليه أن يضع المسؤولية في رقبته، لا يسأل غيرَه، أنتم المسؤولون، الذي تتعلَّمونه علِّموه، الآن سورة الفجر يمكنني أن أحدثكم بها بالفصحى الفصحى! لكني لا أريد أن أتكلَّم بالفصحى فلا يفهم الطفل، أو لا يفهم العامِل، أنا أريد أن تفهموا حتَّى يقلِبَ الله عزَّ وجلَّ كلامي فيكم إلى عملٍ وإيمانٍ عمليّ، لتَسعَدوا وتُسعِدوا، وتُعَزُّوا وتُعِزُّوا.

ليس الغنى دليل الكرامة:
قال: ﴿كَلَّا﴾ يعني ارتدعوا عن هذه العقلية أن الغنى دليل الكرامة والفقر دليل الهوان وأنه ليست له قيمةٌ عند الله عزَّ وجلَّ، النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ }

[صحيح مسلم]

(رُبَّ أَشْعَثَ) شخصٌ شعره منكوش وثيابه كلُّها قديمةٌ باليةٌ لا يُؤبَه له، وإذا رآه أحدٌ لا يهتم به (لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ)(7).
مرةً كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في المسجد فدخل رجلٌ فقيرٌ درويش، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (هل تنظرون إلى هذا؟) قالوا: نعم، ثم دخل رجلٌ مِنْ كبار الأغنياء منتفخ كالدولاب المنفوخ إلى الآخر، فقال: (هل رأيتم هذا؟) فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (إن هذا الفقير أفضل عند الله مِنْ هذا الغني بملء الأرض مثل هذا الغني)(8) لو أن الأرض مُلِئت مِنْ مثل هذا الغني، فهذا الفقير وحده أفضل مِنْ ملء الأرض مِنْ مثل هذا الغني:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[سورة الحجرات]


وجوب الرجوع إلى مدرسة القرآن:
فمتى سنرجع إلى مدرسة القرآن لنكون مُثقَّفين بالقرآن؟ ونُربِّي أهلنا ونُثقِّفهم بالقرآن؟ قرآن العِلم والعمل والتعليم، الولَد يُعلِّم الولد، والمرأة تُعلِّم المرأة، والمرأة تُعلِّم جارتها، والأم تُعلِّم ابنتها، والحماة تُعلِّم كَنتها، والكنة تُعلِّم حماتها، هكذا انتشر الإسلام في زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وبالقرآن وهو كتابٌ واحد، الآن المكتبات كالجبال وما زلنا نتراجع، السبب؟ إذا كانت هناك مئة ألف سيارة ولا يوجد سائق أفليست الدراجة أحسن؟ إن شاء الله تكونون عالِمين وعامِلين ومُعلِّمين.

الرجوع عن العقلية المادية:
قال: ﴿كَلَّا﴾ ارتدعوا عن هذه العقلية أنه بالغنى ﴿أَكْرَمَنِ﴾ وبالفقر ﴿أَهَانَنِ﴾.
قال: فيكم خطأٌ آخر وهو: ﴿بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾ تُهملون اليتيم، ولا تفكرون في الضعيف، ﴿وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ إذا رأيتم عاملاً لا تكفيه أجرته وراتبه لا تحضُّون فعليكم أن تُكملوا له ما نقُصَ مِنَ راتبه عمَّا يقوم بكفايته، المسكين هو الذي يعمل ولكنْ لا يكفيه دخل عمله، يعمل لكنَّ راتبه مثلاً أربعة آلاف وكفايته ستة آلاف، فهذا ماذا يُسمَّى؟ مسكينًا، أما القوي القادر الذي يستطيع أن يعمل ولا يعمل فهل يُسمَّى مسكيناً؟ هذا اسمه عاطلٌ بطَّال:

{ إن الله يكره العبد البطال (9) }

[المعجم الأوسط للطبراني]

كم كان أجر سيِّدنا عليّ رضي الله عنه عند اليهودي؟ وماذا كان عمله؟ كان يسحب له الماء من البئر وأجر كلِّ دلوٍ تمرة، فأنت إذا لم يتهيَّأ لك عملٌ إلا عند يهودي وكلِّ دلوٍ بتمرة فهل تعمل؟ ماذا؟ أنا أعمل عند يهودي؟ - وهل أنت أشرَف مِنْ سيِّدنا علي رضي الله عنه؟ - وبتمرة؟ أعوذ بالله! هذه أمية العقل، جاهلية العقل، جاهلية التربية، جاهلية الدين، لا يفهم الدين، مِنْ أين يُؤخَذ الدين؟ مِنَ القرآن ومِنْ تعاليم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، هذا هو القرآن وهذه تعاليم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
المسكين هو الذي يعمل ولكن لا يكفيه راتب وأجرة عمله، الفقير هو المعدَم: عاجز، أعمى، مُقعَد إلى آخره.. وترى شخصاً جسمه كالفولاذ ويتظاهر بأنه كسيحٌ وأعمى ومفلوج، ونفساء! يفتح قدميه هكذا على كرسي الولادة كأنه نفساء، فهذا منتهى حقارة إنسانيته ورجولته، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا عزَّة الإيمان وعزَّة الإسلام.

المطلوب هو إكرام المسكين والحض على إكرام اليتيم:
فأنتم ما هو المطلوب منكم؟ قال: لستم فقط تقولون ﴿أَكْرَمَنِ﴾ و﴿أَهَانَنِ﴾ بل فوق ذلك ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ الحضُّ: أنه إذا كان هناك مسكينٌ لا يكفيه دخله وراتبه فعليكم كلُّكم أن تكونوا مسؤولين، هذا ما يُسمَّى في عصرنا الحاضر بالضمان والتكافل الاجتماعي، المجتمع مسؤولٌ عن بعضه البعض، الأغنياء مسؤولون عن الفقراء، والأقوياء مسؤولون عن الضعفاء، والأصحّاء مسؤولون عن المرضى، والعُلماء مسؤولون عن الجهلاء.
فما أعظَم القرآن! هذا القرآن أين هو موجود؟ في الورق، وما الفائدة منه في الورق؟ إذا لم يصِرْ في القلوب همةً وعزيمةً وعقيدةً وظهَر في الأعمال سلوكًا وتطبيقًا؛ فلا أنت قرأت القرآن ولا فهمته ولست مِنْ أهله، بل أنت عدو القرآن! لأنك تفعل عكس تعاليم القرآن، هل تحضُّ على طعام المسكين؟ إذا كان هناك مسكينٌ فهل فكَّرت فيه لتؤمِّن لوازمه وحوائجه وكفايته؟ راتبه لا يكفيه وأنت عندك زيادة.

{ يدُ اللهِ مع الجماعةِ(10) }

[سنن الترمذي]

في أرحامك، في حارتك، في قريتك، في بنائك، هل يوجد هذا الشيء في الاشتراكية والشيوعية؟ الشيوعية ملَكت نصف الدنيا فماذا كانت نهايتها؟ ضربت مدفع الإفلاس والآن لا يتمكنون مِنَ الحصول على الخبز وحده! أما الإسلام: فها قد دخلنا في القرن الخامس عشر والآن يزحف نحو أوروبا وأمريكا، لأن المسلمين القدامى اهترؤوا: يسمعون القرآن ولا يفهمونه، يريد أن يُهاجر، يريد أن يرحل مِنْ بلاد المسلمين - لأنهم لا يعرفون قدْر القرآن - إلى بلادٍ يعرفون قدر القرآن.
أنا يأتيني كثيرٌ مِنَ الوفود الذين أسلموا: مِنْ فرنسا، تجد المرأة الفرنسية أكمامها إلى رسغيها وكفيها، ثوبها إلى كعب رجليها، لا يظهر مِنْ شعرها ولا شعرة، بعضهن جلسن عندي ساعةً أو ساعتين فما وقعت عينها في عيني، مُطرقةً في الأرض حياءً واحتراماً وتكريماً. مِنْ أمريكا: أساتذة جامعات، علية القوم، رأيتُم الإخوان الأمريكان الذين جاؤوا. وأنا متيقنٌ مِنْ أنه في القرن الحادي والعشرين سيهاجر الإسلام مِنْ عندنا وينتقل إلى العالَم الغربي.

البداية من الأقرب:
كما هاجر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ مكة إلى المدينة، أهل مكة حاصروه بالسيوف والرماح ليقتلوه، ولما خرج مِنَ البيت واختبأ في الغار لحقوه أيضاً بالسيوف والرماح ليمزّقوه ويُقطِّعوه أليس كذلك؟ فوصل إلى المدينة: طلع البدر علينا. ما الفائدة إذا طلع البدر على العميان؟ ماذا يستفيدون منه؟ نحن المسلمين الآن أصبحنا كالعميان ما لم نقُم ونشمِّر ويعتبر كلُّ واحدٍ منا نفسه مسؤولاً:

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
[سورة الشعراء]

لما نزلت على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صعد على أعلى صخرةٍ في جبل الصفا ونادى: (وا صباحاه!) هذا النداء إذا حصلت غارةٌ على العرب وهم نائمون واستيقظ أحدهم، فلكي يُوقظهم ويقوموا للعدو يُنادي بأعلى صوته مِنْ مكانٍ عالٍ: يا صباحاه، يعني أن العدو هجم عليكم، فقامت كلُّ قريش يظنون أن عليهم غارة، فلما جاؤوا أخذ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يُخاطبهم واحداً واحداً: (يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني فلان، اشتروا أنفسكم مِنَ الله، أنا لا أُغنِي عنكم مِنَ الله شيئاً)، في الشارع وعلى أعلى صخرةٍ في رأس الجبل.
فأنت هل يُعجزك أن تدعو جيرانك على فنجان شاي، وليس شرطاً أن يستجيبوا كلُّهم لك، ليس كلُّ الزهر يَعقِد، إذاً لماذا خلق الله عزَّ وجلَّ كل هذا الزهر ما دام لا يعقِد؟ مِنْ أجل أن يأخذ النحل حصته، وأن تتمتع أنت أيضاً بجمال الزهر في النظر، واللهِ إذا صدَقتم في إسلامكم بما أذكره لكم فسينقلب الناس كلُّهم إلى الخير، والناس بخير.
وقولوا آمين: أطال الله عمر رئيسنا وجزاه عنا كلَّ خير، ترون في التلفاز المحجَّبات في المؤتمرات الرسمية وفي بلدنا ولا أحد يعترض عليهن، حريةٌ كاملةٌ للدين، يوجد مِنَ الناس باسم الدين مَنْ يريد أن يسوق القطار وهو سائق حمير، هذا يشوِّه الدين ويُسيء إليه وتضطر السلطات إلى أن تحجزه لكي لا يُخطئ، أما إذا كان يقوم بالدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ فلا يمنعه أحد.

حال رجال الأمن مع العلماء هي إيجابية:
قبل يومين التقيت بأحد كبار كبار المسؤولين الأمنيين ولأول مرة، واللهِ إني رأيت منه كثيراً مِنَ الاحترام والتقدير والحب والتشجيع على الدعوة الإسلامية، قال لي: يا شيخ، هذا ديننا، تاريخنا، عزنا، لكنَّ هناك أناساً يقومون بالتخريب، ولا أحد يرضى بالتخريب: لا الله عزَّ وجلَّ، ولا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا المفتي، ولا الأرض ولا السَّماء إلى آخره.. فأخبرته عن بعض الأمور، فأجابني حالاً بلا توقف: نحن مع الدين، نحن مع الإسلام، هل يستطيع أحدٌ أن يتنكَّر لأبيه؟ إذا تنكَّر لأبيه فماذا يقال عنه؟ ابن حرام! ونحن أبناء ماذا؟ أبناء كاثوليك أو أرثوذوكس؟ مع احترامنا لإخواننا المسيحيين نحن أبناء الإسلام، أبناء القرآن.
يكون الواحد منهم مُقصِّراً فيقول لي: ادعُ لي يا شيخ، هؤلاء يستحقون تقبيل أيديهم، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُوفِّقنا وإياهم وأن يحميهم ويحرسهم وأن ينصر رئيسنا في هذه المعركة مع إسرائيل، بكلِّ ألوانها وفي كلِّ مراحلها، وإن شاء الله لا يخرج منها إلا كما عوَّده الله عزَّ وجلَّ: مرفوع الرأس، أبيض الوجه، ساطع الجبين، بفضل الله عزَّ وجلَّ وبكرمه وإحسانه.

أجر إكرام اليتيم:
فهل تريدون أن تُكرموا اليتيم أو تُهينوه؟ كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ خَيرُ بَيتٍ في المُسلِمينَ بَيْتٌ فيه يَتِيمٌ يُحسَنُ إليه ، و شَرُّ بَيتٍ في المُسلِمِينَ بَيتٌ فيه يَتيمٌ يُساءُ إليه، أنا وكَافِلُ يَتيمٍ في الجَنَّةِ كَهاتَينِ (11) }

[صحيح البخاري]

كيف أن هذه رفيقة تلك وتلك لا تُفارق هذه؟ الذي يُكرم اليتيم رفيق النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لا يُفارقه.
واليتيم على قسمين: اليتيم الذي فقَد أبا جسده، إذا فقدت أباك الذي ولد جسدك أصبحت يتيماً، وأباك الذي هو سبب وجود إيمانك وإسلامك وروحك وقلبك وعقلك وأخلاقك؟ أيهما أعظَم؟ الثور يستطيع أن يُنجب ولداً ويصير والداً، والبقرة والدة، والعجل إذا كبُرَ وصار ثوراً فهل يعرف برَّ الوالدين؟ لا، لماذا؟ لأنه ثور! الحمار والحمارة إذا ولدا جحشاً وكبَّره الله عزَّ وجلَّ وأطال عمره فصار حماراً فهل يعرف برَّ الوالدين؟ الخنزير إذا ولد خنازير وكبُرت فهل تعرف برَّ الوالدين؟

بر والد القلب:
أما المؤمن المسلم فيعرف برَّ الوالدين: والِد الجسد:

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
[سورة الإسراء]

ولو كانا كافرين؟

وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
[سورة لقمان]

الوالِد الكافر عليك أن تبرَّه وتحترمه وتُكرِمه إلى آخره.. أما والِد الروح: فيا تُرى الصحابة رضي الله عنهم هل كان آباؤهم أغلى عليهم أم نبيُّهم صلَّى الله عليه وسلَّم، الذي علَّمهم الكتاب والحكمة وزكَّى فيهم النفوس؟ مَنْ الأغلى؟ كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ لَا يَطْعَمُ أَحَدُكُمْ طَعْمَ الْإِيمَانِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَنَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ(12) }

[صحيح البخاري]

قال لعمر رضي الله عنه: (كيف أنتَ يا عمر؟) قال: أنت أحبُّ إليَّ مِنْ ولدي ووالدي إلا نفسي التي بين جنبي، قال له ما معناه: ما زلت لم تنضُج بعد! ففي هذه اللحظة تجلَّى الله عزَّ وجلَّ على سيِّدنا عمر رضي الله عنه فقال له: أنت الآن أحبُّ إليَّ مِنْ نفسي التي بين جنبي، فقال له: (الآن يا عمر كَمُلَ إيمانك!)(13).
فهذا اليتيم الذي فقَد أباه يهيئ له الله عزَّ وجلَّ مَنْ يعطِف عليه ويُربِّي جسمه ويصبح رجلًا وقد يصير أغنى الأغنياء، أما البائس فهو ذلك اليتيم الذي لا يجد مَنْ يُربِّي إيمانه وإسلامه، ويُربِّي عقله وسلوكه، أيُّ يتيمٍ هذا؟ هذا يتيمٌ مغضوبٌ عليه في الدنيا وفي الآخرة.. فإذا رأيتم يتيم الروح، يتيم الإيمان فدلِّلوه وكرِّموه وتألَّفوه لعلَّ الله عزَّ وجلَّ أن يبدله بيتمه أباً يُنقذ قلبه وروحه وعقله مِنْ شقاوته ويصير مِنَ السُّعداء، ولذلك كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يتألَّف المؤلَّفة قلوبهم كما يُتألَّف اليتيم، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا مُؤلِّفين لا مُؤلَّفين.

الردع ورد النفس:
﴿كَلَّا﴾ يعني ارتدعوا عن الخطأ الأول ولا ترتكبوا الخطأ الثاني: أكرموا اليتيم، وحُضُّوا على طعام المسكين واهتموا به.
أيضاً المسكين على قسمين: مسكين وفقير المال والطعام والشراب، هذا مسكين الجسد، وهناك مسكين الإيمان، هذا هو البؤس بعينه، مثل فقراء اليهود: لا دين ولا دنيا، أيضاً إذا رأيتم شخصاً بائساً مسكيناً في دينه، ليس عنده دين، فقيراً مفلساً في دينه، كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ(14) }

[صحيح البخاري]

(قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا) أي تعدَّى على حقوق الخَلق.

المسكين واليتيم الحقيقي:
فمَن المسكين إذاً؟ المسكين الحقيقي هو الذي ليس عنده دين، اليتيم الحقيقي هو الذي ليس له مُربٍّ، هذا هو اليتيم البائس: تراه عرياناً مِنَ الدين، جائعاً مِنَ الدين، عطشاناً مِنَ الإيمان، الدابة: كلُّ دنياها أن تملأ بطنها، أما هذا فبطنه لا يمتلئ:

{ لَوْ أنَّ لِابْنِ آدَمَ مِثْلَ وادٍ مالًا لَأَحَبَّ أنَّ له إلَيْهِ مِثْلَهُ، ولا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ(15) }

[صحيح البخاري]

أما الحيوان فمتى امتلأت معدته يستغني.
﴿وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ يعني أن المجتمع الإسلامي ليس فيه يتيمٌ مهانٌ ولا مسكينٌ ضائع، يعني لا فقر في المجتمع الإسلامي، لا فقر بل مساواة:

وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
[سورة الحشر]

هذا هو القانون الإسلامي في القرآن، وقد طُبِّق ونجح وذلك موثَّقٌ تاريخيّاً، فكيف يجهل المسلمون القرآن ويجهلون الإسلام وتاريخ الإسلام وقانون الإسلام ونأخذ المبادئ مِنْ أعدائنا؟ هذا يقول: بيولوجي، وهذا: أيديولوجي، وذاك: قمريولوجي إلى آخره..

الوصية بمعاملة الأسير:
لماذا لا تقوله بالمعنى العربي؟ ألستَ عربيّاً؟ جيولوجيا قُل: علم طبقات الأرض، ديموقراطي ما هو الديموقراطي؟ الإسلام أحسن مِنَ الديموقراطية بمئة ألف مليون مرة! الديموقراطية هي حكم الأكثرية، فإذا كانت الأكثرية ظالمةً تُضيِّع حق الأقلية، أما الإسلام فيطلب منك أن تُعامِل العدو المحارب الذي وقع في الأسر كما تُعامل اليتيم والمسكين ﴿كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾.

وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
[سورة الإنسان]

(عَلَى حُبِّهِ) أي وأنت بحاجةٍ إلى الطعام.
يا سبحان الله! ملكة الجمال عندك وترفضها وتريد الغوريلا! لأنها أسمَن وأطوَل وأضخم، ألا تعلم أنك إذا وقعت بين أنيابها ومخالبها فستقطِّعك إرباً إرباً؟ وأنتم المسؤولون أيها الذين في الجامع، أنتم وحدكم لا تكفون دمشق فقط بل العالَم كله، الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا أكثر منكم لكنهم كانوا يُحسنون قراءة القرآن ويفهمونه وتعلَّموا القرآن وعلَّموه.
أيعجَز أحدكم إذا ذهب إلى بيته الآن أن يُحضر زوجته وأولاده وأخته وعمته وجاره وصديقه، الأسبوع معكم واسع، و:

{ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ(16) }

[صحيح البخاري]

هذا كلام النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وليس كلامَ جرائد، ولا كلامَ إنسانٍ عادي، الجريدة قد تقول في اليوم التالي: تبين أن الخبر غير صحيح فنرجو عدم المؤاخذة.

وجوب تصحيح الأفكار:
﴿كَلَّا﴾ يعني ارتدعوا واستحيوا وصححوا أفكاركم، إضافةً إلى اغترارك أيها الغني بالمال وجزَعك أيها الفقير مِنَ الفقر لكسلك وخمولك وجمودك وعدم حركتك تقول: ﴿رَبِّي أَهَانَنِ﴾؟ أنت أهنت نفسك! إضافة إلى ذلك ﴿لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ﴾ لا تهتمُّون بالمسكين ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا﴾ التراث هو الميراث، كانوا قبل الإسلام لا يُورِّثون الصغار ولا الإناث، الميراث للأقوياء، فذمَّهم الله عزَّ وجلَّ في عدوانهم على الضعفاء وقال لهم: ارتدعوا وأعطوا الضعفاء حقَّهم ولا تظلموهم اغتراراً بقوتكم.

تعس عبد المال:
﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾تعبدون المال:

{ تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ }

[صحيح البخاري]

(وإذَا شِيكَ) إذا دخلت في رجله شوكة (فلا انْتَقَشَ)(17) يعني لا أخرجها الله منه، لأنه كيف يُنقذه الله عزَّ وجلَّ ما دام عبداً للمال ولم يصِرْ عبداً لله عزَّ وجلَّ؟ يُذكَر عن سيِّدنا عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام أنه كان معه أحد المريدين، والمريدون أقسام: منهم الكاذبون، ومنهم المترددون: ساعةً يكون مُريداً وساعةً لا يكون، وساعةً يريد أن يصبح هو شيخاً على شيخه، وساعةً يريد شيخه على هواه ويريد الشَّيخَ عسكريّاً عنده يأتمر بأمره، وهناك المُريد الصادق نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا مِنَ المُريدين الصادقين.
وكان معهما ثلاثة أرغفة، فأكل رفيق سيِّدنا عيسى عليه السَّلام رغيفاً، ولما حان وقت الغداء طلب الغداء فأحضر رغيفين وأخذ كلٌّ منهما رغيفاً، فسأله عن الرغيف الثالث فأنكر علمه بشأنه، والواقع أنه هو الذي أكله، ثم سارا فوجدا في طريقهما ثلاث لبِناتٍ مِنَ الذهب، فقال له: القضية مقسومة: لبِنةٌ لي، والثانية لك، والثالثة للذي أكل الرغيف! فقال له: أنا الذي أكلت الرغيف! نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحمينا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبلَغَ علمنا، واجعل حياتنا: إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي.
فقال له سيِّدنا عيسى عليه السَّلام: اتركها حتَّى نرجع، وسترى نتيجة حبِّ المال والدنيا، فلما رجعا وجدا ثلاثة أشخاص ميتين فوق اللبِنات الثلاث! فسأل سيِّدُنا عيسى عليه السَّلام ربَّه عزَّ وجلَّ عن قصتهم، فأوحى إليه: أنه بعدكما مرَّ ثلاثة رجال على اللبِنات الثلاث، فقال بعضهم لبعض: المسألة مقسومة فلا تتنازعوا، لكلٍّ منا لبِنة، ثم جلسوا وأرادوا أن يتناولوا الغداء، فقال أحدهم: أنا أذهب وأحضر الغداء، فلما ذهب أتاه طمعه وجشَعُه وقلة دينه فقال لنفسه: سأضع لهما السُّم في الطعام وآخذ اللبِنات الثلاث لي وحدي! وهما أيضاً قال أحدهما للآخر: حين يأتي نقتله ونقتسم اللبِنات الثلاث بيننا أنا وأنت بالتساوي ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾، أتى ذاك الرجل بالطعام وقد وضع فيه السم، فقاما إليه وقتلاه ثم أكلا الطعام فماتا ووقعا فوقه! فمرَّ سيِّدنا عيسى عليه السَّلام فقال لصاحبه: هكذا تفعل الدنيا بأصحابها.

صاحب الخير من ترك حب الدنيا:
في نهاية الأمر عندما تموت ماذا أخذت؟ ليس مقصود الكلام ألا تهتمَّ بدنياك، هذا خطأ، قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ليس بخيرِكم من ترك دنياه لآخرتِه ، ولا آخرتَهُ لدنياه ، حتى يُصيبَ منهما جميعًا(18) }

[تاريخ دمشق لابن عساكر]

هناك مَنْ يترك الدنيا لأجل الآخرة: بالعبادة، بالتقوى، بالعِلم؛ قال: هذا ليس بخيركم، وإذا ترك دنياه لهواً ولعباً وبطالةً ليتسكَّع في الشوارع فهذا شرٌّ وأحقر الناس، الذي يترك الدنيا ليشتغل بعمل الآخرة قال عنه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (ليس بخيرِكم)، فإذا ترك الدنيا ليس مِنْ أجل الآخرة بل للبطالة واللهو واللغو واللعب فهذا أيُّ شيءٍ في المجتمع؟
فكونوا مسلمي العِلم والرجولة والعقل، مسلمي الحياة، مسلمي الدين والدنيا، مسلمي الحكمة والموعظة الحسنة، يا تُرى هل مجتمعنا الآن أفضل أم المجتمع الوثني لعبدة الأصنام في زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؟ مجتمعنا أفضل: فيه مُصلُّون وصائمون وقرآنٌ وجوامعٌ وأناسٌ طيبون، فذاك المجتمع بالقرآن ومُعلِّم القرآن صار خَيْرَ أُمَّةٍ، وبعد أن ذهب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ماذا فعل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم تلامذة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فعلوا أعظَم من ذلك، النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وحَّد الجزيرة العربية، أما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ففتحا بلاد الشام وبلاد الفرس ومصر.

وجوب بذل الوسع:
فهكذا كونوا، ليقلْ كلُّ واحدٍ منكم: أنا إن شاء الله سأبذل قدرَ وسعي لتعليم الناس ما علِمته بأقوالي وأعمالي وبقلبي وبقالبي، وأبشركم، وما أجملكم، وما أعظَم فرح النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بكم في السَّماء أن يراكم بعده تقومون وراثةً عنه بهداية الخلق:

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
[سورة البقرة]

النساء مع النساء، والرجال مع الرجال، والشباب مع الشباب، والجار مع الجار، يا سلام!
وهل تغضب الحكومة؟ هل يرفض رئيسنا؟ واللهِ إنه في حفل الإفطار في رمضان يُقيم درساً للمشايخ مثل درسي لكم مدة ساعة ونصف الساعة، كلُّه يدور حول الإسلام، إذا ضَعُفَ الإسلام فمَنْ المسؤول؟ الحدادون أم النجارون؟ أم المشايخ؟ يوجد مشايخٌ لا يعرفون إلا أن ينتقدوا ويُشوشوا على الناس، لا يعرف أن يبني بل أن يُخرِّب، أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يهدينا ويهديهم، لأن هؤلاء تزبَّبوا قبل أن يتعنَّبوا، إذا أردت أن تصنع مِنَ الحُصرم زبيباً فلا بد أن يصبح عنباً قبل ذلك، فأنتم تعنَّبوا وبعد ذلك تصبحون زبيباً مِنَ النوع الفاخر إن شاء الله.
اللهم اجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه، بعض إخواننا انتقلوا إلى رحمة الله عزَّ وجلَّ فنشاركهم في التهليلة، وصلَّى الله على سيِّدنا محمدٍ وعلى آله وصحبِهِ وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين.

الهوامش:
(1) صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، رقم: (2677)، واللفظ: «لله تسعة وتسعون اسما، من حفظها دخل الجنة، وإن الله وتر، يحب الوتر».
(2) مسند أحمد, رقم: (15646), (24/404), المعجم الكبير للطبراني, رقم: (432), (20/193).
(3) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى: وإلى ثمود أخاهم ..، رقم: (3380)، صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، رقم: (2980).
(4) تاريخ دمشق لابن عساكر، (40/ 159)، الغيلانيات لأبي بكر الشافعي، (1/ 376).
(5) سنن الترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء إن في المال حقاً سوى الزكاة، رقم: ( 660).
(6) صحيح البخاري، كتاب العلم: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، رقم: (71)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة: باب النهي عن المسألة، رقم: (1037).
(7) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الضعفاء والخاملين، رقم: (2622).
(8) القصة ذكرها البخاري، عن سهل بن سعد السّاعدي أنّه قال: ((مرّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف النّاس هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ مرّ رجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال يا رسول الله: هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حريّ إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال: أن لا يسمع لقوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب فضل الفقر، رقم: (6082)، وكتاب فضائل القرآن، باب الأكفاء في الدين، رقم: (4803).
(9) المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (8934)، وضعَّفه الشَّوكانيّ.
(10) سنن الترمذي، كتاب الفتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في لزوم الجماعة، رقم: (2166).
(11) صحيح البخاري في الأدب، باب من يعول يتيمين، رقم 221.
(12) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، رقم: (15)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين..، رقم: (44)، وهو عند المروزي في تعظيم قدر الصلاة، رقم: (469)، (1/452).
(13) صحيح البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (6632).
(14) سنن الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع: باب ما جاء في شأن الحساب والقصاص، رقم: (2418)، مسند أحمد، رقم: (8414)، (14/138)، مسند أبي يعلى، رقم: (6499)، (11/385)، صحيح ابن حبان، رقم: (7359)، (15/359).
(15) صحيح البخاري, كتاب الرقاق, باب ما يتقى من فتنة المال, رقم: (6436), صحيح مسلم, كتاب الزكاة, باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا, رقم: (1049).
(16) صحيح البخاريُّ في الجهاد والسير، باب دعاء النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم النَّاس...، رقم: (2942), ومسلم في فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رقم: (2406).
(17) الحديث رواه ابن ماجه بلفظ: ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)) سنن ابن ماجه كتاب الزهد، باب في المكثرين، رقم: (4135)، ورقم: (4136)، ورواه البخاري بلفظ مقارب ينظر: صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، رقم: (6071)
(18) تاريخ دمشق لابن عساكر عن يزيد بن زياد القرشي البصري، رقم: (8276)، (65/197) .