تفسير سورة البروج 01

  • 1995-09-29

تفسير سورة البروج 01

بسم الله الرحمن الرحيم, يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وأصلِّي وأُسلّم على سيِّدنا مُحمَّدٍ المبعوث رحمةً للعالمين، الذي أخرج النَّاس مِنَ الظُّلمات إلى النور، ومِنَ الشقاوة إلى السعادة، ومِنَ الجهالة والجاهلية إلى العِلم والحكمة والأخوة، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخوَيه سيِّدينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه مِنَ النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وبعد:


عظمة خلق الله تعالى:
فنحن في تفسير سورة البروج، والبروج هي النجوم والكواكب التي هي العوالِم العظيمة في هذا الكون الذي لا نهاية له، وكلُّ كوكبٍ قد يكون أكبر مِنْ أرضنا بآلاف آلاف المرات وهو يجري بسرعاتٍ خيالية، سرعة جري أرضنا مئة ألف كيلومتر وثمانية آلاف كيلومتر في الساعة الواحدة، فهل هناك سيارةٌ أو طائرةٌ تمشي بهذه السرعة؟ وهناك ما هو الأسرع والأسرع والأسرع، وكما قال الله عزَّ وجلَّ:

لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
[سورة يس]

(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ) يعني في مسارٍ وفي طريقٍ لا يتعدَّاه يُمنةً ويُسرةً (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)، وأرضنا ما هي إلا ذرَّةٌ وكالهباء في هذا الكون غير المتناهي.
فالله عزَّ وجلَّ يُقسِم بالسَّماء، يعني بهذا الكون المملوء مِنْ هذه الكائنات الهائلة العظيمة التي أرضنا تجاهها كذرة والإنسان يعيش على هذه الذَّرة، فعندما يُقسِم الله عزَّ وجلَّ بهذا الكون وبهذه السَّماء ذات البروج ليُشعِر الإنسان بعظَمة الله عزَّ وجلَّ وكبريائه، ماذا أنت أيها الإنسان تجاه خالِق البروج وهذه السَّماوات؟ فكيف يجب أن يكون تعظيمك وإجلالك وحبُّك له على عنايته بك إذ أوجَدَك مِنَ العَدم:

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
[سورة الإنسان]

ثم صِرت مذكورًا: مؤمنًا أو كافرًا، شاكرًا أو جاحدًا، عالِمًا أو جاهلًا، فهل عرفت – وأنت هذا المخلوق الضعيف – عَظَمة هذا الإله العظيم؟ هل عرَفت نعمه عليك؟ هل علِمت واجباته وفرائضه عليك؟ هل التزَمت بشرائعه وقوانينه فحرَّمت حرامه وأدَّيت فرائضه ووقَفت عند حدوده:

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
[سورة البقرة]


شريعة الله للسير على طريق الهداية:
وكلُّ ما شرَعه لك هو مِنْ أجل سعادتك، ومن استجاب لشريعة الله عزَّ وجلَّ كان كالقطار إذا مشى على خطِّه الصحيح يصل الإنسان فيه إلى حيث يريد، وإذا خرَج الدولاب عن الخط؟ خروج الإنسان عن الخط اسمه فِسق وهو فاسِق، إذا خرج الدولاب عن الخط يقال إنه فَسَق والقطار فاسِق، وإذا خرج الإنسان عن حدود الله عزَّ وجلَّ وعن سكَّته وطريقه وصراطه المستقيم فَسَقَ أي خرج عن طريق سعادته إلى شقوته وتعاسته وانقطاعه عن الخير.
فالله عزَّ وجلَّ يُقسِم بالسَّماء، فالسَّماء هي هذا الفضاء غير المتناهي ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ ذات الكواكب والنجوم التي كلُّ نجمٍ منها قد يكون أكبر مِنْ أرضنا بملايين أو بمئات الألوف مِنَ المرات، فمَنْ الذي خلَقها؟ ومَنْ الذي وضع خط سيرها؟ ومَنْ الذي يقودها حتَّى لا تصطدم مليارات المليارات هذه بعضها ببعض؟ فهل علِمت وعرفت وآمنت بعَظَمة ربك؟ هل عرَفت نعمه عليك؟ هل عرفت أوامره ورسالته إليك التي هي رحمةٌ للعالَمين؟ هو أرحَمُ بك مِنْ أمّك وأبيك، وأرحَمُ بك مِنْ نفسك، فهل أطَعته؟ هل استجبت لأوامره؟ هل أحببته لنعمه؟ هل خِفْتَه وهِبته لعذابه وانتقامه؟
في الدنيا: مَنْ عصاه وتمرَّد على أمره: أهلَكَ الله عزَّ وجلَّ قوم نوح عليه السَّلام، وأهلَكَ فرعون والنمرود، وأهلك أممًا شتَّى لما حادوا عن طريق الله عزَّ وجلَّ:

وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38)
[سورة الشورى]

وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
[سورة الرعد]

أسعَدهُم الله عزَّ وجلَّ في الدنيا قبل الآخرة، جعلهم في الأرض ملوكًا وأرواحهم في السَّماء ملائكة، وأعدَّ لهم مِنَ النعيم ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطَرَ على قلب بشر.

أوجد الله مخلوقات تدب على الكواكب:
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾ يحلِفُ الله عزَّ وجلَّ بهذا الكون وما فيه مِنْ عوالِم يعجز العقل عن إدراكها، عن أعدادها وحقائقها وما فيها مِنْ مخلوقات.

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
[سورة الشورى]

فمعنى ذلك: أنه كما يوجد على أرضنا مَنْ يدبُّ ويمشي عليها فالقرآن يقول: إن الكواكب الأخرى كذلك يوجد مَنْ يمشي ويدبُّ عليها، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ) الدليل على وجود الله عزَّ وجلَّ: الخلق، (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثّ) وما نشَر وأوجَد فيها مِنْ مخلوقاتٍ تدُبُّ وتمشي على سطحها، فالقرآن يُثبت بأن في هذه الكواكب يوجد مخلوقات تدبُّ عليها كما ندبُّ نحن على أرضنا.

اليوم الموعود:
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ الوعد الذي يلتقي فيه الإنسان بخالِقه عزَّ وجلَّ في محكمته ومركز قضائه وأعماله كلُّها مسجَّلةٌ عليه في دفاتر الملائكة، ويُسأَل عن ما فَرَض الله عزَّ وجلَّ هل أداه؟ وعن محارِم الله عزَّ وجلَّ هل اجتنبها وابتعَد عنها؟ يجد أعماله مسجَّلةً كبيرها وصغيرها، سِرَّها وعلانيتها، ما فعله أمام النَّاس وما فعله خِفيةً عن النَّاس:

يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
[سورة التغابن]

إذا كان شرطي السير يُلاحق سائق السيارة فهل يجترئ السائق أن يفعل مخالفةً في أثناء سيره وهو يعلم أنه مُراقَب؟ فالله عزَّ وجلَّ يقول:

إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)
[سورة آل عمران]

﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ هو اليوم الذي وعَدَ اللهُ عزَّ وجلَّ فيه الإنسانَ للقاء الله عزَّ وجلَّ وحِسَابه، فأعمال الإنسان مسجَّلةٌ صغيرها وكبيرها وحقيرها:

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
[سورة الزلزلة]

انظروا ما أعظَم تعليم وتربية القرآن ألَّا يزهَد الإنسان في صنع الخير ولو كان مثقال ذرَّة، أتى سائلٌ يسأل عائشة رضي الله عنها وكان بيدها عنقود عنب فأعطته حبةً، على سخائها وكرَمها رضي الله عنها لكنْ لتعلِّم مَنْ شاهَدها وحضَرها، قالوا: يا أم المؤمنين، حبَّة عنب؟ وأنت الكريمة السخية البذول! فقالت: أتدرون كم في الحبة مِنْ ذرة؟ والله عزَّ وجلَّ يقول: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ).
وكما يقول الشاعر:
افْعَلْ الْخَيْرَ مَا اسْتَطَعْت، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَلَنْ تُحِيطَ بِكُلّــهْ وَمَتَى تَبْلُغُ الْكَثِيرَ مِنْ الْفَضْـــــلِ إذَا كُنْت تَارِكًا لِأَقَلّهْ؟!
{ منقول }
وكلُّ شيءٍ في الوجود يبدأ صغيرًا ثم يكبُر، نواة التمرة صغيرةٌ فحين يجعلها الإنسان في تربة النمو تنقلب إلى نخلة، كذلك عملك الصالح إذا وضعتَه في تربة الله عزَّ وجلَّ ينمِّيه الله عزَّ وجلَّ حتَّى – كما ورد في الحديث النبوي -:

{ يجعل الله عزَّ وجلَّ مِنَ اللقمة، ومِنَ التمرة، كجبل أُحُد يوم القيامة في صحيفة المتصدِّق (1) }

[ورد في الأثر]

﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾

وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
[سورة الروم]

فهل أنت أيها المسلم وأيتها المسلمة، هل أحدٌّ منا يشكُّ بأن الله عزَّ وجلَّ إذا وعَدَ سينجز وعده؟ وعَدَ الله عزَّ وجلَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليُدخِلَّنهم جنات، وأوعَد الله عزَّ وجلَّ الآثمين والفاجرين والطغاة بانتقامه وعقوبته في الدنيا أو في الآخرة أو في كلتيهما:

فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
[سورة الزمر]


الإيمان بالقرآن أن تتحول كلمات وآيات القرآن إلى عمل:
فالإيمان يا بنيَّ بمعناه الحي والإيمان بالقرآن هو أن تتحوَّل كلمات وآيات القرآن في القارئ وفي المستمِع إلى عملٍ وإلى خُلُقٍ وإلى سلوكٍ وإلى واقعٍ وإلى قرآنٍ يقرؤه النَّاس بأعينهم كلَّما شاهدوا المؤمن.
لماذا انتشر الإسلام في سلفِنا الصالح حتَّى عمَّ نصف الدنيا؟ كان التاجر يذهب في تجارته - وهو غير مُتفرِّغ للعِلم والدعوة والإرشاد – إلى وثنيين ومجوس وعبدة النَّار وإلى الأديان المختلفة فكان يُقرِّئهم القرآن ويُفهِمهم الإسلام بأعماله وبأخلاقه وبعقله الحكيم فيعشقون الإسلام لا مِنْ قراءة الكتاب بل مِنْ قراءة المسلم الذي هو القرآنُ والكتابُ العملي الذي يفقهه الصغير والكبير والعدوُّ والصديق، الآن توقف النمو الإسلامي بسبب جمود المسلم عن هضم القرآن فهمًا وإيمانًا وعملًا وتمثيله في الواقع سلوكًا وأخلاقًا ومشاهدةً.

الله يقسم لنستجيب:
﴿وَالسَّمَاءِ﴾ ألا نصدِّق اللهَ عزَّ وجلَّ حتَّى يحلِفَ لنا يمينًا؟ الذي لا تُصدِّقه تقول له: احلِف لي يمينًا فالله عزَّ وجلَّ يحلِف لنا يمينًا، يعلم أنه يحلِف والكثير منا لا يصدِّقون! ﴿وَالسَّمَاءِ﴾ هذا يمين:

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
[سورة الطارق]

هذا أيضًا يمين، وهناك أيمانٌ متعددة، وكثيرٌ مِنَ المسلمين يقرؤون ويسمعون يمين الله عزَّ وجلَّ ولكنْ لا يُصدِّقونه عملًا ولا يستجيبون إليه تطبيقًا وسلوكًا، هؤلاء في قلوبهم مرضٌ يحتاجون إلى المستشفى وإلى الطبيب ليُعالج قلوبهم الميتة أو قلوبهم التي فيها المرض:

أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
[سورة الأنعام]

ليست حياة الجسد، لو كانت حياة الجسد لقال: لأحييناه وجعلناه يمشي بين النَّاس، بل المراد حياة القلب:

أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
[سورة الأنعام]

(فِي الظُّلُمَاتِ) ظلمات الغَفلة، ظلمات المعاصي والآثام والإعراض عن الله عزَّ وجلَّ، (كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يُزيِّن له أن فِسقَه وجرائمه وعصيانه هي الأفضَل والأنفَع:

أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
[سورة فاطر]

لماذا أضلَّه؟ لأنه اختار الضلال وطريق الضلال وأعمال الضالين، فهو اختارَ فـ:

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
[سورة البقرة]

﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ فمثلًا لو أن الشرطة أو الأمن ضربوا لك موعدًا وقالوا لك: تعال غدًا إلى المخابرات، فإذا كنت قد أذنبت ذنبًا فالله عزَّ وجلَّ أعلَم ماذا ستفعل! وإذا لم تكن قد أذنبت ذنبًا فإنك ستفكر طوال الليل يا تُرى هل أنا فعلت شيئاً؟ فإذا كنت قد فعلت شيئًا فإنك تفكر كيف ستعتذر لتتخلَّص منه، وإذا كان الله عزَّ وجلَّ قد وعَدك بلقائه وبأنه سيُحاسبك وما زالت أمامك الفرصة لتتنصَّل وتمحو ذنوبك بالتوبة الصادقة وبالإنابة والاستجابة إلى أوامر الله عزَّ وجلَّ وفرائضه؛ فهل فكَّرت في ذلك؟

أعظم الشهود هو الله تعالى:
﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ الشاهِد: أعظَم الشهود وأوَّلهم هو الله عزَّ وجلَّ:

وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
[سورة البروج]

فالله عزَّ وجلَّ معك في أيِّ عملٍ تعمله، والله عزَّ وجلَّ شاهدٌ عليك وناظِرٌ إليك، فلو عملت عمل سوءٍ ورآك طفلٌ لخجلت منه واستحييت وكفَفت عن الأعمال القبيحة، فإذا قال لك الله عزَّ وجلَّ: استحييت مِنْ طفل ولم تستحْيِ مني، حسبت حساب شرطيٍّ ولم تحسب حسابي، وأنا عليك شهيد، وأنا بأعمالك عليم، وأنا على أفعالك بصير فماذا سيكون جوابك؟ هذا إذا لم يُذكِّرك بنعمه عليك:

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
[سورة النحل]

لذلك لا بدَّ للمريض مِنَ الطبيب والمستشفى، لا بد أن يحللوا دمه ليعرفوا أنواع المرض ليهيِّئوا له الدواء المناسب:

{ إِنَّ هذه القُلوبَ لتصدأ ُكما يصدأُ الحديدُ ، قيل : فما جِلاؤُها يا رسولَ اللهِ ؟ قال : تَلاوة ُكتابِ اللهِ وكثرةُ ذكرِهِ }

[شعب الإيمان]

(تَلاوة ُكتابِ اللهِ) تلاوة الفَهم(وكثرةُ ذكرِهِ) (2).
لذلك كانت الهجرة فريضةً على المسلم وعلى المسلمة، ومَنْ يتخلَّف عن الهجرة:

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
[سورة النساء]

مسلمٌ ومصلٍّ وصائمٌ وفي زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عليه أن يُهاجر إلى المدينة، لماذا؟ ليدخل في مدرسة العِلم والحكمة والتزكية.

حرمة التعرب بعد الهجرة:
وعدَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ كبائر وعظائم الذنوب: التعرُّبَ بعد الهجرة، يعني بعد أن أتى إلى المدينة ودخل في مدرسة النبي الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم تَرَك صحبة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى باديَته وأغنامه وأعماله التجارية، هذا في زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فالآن هل يُفكر المسلم بأن يُهاجر إلى وارِثٍ نبَوي؟

{ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ (3) }

[سنن ابن ماجه]

فإذا لم تكن لك صحبةٌ مع وارثٍ نبويّ: "مَنْ لا شيخ له فشيخُه الشيطان".
مولانا خالد النقشبندي كان رئيس علماء العراق، ولكن بتوفيق الله عزَّ وجلَّ عَرَفَ أنه لا بدَّ له مِنْ شيخ التزكية والشَّيخ الذي يُعلِّمه الكتاب والحكمة ويزكيه، حتَّى التقى به في مكة المكرمة، ولما عَرَفَ أنه الشَّيخ الطبيب المزكِّي وطلَب منه أن يُداويه، المريض لا يُداوى في الطريق ولا في الشارع بل عليه أن يدخل المستشفى، فقال له: ستأتي إلى الهند -إلى بلد الشَّيخ- وهاجر إلى الهند، وبقي في الخلوة تحت نظر شيخه يعني في العناية المشددة ثمانية أشهر، وخرج مِنْ تحت السَّحاب وغيوم الذنوب والغَفلات والظلمات قمرًا منيرًا ونشر الإيمان في الشرق الأوسط العربي كلِّه وهو عالِمٌ واحد، وكان قبل ذلك رئيس العلماء لكنه مريضٌ يحتاج إلى الطبيب، فكيف يستطيع المريض أن يُنقذ المريض أو يستطيع الغريق أن يُنقذ الغريق؟

من المهم لطالب العلم مادة تزكية النفس:
فلا بدَّ أن تُوجد في طلب العِلم أو التعليم مادة تزكية النفس، ولا بدَّ مِنْ أن نُحقق في طالب العِلم الوراثة المُحمَّدية، فنعلِّمه ونُربيه ليكون أهلًا ليدخل مدرسة مقام الإحسان:

{ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ (4) }

[صحيح البخاري]

مِنْ أسباب تخلُّف المسلمين فقدُ مدرسة التزكية ، الأزهر والجامعات الدينية تُعلِّم العلوم المختلفة، أما التزكية فلا يُعلِّمونها لا نظريًّا -والنظري لا يُفيد- الرياضة البدنية تُعلَّم واقعيًّا وعمليًّا، والطب الجراحي لا يُعلَّم بالمحاضرات، وكذلك السباحة لا تُعلَّم بالمحاضرات بل في النهر أو البحر؛ كذلك التزكية لا تكفي بل يجب أن يدخل مدرسة الحكمة، مدرسة فقه الأسباب والمسبَّبات.
المسلمون في الأعصر الأخيرة المتخلِّفة جَـمُدوا على فهم الإسلام في الدوائر الضيقة فجعلوا مِنْ اجتهاد المجتهدين السابقين رضي الله عنهم - في الوقائع التي تتكرر – وحيًا مُنزلًا، مع أن هذه الأمور تختلف أحكامها بحسب اختلاف الزمان والمكان والإنسان، فجَمُدَ فقه الإسلام، وكذلك تركوا الأسباب والمسبَّبات باسم وبدعوى التوكل على الله عزَّ وجلَّ، والأسباب والمسبَّبات التي هي الحكمة: فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي وعلى الشكل الذي ينبغي، فتخلَّفوا وضعُفوا وتمزَّقوا فأتى العدو وسيطر عليهم كسيطرة الذئاب على الغنم، خرجت جنوده مِنْ أراضينا ولكن دخلت جنوده في عقولنا وقلوبنا ونفوسنا، والراعي الذي يحمي الأغنام ما أقلَّ عدده وما أقلَّ مدده!

البحث عن وارث النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:
فلا بدَّ أن نرجع إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ ونفتِّش عن وارثٍ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لعلَّ الله عزَّ وجلَّ أن يُعيد لنا كرامتنا:

وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
[سورة الحج]

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
[سورة البقرة]

أن تطلب مِنَ الله عزَّ وجلَّ نصرًا ولا تنصُر دينه وقرآنه! فلا يمكن أن تطلب من الله عزَّ وجلَّ استجابةً وأنت لا تستجيب له وحيَه ولا نداءه، إن استجبت له استجاب لك، وإن أقبَلت عليه شبرًا أقبل عليك ذراعًا، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).
﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ يا تُرى لو كان عندك جلسةٌ في المحكمة غدًا فكم مرةً تتذكر موعد الجلسة في اليوم السابق؟ لعلَّك تتذكرها في صلاتك، وأثناء أكلك وشربك، خصوصًا إذا كان الحكم فيها خطيرًا إما سعادةً وإما هلاكًا، إما خمس عشرة سنةً مِنَ السجن وإما عفوًا، بل لو كان الحكم شهرًا أو عفوًا، وإذا نمت قبل موعد المحكمة ترى القضية في منامك، وإذا أكلت تفكر فيها، فما أولى وأحرى أن تفكر في اليوم الموعود في محكمة الله عزَّ وجلَّ.

الشاهد هو القاضي:
﴿وَشَاهِدٍ﴾ ومَنْ الشاهد عليك؟ هو القاضي، القاضي الذي سيُحاكمك هو الذي شهِدَ جُرمك، وهو الذي رأى معصيتك واستهتارك وعدم مبالاتك بالله عزَّ وجلَّ، وَرَدَ أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان بين مكة والمدينة وأدركه العطش فرأى راعيًا فطلب منه أن يسقيه فحلب له مِنْ بعض ما يرعاه حليبًا فشرب، وبقيت فضلةٌ مِنَ الحليب فأعطاها للراعي ليشربها، فقال: إني صائم، فأراد ابن عمر رضي الله عنهما أن يفحصه: هل صيامه صيام الجسد أم تجاوز الجسد إلى أعماله وأخلاقه؟ إذا صام عن الحليب ولم يصُم عن الحرام والآثام فما الفائدة؟ فقال له: أنا جائعٌ لو ذبحتَ لي شاةً؟ فقال له: أنا لا أملك هذا الغنم بل أنا عبدٌ مملوك، فقال له: أنا أدفع لك ثمنها وتقول لسيدك أكلها الذئب! فما استكمل ابن عمر رضي الله عنهما قوله إلا وصاح ذلك الراعي الأسود صيحةً اهتزَّ لها الوادي قائلًا: فأين الله؟ فأين الله؟ فأين الله! فتأثَّر ابن عمر رضي الله عنهما بروحانيته وصار يصيح معه أيضًا قائلًا: فأين الله؟ فأين الله! هذا عبدهم، هذا راعي غنمهم، فكيف عامَّتهم؟ وكيف خاصَّتهم؟ رضي الله عنهم وأرضاهم، و:
" نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله "
{ عمر بن الخطاب }
﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ يا تُرى عندما نقرأ هذه السورة أو نسمعها هل نحسِب حساب اليوم الموعود يوم القيامة؟ ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ الشاهِد عليك هو القاضي، إذا عمِلت الجرم أمام عيني وبصر القاضي ووقفت بين يديه فهل تستطيع أن تجحَد أو تُنكر؟ وإذا كان الجرم كبيرًا فيه الهلاك فهل فكَّرت في عاقبة أمرك ومصيرك؟ إذا كنت لا تُفكر فأنت لست مؤمنًا:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)
[سورة البقرة]

فماذا قال الله عزَّ وجلَّ عن الذي إيمانه بالقول؟ قال: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ).

أنانية الشيطان وهواه جعلته يعصي الله:
الشيطان إبليس هل آمن بالله عزَّ وجلَّ أم لم يُؤمن؟ آمن وعَبَدَ الله عزَّ وجلَّ خمسين ألف سنة لكن أنانيته وهواه وحب الرئاسة جعلته يعصي الله عزَّ وجلَّ بسجدةٍ واحدةٍ فطرده إلى يوم يُبعَثون، ومع إيمانه بالله عزَّ وجلَّ قال:

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
[سورة الحجر]

(رَبِّ) إذًا هو يعترف بالله عزَّ وجلَّ، (بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) هذا إيمان الشياطين! يُؤمن بالله عزَّ وجلَّ ويُعلن معصيته لله عزَّ وجلَّ علانيةً لا خوفًا ولا حياءً ولا تفكيرًا بالشاهد والمشهود، فإذا وقفتَ غدًا بين يدي الله عزَّ وجلَّ وقال لك: أنا رأيتك فَسقتَ، زنيتَ، أكلت الحرام، تلاعبت على النَّاس، كذبت، خُنت وغير ذلك.. فماذا سيكون جوابك إذا كان القاضي خصمك وشاهِدك؟ فيا تُرى هل نحن بحاجةٍ إلى هذه التربية القرآنية؟ على كلِّ المستويات: الفرد، البائع، الشاري، الزوج، الزوجة، الحاكِم، المحكوم، الصغير، الكبير.

الخوف من الله في السر والعلن:
كانت امرأةٌ تحلب الحليب في عهد عمر رضي الله عنه فقالت لابنتها: هاتِ ماءً لنضعه فوق الحليب حتَّى يزيد وزنه، ويبدو أن البنت الصغيرة مثقَّفةٌ بثقافة القرآن فقالت لها: يا أمَّاه إن عمر نهى أن يُخلَط الحليب بالماء، قالت لها: ويحَك! أوَ يراك عمر؟ قالت: يا أمَّاه إذا لم يرَني عمر أفلا يراني ربُّ عمر؟ وكان عمر رضي الله عنه يقوم في الليل بدوريةٍ بنفسه – يعني كان حارسًا ليليًّا – وسمع حوار البنت وأمها فطلب مِنْ مرافقيه أن يضعوا علامةً على هذا البيت، وفي اليوم التالي دعا أولاده وسألهم مَنْ الأعزب منهم ولا زوجة له؟ فقال أحدهم: أنا، فزوَّجه تلك البنت فكان مِنْ نسلها عمر بن عبد العزيز!

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
[سورة الأعراف]

فهؤلاء الأعراب أبناء البادية بكتابٍ واحدٍ ولكنَّ الجو جو الإيمان، الجو يُستشَمُّ منه رائحة النبوة، عصر النبوة، وهم أمّيون، وهم بدو، كانوا يقتتلون وكانوا على الرذائل والجهالات والخرافات؛ ولكنْ ببركة المعلِّم الأول والكتاب الأول صاروا:

{ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كادُوا من صِدْقِهِم أن يكونوا أنبياءَ (5) }

[حلية الأولياء]

والنبي هو الذي يصنع الأمَّة الراقية، ما صنعوا أمَّةً بل صنعوا أممًا، بل صنعوا عالَمًا وفي أقلِّ مدةٍ وبأقلِّ الوسائل.
وَرَدَ حديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ تَدورُ رَحى الإسلامِ لخمسٍ وثلاثينَ، أو ستٍّ وثلاثينَ، أو سبعٍ وثلاثينَ، فإن يَهلكوا فسبيلُ من هلكَ، وإن يَقمْ لهم دينُهم يقمْ لهم سبعينَ عامًا. قال: قلْتُ: أممَّا بقيَ أو مما مضى؟ قال: ممَّا مضى }

[سنن أبي داود]

(رَحى الإسلامِ) ما هي الرَحى؟ الطاحون، قال: (وإن يَقمْ لهم دينُهم يقمْ لهم سبعينَ عامًا)(6) فإن يصطلحوا بينهم ويستقيموا يأكلوا الدنيا رغدًا سبعين سنة، إذا استمروا على ما تركهم عليه تبقى الدنيا مُقبِلةً عليهم سبعين سنة، وإن يقتتلوا ويركبوا سَنن مَن قبلَهم يتنازعون ويتقاتلون على الدنيا، والأمم التي قبلهم خالَفوا الله عزَّ وجلَّ فتخلَّى الله عنهم وأوكَلهم إلى أنفسهم فتفرَّقوا واقتتلوا وإلى آخره..
لا بدَّ لنا نحن المسلمون أن نعود إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ فهمًا وكفاءةً، ليس كلُّ قارئٍ يقرأ القرآن:
ربَّ تالٍ يتلو القُرَان بفيهِ وهْو يفضي به إلى الخذلانِ
{ سلسلة الذهب للجامى }

تزكية النفس:

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
[سورة الأنفال]

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

كان شيخنا مِنْ أكابِر العُلماء ولكنه عرَفَ أن عِلمه القرائي والمدرسي لا يُعطي الفائدة التي يطمع بها حتَّى لقي شيخه الذي يُعلِّمه الكتاب والحكمة ويُزكِّيه، وكان يقول لنا – رضي الله عنه -: بمجرد المصافحة حصل لشيخنا العروج الروحي مع روح شيخه في السَّماء، قال: فكدت أُدهَش وأُصعَق أيُّهما أنا: الذي يعرُج في السَّماء أو اللذان يتصافحان في الأرض؟ ونحن أيضًا نتصافح في السَّماء، وهي لحظات وبانتهاء العهد التفت شيخه إليه قائلًا: يا ولدي، هل رأيتَ كما رأيتُ؟ فأجابه: أنا رأيتُ لكن لا أدري إذا كان كما رأيتَ، فقال له: قل، فأخبره، فقال له: صدقتَ! هذا لم يحصل لـمُريدٍ قبلك إلا لك، بمجرد المصافحة يُزيل الله عزَّ وجلَّ الظلمات وتُشرق شموس الأنوار ويحصل العروج الروحي، وقبل ذلك لم يكن أحدٌ يستفيد مِنْ عِلم شيخنا لكنه بعد دخول مدرسة التزكية وصحبة وخدمة الشَّيخ الوارِث المُحمَّدي جعل الله عزَّ وجلَّ منه أمةً وانتشر نور الإسلام، وما نحن فيه الآن بركةٌ مِنْ بركاته رضي الله عنه وعنهم أجمعين.

المغضوب عليه:
فإذا دخلتَ محكمة الله عزَّ وجلَّ وعُرِضت عليك الأعمال وكنتَ ناسيًا لها فمَنْ الذي يشهَد عليك؟ يقول لك الله عزَّ وجلَّ: أنا الذي رأيتك تفسُق وتعصي، ثم يعرض لك فيلم الفيديو بصورة فِسقك وخيانتك وارتكابك الحرام سواءٌ مع النَّاس أو مع الله عزَّ وجلَّ، في بيعك، في شرائك، في معاملاتك.
﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ المشهد يوم القيامة: الخلق كلُّهم مدعوون إلى المحاكمة، فأيُّ يومٍ رهيب؟ وأيُّ يومٍ عظيم؟ والله عزَّ وجلَّ يحلِف به لعظَمته ومصيرك الأبدي يتوقَّف عليه ليذكِّرك به لتستعد للقائه فتُخفِّف مِنْ أوزارك وتتوب إلى الله عزَّ وجلَّ التوبة النصوح وتشمِّر لتسلُك الصراط المستقيم:

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
[سورة الفاتحة]

(الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) هو الذي يعرف حُكم الله عزَّ وجلَّ أن هذا واجبٌ ولا يعمَله، ويعلم أن هذا مِنْ محارِم الله عزَّ وجلَّ ويرتكبه، هذا مغضوب: الذي يعرف الفرض ولا يُؤدِّيه، يعرف الحق ولا يدفعه، ويعرف الحرام ويرتكبه.

الضال:
(الضَّالِّينَ) الذي يفعل الحرام عن جهل، لا يعرف الحلال مِنْ الحرام، كطفل أو كإنسان أسلم جديدًا أو في بادية وصحراء، فإذا كنت في البلد والعِلم ومجالس العِلم وتعرف الحلال وتعرف الفرض فتتركه والحرام فترتكبه فهل أنت ضالٌّ أو مغضوب؟ و(الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) مَنْ؟ هُم:

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
[سورة الزمر]

فيا تُرى أنتم تحبون أن تكونوا مِنْ أي صنف؟ يوجد صنفٌ أول: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، هذه سورة الفاتحة أليس كذلك؟ وبعد سورة الفاتحة ماذا يوجد في القرآن؟ سورة البقرة، ففي سورة الفاتحة أنت تطلب مِنَ الله عزَّ وجلَّ الهداية فأجابك الله عزَّ وجلَّ على سؤالك في سورة البقرة:

الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
[سورة البقرة]

إذا أردت الهداية فها هي خريطة الهداية، والهداية لا تكون إلا بتقواك، والتقوى: أداء فرائض الله عزَّ وجلَّ ومحبوباته واجتناب محارِم الله عزَّ وجلَّ ومكروهاته، ففي سورة الفاتحة تطلب أن يهديك الصراط المستقيم وحين يُقدِّم لك خريطة الصراط المستقيم ترفضها وتقول له: لا أريدها! فهذا أي شقاوة يستحقها وأي مصير سوءٍ يصير إليه؟ وفي الدنيا قبل الآخرة يا بنيَّ.

جعل الله عز وجل الصحابة الأول بالقرآن خير أمة:
المسلمون الآن هل هُم على الصراط المستقيم؟ هل جعلوا القرآن إمامهم أم جعلوه خلف ظهورهم؟ طبعوه بالطبع الأنيق وبالورق الجديد وبالتذهيب لجلده فهل هذا ينفعهم؟ كان قرآن الصحابة مكتوبًا على الأحجار، على العظام، على أوراق النخل لكن كان القرآن مكتوبًا في صفحات قلوبهم، وفي أعمالهم وفي أرواحهم ظاهرًا وباطنًا، جسديًّا وروحيًّا وفكريًّا وحكمةً فجعلهم الله عزَّ وجلَّ أعظَم أمَّة، وجعل دولتهم الفريدة في التاريخ، لا توجد دولةٌ غيرها في التاريخ مِنْ عهد آدم عليه السَّلام وإلى قيام الساعة تمثِّل وحي الله عزَّ وجلَّ وهديَه وكتابه في سلوكها، في أعمالها، في حكمها، في جهادها، في عدلها، في مساواتها، في عقلانيتها وسياستها وحكمتها ولذلك استطاعوا أن يُوحِّدوا نصف العالَم القديم في نصف قرن أو في أقلَّ مِنْ قرن. الآن كلُّ المسلمين مسؤولون عن القدس وفلسطين، ماذا فعل كلُّ المسلمين وكل العرب في خمسين سنة؟ لماذا؟ لأنهم تجنَّبوا الصراط المستقيم:

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
[سورة الفاتحة]

فنسأل الله عزَّ وجلَّ ألَّا يجعلنا مِنَ الصنف الثاني ولا مِنَ الثالث.

لا ينفع يوم القيامة مال ولا بنون:
﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ الله عزَّ وجلَّ يحلِفُ لك، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم شاهِد:

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
[سورة النساء]

(لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ) ألَّا يكونوا على وجه الأرض، (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) لا ينفعك في ذلك اليوم:

يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)
[سورة الشعراء]

ولا أبوك، ولا نسبك ولا حسَبك، جمع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أقاربه وناداهم:

{ ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا، ويَا فَاطِمَةُ بنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي ما شِئْتِ مِن مَالِي، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا(7) }

[صحيح البخاري]


النسب لا يغني عن الإيمان:
سيِّدنا نوح عليه السَّلام لما فَسَق ابنه وخرج عن طريقته قال له الله عزَّ وجلَّ:

قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
[سورة هود]

إبراهيم أبو الأنبياء عليه السَّلام لما لم يسلُك أبوه آزر طريقَ ابنه وكان يدعو له:

وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
[سورة الشعراء]

(وَلَا تُخْزِنِي) يعني بأبي بأن تجعله في جهنم (يَوْمَ يُبْعَثُونَ)، فقال الله عزَّ وجلَّ عن أبي إبراهيم عليه السَّلام:

وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
[سورة التوبة]

قال: لا هذا أبي ولا أنا ابنه، فهذا المشهد الذي يفِرُّ فيه:

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
[سورة عبس]

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ) كيف تكون الشَّمس قبل إشراقها عندما تسفر بعد الفجر؟ قال: (وُجُوهٌ) من الفرح والسرور المؤمنين المتقين (ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ) والذين أعرضوا عن الله عزَّ وجلَّ ورموا كلام الله والإيمان والتقوى وراء ظهورهم واشتغلوا كالأطفال بالألعاب وتركوا الجواهر: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) أي هُباب الدخان، ذرات الدخان عندما تأتي على الوجه، إذًا غبارٌ مع الدخان.

الإسلام هو الاستجابة لنداء الله عزَّ وجلَّ:

{ بكِّروا بالصَّلاةِ في يومِ الغَيْمِ فإنَّه مَن ترَك الصَّلاةَ فقد كفَر (8) }

[صحيح ابن حبان]

مَنْ منَع الزكاة:

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
[سورة فصلت]

فلا نظنّ أنفسنا بمجرد أن نأخذ لقب مسلمٍ ومسلمةٍ أننا حصلنا على الإسلام، الإسلام ما هو؟ المذياع ما هو؟ ترونه بجهازه وتكبيره للصوت وإلى آخره.. الإسلام ما هو؟ الإسلام هو الاستجابة لنداء الله عزَّ وجلَّ، والامتثال لأوامر الله، والوقوف عند حدود الله، فإذا كنت تحمل هذه الصفات فأنت مؤمنٌ ومسلمٌ لأنك استجبت، ألا يقول لك الله عزَّ وجلَّ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
[سورة الحشر]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إذًا هو يناديك (اتَّقُوا اللَّهَ) فإذا اتقيت الله فقد استجبت لله فصِرت بهذه الآية مسلمًا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)
[سورة الحجرات]

فإن استجبت فأنت مسلم بهذه الآية، فيا تُرى كم آيةً استجبت لها فصرت مسلمًا؟ وكم آيةً وقد تكون غير مستجيباً للقرآن كله إلا أنك تضعه عندك في البيت وهو مُذهَّبٌ ومغلَّفٌ وتضعه في الثوب الحريري، هذا لا يُفيد شيئًا يا بنيَّ، علينا أن نرجع إلى القرآن عِلمًا وعملًا ولو مشينا أربعين يومًا لمجلس عِلمٍ وفقهٍ كما كان السلف الصالح: أحدهم يسافر أربعين يومًا ليستمع حديثًا واحدًا، لا ليستمعه بل ليفقهه ويُحوِّله إلى عملٍ وخُلقٍ وسلوكٍ وواقع، وهذا هو العِلم النافع.
﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ أيضًا من الشهود: يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إذا تاب العبدُ من ذنوبِه ، أنسى اللهُ حفَظَتَه ذنوبَه ، وأنسى ذلك جوارحَه ومعالمه من الأرضِ (9) }

[تاريخ ابن عساكر]

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (40)
[سورة الانفطار]

(كِرَامًا) مُكرَّمين عند الله عزَّ وجلَّ وكلامهم لا يُرَد.

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

(رَقِيبٌ) حاضرٌ يُشاهدك (عَتِيدٌ) لا يغيب، أيضًا هذا ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ يا تُرى هل أنت مؤمنٌ بهذه الآيات؟ إذا قال لك شخصٌ تعرف أنه صادق: هذا سمٌّ وآمنتَ بكلامه فهل تشرب السّم بعد أن آمنت بسميته؟ وإذا قال لك: هذا عقربٌ لدغته تقتل فهل تمسُّه بيدك أو تجعله تحت ثوبك على بدنك؟ فإذا قلت: آمنتُ وفعلت عكس ما يقتضيه هذا الإيمان فأنت جاحدٌ منافق!

{ واعلم أنَّ في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً }

[سنن الترمذي]


التوبة النصوح:
﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾

{ إذا تاب العبدُ من ذنوبِه ، أنسى اللهُ حفَظَتَه ذنوبَه ، وأنسى ذلك جوارحَه ومعالمه من الأرضِ }

[تاريخ ابن عساكر]

(أنسى اللهُ حفَظَتَه) الكرام الكاتبين الذين يعلمون ويُسجِّلون ما تعملون، (وأنسى ذلك جوارحَه ومعالمه من الأرضِ). التوبة النصوح هي التي لا يعود صاحبها إلى الذنب إلا إذا عاد الحليب واللبن إلى الضّرع! إذا حلبنا البقرة فهل يعود حليبها إلى ثديها وضرعها؟ كذلك التائب التوبة النصوح لا يرجِع إلى ذنوبه كما لا يرجع الحليب واللبن إلى الضّرع.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
[سورة التحريم]

ها هو الله عزَّ وجلَّ يُنادينا.

متطلبات الدعاء:
عندما تقول أنت: يا ألله، كذلك يقول لك الله عزَّ وجلَّ:

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
[سورة الانفطار]

الله عزَّ وجلَّ يُناديك كما أنك أنت تناديه، فهل تُحب أن يستجيب لك الله عزَّ وجلَّ إذا ناديته؟ الله عزَّ وجلَّ يقول لك:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
[سورة البقرة]

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
[سورة البقرة]

(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) لكنَّ هناك شرطًا وهو: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) يعني حتَّى أستجيب لهم.

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

هذا دعاءٌ وطلبٌ مِنَ الله عزَّ وجلَّ، فأجابهم الله عزَّ وجلَّ بقوله:

أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
[سورة البقرة]

(أُولَٰئِكَ) الداعون بحسَنة الدنيا والآخرة (أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا) أنا أعطيهم على حسب العمل لا على حسب الدعاء، إذا دعَوت فعليك أن تُتبِعَ التعب والطلب بالعمل، إذا قلت: يا ربِّ ارزقني ولدًا فعليك أن تتزوج، اللهم أنبِت لي زرعًا عليك أن تُلقي البذار في الأرض وتسقي، أما بالأماني والتمني التي اعتاد عليها المسلمون: اللهم واللهم فلا فائدة.
في آخر سورة آل عمران:

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
[سورة آل عمران]

قال الله عزَّ وجلَّ: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) دعاءهم؟ لا! قال: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم) أريد عملًا! وليس دعاءً بلا عمل، (مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) الأسود مع الأبيض، والشرقي مع الغربي، (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا) الهجرة قائمةٌ إلى يوم القيامة، الهجرة مِنْ دار الجهل إلى دار العِلم، مِنْ مجالس الغفلة إلى مجالس الذِّكر، مِنْ صحبة الأشقياء إلى صحبة السعداء، مِنْ ترك أعمال وأخلاق السوء إلى الأعمال والأخلاق الصالحة.
(فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ) الصحابة رضي الله عنهم أُخرِجوا مِنْ ديارهم قسرًا، تركوا أوطانهم، ونُهِبت أموالهم في سبيل اللحاق بمدرسة القرآن والإسلام وصحبة المعلِّم المزكِّي الحكيم المربِّي، (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) تحمَّلوا مِنَ الإيذاء، كان أحدهم يُحرَّق بالنَّار، يُلقى على بطنه ويوضَع الجمر على ظهره، فلا يُطفِئ الجمر إلا ما يذوب مِنْ شحمه في سبيل إيمانه وإسلامه! فنحن ماذا نبذل وماذا نتحمَّل في سبيل إسلامنا ونشر إسلامنا لغيرنا؟ القرآن هو هذا يا بنيَّ، أما أن تتغنَّى به وأن تُجيد النطق بكلماته وحروفه، أي التجويد، فهذا شريط المسجِّلة يقرأ خيرًا مِنْ قراءتك ويُنغِّم خيرًا مِنْ تنغيمك:

كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
[سورة ص]

(وَقَاتَلُوا) هذه مرحلةٌ أكبر (وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) خمسة طلباتٍ مِنَ الله عزَّ وجلَّ تستجيب لها حتَّى يغفر لك، نحن نريد المغفرة بلا ثمن! لا يوجد في الوجود شيءٌ بلا ثمن.

النبي صلَّى الله عليه وسلَّم شاهد علينا يوم القيامة:
﴿وَشَاهِدٍ﴾ الله عزَّ وجلَّ شاهد، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يسأله الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة: هل بلَّغتَ؟ كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الدنيا يسأل الصحابة رضي الله عنهم: ((هل بلَّغتُ؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم فاشهد)). ويُؤتى بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يوم القيامة:

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
[سورة النساء]

(مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) مِنْ أنبيائها، (وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا) إذا كان الشاهِد عليك غدًا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أو الملائكة عليهم السَّلام أو بقاع الأرض التي عصيتَ الله عزَّ وجلَّ فيها؛ فماذا سيكون جوابك عند الله عزَّ وجلَّ؟

نعمة إرسال الأنبياء:
عندما يُذكِّرك الله عزَّ وجلَّ بنعمه: أرسلت لك الأنبياء والرسل وأنعمت عليك بكذا وكذا مِنْ نعمٍ:

وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
[سورة إبراهيم]

فلماذا عصيتني؟ لماذا لم تتعلَّم؟ الصحابة رضي الله عنهم في سبيل العِلم هاجروا مِنْ مكة إلى المدينة، صغارًا وكبارًا، ذكورًا وإناثًا، هذا هو الإسلام يا بنيَّ، أما إسلام أن تكون مسلمًا وتقرأ القرآن لا للفهم ولا للعِلم ولا للعمل؛ ولو أنك فهمت وعملت واستجبت فعليك أيضًا أن تقوم فتُعلِّم وتُرشِد الضالين وتُذكِّر الغافلين وتدعو إلى الله عزَّ وجلَّ وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وبالحكمة والموعظة الحسنة.
يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في حديث نبوي:

{ إنَّكم على بَيِّنَةٍ من ربِّكم ما لم تَظْهَرْ فيكم سكرتانِ سكرةُ الجهلِ وسكرةُ حبِّ العيشِ وأنتم تأمرون بالمعروفِ وتنهَوْنَ عنِ المنكرِ وتجاهِدونَ في سبيلِ اللهِ فإذا ظهرَ فيكم حبُّ الدنيا فَلَا تأمُرونَ بالمعروفِ ولا تنهوْنَ عنِ المنكرِ ولا تُجَاهِدونَ في سبيلِ اللهِ القائِلُونَ يومئذٍ بالكتابِ والسنةِ كالسابقينَ الأولينَ منَ المهاجرينَ والأنصارِ }

[حلية الأولياء]

(إنَّكم على بَيِّنَةٍ من ربِّكم) يُخاطب الصحابة المسلمين في مدرسته، (تأمرون بالمعروفِ) إذا رأيت شخصًا تاركًا لواجبٍ فعليك أن تأمره بالحكمة والموعظة الحسنة ليُؤدي ما تَرك، يا تُرى إذا رأيتم أنتم شخصًا تاركًا لفريضةٍ مِنْ فرائض الله عزَّ وجلَّ فهل تأمرونه بالمعروف؟ أعتقد أن الذين يفعلون ذلك قِلَّة.

الدعوة الناجحة:
والنَّاس بخيرٍ يا بنيَّ، واللهِ إن النَّاس كلُّهم بخير، أنا التقيت بكلِّ طبقات النَّاس مِنْ كبار الشيوعيين وفي الكرملين نائب بريجينيف إلى مَنْ هو أكبر منه في الكريملين، وبفضل الله عزَّ وجلَّ: قال الأول في آخر كلمةٍ في حديثه: إذا كان الإسلام ما أسمعه منك فالإسلام شيءٌ حَسَن، والآخر قامت عليه الحجة حول وجود الله عزَّ وجلَّ وأراد أن يعترِف بوجود الله عزَّ وجلَّ لكنه خاف ممن حوله! فأرسل لي خبرًا مع أخينا مروان شيخو أحد نواب دمشق الذي التقى به ضمن وفدٍ سوري أخذه جانبًا وقال له: قل للمفتي إنني أنا مؤمن! فالنَّاس كلُّهم بخير لكنَّ لكلِّ قفلٍ مفتاحه الخاص، فإذا أردت أن تفتح القفل الصغير بالمفتاح الكبير أو القفل الكبير بالمفتاح الصغير فلن تنجح في ذلك، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الحكمة.
فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (إنَّكم) مخاطبًا المسلمين في مدرسته (إنَّكم على بَيِّنَةٍ من ربِّكم وأنتم تأمرون بالمعروفِ) وماذا يضرُّك إذا أمرت بالمعروف؟ أيقطعون رأسك؟ أخي، حبيبي، ابني، جاري، أختي، حماتي، كَنَّتي.

{ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ (10). }

[صحيح البخاري]

وقبل أن تأمر بالمعروف عليك أن تكون أنت تفعل ذلك المعروف، أما إذا كنت تاركًا للصَّلاة وتأمر النَّاس بأداء الصَّلاة فيقولون لك: صلِّ أنت أولًا ثم ذكِّر النَّاس!
(وتنهَوْنَ عنِ المنكرِ وتجاهِدونَ في سبيلِ اللهِ) في زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا في المراحل الأولى يُجاهدون أنفسهم، الجهاد الأكبر، فلما انتصروا عليها انتقلوا إلى الجهاد الكبير وهو ما ذَكره القرآن في سورة الفرقان:

فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
[سورة الفرقان]

جهاد الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ.

الأجود هو من تعلم علمًا فعلمه:
قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ألا أخبرُكُم بالأجوَدِ الأجوَدِ اللَّهُ الأجَودُ الأجوَدُ وأنا أجوَدُ بني آدمَ وأجوَدُهم مِنْ بعدي رجلٌ علمَ عِلمًا فنشرَ عِلمَه يُبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً وحدَهُ (11) }

[مسند أبي يعلى]

(وأنا) يعني نفسه صلَّى الله عليه وسلَّم،(فنشرَ عِلمَه) الذي تتعلَّمه قم فعلِّمه لغيرك، (يُبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً وحدَهُ) فأن يستقبلك الله عزَّ وجلَّ كما يستقبل أمَّة! يا سلام ما أجملها!
(إنَّكم على بَيِّنَةٍ من ربِّكم، وأنتم تأمرون بالمعروفِ) لا يتعلَّم دينه فقل له: تعال إلى مجلس العِلم وبالأسلوب المناسب فإذا هداه الله عزَّ وجلَّ على يدك كان خيرًا لك من الدنيا وما فيها، صَدَق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إذا كان قد صَدَق وأنت لا تُصدِّق، لا تُصدِّق الصادِق المصدَّق، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن نكون مِنَ الصادقين المخلصين.
قال: (ما لم تَظْهَرْ فيكم سكرتانِ) بعد ما كنتم على بينةٍ مِنْ ربكم تأمرون وتنهون وتجاهدون، والجهاد الصغير هو جهاد العدو:

{ رجعْنا مِنَ الجهادِ الأصغرِ إلى الجهادِ الأكبرِ }

[ورد في الأثر]

والجهاد الكبير هو جهاد الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكي تصبح الأجود (وأجوَدُهم مِنْ بعدي) وتُحشَر يوم القيامة أمَّةً بين يدي الله عزَّ وجلَّ، يا سلام، يستقبلك الملائكة كما تُستقبَل أمَّة، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا منهم، لكن ليس بالدعاء والكلام علينا أن نخرج من الجامع ونُشمِّر، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا هادين ومهديين وذاكرين ومُذكِّرين.

ظهور الجهل:
قال: (ما لم تَظْهَرْ فيكم سكرتانِ سكرةُ الجهلِ)(12) مسلمٌ يقرأ القرآن ولا يعْلَم ما يدعو إليه القرآن، يجهل ما يأمره به القرآن، يجهل ما يُرغِّبه فيه القرآن، قرأه وكأنه ما قرأ، عندما تأتي الإنسانَ ورقةٌ مِنَ المحكمة بأن يحضر غدًا في الساعة الثانية عشرة أيفهم ما قرأ أم لا يفهم؟ ويستجيب للقراءة أم لا يستجيب؟ فلو أنك تقرأ القرآن كما تقرأ ورقة الإحضار، أو كما تقرأ الجريدة، يسألونك: ماذا في الجريدة؟ فتروي لهم عن خبر إسرائيل وعن البوسنة والهرسك، فإذا قرأت القرآن وسألوك ماذا فيه؟ لا تعلم كيف تُجيب لأنك تقرأ لا لتفهم بل تقرأ وتقصد ألَّا تفهم، عليك أن تقرأ بتدبُّر، والذي لا تفهمه:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
[سورة النحل]

قال: (ما لم تَظْهَرْ فيكم سكرتانِ سكرةُ الجهلِ) إذا تهيَّأت له سهرة جهل وسهرة عِلم، أو تهيَّأ له صاحبٌ عالمٌ يُعلِّمه ويُرشده ويُذكِّره ويهديه إلى الخير وصاحبُ جهلٍ، مجالس الجهل والفسوق والبطالة؛ فلمَنْ يستجيب؟ السكران لا يُفرِّق بين الشمال واليمين (سكرةُ الجهلِ) الذي عَرَفَ السُّم فهل يشربه؟ وإذا كان ذاهبًا إلى بيروت وعَرَف طريقها ورأى اللافتة فهل يسلك الطريق الآخر؟ وإذا قرأ وسلك الطريق على خلاف اللافتة فهذا لم ينفعه العِلم، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم استعاذ فقال:

{ اللهمَّ إنِّي أعوذُ بك من علْمٍ لا ينفعُ (13) }

[صحيح مسلم]


يظهر حب الدنيا والعيش فيها:
(وسكرةُ حبِّ العيشِ) السكرة الثانية حبُّ الدنيا، عقله في الدنيا: مال، نقود، أكل، شرب، بطَر، حب المظاهر المسرفة والتبذيرية والتَّرف، (فَلَا تأمُرونَ بالمعروفِ ولا تنهوْنَ عنِ المنكرِ ولا تُجَاهِدونَ في سبيلِ اللهِ القائِلُونَ يومئذٍ بالكتابِ والسنةِ) طريقة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الحياة عِلمًا وعملًا وحكمةً (القائِلُونَ يومئذٍ بالكتابِ والسنةِ) أصحابه رضي الله عنهم قاموا بسنته والتابعون تبِعوهم بإحسان (القائِلُونَ يومئذٍ بالكتابِ والسنةِ كالسابقينَ الأولينَ منَ المهاجرينَ والأنصار)، يا ألله!

وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69)
[سورة النساء]

(مِّنَ النَّبِيِّينَ) وما المقام الذي بعد النبوة؟ (وَالصِّدِّيقِينَ) هل تريدون أن تصبحوا صديقين؟ وأن يُصبح أحدكم بمقام خمسين صدِّيقًا؟ واللهِ يا بنيَّ: الذي تهيَّأ لنا لم يتهيَّأ للصحابة رضي الله عنهم! الصحابة رضي الله عنهم مع كل ما فعلوه صار أحدهم صدِّيقًا، أما أن تصير أنت بمقام خمسين صدِّيقًا!
فإذا كنا لا نفهم أو لا نريد أن نستجيب، وماذا تظنون أنكم تخسرون؟ فقط:

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
[سورة البقرة]

يقول لك: ما علاقتك؟ ليندُبْ أهلُ حَمَدٍ حمدًا! كل عنزة معلَّقة مِنْ قدمها! هذا قرآنُ الشيطانِ! هذا تحفظه؛ أما قرآن الرحمن:

{ إنَّ مِن ورائِكم أيامَ الصَّبرِ ، لِلمُتَمَسِّكِ فيهنَّ يومئذٍ بما أنتم عليه أجرُ خمسين منكم ، قالوا ، يا نبيَّ اللهِ أو منهم ؟ قال ، بل منْكم }

[صحيح الجامع]

قالوا: وكيف؟ قال:

{ لأنكم تجدون على الخير أعوانًا، ولا يجدون على الخير أعوانًا (14) }

[ورد في الأثر]


خير الشهود :
﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل مَنْ يشهد علينا إذا كان الله تعالى أن يرزقنا منه الرضا ويوفقنا لما يرضيه، وإذا كان الشاهِد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُوفِّقنا لاتباع سنته وشريعته، وإذا كان الشهود الملائكة عليهم السَّلام فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُوفِّقنا لأن يسجِّلوا لنا الأعمال التي يُحبها الله عزَّ وجلَّ ويرضاها، وإذا كان الشاهد بقاع الأرض فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا ممن تشتاق إليهم الأرض، وَرَدَ في الحديث أن:

{ بقاعُ الأرضِ تنادي بعضُها بعضًا :يا جارةُ ! هل مرَّ بكِ اليومَ رجلٌ صالحٌ صلَّى عليكِ أو ذكرَ اللهَ؟ }

[ورد في الأثر]

فالأرض تعشق الذاكرين وتشتاق إليهم، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا مِنَ الذين تشتاق إليهم الأرض ولا يجعلنا مِنَ الذين تبغضهم الأرض وتلعنهم، اللهم اجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسَنه.
﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ هذه الآية ستكون موضع درسكم في الجمعة القادمة إن شاء الله.

لقاء ضيوف:
الآن يُشرِّفنا وتفضَّل الله عزَّ وجلَّ علينا بلقاء إخوانكم مِنْ ليبيا والهند: الدكتور نزار أحمد فاروقي من جامعة دلهي، أهلًا وسهلًا ومرحبًا، والدكتور السيِّد ضياء الحسن الندوي من جامعة ملِّي، والسيِّد رشيد خان سكرتير السفارة الهندية، والدكتور نور الدين حمزة، والدكتور حفني زكريا، والوفد الماليزي: الشَّيخ طيب هارون رئيس معهد القرآن، فأهلًا وسهلًا بضيوفنا وإخواننا جميعًا، الدكتور أحمد فاروقي يلقي كلمةً ننتفع ونتبارك بها وأهلًا وسهلًا.

كلمة ضياء الحسن:
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على خاتَم النبيين وصحبه وأوليائه وعلمائه أجمعين.
سماحة الشَّيخ المفتي أحمد كفتارو حفظه الله المحترم الموقَّر، وحضرات العلماء الكرام والخطباء الأعزاء، وحضرات الإخوة: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لقد أسعدتنا السويعات التي ما زالت تتعمَّق في قلوبنا وهي سويعاتٌ ولحظاتٌ عندما شرَّفنا الأستاذ العلَّامة الكبير الشَّيخ المفتي أحمد كفتارو في الهند، ووفَّق الله تعالى لنا أن نتشرَّف بزيارته في بلادنا الناهلة مِنْ مهد الإسلام والعروبة ومِنَ الثقافة والحضارة الإسلامية، وإنه تكرَّم وتفضَّل بتقديم دعوته الكريمة إلينا أن نزور هذا البلد الحبيب ونحييكم ونسلِّم عليكم أيها الإخوة في الإسلام، لقد أسعدتنا هذه الدعوة، واليوم نحن في وفدٍ صغيرٍ أمامكم، ورئيس وفدنا الدكتور نزار أحمد فاروقي رئيس قسم اللغة العربية في جامعة دلهي وزميلي السيِّد الدكتور أفضلي واسع رئيس قسم الدراسات الإسلامية في جامعة ملي الإسلامية، وهذا المتكلم ضياء الحسن الندوي في نفس الجامعة في قسم اللغة العربية.
قبل كلِّ شيءٍ أنا أنقل إليكم تحيات إخوتكم في الدين مِنَ البلد الذي جئت منه إليكم، ثم أشكر لحضرة المفتي الكبير أنه أتاح لنا هذه الفرصة الكريمة أن نأتي إلى بلدٍ نجد فيه كلَّ ذرَّة تحبنا، وكلَّ أخٍ يحبنا في الله، لقد شجعتنا هذه الحفاوة وهذا الحب الذي لا أسميه إلا حبًّا في الله وحبًّا في الدين، وقد ذكَّرتنا هذه الألفة وهذه المودة بما قاله شاعركم أبو فراس الحمداني:
كذاكَ الوِدادُ المحضُ لا يُرْتَجى لَهُ ثوابٌ ولا يخشى عليهِ عقابُ
{ أبو فراس الحمداني }
فهذا الحب هو المطلوب لله سبحانه وتعالى، وعندما اقتربنا مِنْ هذه القاعة الكريمة وهذا الحفل الكريم سمعنا مِنَ الخارج أزيزًا كأزيز النحل الذي يرتفع مِنْ حلقات العِلم التي تضع الملائكة أجنحتها لمشاركيها، لأن هذه الدعوة الكريمة هي الدعوة المحضة الشريفة إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه دعوةٌ حكيمةٌ امتثالًا لقوله تعالى:

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
[سورة النحل]

وإن إصغاء الحفل الكريم إلى هذه الدعوة الحكيمة لدليلٌ وضمانٌ على أن المستقبل قد أسرَّ لكم الخيرات التي سوف تظهر عن قريب، وإني بهذه الكلمات الوجيزة أشكر مرةً ثانيةً لحضرة المفتي وللسيِّد الدكتور الذي وجَّه إلينا هذه الدعوة وأن أكون أمامكم وأستمِدَّ الروح الإيمانية منكم فأرى أن النور الإلهي يُغطيكم، ليس النور الذي يخرج مِنْ هذه المصابيح بل هذا النور الذي تكاد أعين القلوب تراه إذا لم تكن تراه أعين الرؤوس! وأخيرًا أدعو الله عزَّ وجلَّ أن يُوفِّقنا لما يُحب ويرضى ويجعل آخرتنا خيرًا مِنْ الأولى، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.

الهوامش:
(1) ورد في الأثر.
(2) شعب الإيمان، رقم: (1859)، (3/390).
(3) سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223). وأبو داود، أول كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، رقم: (3641). والترمذي، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682).
(4) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام..، رقم: (50)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، رقم: (8).
(5) حلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني، (9/279).
(6) سنن أبي داود، كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الملاحم ودلائلها، رقم: (4252).
(7) صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب، رقم: (2602)، وكتاب التفسير، باب {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك} ألن جانبك، رقم: (4493)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين، رقم: (206).
(8) صحيح ابن حبان، باب ذكر خبر قد يوهم من لم يحكم صناعة العلم (4/ 323) ورقم (1463).
(9) تاريخ ابن عساكر، عن أنس، (14/17).
(10) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، رقم: (2783)، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضى الله تعالى عنهم، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه، رقم: (2404).
(11) مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176).
(12) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، (8/ 48)، مسند البزار، رقم: (2631)، (7/80)، ولفظه عند البعض.
(13) صحيح مسلم، كتاب الذكر والتوبة والدعاء والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر..، رقم: (2722).
(14) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها للألباني، رقم: (494).