تفسير سورة البروج 03

  • 1995-10-13

تفسير سورة البروج 03


مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلوات وأتم التسليم على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فنحن لا نزال في تفسير سورة البروج، والبروج كما سبق هي النجوم والكواكب التي أبدعها الله عزَّ وجلَّ وخلقها في هذا الكون الذي لا نعرف حدوده ولا منتهاه، ولا نجمًا مِنْ عوالِمه، فضلًا عن أن عوالِمه وكواكبه قال العلماء الأوروبيون بأن صحراء الجزائر وأفريقيا بعمق أربعمئة متر لو عُدَّت ذرات رملها لكانت نجوم السَّماء وكواكبها أكثر من عدد رمال صحراء أفريقيا! وكلُّ عالَمٍ مِنَ العوالِم وكلُّ نجمٍ مِنَ النجوم قد يكون أكبر مِنْ أرضنا بآلاف وملايين المرات.
فأقسَم الله عزَّ وجلَّ بالسَّماء، بهذا الكون ﴿ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ والكواكب والعوالِم، وباليوم الموعود: بالقيامة، وبشاهدٍ الذي يشهد على أعمال الإنسان: مِنْ ملائكة، وجوارحه تشهد عليه:

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
[سورة النور]

نرى لما تُسجَّل أعمال الإنسان في الفيديو الأعمالَ التي تُبيِّضُ الوجوه، والأعمال التي تُسوِّد الوجوه؛ تشهَد لصاحبها أو عليه.
﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ يعني لعَنهم الله، لِما أنهم قاموا يُعادون المؤمنين، ويُعادون مدرسة السَّماء التي يدخل فيها الوحش فيخرج ملَكًا، يدخل فيها الشيطان فيخرج إنساناً كريمًا، فقال: لعَنهم الله وقاتَلهم الله، ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ أُقسِمُ وأُقسِم وأُقسِم بأن هؤلاء ملاعين، مطرودون عن رحمة الله عزَّ وجلَّ، لأنهم عادَوا أولياء الله عزَّ وجلَّ وأحبابه، ووقفوا في طريق الدعوة إلى الله، كما كانت قريش تفعل مع سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومع المؤمنين، فأولئك حرَّقوا المؤمنين وحفروا الأخاديد، وكفار قريش كذلك ما تركوا شيئًا مِنْ أنواع التعذيب والصَّد عن سبيل الله إلا فعلوه بأصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

انتقام الكفرة من المؤمنين بسبب إيمانهم:
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ الموجِبَ لذلك، وهو أنهم يريدون أن يفرضوا عليهم الخرافة بدل الحقيقة، والجهل بدل العِلم، والحيوانية والوحشية بدل الإنسانية ومكارم الأخلاق: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، ﴿الْعَزِيزِ﴾ سينتصر بعد ذلك لمن انتسب إليه، و﴿الْحَمِيدِ﴾ الذي تُحمَد عاقبة مَنْ يؤمن به إيمانَ العمل، الإيمان الذي يُقرَأ في أعمال المؤمن وأخلاقه وإراداته وعزائم نفسه ومقاصد فكره، الإيمان ليس كلمة، لا تصير طيارًا بقولك إني طيار، إذا كنت تقود عربةً يجرها بغل وقلت أنا طيار أقود طائرةً مروحية أو طائرةً حربية فإلى أين يأخذونك؟ إلى مستشفى المجانين، خاصةً إذا أردتَ أن تقتحم الطائرة وتقود بدلًا مِنَ الطيار، وغالبًا ستُضرَب ضربًا مُبرحًا.

عقوبة من يفتن المؤمنين:
قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ أرادوا أن يحولوا دون إيمانهم ويرغموهم على الكفر ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ هذا في الآخرة. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ الذين صمدوا وضحَّوا وتحملوا العذاب بكلِّ أنواعه: تحريقًا، وضربًا، يُمددونهم على ظهورهم في حرارة مكة خمسين أو خمس وخمسين درجة، والصخر على صدورهم: اكفر بمُحمَّد! الآن النَّاس يكفرون من غير صخرة! وأيضًا يدفعون نقودًا ثمن الكفر! ﴿فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ هذا في الآخرة﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ في جهنم.
ثم قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ قد يجورُ القوي على الضعيف، وعلى الفقير، وعلى مَنْ لا ناصِرَ له أمامه، ولا يُراقب الله عزَّ وجلَّ في تصرفاته، فيقول له الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾.

{ إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ (1) }

[صحيح البخاري]

إن الله يُمهِل ولا يُهمل ولا يترِك الظالم، وإذا حانت ساعة التنفيذ ودقَّت الساعة: (حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ).

الروح والجسد :
هذه السورة وحدها مدرسة، وحدها تستطيع أن تؤمِّن السَّلام والعدل والحق في كلِّ العالم، ولكنَّ الطائرة لا تطير بلا طيارها، والسيارة لا تمشي بلا قائدها، والمسجد لا يُثمر بلا وارِثٍ نبويٍّ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)
[سورة الأحزاب]

المسلمون نِعْمَ ما يفعلون في بناء المسجد، لكنَّ المسجد مثل جسد الإنسان، فصُنِع الجسد، الجسد له شأنٌ إذا كانت له الروح، فبالروح تُبصر العينان، وتمشي القدمان، وينطق اللسان، ويعقل الدماغ ويفكِّر، كذلك مسجدٌ ليس فيه عالِمٌ وارِثٌ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم العِلمَ والحكمةَ والتزكيةَ، فهذا جسدٌ بلا روح، وأرضٌ بلا مزارع، وطائرةٌ بلا طيار.
فلذلك لا تعطينا الجوامعُ نتيجةً أكثر مِنْ مصلًّى، والصَّلاة تصحُّ في كلِّ مكان، لو صليت في الكنيسة يجوز، فلو فكَّر المسلمون في الإمام الوارِث الذي يرِث عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم العِلم، مُعلِّم:

{ إنما بُعِثتُ معلِّمًا }

[ضعيف الألباني]

مُزكٍّ .

{ إنما بُعِثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ (2) }

[مسند أحمد]

حكيم، لا يخطو خطوةً على فراغٍ حتَّى لا يسقط في البئر، فما لم نفقه القرآن فقهَ القرآن، ليس الفقه الفكري فقط بل الفقه الفكري والعملي، الفكري بالدراسة والمعلِّم، والعملي بالمربِّي الذي يُعلِّمك مِنْ العِلم اللدنِّي، الذي يأتي نورًا مِنَ الله عزَّ وجلَّ فيُصاغ في القلب معانيَ وكلماتٍ خرجت مِنَ القلب فتدخل في القلب، فتُغيِّر كلَّ ذلك القالب، وكلَّ صفات النفس: مِنَ النقص إلى الكمال، ومِنَ الشر إلى الخير، ومِنَ الجهالة إلى العِلم العملي.

انتقام الله شديد :
فبعد ذلك قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ وفي بعض الروايات أن الله عزَّ وجلَّ أرسل على أصحاب الأخدود نارًا فأحرقهم كما أحرقوا المؤمنين والمؤمنات، وهكذا القرآن يقول:

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

يعني يرَ الحساب والعقوبة والجزاء أو المكافأة على ما عمِل، إنْ في الدنيا وإنْ في الآخرة، قال الله عزَّ وجلَّ:

فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
[سورة الزمر]

وفي آيةٍ أخرى:

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ (16)
[سورة فصلت]

كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
[سورة البقرة]

والإنسان لا يصلُح إلا بين المكافأة على صلاحه والعقوبة على فسقِه وجِنَايته، لكنْ يغرُّ الإنسانَ حِلمُ الله عزَّ وجلَّ.

الله يمهل ولا يهمل:
والإنسان بطبعه عجول: يا ربِّ ظلموني، ألا تنتصر لي؟ قال الله عزَّ وجلَّ:

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
[سورة فاطر]

(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا) لو يعجِّل عليهم (مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ) لأهلَك الله عزَّ وجلَّ الخلق، (وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ) لهم وقت (مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا) الله عزَّ وجلَّ يعلم كلَّ واحدٍ ماذا عمِل وماذا يستحق مِنْ عقوبة، وإذا عاقَب فـ ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ البطش هو الانتقام بالعنف والشدة، إذا ضرب يُخرِج النخاع، فكم مِنْ ملوكٍ وجبابرةٍ كفرعون، ماذا كان مصيره بعد ما كان يقول:

فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24)
[سورة النازعات]

قال الله عزَّ وجلَّ:

فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ (25)
[سورة النازعات]

أبو جهل الذي سماه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم "فرعون هذه الأمة": أمهَله الله عزَّ وجلَّ سنة وسنتين وعشرًا وكذا.. ثم أُتِي برأسه وأُلقِي بين قدمي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مثل رأس الكرنب.

العقاب والمكافأة:
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ وإذا كان الله عزَّ وجلَّ يقول: (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) مِنَ الخير له مكافأة، مِنَ الشر له معاقبة: "دَقةٌ بدقة، ولو زدتَ لزاد السقَّا". لهذا المثل قصة: كان هناك رجلٌ صالحٌ وله زوجةٌ صالحة، وكان يبيع الأدوات النسائية، فأتت إلى دكانه امرأةٌ تريد أن تشتري أساور، فكانت الأساور ضيقة، ويبدو أنه كان في قلبها مرض، وهو أيضًا في قلبه شيءٌ مِنَ المرض، فقالت له: ساعدني على لبسها، فأخذ يساعدها لكنه يلمس كفيها بحيلة تلبيس الأساور. ولم يكن في بيته بئر ماء، بل كان الماء يأتيه عن طريق سقَّاء بالراوية، وكان السقاء رجلًا صالحًا لم يظهر منه شيء على طول المعاملة، ففي ذلك اليوم دخل البيت بلا إذن، فأفرغ الراوية ثم هجم على زوجة صاحب البيت وأمسك كفيها كما أمسك زوجها كفي تلك المرأة! فدُهِشت الزوجة وقالت: لا بدَّ أن يكون زوجي قد فعل شيئًا، فعندما أتى في المساء قالت له: اصدُقني ماذا فعلتَ اليوم مع الله عزَّ وجلَّ؟ قال لها: لم أفعل شيئًا، قالت: لا بد أنك فعلت شيئًا ما، فقد رأيتُ شيئًا ناتجًا عن عملك! الخلاصة قصَّ عليها القصة كما هي عليه، فقالت له: "إذًا: دقة بدقة" كما لمست نساء النَّاس أرسل الله عزَّ وجلَّ مَنْ يلمس زوجتك "ولو زدتَ لزاد السقا!".
يذكر الإمام الشعراني رضي الله عنه أنه ركب حمارًا يبدو أنه عجوزٌ قليلًا ولا يمشي بشكلٍ جيد، وكانت معه خشبةٌ فصار يضربه بها على رأسه، فكلمه الحمار! - في بعض الأوقات يُطْلع الله عزَّ وجلَّ أولياءه على لغات الحيوانات والمخلوقات – وقال له: اضربني على رأسي ما شئت، فسأضربك يوم القيامة على رأسك كما أشاء! هذا كلام الله عزَّ وجلَّ يا بنيَّ: (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا).
نام سيِّدنا موسى عليه السَّلام إلى جانب عش نمل، فقرصته نملة فانزعج، فأحرق قرية النمل، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: "يا موسى، هلَّا نملةً؟" التي قرصتك، فالله عزَّ وجلَ يُحاسب على النملة، ويُعاقب على اللمسة والنظرة.

التعامل مع كلام الله عزَّ وجلَّ بقبول أوامره وترك نواهيه:
وماذا يعني: (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)؟ هل آمنتم أنتم بهذه الآية؟ كما تُؤمن عندما يقول لك الطبيب إن هذا سُم، فهل يمكن أن تشربه؟ وإذا كنت صائغًا أو صيرفيًّا وأعطاك شخصٌ كفَّ ليرات ذهبية وقال لك: هذه هديةٌ مني لكَ فهل ترفض؟ هل نتعامل مع كلام الله عزَّ وجلَّ في القبول لأوامره والرفض لمحرماته كما نفعل في مثَلنا الذي ذكرتُه؟ بذلك يكون المسلم مسلمًا والمسلمة مسلمة، مسلم القول: إذا قلت لسائق العربة: قل أنا طيار، يقول، لكنْ هو صادقٌ أو كاذب؟ هل إذا قال عنك طياراً فهل تصير طيارًا؟
لذلك يا بنيَّ: فقه القرآن له شرطان:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

كلمة قلب لا تعني الذي يضخ الدم، بل القلب الذي هو مستقر الروح، فكما أن القلب يُغذّي البدن بالدم، كذلك القلب الروحي يُغذِّي النفس بالإيمان وبالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، وكما أن جسد القلب يمرض ومرضه أخطر الأمراض، كذلك القلب الروحي يمرض، لذلك قال الله عزَّ وجلَّ:

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
[سورة البقرة]

(فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) فأتوا إلى الطبيب وأخذوا يقاتلونه (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ فأصحاب الأخدود بطَشَ الله عزَّ وجلَّ بهم وذهبوا، قريش الذين بقوا في عنادهم: أبو جهل وأبو لهب وأمثالهما أيضًا بطش الله عزَّ وجلَّ بهم وذهبوا، فلو كانت السورة خاصةً بهؤلاء لوجَبَ أن ينسخها الله عزَّ وجلَّ ويرفعها، كما لو أن قرارًا مِنَ المحكمة صدر بحق إنسان وطُبِّقت عليه العقوبة فلا يبقى للقرار معنًى؛ هذه لكلِّ زمانٍ ومكان، لكلِّ ظالمٍ ومظلوم، لكلِّ شريرٍ ومعتدٍ بكلِّ أنواع الاعتداء، قليلها وكثيرها، صغيرها وكبيرها.

الوصية بالبهائم:
يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ اتَّقوا اللَّهَ في هذهِ البَهائمِ المعجَمةِ فاركَبوها صالِحةً وَكُلوها صالحةً }

[صحيح أبي داود]

(اتَّقوا اللَّهَ في هذهِ البَهائمِ المعجَمةِ) إذا كان حملها ثقيلًا فهي عجماء لا يمكنها أن تطلب منك تخفيفه، (كُلوها صالحةً) إذا أردت أن تذبحها فسمِّنها، (فاركَبوها صالِحةً) إذا كنت تريد ركوبها فاجعلها قوية.

{ فرُبُّ مركوبةٍ خيرٌ من راكبِها وأكثَرُ ذكرًا للهِ منه }

[مسند أحمد]

(فرُبُّ مركوبةٍ خيرٌ من راكبِها) قد يركب شخص حمارًا فيقول له الحمار: لا تغترَّ فأنا خيرٌ عند الله عزَّ وجلَّ منك، وينبغي أن أركبك أنا وتكون أنت حماري لأنك تعصي الله عزَّ وجلَّ وأنا لا أعصيه! (فرُبُّ مركوبةٍ خيرٌ من راكبِها وأكثَرُ ذكرًا للهِ منه)(3) تخشى الله عزَّ وجلَّ وتذكره أكثر مِنَ الراكب.
فلا تغترَّ يا بنيَّ بآدميتك ولا بقوتك، هل ستصير أقوى مِنْ فرعون؟ أو أقوى مِنَ النمرود؟ أو مِنْ أبي لهب وتجمُّع قريش؟ وبعد ذلك ماذا؟ طار رأس أبي جهل ككرةٍ يُتلاعَب بها بين الأرجل إذلالًا وتصديقًا لوعد الله عزَّ وجلَّ. وإذا قرأت سورة البروج ولم تتحوَّل معاني آياتها في أعمالك فإنك ما آمنت بها، بل أنت كافرٌ بالقرآن! مؤمنٌ باللسان وكافرٌ بالأعمال، فهل يتغلَّب إسلام الأقوال على كفر الأعمال؟ يعني إذا كنتَ أسود اللون وقلتَ أنا أبيض فهل يغيِّر كلامُك لونَ بدنك؟ إذا كنت جاهلًا وقلت أنا أستاذ جامعة فهل تستفيد شيئًا؟ عندما يعرف النَّاس حقيقتك سيصفونك بالكذاب المنافق، فوق سواد الوجه والوصف بالكذب ستنال وسامًا بأنك منافق!

معاني القرآن تحتاج إلى قلوب طاهرة:
هل ستكذب على الله عزَّ وجلَّ يا بنيَّ؟ على النَّاس؟ بل على نفسك، أنت اسأل نفسك: أأنت تكذب على نفسك أم صادق معها؟ أتربح بالكذب أم أنت خاسر؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الطهارة حتَّى تهضِم قلوبنا معاني القرآن كما تهضِم المعدة الطعام فيتحوَّل إلى دم، فيتحوَّل الدم إلى قوةٍ والقوة إلى عمل؛ أما إذا هُضِم الطعام وتحوَّل إلى دمٍ وقوة ولم يَنتُج عنه عمل فلماذا هذا الطعام؟ موته أحسَن له أليس كذلك؟ الحمار إذا أطعمته وسقيته يحمل لك أثقالك طول النهار، ويُركبك ويوصلك حيث تريد، وهكذا كلُّ شيءٍ في هذا الوجود..
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ لا تظنَّ أن هذه السورة مِنْ أجل أصحاب الأخدود فقط، قصةٌ وقعت مثل خبرٍ نشرته جريدة وانتهى الموضوع، لا، هذا قانون الله عزَّ وجلَّ دائمٌ مستمرٌّ إلى يوم القيامة، لا تظنَّ أنك إذا متَّ انتهت القصة، بل إنك بالموت ستنتقل مِنَ العذاب الأدنى إلى العذاب الأكبر:

وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
[سورة السجدة]

يشدُّ لك أذنك، فإذا تُبت كان بها، وإلا ضربك على رجليك، وإذا لم تتب وضعك في الزنزانة، وإلا علَّق مشنقتك!

أخذ الله للكافر أليم شديد:
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ فعندما يقول لك الله عزَّ وجلَّ هذا الكلام: أنا إذا بطشت فبطشي عنيفٌ وأليم:

وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
[سورة هود]

فكيف تسمع أوامر الله عزَّ وجلَّ ولا تمتثلها، وتسمع محارِم الله عزَّ وجلَّ ونواهيه فلا تنزجِر، ووصايا الله عزَّ وجلَّ فتُهمِلها ولا تكترث؟ ثم تقول عن نفسك مسلم؟ معنى مسلم: أنا مستجيب لأوامر الله عزَّ وجلَّ، أنا ملبٍّ لأوامر الله عزَّ وجلَّ، أنا مُنقادٌ وطائعٌ لقانون الله عزَّ وجلَّ، هذا معنى كلمة مسلم، فإذا قلت ولم تفعل فأنت منافق، وحتَّى تنتقل مِنْ إسلام القول المزيَّف إلى إسلام العمل والإيمان الحقيقي القلبي يلزمك طبيب يا بنيَّ.
إذا أُصيب شخصٌ بمرضٍ في القلب أو في الفقرات يبدأ الأطباء يقولون له إنه يجب أن يذهب إلى أمريكا، أنا في السنة الماضية أجريت جراحةً وقال لي الأطباء المختصون إنه لا يمكن إجراؤها هنا بل في أمريكا، مِنْ أجل مرض عظامك تذهب إلى أمريكا أو ألمانيا، ومِنْ أجل مرض قلبك؟ يجب أن تذهب حتَّى لو إلى المريخ إذا كان الدواء هناك وتيسَّرت سبل المواصلات ولو بعت كل شيء وحتى لو بعت نفسك! لأنك بمعالجة الفقرات كسبت عظامك، أما بمعالجة قلبك وإيمانك فتكسب عمرك الأبدي وسعادتك الأبدية.

سورة البروج فيها وعيد لظلمة قريش:
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ إذًا فقد بطش الله عزَّ وجلَّ بأصحاب الأخدود، وأسمعَ كفار قريش ليعتبروا فما اعتبروا فبَطش بهم، في معركة بدر ومعارك شتى، حتَّى اقتحم عليهم مكة وكسَّر أصنامها وكلَّ الأصنام التي كانت تُعبَد في الجزيرة العربية، وهكذا قانون الله عزَّ وجلَّ قائمٌ وإلى قيام الساعة؛ مع الملوك، مع الأمم، مع الأفراد، مع الذكور، مع الإناث، في صغائر الأمور، في كبارها، ويقول لك الله عزَّ وجلَّ:

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

أنت محاسَبٌ على كلماتك:

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
[سورة النور]

أنت مسؤولٌ عن نظراتك، مثبَّتةٌ ومسجَّلةٌ عليك، أنت مسؤولٌ عن سمعك:

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
[سورة الإسراء]

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ) نوايا قلبك، ماذا يوجد في قلبك مِنْ غدرٍ وغشٍّ ومكر، تُظهِر خلاف ما تُبطن حتَّى تعصي أمر الله عزَّ وجلَّ بارتكاب الحرام، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ) نواياك (كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
فمسؤوليتك أمام شرطي سيرٍ إذا أشار لك بأن تقف على اليمين وطلب منك أوراقك، تنزعج، وإذا طلبت منك المخابرات أن تقف وتركب معهم في سيارتهم فماذا يحدث لك؟ الله أعلم، وإذا وضعوك في الدولاب؟ دواليب الله عزَّ وجلَّ كثيرة يا بنيَّ! لذلك: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ هل أنتم مستعدون أن تتحمَّلوا بطش الله عزَّ وجلَّ؟ فلنتقِّ الله عزَّ وجلَّ.

حساب الظالم لا يذهب:
النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال:

{ دَخَلَتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْها ، فلا هي أَطْعَمَتْها ، ولا هي تَرَكَتْها تأكلُ من خَشَاشِ الأرضِ (4) }

[صحيح البخاري]

أي تصيد وحدها، فأدخلها الله نار جهنم بسبب قطة. يا تُرى أنت ألا تظلِم أمك؟ التي ربَّتك وأرضعتك، وعندما ولدتك رأت الموت، يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ النفاس بريد الموت (5) }

[ورد في الأثر]

تسبُّها وتشتمها، أبوك، إنسانٌ ضعيفٌ بين يديك، أجيرك، المرأة إذا كانت قوية على الرجل أو الرجل إذا كان أقوى مِنَ المرأة، مِنْ أجل هرة، قطة، دخلت النَّار. وغَفَر الله عزَّ وجلَّ لعاهرةٍ بسبب كلبٍ وجدته عطشاناً فسقته، فشكر الله عزَّ وجلَّ لها صنيعها فغَفَر لها. قالوا: يا رسول الله، أوَلنا في البهائم أجر؟ إذا أحسنَّا للحيوان، قال:

{ في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبةٍ أجرٌ (6) }

[صحيح البخاري]


المهم في تلاوة القرآن الكريم:
فليس المهم أن تقرأ في اليوم جزءًا أو جزأين، المهم هل فهمت آيةً أو آيتين؟ هل فهمت الآيات كما تفهم كلام الشرطي، إذا كنت تمشي على الشمال وقال لك: ممنوع! امشِ على اليمين، فهل تفهم كلامه؟ وما دليل فهمك؟ تترك الشمال وتمشي على اليمين. وإذا كنت تأكل الدهن ومعك مرضٌ ما ومنعك الطبيب مِنْ أكل الدهن فهل تُخالف؟ فإيمانك بالقرآن: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ ابحث: هل تعمل أعمالًا تُوجب بطش الله عزَّ وجلَّ بك؟ في سمعك، في بصرك، في رجلك أين تذهب، في يدك ماذا تفعل، في عينك إلى ماذا تنظر، في قلبك:

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
[سورة الإسراء]

فما هذا الكتاب العظيم الذي يجعل الإنسان إنسانًا؟ يُحوِّله مِنْ حيوان، مِنْ وحش، الآن كلُّ المخترَعات التي تخترعها الدول الغربية: الصواريخ، قاذفات القنابل، القنابل النووية والجرثومية والكيماوية، كلها ضد مَنْ؟ ضد الضباع أم الذئاب؟ أم الأفاعي؟ أم النمور؟ ضد الإنسان، إذًا أوحَش الوحوش وأخطر الأخطار هو الإنسان! فكلُّ هذه الأسلحة للدفاع تجاه إيذاء وعدوان الإنسان.

المسلم هو المستجيب لأوامر الله:
أما إذا دخل في مدرسة الله عزَّ وجلَّ، في مدرسة القرآن، فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (المسلم) يعني المستجيب لأوامر الله عزَّ وجلَّ:

إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
[سورة آل عمران]

ما معنى الإسلام؟ يعني الاستجابة والانقياد وتنفيذ أوامر الله عزَّ وجلَّ، هذا معنى الإسلام، نحن نظنُّ معنى (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) أننا سمينا أنفسنا مسلمين فتحقق فينا الإسلام!

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)
[سورة الحجرات]

(وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا) يعني أسلمنا بالقول (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ومتى تصيرون مسلمين؟ (وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) تستجيبوا (لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) يُكافئكم على حسب أعمالكم، لا يُعطيك شيئًا لا تستحقه.

التفاوت في الأعمال:
يعني عمر رضي الله عنه على عظيم مكانته لم يُعطِه الله عزَّ وجلَّ منزلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، مرةً دعا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم الصحابة رضي الله عنهم إلى بذل المال، فقال عمر رضي الله عنه: كلُّ مرةٍ يسبقني أبو بكر رضي الله عنه في التقرب إلى الله عزَّ وجلَّ وفي الأعمال، هذه المرة وهذا اليوم سأسبقه! فقسَم ماله نصفين، فأبقى نصف ماله لأهله، وأحضر النصف الآخر للصدقة، أن يتصدَّق الإنسان بنصف ماله فهذا شيءٌ عظيمٌ أليس كذلك؟ وظنَّ أن أبا بكرٍ رضي الله عنه لن يفعل مثله، فلما وصل إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وجد أبا بكرٍ رضي الله عنه قد سَبَقه وقدَّم كلٌّ منهما ما أتى به، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لعمر رضي الله عنه:

{ ما تركت لنفسك وأهلك يا عمر؟ (7) }

[تخريج أحاديث الإحياء]

قال: تركت لهم نصف مالي، قال: ((وأنت يا أبا بكر؟)) قال: تركت لهم الله ورسوله وأتيتك بكلِّ مالي! قال عمر رضي الله عنه: فعلِمت أني لا أستطيع أن أنزل في رهانٍ وسباقٍ مع أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه!

الحساب يوم القيامة:

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)
[سورة الأنبياء]

(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) الأعمال كلها توزَن، كما يُوزَن الدم ويُحلَّل، ماذا فيه: روماتيزم، تسفُّل، المنخفض والعالي خمسة عشر على عشرين على ستين على خمسين، موازين الله عزَّ وجلَّ أدقّ، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) حبة خردل إذا قُسمت سبعين جزءًا وكنتَ قد عملتَ مِنَ الخير بمقدار جزءٍ مِنْ سبعين جزءًا مِنْ حبة الخردل فسيُكافئك الله عزَّ وجلَّ عليه، ومِنَ الشر سيُقاصصك الله عزَّ وجلَّ عليه.
عندما كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يُسوِّي الصفوف في معركة بدر ومعه قضيب كالعُود، كان سواد ابن قارب من الصحابة رضي الله عنهم متقدمًا على الصف قليلًا، فضربه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالقضيب ضربةً خفيفةً وطلب منه تسوية الصف، قال: يا رسول الله، أوجعتني! وقد بعثك الله عزَّ وجلَّ بالحق، فكيف يبعثك الله بالحق وتظلم غيرك؟ قل لي ارجع فأرجع، لماذا القضيب؟ فأريد منك القصاص والقَوَد، أريد حقي، يا الله! يعني لو كان مجندٌ مع شخص يضع على ذراعه خرقةً تحمل الرقم سبعة أو ثمانية، وضربه هذا الأخير فطلب الأول أن يأخذ حقه فماذا يفعل معه؟ فأيُّ قانونٍ أرقى وأعدَل وأحقُّ وأنجَح وأسعَد؟
ناوَله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم القضيب وقال له: اقتصَّ لنفسك يا سواد! مَنْ؟ واحدٌ بدوي، ومع مَنْ؟ مع:

{ أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ (8) }

[سنن ابن ماجه]

هل هناك تمييزٌ عنصري؟ أو تمييزٌ ومكانة في الحقوق؟ قال له: يا رسول الله، ضربتني عريانًا وأنت تلبس ثوبًا، اكشف بطنك لأضربك على اللحم كما ضربتني على اللحم! فرفع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ثوبه وكشف بطنه، وقال: اقتصَّ لنفسك يا سواد، يا تُرى هل يوجد في الديموقراطية قانونٌ كهذا؟ هل في الدنيا مِنْ حين أن خلق الله عزَّ وجلَّ آدم عليه السَّلام؟ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم هنا في مقام النبوة، وقائد الجيش، ورجل الدولة، وكلُّ شيء، وهذا بدويٌّ أعرابيّ لا يساوي شيئًا في نظر النَّاس.
أعطاه القضيب فقال له: اكشف فقد ضربتني عريانًا، فكشف عن بطنه الشريف، فلما كشف وناوله القضيب، رمى القضيب واعتنق النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأخذ يقبِّل بطنه ويقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله! قال له: ما هذا يا سواد؟ أهذا وقته؟ الآن وقت الزحف والهجوم، قال: يا رسول الله، حضر ما ترى ولعلِّي ألقى ربي، فرغبت أن أودِّع الدنيا بأن يكون آخر عهدي منها أن يمسَّ جلدي جلدك، لعلَّ الجلد الذي يمسُّ جلدك لا تمسَّه النَّار! هذا الذي فهم ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾. والإمام الشعراني لما ركب الحمار وضربه بالخشبة على رأسه، ماذا قال له الحمار؟ قال له: اضرب ما شئت، فسأضربك كما ضربتني، يعني أن الله عزَّ وجلَّ لا يُضيع حقَّ حمار! ولا حقَّ قطة! وكلب سقيته أيضًا لا يُضيع الله عزَّ وجلَّ مكافأتك عليه.

الإسلام الحقيقي:
الإسلام أن تستجيب لهذه المعاني فأنت مسلم، وإذا قرأتها وجوَّدتها بالقرآن، وعلى المذهب الشافعي والحنفي والتفاسير ولم تطبِّق فأنت منافقٌ ولست مسلمًا، ما معنى مسلم؟ هو المستجيب العامل بما يأمره الله عزَّ وجلَّ والمنزجر عما يحرمه الله عزَّ وجلَّ، ولذلك: إذا مشيت على تخطيط الله عزَّ وجلَّ أتنجح أم تفشل؟ ولذلك لما دعا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أبا سفيان رضي الله عنه قال له: (أسلِم تَسْلَم)، ولما بعث كتبه إلى الملوك هرقل وكسرى والمقوقس كان يقول لهم: (أما بعد: أسلِم تسلَم يؤتِك الله أجرك مرتين) لأنك تكون قد آمنت بعيسى وآمنت بمُحمَّدٍ عليهما الصَّلاة والسَّلام.
فالخلاصة: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ فلو أنك فعلت شيئًا وقال لك الشرطي: إن الغلطة مع رئيس المخفر ليست هينة، إن بطشه لشديد، فلا تفتعل مشكلات، فتخاف مِنْ هذه الكلمة عن رئيس المخفر وتكفُّ وتنزجر عن رعونتك أم لا؟ وعندما يُبلِّغك النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عن الله عزَّ وجلَّ ويقول لك: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ فهل تُؤمن بكلام الله عزَّ وجلَّ كما آمنت بكلام الشرطي؟ إذا آمنت واستجبت ووقفت فلم تظلم ولم تجُرْ ولم تتعدَّ على أحدٍ مِنْ مخلوقات الله عزَّ وجلَّ؛ فقد آمنت وأسلَمت فسلِمت، وإذا قلت ونطقت وتَلَوت: ﴿إِنَّ﴾ بالغنَّة ﴿بَطْشَ﴾ بقلقلة الطاء ﴿بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ بالمدِّ العارض ﴿إِنَّهُ﴾ بالغنَّة والمدّ ﴿يُبْدِئُ﴾ بالقلقلة، قلقِلْ عقلك حتَّى يفهم القرآن! وأدغِم عقلك بكلام الله عزَّ وجلَّ حتَّى يخرج منك إسلامٌ وعملٌ صالح.

الموت قريب:
وإلا يا بنيَّ: إذا جاءك الموت، أخونا المحامي عدنان القادري كان بيننا قبل شهر أو شهرين ما شاء الله بمنتهى القوة والصحة، وفي لحظةٍ واحدةٍ خطفه الموت، والأخ الثاني بشير الجبان: أيضًا طول وعرض وقوة، وفي لحظةٍ واحدةٍ انتهى، والثالث: الشَّيخ أحمد الكناكري، أيضًا قوةٌ ونشاط، خرج مِنَ المعهد على أحسن حال، وفي لحظةٍ مات، فإذا جاءتك هذه اللحظة فعلى أيِّ شيءٍ تبكي وعلى أيِّ شيءٍ تندم؟ وماذا تشتهي؟ تشتهي لو أنك تبت توبةً نصوحًا، ولو أنك جددت عملك فأبدَلت بسيئاتك حسنات، الآن أمامك فرصةٌ يا بنيَّ، لكنْ:

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)
[سورة الواقعة]

ما عاد يُفيدك شيء، لو كنت تملك جبل قاسيون ذهبًا لا يُفيدك، ولو كانت الدنيا كلها بلاءٌ عليك لما عادت تُضرّك.

أصل خلق الإنسان:
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا عقل القرآن، وعقل الإيمان ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّه﴾ أتعرف مَنْ هو ربك؟ ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾ كيف بدأ آدمَ من تراب؟ كيف بدأك؟ أنت ماذا كنت قبل أن تكون إنسانًا؟ كنت صحن فول مدمس مع بعض الخل والبقدونس! أكلها أبوك وأمك، هضَمتها المعدة فصارت دمًا، ذهب الدم إلى جهاز الخصية فحوَّلته إلى مني، وإلى المبيض في المرأة فجعله بويضة، واجتمع الفول المدمس فأصبح بويضة ملقحة، هذه البويضة التي لا تراها العيون تحوَّلت خلال تسعة أشهرٍ مِنْ حوين منوي، إلى علقة، إلى مضغة، إلى... إلى آخره.. نزلت تبكي! بالمصاصة، كبُرت فصرت تزحف، كبُرت قليلًا فدخلت الروضة ثم الابتدائية.
كبُرت ونبَت لك شوارب، وصرت لا تتعرَّف على الله عزَّ وجلَّ! وأيضًا تقرأ كلام الله عزَّ وجلَّ وهنا المشكلة يا بنيَّ! لو لم يبلُغك لقلت: يا ربِّ ليس لي علم، لكنه بلَّغك، إذا لم يكن عندك مصحفٌ ففي المذياع والتلفاز، الآن قامت الحِجة، لو كنت في الصحراء فالقرآن يصل إليك مقروءًا أحسن قراءة، لكن لا بد يا بنيَّ: الخشب والمسامير والغِراء لا تصنع نافذةً وبيتاً، يلزمها نجار، يلزمها معلِّم، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يدُلَّنا على المعلِّم، ونعرف كيف نتعلَّم منه، ونتأدَّب معه حتَّى يُعطينا علمه.

بدء الخلق وإعادته:
﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ﴾

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
[سورة الأنبياء]

فبدأك بالوجود على هذه الأرض، فبعد موتك سيُعيدك إلى عالم الخلود والأبد، لا مئة سنة ولا ألفًا ولا عشرة آلاف ولا مليونًا، ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾. سعادتك هناك وغناك موقوفان على تقواك وإيمانك هنا، وشقاؤك الأبدي هناك موقوفٌ على جهلك وجاهليتك هنا، والله عزَّ وجلَّ يقول لك:

وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
[سورة الكهف]

إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
[سورة الإنسان]

ها قد بيَّنَّا له كلَّ شيء: هذا طريق الخير مؤدَّاه إلى سعادة الدنيا والآخرة، ليس الدنيا فقط دون الآخرة، ولا آخرة بلا دنيا:

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

فالصحابة رضي الله عنهم فهموا القرآن على أميتهم، لأن القرآن لا يكفي لفهمه هذا العقل، قد يكفي إلى حد، لكن إذا اجتمع إليه القلب: قلبٌ وعقلٌ واعٍ هو الإنسان الفاضل.
فالذي ﴿يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾ ألا تخاف مِنْ بطشه؟ ألا يجب أن تسارِع إلى طاعته وامتثال أمره والوقوف عند حدوده؟ إلى أن تحبَّ ما يدعوك إلى محبته، وبُغضِ مَنْ يدعوك إلى عداوته. ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ﴾ إذا سبقت منك زلاتٌ أو هفواتٌ أو غلطاتٌ فهو غفور، يغفرها لك إذا أتيته تائبًا صادقًا منيبًا عازمًا على الاستقامة. النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ إن اللهَ تعالى يبسطُ يدَه بالليلِ ليتوبَ مسيءُ النهارِ ويبسطُ يدَه بالنهارِ ليتوبَ مسيءُ الليلِ (9) }

[صحيح مسلم]


فرح الله بتوبة العبد:

{ للَّهُ أفرَحُ بتَوبةِ عبدِهِ مِنَ العَقيمِ الوالدِ ، ومِنَ الضَّالِّ الواجِدِ ومِنَ الظَّمآنِ الواردِ (10) }

[المجالس العشرة الأمالي للحسن الخلال]

(ومنَ الظَّمآنِ الواردِ) إذا كان شخصٌ عطشاناً ومقطوعًا في البرية ويكاد يموت، ثم أتى الماء، فكم سيكون فرحه عظيمًا؟ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يُخبر بأن الله عزَّ وجلَّ يفرح بك إذا كنت مذنبًا وتُبت أكثر مِنْ ذاك العطشان في الصحراء الذي يكاد يموت وأتاه الماء للإنقاذ، (للَّهُ أفرَحُ بتَوبةِ عبدِهِ منَ العَقيمِ الوالدِ ) إذا كان شخصٌ لا ينجب، وصار عمره خمسين أو ستين سنة ثم أتاه ولد، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يثبِّت علينا العقل! يطير عقله، هكذا..(ومنَ الضَّالِّ الواجِدِ) إذا كان شخصٌ ضائعًا في الصحراء بين الوحوش وقطاع الطرق، وبعد يومين أو ثلاثة وقد نفِذَ طعامه وشرابه، ثم رأى النَّاس ورأى سيارة، فكم يكون فرحه؟ فالله عزَّ وجلَّ يفرح بك إذا تُبت أكثر مِنْ فرح الثلاثة عندما تنتقل حالتهم مِنَ الهلاك إلى النجاة، فهو ودودٌ أو ليس ودودًا؟ وغفورٌ للماضي إذا تُبت توبةً صادقةً أو ليس غفورًا؟ ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾.

عظمة الله عزَّ وجلَّ وقدرته:
﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ ذو الملك والملكوت، الكون كلُّه ماذا نعرف نحن فيه يا بنيَّ؟ إلى الآن مع كلِّ تبجُّحنا بالعلوم يوجد مراكز في الدماغ يجهلها الإنسان ويجهل وظائفها:

وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
[سورة الذاريات]

مَنْ ركَّب الدماغ الذي خرجت منه السفن والطائرات والسيارات والكهرباء والمذياع والمخترَعات؟ وهل مخ الأجانب يزيد على مخنا؟ لكنهم زرعوا المزرعة واستعملوها فأنبتت لهم مِنْ كل زوجٍ بهيج، ونحن تركناها بورًا:

بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
[سورة الفتح]

النبي صلَّى الله عليه وسلَّم شغَّل أرض العقل فماذا آتتهم؟

فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
[سورة آل عمران]

فأعظَم شيءٍ في الدنيا أنْ صاروا ملوكًا، ليس على قومهم فقط، هارون الرشيد هل كان ملكًا على العراق أو على الجزيرة العربية؟ بل إلى الهند، وإلى مراكش على المحيط الأطلسي، كانت السحابة إذا لم تنزل مطرًا قال لها: أينما ذهبتِ فسينزِل مطرك في مملكتي.
هذا لما استجابوا لربهم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
[سورة الأنفال]

الجسم حي، ولكن لا! لك وجودٌ آخر وهو القلب والروح والنفس، هذه إذا كانت ميتةً بالغفلة عن الله عزَّ وجلَّ ومحبة الدنيا، لا تعرف إلا مصالحك وأنانيتك، وبطنك وفرجَك، وجيبك؛ فأنت ميتُ القلب يا بنيَّ، هذا للجسد وإذا متَّ لم تأخذ منه شيئًا، لأنه ليس لك مِنْ كلِّ ما تجمعه إلا كما قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ يقولُ ابنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، قالَ: وَهلْ لَكَ -يا ابْنَ آدَمَ- مِن مَالِكَ إلَّا ما أَكَلْتَ فأفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فأبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ؟! (11) }

[صحيح مسلم]


خطاب الله وتهديده لقريش:
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ هذا خطابٌ لقريش: أنكم إذا لم ترتدعوا عن الصدِّ عن سبيل الله عزَّ وجلَّ، وعن كفركم، فإذا نزل عذاب الله عزَّ وجلَّ بكم يكون بطشًا شديدًا. ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾ يعني ليس في الدنيا فقط، بل حين يُعيدكم في الحياة الآخرة يتكرر العذاب أيضًا، ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ﴾ إذا تُبتم وأنبتم، ﴿الْوَدُودُ﴾ إذا آمنتم واتقيتم، هل كان الله عزَّ وجلَّ ودودًا مع الصحابة رضي الله عنهم؟ جعلهم ملوك الشام وفلسطين والأردن والعراق والجزيرة العربية واليمن وإيران وأفغانستان والهند وأفريقيا وإسبانيا، ووصلوا إلى منتصف فرنسا، وحين أخطؤوا قليلًا:

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
[سورة الصف]


مخالفة المسلمين لأوامر القرآن:
لماذا سجَّل الله عزَّ وجلَّ معركة أحد في القرآن؟ وبشكلٍ مفصَّل وبيَّن ما سبب هزيمتهم؟ انشغلوا بالغنائم عن القتال، في معركة بواتييه حصل نفس الخطأ الذي حصل في أحد، فلو كان الجنود المسلمون قد درسوا سورة آل عمران التي تذكر مخالفة المسلمين لأوامر القرآن في أحد وفهموها جيدًا، لمَا كرروها ولا كانت الكارثة، فلذلك يا بنيَّ: القرآن ليس مِنْ أجل أن تجلب المصحف ذا الورق الصقيل والمذهب، وتجعل له غلافًا مطرَّزًا؛ بل عليك أن تضع معاني القرآن في عقلك، وتُطهِّر له قلبك بكثرة ذكر الله عزَّ وجلَّ، وتبحث عن طبيبٍ تُسلمه قلبك وتجعله كلّه عنده:
أنْتُم فُرُوضي ونَفلي أنْتُم حَديثي وشُغْلي يا قِبْلَتِي في صلاتي إذا وَقَفْتُ أُصــــلّي
{ ابن الفارض }
هذه مع الله عزَّ وجلَّ وليست بالنسبة للشَّيخ، أما بالنسبة للشَّيخ يا بنيَّ: فمهما أحببت الشَّيخ، لأن الحب هو مادة التلقيح للروح مع الروح، إذا لم تتهيَّأ لك مادة اللقاح تبقى ميتًا.
ورد في الأثر أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال عن أبي بكر رضي الله عنه: (ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاةٍ ولا صيام، ولكنْ بشيءٍ وَقَر في صدره أو في قلبه). سأل النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم سيِّدنا عمر رضي الله عنه: (كيف أصبح حبُّك لي يا عمر؟) قال: أصبحتَ أحبَّ إليَّ مِنْ مالي وولدي وأمي وأبي، إلا نفسي التي بين جنبي، فقال له:

{ لَا، والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ (12) }

[صحيح البخاري]

فبتَجلٍّ إلهي في تلك اللحظة أفاض الله عزَّ وجلَّ عليه، وكشف له عن روحانية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال له: أنت الآن أحبُّ إلي مِنْ نفسي التي بين جنبي! فقال له: (الآن يا عمر، الآن كمل إيمانك!).

الوراث النبوي:

{ العلماء ورثة الأنبياء (13) }

[سنن ابن ماجه]

فالعالِم الرباني ماذا ورِثَ مِنَ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؟ الوسائد والبُسُط والحُصُر؟ عليه أن يرِث مِنَ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ما له مِنْ حقوقٍ وما عليه مِنْ واجبات، مِنْ واجباته أن يعلِّم، يعلِّم الكتاب والحكمة ويُزكِّي النفوس، هذا الواجب الذي عليه، والحقوق التي له على الآخرين: هل أحببتَه أكثر مِنْ محبة أهلك ومالك ونفسك التي بين جنبيك؟ واللهِ فيكم إخوان مِنْ فضل الله عزَّ وجلَّ ما شاء الله عليهم! فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا جميعنا الكمال:

وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
[سورة إبراهيم]

﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ﴾ بدأ الخلق، فالذي بدأ الخلق مِنْ لا شيء أليس قادرًا على أن يُعيدك؟ يُعيدك ليُحاسبك ويُكافئك على عملك، الأرض تُعطيك على عملك: إذا زرعت شعيرًا لا تُنبت لك قمحًا، وإذا زرعت قمحًا فهل تُنبت لك شعيرًا أو شوكًا أو قريصًا؟
سيحصُدُ عبدُ اللهِ ما كانَ زارعًا فطُوبى لعبدٍ كانَ للهِ يزرعُ
{ منقول }
﴿وَهُوَ الْغَفُورُ﴾ للتائبين والمنيبين والمستقيمين، سار في طريق أحباب الله عزَّ وجلَّ ولن يرجع ﴿الْوَدُودُ﴾ للمتوددين إلى الله عزَّ وجلَّ بالإيمان الحقيقي والعمل الصالح.

إن الله يفعل ما يريد:
﴿ذُو الْعَرْشِ﴾ عرشه هذا الكون، كلُّه ملكه ﴿الْمَجِيدُ﴾ المعطاء، الكريم، المكافئ على الحسنة بعشرةٍ بمئةٍ بسبعمئةٍ إلى:

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
[سورة البقرة]

﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ إذا أراد أن يُعطي إنسانًا فهل يكون ذلك باستحقاق؟ لا أحد يقول له هذا: لا يصح، أو: راجع مستشارك، لا، بل يُعطي بمجرد الإرادة، ليس له شريكٌ ولا مديرٌ ولا رئيس. ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ﴾ ﴿فِرْعَوْنَ﴾: ملك مصر الذي ادَّعى الألوهية:

فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24)
[سورة النازعات]

﴿وَثَمُودَ﴾ قوم صالحٍ عليه السَّلام، أرسل الله عزَّ وجلَّ عليهم صيحة ملَكٍ فجعلهم:

فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
[سورة الانبياء]

لكن هل كان ذلك مِنْ أول يومٍ أو مِنْ أول معصية؟ لا، بل يومٌ ثم أسبوعٌ فشهرٌ فسنةٌ وسنتان وثلاث سنوات، حتَّى كان مثل اللغم الموقوت، يكون موقوتًا بِكَم؟ بنصف ساعة، والوقت يمر، مضت خمس عشرة دقيقة فكم بقي له لينفجر؟ ثم مضت عشر دقائق ثم أربع، فبقيت دقيقةٌ واحدة، فهل يمكنك أن تدوسه في الدقيقة الأخيرة؟ ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾.

عاقبة الطغاة وأتباعهم:
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾ جنود الشياطين والأبالسة مِنَ الإنس والجن، جنديٌّ عسكريٌّ عند إبليس: افعل معصية الله، اعتدِ على مخلوقات الله، غِشْ، اكذب وكذا وكذا.. جنديٌّ عند إبليس ﴿فِرْعَوْنَ﴾ الملك ﴿وَثَمُودَ﴾ قبيلة نبي الله صالح عليه السَّلام، فهل علِمتم ما فعل الله عزَّ وجلَّ بهم؟ قال: علِموا ولكنْ أصرُّوا على التكذيب، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يدفع البلاء يا بنيَّ! انظر كيف قصَّ الله عزَّ وجلَّ في القرآن ماذا فعل بالأمم التي كذَّبت أنبياءها: فرعون كملك، قارون كغني:

فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ (81)
[سورة القصص]

قوم نوحٍ عليه السَّلام أغرقهم بالطوفان بعد مئات السنين، فـإن الله يُمهِل ولا يُهمِل.
وبعض الأوقات في الحال: نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم لما أعرض عن ابن أم مكتوم حالًا نزلت المؤاخذة مِنَ السَّماء:

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
[سورة عبس]

(عَبَسَ وَتَوَلَّى) لأن المقرَّبين إلى الله عزَّ وجلَّ مثل الثوب الأبيض، هل يُنظَّف الثوب الأبيض مثل ثوب الحدَّاد أو الدهَّان أو الطيان أو الميكانيكي؟ ذاك لعلَّه لا يغسله طول عمره ولا مرة، حتَّى إذا بلي فإلى المدفأة! فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم لأنه أعرض قليلًا عن الإنسان الأعمى، وحقوق الإنسان في السَّماء حالًا نزلت المؤاخذة: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) إلى آخره..

لا ينتفع الكفرة بالموعظة:
قال: هل اتَّعظتم يا كفار قريش بما وعظتُكم به مِنَ القرآن؟ قال: لا ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ﴾ يُحارب اللهَ عزَّ وجلَّ، ويرفض قانون الله عزَّ وجلَّ ولا يخضع له، فهل سيسكت الله عزَّ وجلَّ عنه؟

إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
[سورة الفجر]

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
[سورة العنكبوت]

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
[سورة الملك]

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
[سورة النحل]

(مَا تُسِرُّونَ) مهما خبَّأت يعلم أسرارك ونواياك (وَمَا تُعْلِنُونَ) يسمع دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على الصخرة الملساء:

أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
[سورة الملك]

الذي اخترع السيارة ألا يعلَم ماذا داخلها؟

الله يحصي على الكفرة أعمالهم:
﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ فإذا أحاط بك عشرون مِنَ المخابرات ورجال الأمن فهل يمكنك الهرب؟ وهل تستطيع أن تخبِّئ أعمالك؟ فمخابرات الله عزَّ وجلَّ يا بنيَّ:

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
[سورة يس]

ماذا فعلت يدك؟ ضربت؟ ضربت الحمار؟ مسجَّلة، ضربت الخادم؟ مسجَّلة، لا تغترَّ بقوتك يا بنيَّ ولا بجبروتك، لاحِظ ربك عزَّ وجلَّ وكلامه الذي يُخبرك بأن مثقال الذرة مِنَ الخير عليه حسابٌ ومكافأة، ومثقال الذرة مِنَ الشر عليه عقوبةٌ ومؤاخذة: في الكلام، في النظر، في السمع، في المشي، في السهرة، في البطش.
﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ فإذا كان الجيش محيطًا ببيتك مِنْ كلِّ الشوارع وفوق الأسطح، فهل يمكنك الهرب؟ ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ ﴿قُرْآنٌ﴾ كتاب الله عزَّ وجلَّ ﴿مَجِيدٌ﴾ كثير العطاء لمن يقْبل العطاء، كثير الخير لمن يمدُّ يده إلى الخير، كثير الإكرام والتكريم لمن يقبل تكريم الله عزَّ وجلَّ، وإذا رفضتَ كنت مثل القنفذ، أين الروائح التي يحبها القنفذ؟ في المزابل، إذا أتاك قطٌّ وأردت أن تُبعده فدعه يشمّ رائحةً طيبة، مجرد ما وضعتها على أنفه يركض هاربًا، لا تناسبه الروائح الطيبة.

تكفل الله عزَّ وجلَّ بحفظ القرآن:
﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ مَنْ يعمل به يصل إلى الأمجاد، مَنْ يكون فقيهه، عندما يصبح لديك فقه في السُّم بأنه قاتل، فمقتضى الفقه ألَّا تشربه، بل تبتعد وتُبعِد النَّاس عنه، وحين تعرف الألماس هل تقذفه في النهر، أم تُقاتل مَنْ يريد أن يسلبه منك؟ هذا هو الإيمان يا بنيَّ، القرآن يُقرَأ لهذا ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ أغلى مِنَ الألماس، يُعطي الأمجاد والعز والغنى والسعادة والكرامة، ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ عند الله عزَّ وجلَّ، محفوظٌ مِنَ التحريف، كلُّ الكتب السَّماوية حُرِّفت وتغيَّرت معانيها وضاعت أهدافها، أما القرآن فقد تكفَّل الله عزَّ وجلَّ بحِفظه:

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
[سورة الحجر]


متطلبات الصدق في طلب الأمور:
انتهت سورة البروج، فهل أنتم مستعدون أن تؤمنوا بها الإيمان الذي أراده الله عزَّ وجلَّ؟ أم تؤمنون بها بأن نقرأها هكذا بسرعة، والسورة الثانية هكذا والثالثة والجزء.. وماذا فهمنا؟ ولو فهمنا وعرفنا فهل عندنا طاقةٌ إيمانيةٌ تُحوِّل المعرفة إلى عمل؟ عندما يُخبرك الطبيب بأن هذا الدواء لمرضك تكون عندك القوة لأن تذهب إلى الصيدلية وتشتريه وتستعمله ولو كان مرًّا ومزعجًا، فالصادق في طلب الصحة والخلاص مِنَ المرض يقدم على هذه الأمور بكلِّ شوقٍ وسرور، يقول له: إن الدواء في بيروت فيذهب إلى بيروت، يقول له: في أمريكا فيبحث عن صديق له يُحضره إليه، يقول له: ثمنه خمسون ألفًا فيدفع خمسين ألفًا، هذا لأنه عرف مرضه وعرف دواءه. أما مَنْ كان لا يعرف أنه مريض، وإذا عرف مرضه لم يعرف قيمة الدواء فكيف العمل معه؟
يروى عن شخص سمع أن مَنْ يأكل سمكًا يوم الأربعاء ويشرب لبنًا ويدخل الحمَّام يصبح مجنونًا! فقال: هذه خرافة، ما هذه القصة؟ سأفعل ذلك لأثبت لكم أن هذا الكلام غير صحيح، فأكل يوم الأربعاء سمكًا، وشرب بعده لبنًا، ثم ذهب إلى الحمام واغتسل، وحين أراد الخروج لم يلبس ملابسه وخرج عريانًا، ربي كما خلقتني! وذهب إلى سوق الحميدية وأخذ يدخل إلى كلِّ محلٍ ويقول: النَّاس يقولون إنَّ مَنْ يأكل يوم الأربعاء سمكًا ويشرب بعده لبنًا ويدخل الحمام يُجنّ؛ ولكي تعرفوا أن هذا الكلام كذب: فاليوم هو الأربعاء، وأنا أكلت سمكًا، وشربت بعده لبنًا، ودخلت الحمام، والحمد لله على سلامة العقل والدين، وعورته ظاهرة مِنْ قُبُل ومِنْ دبر! أعظم المصائب يا بنيَّ: أن يظنَّ المجنون نفسه عاقلًا، وأن يظنَّ الأحمق نفسه فهِمًا، وأن يظنَّ الجهول نفسه عالمًا، ومِنْ محلٍ إلى محلٍ ليُبرِّئ نفسه ويُثبت أنه غير مجنون.
كذلك مَنْ يقول عن نفسه: أنا مسلم، وأنا مؤمن، وأنا شافعي، وأحضر دروس الشَّيخ، لكنَّ أعمالك كلُّها تدلُّ على أنك لا تنتفع مِنَ الشَّيخ ولا مِنْ درس الشَّيخ، كان هناك أناسٌ يجلسون في مجلس النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ويسمعون دروسه ولم ينتفعوا، وقال الله عزَّ وجلَّ عنهم:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
[سورة المائدة]

يجلسون عندك لينقلوا كلامك إلى أعدائك، يعني أنهم جواسيسٌ لنقل الأخبار لمصلحة أعداء الإسلام.

الصمود على الشدائد في سبيل الإسلام:
فهذه سورة البروج، وخلاصتها: تعليم المسلمين الصمود على الشدائد في سبيل الإسلام، كما أن أولئك صمدوا أمام تعذيب أصحاب الأخدود، فأنتم أيضًا عليكم أن تصمدوا، فلما نزلت السورة صمدوا وصبروا وتحمَّلوا، وبعد ذلك هل تخلَّى الله عزَّ وجلَّ عنهم أو خذَلهم؟

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
[سورة الروم]

والآن إذا أراد الإنسان أن يقوم بالدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، لهداية الضال وتعليم الجاهل والأخذ بيد التائه، فليتحمَّل بعض التعب، يُضيع معه نصف ساعة، يُعيد عليه إذا لم يستجب مِنْ أول جلسة، أولئك يا بنيَّ حُرِّقوا بالنَّار مِنْ أجل هداية النَّاس، فأنت في سبيل هداية النَّاس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ؛ أولئك حُرِّقوا بالنيران ليكفُّوا عن الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ ولم يتراجعوا، فنحن متراجعون مِنْ غير نارٍ والحمد لله! لا تعلونا نارٌ ونحن نترك القرآن.

الدعوة إلى الخير :
الله عزَّ وجلَّ يقول:

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
[سورة آل عمران]

(يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) ونحن لا ندعو إلى الخير، (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) إذا رأيت شخصًا تاركًا لفريضة مِنْ فرائض الله عزَّ وجلَّ، أو مرتكبًا لمحرمٍ مِنْ محارمه، فعليك أن تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وإذا لم يكونوا بهذه الصفات فأولئك هم الخائبون المخذولون الفاشلون، وبالحكمة والموعظة الحسنة.
فالآن أنتم ماذا ستفهمون عمليًّا من السورة؟ كقصة نقصُّها أن هذا ما حدث مع هؤلاء الأقوام وهكذا معنى الآية؛ المقصود من السورة أن تكون أنت أولئك النَّاس، تصبر ولو إلى درجة أن تُحرَّق بالنَّار، الآن لا يوجد تحريق بالنَّار، كلُّ ما في الأمر أن يقول لك: أخي أنت اهتمَّ بنفسك، كلُّ عنزةٍ معلَّقةٌ مِنْ رقبتها، هل هناك أكثر مِنْ ذلك؟ ومِنَ النَّاس مَنْ يقول لك: أكثَر الله خيرك، وهناك أناسٌ يُكرمونهم ويبرُّونهم ويُدللونهم :

{ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بكَ رَجُلٌ واحِدٌ خَيْرٌ لكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ (14) }

[صحيح البخاري]

التاجر مع التاجر، والمرأة مع المرأة، والجار مع جاره، والرفيق مع رفيقه، والمسلم في سهرته، والمسلمة في مجتمعها النسائي.

الإصرار على متابعة الدعوة:
فلو حال بيننا وبين هذا العمل التحريقُ بالنَّار فعلينا أن نجتاز النَّار لنحقق هدف ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ وإذا لم نفهم هذا المعنى فما قرأنا القرآن :

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
[سورة الفرقان]

الله عزَّ وجلَّ يتلو علينا السورة لنقوم بالدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ ونصمُد ولو حُرِّقنا بالنَّار، فنحن لا نقوم إلى الدعوة، ولا نصبر، ولا نصمُد؛ إذًا اتخذنا (الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) لماذا؟ لستُ متفرغاً، لماذا؟ أتاني ضيوف، لماذا؟ واللهِ مريض، وحين يكون هناك قبض نقود أو ربح أو إذا دُعِيتَ إلى كذا فهل تقول إني مريضٌ أو متعبٌ أو لست متفرغاً؟

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
[سورة البقرة]

فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه. فعليكم بكثرة ذكر الله عزَّ وجلَّ يا بنيَّ، فالذي ليس لديه حلقةٌ يذكر الله عزَّ وجلَّ معها فليفتِّش عن حلقةٍ مِنَ الحلقات مِنْ ذكرٍ أو أنثى، فإيمان بلا ذكرٍ لا يصلُح، ولن تصل إلى الإسلام الحقيقي بلا رابطة الحب، الحب في الله أعلى شعب الإيمان، لم يصبح أحدٌ حشَّاشًا إلا بالحب، أحبَّ حشاشًا فمشى معه وسهِر معه ثم استدرجه ذاك شيئًا فشيئًا حتَّى صار مثله، هذا يا بنيَّ: "مَنْ جالَس فقد جانَس"، و"قل لي مَنْ تُصاحب وأنا أقول لك مَنْ أنت"، قل لي مَنْ تُحب وأنا أقول لك مَنْ أنت.
وعلامة الحب: أن تفعل ما يُحبّه المحبوب، وتترك ما يكرهه المحبوب، فإذا كان أحبابك أحباب الله عزَّ وجلَّ وضع عجلتك على سكة السعادة ورضا الله عزَّ وجلَّ، فاسأل الله عزَّ وجلَّ التثبيت: يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك. وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله ربِّ العالمين.

الهوامش:
(1) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وكذلك أخذ ربك، رقم: (4686)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم: (2583).
(2) مسند أحمد، رقم: (8952)، (14/512).
(3) مسند أحمد, رقم: (15646), (24/404), المعجم الكبير للطبراني, رقم: (432), (20/193).
(4) صحيح البخاري، كتاب المساقاة الشرب، باب فضل سقي الماء، رقم: (2236)، صحيح مسلم، كتاب الآداب، باب تحريم قتل الهرة، رقم: (2242).
(5) ورد في الأثر.
(6) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء: باب حديث الغار، رقم: (3467). صحيح مسلم، كتاب السلام: باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، رقم: (2244)، (2245).
(7) تخريج أحاديث الإحياء, رقم: (1), ص: (253).
(8) سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، رقم: (4308).
(9) صحيح مسلم، كتاب التوبة: باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، رقم: (2759).
(10) المجالس العشرة الأمالي للحسن الخلال (ص: 78) رقم ، 86 والرافعي (1/226) .
(11) صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، رقم: (2958) بلفظ: «يقول ابن آدم: مالي، مالي، قال: وهل لك، يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟»، رقم: (2959).
(12) صحيح البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (6632).
(13) سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223). وأبو داود، أول كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، رقم: (3641). والترمذي، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682).
(14) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، رقم: (2783)، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضى الله تعالى عنهم، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه، رقم: (2404).