تفسير سورة البلد 02

  • 1996-01-05

تفسير سورة البلد 02

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصَّلاة وأعطر التحيات والتكريم، على سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، اللَّهم لك الحمد على عظيم فضلك، وعظيم جودك، وأصلي وأسلم وأقدم أعطر التحيات وأحرَّ التسليمات على سيِّدنا مُحمَّد المبعوث رحمةً لكلِّ شعوب العالَم، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخوَيه سيِّدينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه مِنَ النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ وصحْبِ كلٍّ أجمعين، وبعد:


البلد والوطن في الإسلام:
فقد سبق معكم تفسير بعض آياتٍ مِنْ سورة البلد، وجَعَل الله عزَّ وجلَّ عنوانها البلد والوطن الأصغر؛ وجعل الوطن والبلد ومكان الإقامة قَسماَ مُقدَّساً إشارةً إلى وجوب الاهتمام بالوطن وببلد الإقامة، وحب الوطن من الإيمان؛ لـمَّا هاجر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ مكة إلى المدينة وعند خروجه مِنْ مكة خاطب مكة فقال صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ (1) }

[سنن الترمذي]

ولكنْ ذَكَر الله عزَّ وجلَّ قدسية البلد وشرَفها إذا كان العِلم والحكمة وعملية تطهير النفوس تملأ تلك البلد، فقال: أُقسِم بهذا البلد إذا كنت أنت -مُعلِّم الحكمة ومُعلِّم الكتاب ومُزكِّي النفوس- إذا كنت أنت موجوداً في هذا البلد، فالبلد المقدسة: هي بلد العِلم وبلد الحكمة وبلد مكارم الأخلاق، والوطن المقدس: هو الوطن الذي يضمن وجود العِلم، والعِلم ليس عِلمَ الدين بالمفهوم المحدد الضيق؛ بل العِلم في الإسلام هو كلُّ ما نفعك في دينك أو دنياك وفي جسدك أو روحك أو في أرضك وسمائك، هذا هو العِلم الذي قال عنه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الكريم:

{ طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ (2) }

[سنن ابن ماجه]

وتبرَّأ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ مجتمع الجهل فقال:

{ ليسَ منّي إلا عالمٌ أو مُتَعَلِّمٌ }

[ضعيف الجامع]

(ليسَ منّي) يعني لا أقبل أنْ ينتسب إليَّ (إلا عالمٌ أو مُتَعَلِّمٌ)

{ الناسُ رجلانِ : عالمٌ ومُتَعَلِّمٌ ، ولا خيرَ فيما سِواهما }

[مسند الفردوس للديلمي]

(الناسُ رجلانِ) يعني: إذا كان خارجاً عن هذين الصنفين فهو ليس مِنَ النَّاس، يعني ليس إنسانًا (الناسُ رجلانِ : عالمٌ ومُتَعَلِّمٌ ، ولا خيرَ فيما سِواهما) (3).

تأسيس مجتمع العِلم:
نحن نقول عن هذا أنَّه دين؛ أمَّا الأمم فتقول عنه تقدماً وتقول عنه حضارةً وتقول عنه ثقافةً، فإلى أي حدٍّ تدنَّى مفهوم المسلم وعقلية المسلم لفهمه لإسلامه، حقَّر عقله مفهوم الإسلام فكراً وعملاً وواقعاً ومجتمعاً ومُعلِّماً مُربياً ومُرشداً، فمتى يكون المتعلِّم؟ إذا وُجِدَ المُعلِّم، ومتى يكون مجتمع العِلم؟ إذا وُجِدَ المعلم، وإذا وُجِدَ الحكيم يكون مجتمع الحكمة، والحكمة هي عِلم الأسباب والمسببات والمشي في ظلالها في كلِّ الشؤون صغيرها وكبيرها، وهي قانون الله عزَّ وجلَّ الذي يُسيِّر عليه هذا الكون، يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الكريم:

{ إذا أراد الله أمرًا هيَّأ أسبابه }

[كشف الخفاء]

(إذا أراد الله أمرًا) إنْ أراد الله عزَّ وجلَّ أنْ يصنع أمراً (هيَّأ أسبابه) (4)، فنحن إذا أردنا نصراً هل نُهيئ أسبابه، وإذا أردنا تقدُّماً فهل هيأنا أسبابه؟ فعِلم الأسباب والمسببات في صغائر الأمور وكبارها اسمه الحكمة، فأين علماؤنا عليهم رحمات الله عزَّ وجلَّ؟ ففيما مضى جعلوا للوضوء مذاهباً وأبواباً ففي كلِّ كتاب فقهٍ يوجد بابٌ للوضوء وباب الصَّلاة وباب التيمم، وهذا شيءٌ حَسَن، وسموا هذه العلوم عِلم الفقه، والحكمة نصف النبوة، فقال الله عزَّ وجلَّ عن الأنبياء:

فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ ۚ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ (79)
[سورة الأنبياء]

فأين كُتُب الحكمة؟ درست في الفقه الوضوء ودرست الصَّلاة ودرست البيع والشراء وكذا.. فهل درست الحكمة؟ إذا كنت نجاراً تلزمك الحكمة، وإذا كنت طبيب أسنانٍ تلزمك الحكمة، وإذا كنت رجل دولةٍ تلزمك الحكمة، وإذا كنتِ زوجةً وإذا كنت ابناً وإذا كنت أي شيءٍ كان وإذا كنت تريد أنْ تأكل.. تلزمك الحكمة؛ لأنَّ الحكمة مثل النَفَس، فهل يستطيع الإنسان أنْ يعيش بلا تنفُّس لمدة خمس دقائق؟

حال المسلمين مع قرآنهم:
﴿لَا أُقْسِمُ﴾ جعل مكان إقامتك بلدك ولو كانت قريةً، فلمَّا نزح النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم والذي كان حالاً ومقيماً في البلد التي هي مكة صار الحكم الشرعي تحريم الإقامة فيها وهي بلد الله الحرام، فإذا كانت بلد الله الحرام بلا مُعلِّم ولا مُتعلِّم ولا عِلم، فأين نحن مِنْ هذا الفقه؟ فقه القرآن، نحن نقرأ القرآن لكنْ على أساس ألَّا نفهمه، ونقرأ القرآن على أساس ألَّا نُطبِّق أوامره، ونقرأ القرآن في وصاياه على ألَّا ننفِّذها، فما هي الفائدة في وصفة الطبيب عند المصاب بمرضٍ خطير إذا قرأ الوصفة وبحسب أحكام التجويد وبأحسن الأنغام وجلب لها أيضاً كلَّ آلات الموسيقى، ومع قراءة الوصفة يؤلمه بطنه ويتألم ويستغيث وهم يدقون له بالطبل على صوت قراءة الوصفة، هكذا حال المسلمين مع قرآنهم، ولذلك كلما قرأوا القرآن وبالأصوات الشجية يتأخّرون ويضعفون ويتمزّقون ويتمكن العدو منهم؛ لأنَّهم هجروا القرآن، فالقرآن لا لحفظ حروفه وسماع حروفه، القرآن لفهمه والعمل به.

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
[سورة محمد]

القلوب مقفلةٌ وباب الفهم مسدود لا نريد فهماً للقرآن لا عِلماً ولا عملاً.
الحسن البصري رضي الله عنه كان له كلمةٌ في هذا المعنى: "لقد قرأ القرآن شيوخٌ وصبيان لا عِلم لهم بتأويله" بما تؤول إليه معاني القرآن وتهدف إليه مقاصد القرآن، لا يعرف مقاصد القرآن، ويكتفي بتكرار الحروف، "حفظوا حروفه وضيَّعوا حدوده؛ حتَّى إنَّ أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن كلَّه فما أسقطت منه حرفاً، ووالله لقد أسقط القرآن كلَّه، مَنْ رأى للقرآن عليه مِنْ أثر؟" الآن إذا عَمِلَ بالوصفة الطبية ألنْ يتضح أثرها في وجهه وفي صحته وفي قوته وفي مرضه، ألنْ ينهض مِنْ فراشه؟ قال: "لا يُرى عليه للقرآن مِنْ أثرٍ لا في خُلقٍ ولا في عمل" فلا تتغيَّر أخلاقه الرديئة ولا أعماله الناقصة، "والله إنْ حفظ القرآن ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالقراء ولا بالحفظة، لا أكثر من أمثالهم، فمن اكتفى بقراءة القرآن بلا عِلمٍ ولا عملٍ فهو كمثل مَنْ له ناقةٌ حلوب" فمَن قرأ القرآن واكتفى بقراءته دون عِلمٍ ولا عملٍ فمثله كمثل مَنْ له ناقة حلوب، "لا يحلبها؛ أو كمثل مَنْ له مُهرةٌ نتوج" يعني عندها قابلية للحمل والولادة، "ولا يستولِدُها" فهل سنبقى على ما نحن عليه؟
سألوا جحا رحمه الله: كم عمرك؟ قال لهم: أربعون سنةً، ثمَّ سألوه بعد عشر سنوات: كم عمرك؟ فقال لهم: ألا تفهمون، ألم أقل لكم قبل عشر سنوات؟ أنا عمري أربعون سنةً، فقالوا له: لقد مضى على ذلك عشر سنوات، قال لهم: لا، الرجل الذي لديه رجولةٌ حقيقيةٌ هو الذي لا يُبدِّل كلامه ولا يُغيِّره، لو مضت علي مئة سنة سأقول لكم أنَّ عمري أربعين سنةً، فالقول قولٌ لا يتغيَّر والدين دينٌ لا يتغيَّر. فهل سنبقى هكذا؟ أم يجب أنْ نُشمِّر ونُغيِّر قراءتنا للقرآن.
﴿لَا أُقْسِمُ﴾ هذه الـ ﴿لَا﴾ هي لتأكيد القسم: يعني أقسم قسماً مُؤكداً ﴿بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ فما أعظم وأقدس البلد التي تكون يميناً لله عزَّ وجلَّ يحلِف بها، وما أحقر البلد التي تنزل عن هذه المكانة والرتبة فلا تستحق القسم بها ولا الحلف بها ولا تدخل في عنوان البلد القرآنية، سورة البلد هي السورة التي أنت حالٌّ في تلك البلد، ﴿وَأنتَ﴾ يعني المعلِّم الذي يُعلِّمهم الكتاب والحكمة ويُزكِّيهم.

الوالد الحقيقي:
﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ أيضًا حلف الله عزَّ وجلَّ بالوالِد والولد يعني بالأسرة وبالعائلة؛ لكنْ أيُّ والِدٍ وأي ولدٍ يكون مُقدَّساَ ليصير يمين الله عزَّ وجلَّ الذي يحلف به؟ الوالِد مثل سيِّدنا إبراهيم عليه السَّلام، والولد مثل سيِّدينا إسماعيل وإسحاق عيهما السَّلام أبناء سيِّدنا إبراهيم، فكان الأنبياء مِنْ ذريتهما والوالد، مَنْ هو الوالد؟ الوالِد هو العالِمُ، فإذا أردت تزويج ابنتك ففتِّش لها على أنْ يكون والِد أولادها مشمولاً في هذا القسم واليمين الإلهي:

{ إذا أتاكُم من ترضَوْنَ دينَهُ وخلُقَهُ فزوِّجوهُ إلَّا تفعلوهُ تكنْ فِتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبيرٌ (5) }

[سنن الترمذي]

لم يقُل مالَه وجماله ونسَبَه.
وكذلك المرأة التي ستكون مدرسة أولادك، قال النبي عليه الصلاة والسلام:

{ إذا تزوَّجَ الرجُلُ المرأةَ لِدينِها وجمالِها ، كان فيها سَدادٌ من عِوَزٍ }

[ضعيف الجامع للألباني]

أي مثل غطاء الزجاجة محكمة الإغلاق ولا يتسرب من داخل الزجاجة شيءٌ يذهب هباءً، وكلُّه عناية بـ ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ هذه هي الولادة الجسدية، يجب عليك أنْ تبحث أيضًا عن الولادة التي هي أقدس وأرقى وأعظَم منها، أمك وأباك صنعا جسدك والثور والبقرة يصنعان جسداً أقوى مِنْ جسدك وعضلات أضخم مِنْ عضلاتك وقوةً أعظَم وأضخم مِنْ قوتك.
فهل فتَّشت على مَنْ يلِدُ روحك مِنْ روحه وعقلك مِنْ عقله وإيمانك مِنْ إيمانه ليكون الولد أشبه ما يكون بوالده، وكان يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا المعنى:

{ إنما أنا لكم مثلُ الوالدِ أعلِّمُكم (6) }

[سنن النسائي]

فمعنى المعلِّم في الدين، والدين لا يعني فروض الوضوء والتيمم، فهذه أمورٌ ترجع أيضاً إلى الجسد على أولويتها ووجوبها:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[سورة البقرة]

ليس حروفه؛ بل يُعلِّمك آدابه وأخلاقه وإيمانه الذي يُثمِر العمل به؛ حتَّى تكون أنت مَنْ ينظر إلى أعمالك ويُقرأ القرآن في تصرفاتك وفي حياتك، إذا سمعنا القرآن:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
[سورة آل عمران]

نجد هذه الآية في صفحات حياتك وساعاتك ويومك، فأنت دائماً مع الله عزَّ وجلَّ في بيعك وشراءك وفي رضاك وغضبك وفي مطامعك وقناعتك وفي خوفك ورجائك، فأين هذا الأب الذي يصنع مِنكَ ولدًا قرآنيّاً؟ ولادة الجسد وأبوَّة الجسد لها حقوقها ولها حدودها ومكانتها؛ أمَّا الولادة الروحية.. ولذلك ماذا سمَّى الله عزَّ وجلَّ زوجات النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟

النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ۗ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
[سورة الأحزاب]

وفي قراءة: "وأنت أبوهم" صار للصحابة أبٌ وتعلَّموا منه وربَّاهم العِلم والحكمة وزكَّى منهم النفوس؛ حتَّى أخذوا منه شهادةً نبويةً بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كادُوا من صِدْقِهِم أن يكونوا أنبياءَ (7) }

[حلية الأولياء]


النَّبيُّ هو المهندس الذي يصنع الأمة الراقية:
ما هو النَّبيُّ؟ النَّبيُّ هو المهندس الذي يصنع الأمّة الراقية وشعب العِلم والحكمة ومكارم الأخلاق، فالعالِم الذي يكون وارثاً هو الذي يصنع مجتمع العِلم والحكمة ومكارم الأخلاق، وإذا كان قد أخذ هذا اللقب ولو بمرتبة دكتوراه أو ليسانس أو ماجستير ولكنَّه خالٍ مِنْ هذه المعاني فهذا عالِم مُزوَّر، مثل الشَّيك والدولار إذا كان مزوراً، فيا تُرى مئة ألف أو مليون دولار إذا كان مبلغاً مزوراً فهل يُغنوا صاحبها أم تخرب بيته، وتُعزِّه أم تُذلُّه، وتُغنيه أم تُفقره؟ فيجب أنْ نستيقظ ونصير مسلمين حقيقيين لا مسلمين مزوَّرين، يُفتش عن مُعلِّم العِلم-عِلم القرآن- ومُعلِّم الحكمة ومَنْ يُزكِّي:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[سورة البقرة]

﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ والِدك الجسدي فلان، ووالِدك القلبي ووالِدك العلمي ووالِدك في الحكمة مَنْ؟ لا يوجد، فقد تكون أنت حيواناً في صورة إنسان؛ بل قد يكون الحيوان خيراً منك وبشهادة سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وإذا شهِدَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فهل يستطيع أحدٌ أنْ يطعن في شهادة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا المعنى:

{ مرَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ببعيرٍ قد لحِقَ ظَهْرُهُ ببطنِهِ فقالَ اتَّقوا اللَّهَ في هذهِ البَهائمِ المعجَمةِ فاركَبوها صالِحةً وَكُلوها صالحةً }

[صحيح أبي داود]

التي لا تستطيع أنْ تُفصح عن حاجتها، فإنْ عطشت لا تستطيع أنْ تقول لك أنَّها عطشى، وكذلك إنْ كانت جائعةً أو كان حملها ثقيل فلا تستطيع أنْ تقول لك أنَّ حملها ثقيل، وإذا كان ظهرها يؤلمها وأتاها الحمل فلا تستطيع أنْ تقول لك بأنَّها تتألم، فما اسم هذه؟ عجماء، (اتَّقوا اللَّهَ في هذهِ البَهائمِ المعجَمةِ َكُلوها صالحةً) فإذا كنت تريدها للأكل فأشبِعها وسمِّنها ودللها، وإنْ كانت للحراسة أو الركوب (فاركَبوها صالِحةً).

{ فرُبُّ مركوبةٍ خيرٌ من راكبِها وأكثَرُ ذكرًا للهِ منه }

[مسند أحمد]

يمكن أنْ يكون الحمار أفضل مِنْ راكبه أو يكون البغل أفضل مِنْ صاحبه، وهذا ليس كلامي بل كلام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فإنْ آمنتم بكلام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فستقبلون، وقد تقولون بأنَّ الشَّيخ خشَّنها ولست أنا مَنْ خشَّنها بل كلام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فهل يوجد في كلام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم خشونة؟ كلام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم منزلٌ ووحي:

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
[سورة الإسراء]

(فرُبُّ مركوبةٍ خيرٌ من راكبِها وأكثَرُ ذكرًا للهِ منه)(8).

اليتيم هو الذي فقد العِلم والأدب:
﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ فأباك الجسدي هو الأبوَّة الجسدية، فابحث عن أبيك الروحي وأبيك العلمي أبو الحكمة؛ وإلَّا فستكون يتيماً:
ليْسَ اليَتِيمُ الذي قدْ مَات والِدُهُ إنَّ اليَتيمَ يَتيمُ العِلْمِ والأدبِ
{ الإمام علي }
﴿لَا أُقْسِمُ﴾ معناها أني أقسم قسماً مؤكداً فهل يقول الله عزَّ وجلَّ مرةً صدقاً ومرةً لا يقول صدقاً حتَّى يحلف لنا في هذا الموضع اليمين؟ لكنَّه يعرف صغَر عقولنا وضعف إيماننا بكلامه وليوقظ ضمائرنا ووجودنا؛ ولو أن الله عزَّ وجلَّ يعلم بأنَّنا سنتقبل كلامه مئةً بالمئة فما أحوج القرآن إلى أنْ يكون بطريقة القسم واليمين؟ يُصدَّق الله عزَّ وجلَّ بلا يمين، فهل يُصدِّقون الله عزَّ وجلَّ مع اليمين؟ وأنتم الذين في الجامع هل صدَّقتموه؟ يعني إذا قال لك الطبيب: إياك أنْ تأخذ مِنْ هذه العلبة فإنَّها لم تعد تصلح لك، وخذ مِنْ هذه فهي التي تناسبك، فكيف ستتعامل مع كلام الطبيب؟ تُنفذ كما أمَر وأرشد، فهل نحن نعامل الله عزَّ وجلَّ كما نتعامل مع الطبيب؟ بذلك نكون مسلمون يعني مستجيبون لتعاليم الله عزَّ وجلَّ وإلَّا فنحن منافقون؛ لأنَّنا ندعي الإسلام ولا نعمل به وهذا هو المنافق.

القسَم بالآباء المقدسين وبالأبناء المقدسين:
﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ لكنْ ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ﴾، وأقسَم ﴿وَوَالِدٍ﴾ أي والِد؟ والدٌ كإبراهيم عليه السَّلام، ﴿وَلَدَ﴾ كإسحق وإسماعيل عليهما السَّلام؛ أمَّا ولد مثل ابن نوح:

قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
[سورة هود]

ابن حقير وابن فاسق وابن ضال؛ فهل يحلِف الله عزَّ وجلَّ به؟ ﴿وَوَالِدٍ﴾ فقد يكون الثور خيراً منه؛ لأنَّ الثور إنْ ربى العجل سيربيه لينفع النَّاس، يحرث بقوته ويُقدم نفسه ضحيةً لتصنع منه لحماً وطعاماً وإلى آخره.. فأنت إنْ كنت عجلاً وليس فيك فائدةً أيضًا إنْ صرت ثوراً فليس فيك فائدة أيضاً، فهل ستكون أنت موضع يمين الله عزَّ وجلَّ، وهل يحلف الله عزَّ وجلَّ بالثيران، أو يحلف بالعجول، وهل يحلف بالحيوانات؟ لا؛ بل يحلف الله عزَّ وجلَّ بالآباء المقدسين وبالأبناء المقدسين، فجدُّوا ليشملكم يمين الله عزَّ وجلَّ؛ لو كان أحدكم والِداً أو كان ولداً.

لن تصل إلى السعادة عند الله عزَّ وجلَّ إلَّا بالعمل الصالح والكادح:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ خلقناه في بحرٍ مِنَ الكبد والمكابدة ومِنَ العمل وبذل الجهد في الحياة:

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
[سورة الانشقاق]

أنت في طريقك إلى الله عزَّ وجلَّ، وفي طريقك إلى الله عزَّ وجلَّ لا تصل إلى السعادة عند الله عزَّ وجلَّ إلَّا بالعمل الصالح والكادح وبكلِّ جهدك وبكلِّ طاقتك وبكلِّ إمكاناتك وبكلِّ أوقاتك، فما هذا الدين الذي يدفع الإنسان ليس إلى العمل بل إلى النَّصَب والكدح، والكادح هو الذي يعمل بكثرةٍ ويعمل بجدٍّ واجتهادٍ وبلا راحةٍ إلَّا قليلاً، فالدين الذي يدعو ويدفع ويجعل الإنسان الكادح هو إنسان القرآن، فهذا هو إنسان الإسلام.
فأين المسلمون مِنْ هذه الآية؟ العمل في كلِّ ميادين العمل، العمل في الصحة وفي التجارة وفي التكنولوجيا وفي العلوم المتقدمة، فبحسب القرآن يجب أنْ يكون العالَم الإسلامي هو أرقى شعوب العالم وأقوى شعوب العالَم وأغنى شعوب العالَم، ويجب أنْ يكون هو مجلس الأمن؛ لأنَّه إذا كان هو مجلس الأمن سيحكم بالعدل بين النَّاس والمساواة لا بالأهواء والمطامع والأنانيات، ولكنْ مع الأسف المسلمون في الشرق وقرآنهم في الغرب، وكما قال الحسن البصري رضي الله عنه: "لا يُرى عليهم مِنَ القرآن أثر في خلقٍ ولا عمل، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده" والسبب؟ إنْ وُجِدَ مُعلِّم نجار فسيُخرّج نجارين؛ أليس كذلك؟ وإنْ وُجِدَ مُعلِّم حداد فسيتواجد الحدادون، أليس كذلك؟ وإنْ فَقَدْنا الـمُعلِّم فُقِدَ الـمُتعلِّم، والمصنع الذي يصنع المعلمين ومع عميق الأسف أقولها وبصراحة؛ ومع وجود كليات شريعةٍ لدينا وكليات دعوة وأصول الدين وأزهر.. ومع ذلك هذه المعاهد لا تُخِرِّجُ العَالِم الذي أراده الله عزَّ وجلَّ ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وكتاب الله وسنة رسوله؛ لأنَّهم يُعلِّمون الإسلام نظريّاً ولا يوجد أعماقٌ في الأمور ولو أخذ دكتوراه، نظريّاً عملية جراحة العين لا يكون جراحاً للعيون بأنْ يتعلم الجراحة بالمحاضرات، فيسمع محاضرة جراحة العين عشرين مرةً هل حفِظ؟ حفِظ، فقدَّم الامتحان على الورق وكَتَبَ؛ ثمَّ سلِّمه العدة، لا يعرف العدة ولا يعرف كيف يبدأ، ولا يعرف كلِّ مشرطٍ وكل ملقطٍ بماذا يُستَعمل، فيا تُرى هل إذا أخذ شهادةً نظريةً فهل سيصير جراحَ عيون؟ وكذلك التعليم الديني يكون هكذا تعليماً نظريّاً لا تعليماً تربويّاً وأخلاقيّاً وروحانيّاً ربانيّاً.

خلق الله الإنسان ليُجاهد ويُكابد:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ ليُكابِد وليُجاهد:

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
[سورة الانشقاق]

ليكدح.
يقول أحدهم مِنَ الذين يفهمون القرآن بشكل خاطئ: في يوم من الأيام رأى بومةً عمياء، وتعرفون طائر البومة الذي يسكن الخرائب، فصار يفكر فيها ويقول هذه وقد فقدت بصرها فمن أين تأكل ومن أين تشرب، وكيف تطير؟ قال والله لأجلسنَّ وأنظر في أمرها، فما لبث أنْ جلس بضعة دقائق؛ حتَّى أتى عصفور وفي منقاره قطعة خبز ومرةً ثمرة التوت ومرةً قطعاً من فاكهة ويُعطيها صوته فتفتح منقارها فيلقمها حتَّى شبعت، فصاح هذا: الله أكبر، ما هذه العظمة الإلهية! وما أعظَمك يا أرحم الراحمين! وقال في نفسه: إنْ لم ينسَ الله عزَّ وجلَّ البومة العمياء أفلست أنا أعزَّ مِنْ هذه البومة العمياء.

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
[سورة الإسراء]

فذهب إلى الجبل وجلس في المغارة يعبد الله عزَّ وجلَّ على طريقة البومة العمياء، هذه لا تعبد الله عزَّ وجلَّ ولا تتفرغ لطاعة الله عزَّ وجلَّ ولم ينسها الله عزَّ وجلَّ فإذًا هو أولى، واستمر يومان وثلاثة وأربعة؛ ثمَّ أغمي عليه من الجوع، وصار على شفا جرف من الموت، ونزل المطر ومرت قافلةٌ مِنَ المكان فالتجأوا إلى المغارة التي فيها هذا الرجل المغمي عليه وهو في حالة النزع، فصنعوا له الإسعافات اللازمة وسخنوا له الحساء والمرق وكذا.. وشيئاً فشيئاً حتَّى رجع إلى وضعه، فقالوا له ما بِك؟ قال: جائع، قالوا له: ولماذا أنت جائع والبلد قريبةٌ منك على مشهد؟ قصَّ عليهم قصة البومة وقصة العصفور الدوري، لماذا سمي بالدوري؟ لأنَّه يسكن البيوت والدور، فقال له أحدهم: يا حيوان أراك الله عزَّ وجلَّ حكمةً مِنَ حكمه لتعمل بها وتنفع النَّاس بها، فلماذا جعلت نفسك بومةً عمياءَ عاجزة ولم تجعل نفسك عصفوراً دوريّاً تساعد العاجز وتساعد الأعمى، هذا قرأ ولكنْ بشكل خاطئ، ونحن نقرأ القرآن للأموات، فعندما يموت الميت اجلبوا له شيخاً ليقرأ؛ كمن كان طول عمره لم يأكل البقلاوة؛ فلمَّا مات قالوا: والله، هذا طوال عمره وهو حروم مِنَ البقلاوة، فاجلبوا له صدر بقلاوة على قبره الطيب، ودعوه ما دام ذلك لم يكن متاحاً له في الحياة فاتركه له ولو بعد الممات، فلو دفناه بالبقلاوة، قنطار بقلاوة وجعلنا له أيضاً مظهر القبر بقلاوة، فماذا يكون هذا العمل؟ هكذا حال الكثير من المسلمين في تعالمهم مع القرآن، ولذلك لا يزال المسلمون في تقهقرٍ وابتعد بعضهم عن الدين، وقد يكون له بعض العذر؛ لأنَّه رأى المتدينين لا يستفيدون ولا يترقُّون، بعض الدول الإسلامية فلا ينجحون ولا ينتصرون ولا يتقدمون؛ فصار المتدينون فتنةً لغير المتدينين:

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
[سورة الممتحنة]

لم يكن عند النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم جامعةٌ ولا دكتوراه ولا ليسانس، فما كان الصحابة يقرؤون ولا يكتبون، صحبة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم،ومدرسة النَّبيِّ ومسجد النَّبيِّ الذي تخرَّج منه أباطرة العالَم وحكماء العالَم وفلاسفة العالَم وأثرياء العالَم بعد أنْ لم يكونوا شيئاً مذكوراً، حسناً هل فهمتم السورة مني فكراً وفهماً جيداً.

العِلم والذكر:
يوجد عندكم فكرٌ آخر يجب أنْ يهضم القرآن، وهو القلب، إذا لم يكنْ لكم قلبٌ ذاكرٌ حيٌّ بالله عزَّ وجلَّ، واستنار بنور الله عزَّ وجلَّ وانقشعت عنه ظلمات الغفلة وظلمات محبة المادة، فهذه مدرسة ثانية:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
[سورة الأحزاب]

أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (22)
[سورة الزمر]

هذا الجناح الثاني للإسلام، فالجناح الأول هو العِلم ومحلُّه العقل والفكر، والجناح الثاني الذِّكر والتقاء الروح بالله عزَّ وجلَّ في ساحة القلب.

الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
[سورة الرعد]

فإذا كَمُلَ إسلام المسلم بالجناحين: العِلم والذكر، والعقل والقلب، فمِنْ هنا تبدأ نهضة المسلمين وبدون ذلك عبثاً نحاول.
نحن في العالم الإسلامي هل يوجد أزمة جامعات وأزمة شهادات؟ الأزهر خمسون كليةً، وكل سنة يمنح آلاف الشهادات، وعندنا في الشام أيضاً توجد كليات، ونحن هنا أيضاً كلية، وطالب العِلم إذا ما دخل مدرسة حراء، وماذا كان يصنع النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حراء؟ كان يُجالِس الله عزَّ وجلَّ، وكان مع الله عزَّ وجلَّ، وكانت قبلةُ قلبه الله عزَّ وجلَّ، كان معشوقه الله عزَّ وجلَّ، كان حبُّ الله عزَّ وجلَّ يُخالط لحمه ودمه وكلَّ خلاياه الجسدية والروحية، فمِنْ هذه المدرسة نزلت عليه:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
[سورة العلق]

(اقْرَأْ) بماذا؟ بالكتاب (بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) تعلَّم وخُذ العِلم مِنْ طريق اسم الله عزَّ وجلَّ، ومِنْ طريق ذكر الله عزَّ وجلَّ (الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) إلى آخره..

من النَّاس من يكابد بلا نفع:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ فيا تُرى هل أنتم تُكابدون؟ كل النَّاس يُكابدون؛ لكنْ توجد مكابدة الحيوانات ومكابدته لملء أمعائه وبطنه وليحولها إلى أوساخٍ وأقذار ليلاً نهاراً، فينزل الموز مِنْ فوق إلى تحت؛ كما هو معلوم، ويُحوِّل الطيب إلى خبيث، يعني معمل الخبائث، وبعض النَّاس تجده معمل الشر والشرور، والسَّفه والحمق والبطالة واللغو وإلى آخره.. هذا يكدَح وينصُب ويتعب في أعمالٍ لو كان ميتاً لكان خيراً له؛ لأنَّ الميت لا يعمل عملاً نافعاً له ولا ضاراً ولا محموداً ولا مذموماً، أمَّا إنسانٌ يُعطى شراباً وقوةً وعمراً ويضيع عمره وكدحه ومكابدته، وإذا كان بلا ضررٍ ولا فائدةٍ فنعمة؛ أمَّا إذا كان بضررٍ وبلا فائدة، بالبطالة والسفاهة والغفلات وإهمال الفرائض والتهاون بالمحارِم فهذا والله عدَمُه خيرٌ مِنْ وجوده لنفسه وللآخرين.

الوالد الذي يكون أهلاً ليكون يمين الله عزَّ وجلَّ:
﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا الوالِد الذي يكون أهلاً ليكون يمين الله عزَّ وجلَّ وقسَمه، فيا تُرى هل صرت أنت الوالِد الذي يحلف الله عزَّ وجلَّ به؟ هل تشملك الآية، وهل اقتديت بالوالِد إبراهيم عليه السَّلام، وهل كان إبراهيم عليه السَّلام في كبَد؟ حُرِّقَ في النَّار وأُلقي بالمنجنيق إلى النَّار، وكسَّر الأصنام وحارب المجتمع كلَّه بالحق وتهديم الباطل فهذا والِدٌ مقدس، ووَلد: سيِّدنا إسماعيل عليه السَّلام، أبو سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، الذي ولد سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، وإسحق عليه السَّلام أبو أنبياء بني إسرائيل فهذا ولدٌ مقدس يُقسم به؛ أمَّا تجد ولداً بطالاً عاطلاً لاغياً وعاطلاً أيضاً ثمَّ يذهب إلى العاملين فيشغَلهم عن أعمالهم، وكلُّ لسانه بين لغوٍ وبين إثم، وكذلك نظره وسمعه وسهرته وذهابه ومجيئه وعمره كلُّه ضعه في الميزان فيا ليت لا شيء لا نافع ولا ضار، فإذا كان ضرره أكثر وآثامه أكثر فهذا لو لم يكن موجوداً لكان خيراً له، وإذا كان عقَلَ ما تبقى من أيامه مهما كانت قليلةً يتوب إلى الله عزَّ وجلَّ ويُصحِّح العمل ويندم على ما مضى فلعلَّه يدخل في قسم الولَد في آية: ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾، فهل أنتم مستعدون لتصححوا الأوضاع؟ فإذا كنتم آباءً فصححوا أوضاعكم، وإنْ كنتم أبناءً فصححوا أوضاعكم لتكونوا مقدَّسين في نظر الله عزَّ وجلَّ ليشملكم يمين الله عزَّ وجلَّ.
فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا علوم القرآن وفهم القرآن:

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
[سورة الإسراء]

إذا قرأ يصير مُبعداً عن الله عزَّ وجلَّ وممقوتاً منه ومكروهاً من الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ يُخاطبه فيُدير له ظهره، ويأمره فلا يُنفِّذ أمره، وينهاه فيقول له أنا لست مهتماً بمحارِمك وسأرتكبها، فهل يحلف الله عزَّ وجلَّ بهذا بآية ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ ؟ أم يشمله الله عزَّ وجلَّ بلعنة ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾.

الكبَد قسمان:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ أيضاً الكبد قسمان؛ يُكابد المرء في ميدان الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والإنتاج النافع للناس، وآخر يُكابد فيما حرَّم الله عزَّ وجلَّ، يكابد في الأعمال التي يمقُتها الله عزَّ وجلَّ، فيا تُرى كبَدُ هذا ونصَب وتعَب هذا مثل هذا؟

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
[سورة الانشقاق]

شخصٌ كدَحَ وجهِدَ وتعِبَ في كلِّ ما يُرضي الله عزَّ وجلَّ شاقّاً أو يسيراً وبعيداً أو قريباً مثل الذي:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125)
[سورة طه]

كان بصيراً يرى الجدار ببصره ويرى السيارة ويرى النهر أمَّا هل كان يرى الحق فيتِّبعه، وهل كان يرى الباطل فيجتنِبَه، وهل يرى طريق رضا الله عزَّ وجلَّ فيسلُكه وطريق محارم الله عزَّ وجلَّ فيجتنِبَه؟ هكذا نريد أنْ نفهم الحياة والقرآن والموت منَّا لا ندري هذا اليوم؛ أو بعد هذا اليوم، كيف نلقى الله عزَّ وجلَّ إنْ سألنا الله عزَّ وجلَّ عن القرآن؟

غرور الإنسان بقوته:
﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ كان بعضٌ مِنْ قريش اسمه الأشد، وكان قد بلغ مِنْ قوته البدنية بأنْهم كانوا يجلبون جلد ثور فيقف عليه ويجلب عشرة أشخاص ويقول لهم شدوا الجلد مِنْ تحتي إذا قدرتم أنْ تزيحوني عن مكاني فأنتم تستحقون الجائزة ولقب بطولة شد جلود الثيران، وبطولة الثيران..
فبطولة سيِّدنا خالد رضي الله عنه، وهل كان سيِّدنا خالد رضي الله عنه بطلاً، بطل ماذا؟ بطل اليرموك، وقد أنهى دولة الرومان بكم يوم؟ بمعركة الستة أيام، وسيِّدنا سعد بن وقاص رضي الله عنه بطل، ماذا؟ القادسية، فأنهى دولة الفرس بمعركة أربعة أيام، فبعشر أيامٍ أنهوا الإستعمار العالمي في الشرق والغرب، ببطولاتهم؛ فأين بقيت بطولاتنا نحن؟ بطولات الأطفال الصغار، إذا كنت سأقول، ولن أقول فأنتم تعرفون ماذا سأقول، هل سنبقى نائمين؟ أين بطولات العِلم وأين بطولات آبائنا وأجدادنا؟ ومِنَ القرآن:

مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
[سورة الأحزاب]

رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
[سورة النور]

والذين ليست فيهم هذه الصفات فهم ما يزالون أطفالاً، فرجال القرآن الذين حملوا هذه الصفات، والذين لم يحملوا فهؤلاء لم يبلغوا بعد وما زالوا أطفالاً صغاراً ولا نستطيع تزويجهم، ويصيروا ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾.
﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ يستعمل قوته بشكل خاطئ، جلد الثور هذا يُصنَع به أحذية وحقائب فلماذا تضعه تحت قدميك ويأتي عشرة رجالٍ ليمزقوه ولن يزحزحوك عن مكانك، فما هي الفائدة التي حصلت لك أو لهم أو للمجتمع؟ جلدٌ يصح الانتفاع به وضيَّعتموه بلا فائدة.

إكرام النعم وحُسن الإنفاق:
ورأى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كسرة خبزٍ على الأرض فرفعها وقبَّلها ووضعها على عينه وقال:

{ يا عائشةُ، أكرِمي نِعَمَ الله، فإنَّها ما نَفَرت عن قومٍ قطُّ فعادت إليهم (9) }

[المعجم الأوسط للطبراني]

مِنْ شدة ذكائنا نحن المسلمين فهمنا كلام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حرفيّاً فتأكل كسرة الخبز، وقد تكون ملوثةً وفيها جراثيم، لم نفهم النص بروحه، أيضاً صنبور الماء إذا كان ينقط أليست هذه نعمة، ومصباح الكهرباء الصغير الزائد ولا توجد حاجةٌ له أفليس هذا إسرافاً وتبذيراً وتضييعاً للنعمة في غير مكانها؟ وإذا كان ثوبك ما يزال صالحاً للبسه فكلمة موضة يعني يحرم لبسها ومَنْ يلبسها تنزل عليه خمسمئة لعنة، المرأة العنيدة تقول انقضى زمن هذه الموضة وقد تكون قد لبستها مرةً واحدةً، فيا تُرى قطعة الخبز هذه التي رُفعت قيمتها أكبر أم هذا الثوب في الصالة الذي قيمته عشرة آلاف ليرة ولا يُلبَس فهل هذه مسلمة وهل زوجها مسلم، وهل المجتمع مسلم، وهل هذا الفقه إسلامي؟ فمن سيُعلمنا ديننا؟ وهكذا في السيارة وكلِّ شيء وفي النعل.. ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ما خاب مَنِ استَخارَ , ولا ندِم مَنِ استَشار ولا عال مَنِ اقتَصد (10) }

[المعجم الأوسط للطبراني]

يعني الذي يقتصد لا يعُول أي لا يفتقر، وعلَّمنا فقال صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ الاقتصادُ في النفقةِ نِصفُ المعيشةِ (11) }

[المعجم الأوسط للطبراني]

فهل تستطيع إنْ كنت متضايقاً أنْ تخصم خمسين بالمئة مِنْ مصروفك وتكتفي بالخمسين؟
مشايخ علَّمونا هذا الإسلام، إسلام الحياة والاقتصاد والأكل، فهل تعرف أنْ تأكل، وهل تعرفون أنْ تأكلوا؟ قد يكونون أشكالاً وألواناً وقد يكون طبيباً، وهل يعرف الطبيب كيف يأكل الخبز؟ يأكل الخبز الأبيض، ولا يأكل الخبز الأسمر، أليس كذلك؟ هذا مخالفٌ للطب وللصحة، الأغذية ارتقى مستواها ودراستها إلى مستوى الدكتوراه، دكتور في التغذية، علماء الأغذية يقولون عن النخالة بأنَّها تحتوي على كلِّ المعادن الثمينة وكل الفيتامينات وبصورةٍ خاصة فيتامين ب، وبالنسبة لمنافعها فلو وُضِعت في كفةٍ والأدوية في كفةٍ لتعادلتا، قد توجد مبالغةٌ بهذا الكلام ولكنْ للإشارة إلى الاهتمام بقشرة القمح، فيا تُرى هل تعلَّم الطبيب وفهم هذا الشيء؟ قال: إنْ كنت لا تدري فتلك مصيبة وإنْ كنت تدري فالمصيبة أعظم.

الانتفاع من العِلم:
كان عندي كلبٌ في المزرعة، فعندما أصل إلى المزرعة أضغط على بوق السيارة فنصل أنا والكلب إلى باب المنزل معاً، فمرةً كنت قد اشتريت من الخبز الإفرنجي الطويل، وهذا غال، لماذا؟ لأنِّي لا آكل الخبز الأبيض أبداً، فقلت في نفسي يجب أنْ أكرمه مثلما أكرمنا، فوضعت له نصف رغيفٍ فشمَّه ولم يأكل منه، لماذا؟ لا أدري، قلت لعلَّه خالٍ مِنَ النخالة، وفي المرة الثانية اشتريت خبزاً فيه نخالة، فعندما وصلت رميت له بنصف رغيف فأكله، قلت سبحان الله، الحيوان يفهم، ويوجد أحدهم قد درس الطب وفهم ولم يُفدهُ فهمه، وعلِمَ ولم يُفِده عِلمه، وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ أعوذُ بالله من الشيطانِ الرَّجيمِ (12) }

[رواه مسلم]

{ سَلوا اللهَ عِلمًا نافعًا وتعَوَّذوا باللهِ مِن علمٍ لا ينفعُ }

[سنن ابن ماجه]

فجعل العِلم الذي لا ينفع مع التعوذ مِنَ الشيطان للتحرُّز منه، فأين يجب أنْ يرموننا في أي نهر، فهل نريد أنْ نبقى مسلمي الاسم، ويكون الإسلام حجةً علينا عند الله عزَّ وجلَّ وعند خلقه أم نريد أنْ نصبح المسلمين السعداء في الدنيا والآخرة؟ سورة البلد وحدها والله تكفي:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ خلقناك وأعطيناك القوة ويوجد نصَب لكي تعمل؛ ولكنْ بماذا استخدمت قوتك؟ استخدمها في الجاه يفرد عضلاته ويشتغل بها مثل الثيران عندما تتناطح، يجب أنْ تستخدم قوتك فيما يَنفع ويُنتِج ويُثمِر، خلق الله عزَّ وجلَّ القوة لهذا إلَّا إذا تعبت فكان يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ الهُوا والعَبوا، فإنِّي أكرهُ أن يُرَى في دينِكم غِلظةً (13) }

[سنن ابن ماجه]

وفي حديثٍ آخر:

{ روِّحوا القُلوبَ ساعةً فساعةً (14) }

[مسند الشهاب]


استخدام القوة لنفع من يفتقد مثلها:
فالقدرة ﴿أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ القدرة المالية أو البدنية؛ أو العِلمية أو أي نوعٍ مِنْ أنواع القدرات، فلا تستعملها للتظاهر ولا للتعالي على الآخرين؛ بل استعملها في نفع مَنْ يفقد هذه القدرة، فقدرة المال ساعد بها مَنْ لا يملك هذه القدرة، وقدوة الجاه ساعد بها مَنْ لا يملك هذا الجاه، أمَّا أنْ تتعالى على النَّاس أو تؤذي النَّاس أو تُضارر النَّاس بقدرتك الوظيفية أو المدنية أو المالية أو الحكمية فأنت مسؤولٌ عن أعمالك:

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
[سورة النحل]

هكذا نكون قد قرأنا القرآن ونكون آمنا بالقرآن، وأمَّا إذا فعلنا عكس ما يأمر به القرآن فهذا إيمانٌ بالقرآن أم كفرٌ بالقرآن؟ فاسألوا أنفسكم، يا تُرى هل أنت مؤمنٌ بالقرآن بلسانك وعينك وأذنك وخطواتك ونهارك، ماذا فعلت خلال نهارك؟ أعطاك الله عزَّ وجلَّ اثنتي عشرة ساعةً، فماذا عملت بها؟
ويقول الله تعالى لك: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ لتُكابِد الحياة وتصارعها، فماذا عملت؟ الفأر تراه في كبَد، والنحلة في كبّد، والبائع الجوال يعمل ويأخذ رزقه، وهناك أناسٌ مثل النفساء أطعموني واسقوني وأتاها الطلق في الشهر التاسع ولا تستطيع أنْ تتحرك، فهذا مثل جحا أيضاً، جحا الله يرحمه ويغفر لنا وله، على: (روِّحوا القُلوبَ ساعةً فساعةً) يقول: كان على شجرة جوز ويقطع أحد الأغصان ولكنْ أين يقف؟ على الغصن الذي سوف يسقط، ورآه أحدهم، وقال له: يا جحا أنت تريد أنْ تقطع العرق وأنت تقف عليه؛ فإنْ سقط فسوف تسقط، فقال له: أأنت الله عزَّ وجلَّ؟ لا يعلم الغيب إلَّا الله عزَّ وجلَّ لا تكفر، إنَّما الله إلهٌ لم يعطِ علمه لأحد، وبقي ينشره وهو يقف عليه، فوقع أرضاً فلم يهتم بجراحه ولا بما أصابه وركض إلى ذلك الرجل، وقبل يديه ورجليه، وقال له أشهد أنَّك من أولياء الله عزَّ وجلَّ، قال له: ماذا تقول؟ قال له: أجل، فلو لم تكن مِنْ أولياء الله عزَّ وجلَّ لما عرفت الغيب، ولو لم تكن مِنْ أولياء الله عزَّ وجلَّ لما عرَّفك بشيءٍ قد رأيته قبلي، قال له: يا بني هذه ليس بها ولاية، قال له: أريد منك أنْ تقول لي متى سأموت. قال له: يا أخي هذه ليس لها علاقة بهذه، الخلاصة: يريد أن يتخلص منه.
قال له: هذا حمارك إذا انتقض وضوئه في يومٍ مِنَ الأيام مِنَ الخلف تكون قد انتهيت، ففي يومٍ من الأيام حمل حماره تيناً وزيتوناً ودخل به الأسواق وصعد به الجبل فعرقَ الحمار وانتفخ والظاهر أنَّه قد صارت معه غازات، فأطلق طلقة المدفع ووصلت روحه إلى الركب، فأطلق طلقةً أخرى فابتعد، والطلقة الثالثة انطرح على العشب، وقال: أشهد أنْ لا إله إلَّا الله، فجاء الثعالب إلى أكياس الزبيب والتين والكعك، وصار يهز برأسه ويقول: آه والله لو لم أكن ميتاً والله لأمزقكم إرباً إرباً.
فلا تجعل نفسك ميتاً وأنت أقوى من الجدار، فهذه ليست مروءةً ولا رجولةً ولا إسلاماً ولا ديناً ولا عقلاً ولا إدراكاً، وكذلك مجتمعنا الإسلامي، وأنا لا أحب أنْ أقول لكم هذا النكات؛ لكنْ لا بأس، وهل يوجد مانع؟ يستحق المعنى.

ينبغي أن لا تمضي ساعات العمر دون ثمرة:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ يتظاهر بقوَّته، استعمل قوتك وشبابك فيما ينفع ويُثمر ويُنتج، لا تضيِّع مِنْ وقتك أي دقيقة، أنا شخصياً ليس مِنْ باب التزكية، لم أكن أرافق في طريقي أحداً، إذا كنت ماشياً عندما كنت أطلب العلم حفظت القرآن والمتون في الطريق، في الطريق أحفظ ما لم أحفظه أو أكرر ما حفظته وإلى هذه اللحظة ليس عليَّ أغلى من وقتي، يعني إذا أتاني أحدهم ويريد أنْ يسألني وسألني ثمَّ انتهى ينصرف، الوقت غالٍ فالحياة والعمر وقت، والوقت يعني إنتاجه، فماذا أنتجت في عمرك وحياتك؟ المؤمن:

{ إنَّ اللهَ يَكرهُ العبدَ البطالَ (15) }

[المعجم الأوسط للطبراني]

إذا لم تستطع أنْ تعمل أي عملٍ فاعمل بذكر الله عزَّ وجلَّ وطاعته، أو ساعد أحدهم أمَّا أنْ تكون بطالاً؟ الفأر لا يكون بطالاً، ولا الدبور ولا الذبابة، ولا الفراشة ولا العصفور، ولا الغراب، كل ذي روح.. ويوجد أناسٌ بطالون ويذهبون إلى العاملين ليعطلوهم عن ماذا؟ عن واجباتهم، فلا يكفيه أنَّه بطال بل يريد أنْ يكون أستاذاً ومصدر البطالة والتعطيل والمعطلين.

مراقبة الله عزَّ وجلَّ:
ويقول الله عزَّ وجلَّ له: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ ما هي خواص عضلاتك، وما هو نتاجها؟ عضلاتك هذه خلقها الله عزَّ وجلَّ لك لتُنتج لا لتتباهى بها، ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ هذه العضلات وهذه القوى وهذه النعم التي أنعم الله عزَّ وجلَّ بها عليك فأنت تحت مراقبة الله عزَّ وجلَّ، وكلُّ أعمالك مراقبة، وراءك مخابراتٌ إلهية، فالمخابرات الدنيوية عند الحكومات لا تُقارن بمخابرات الله عزَّ وجلَّ ولا نقطةً مِنْ بحرها فتحصي عليك:

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
[سورة الإسراء]

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ)فهل تستطيع مخابرات الدولة أنْ تعرف ما بقلبك وتُسجِّل؟ فإنْ كنت تنوي الغدر والحقد أو الضرر والمكر أو الغش والإيذاء للناس، وهذا كلُّه يقول الله عزَّ وجلَّ لك: (وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).

وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
[سورة الإسراء]

فأي تربيةٍ قدسيةٍ هائلةٍ لا مثيل لها في هذا الوجود تربية القرآن.

الذكرى لمن كان له قلب:
لكنْ:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

لمن كان له مَنْ يُعلِّمه القرآن ولمن يُعلِّمه الكتاب والحكمة بعقلك والنفس بالتزكية ومكارم الأخلاق، لديك مُعلِّم بالإنجليزي وبالطب وبالصيدلية وبالنجارة، فهل لديك مُعلِّم بالتعاليم التي كان يُعلِّمها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ وها قد ذهب النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يوجد لي وَرَثة، ومن هم الورثة؟ الذين يُعلِّمون ما كان يُعلِّم، ويرشدون إلى ما كان يُرشد، فإنْ قال لك النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هذا حماري فبذمتكم وبدينكم إذا أتى إليكم حمار النَّبيِّ، فماذا ستطعمونه؟ تطعمونه جوزاً أم فستقاً حلبيّاً، والفستق الحلبي أغلى أليس كذلك؟ ودبسٌ أم عسلٌ لماذا؟ إذا رأيتم حذاء النَّبيِّ فماذا تصنعون بها؟ ألا تقبِّلونها وتضعونها على رؤوسكم؟ حسناً، وإنْ رأيتم وارِثَ النَّبيِّ، كثيرٌ مِنَ النَّاس مثلما قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إذا أبغضَ المسلمونَ عُلماءَهُم، وأظهَروا عمارةَ أسواقِهِم، وتألَّبُوا على جمعِ الدَّراهمِ، رماهُمُ اللهُ بأربعِ خِصالٍ، بالقحطِ مِن الزَّمانِ والجَورِ مِن السُّلطانِ، والخيانةِ مِن ولاةِ الحُكَّامِ، والصَّوْلَةِ مِن العدوِّ }

[أخرجه الحاكم]

(إذا أبغضَ المسلمونَ عُلماءَهُم، وأظهَروا عمارةَ أسواقِهِم، وتألَّبُوا على جمعِ الدَّراهمِ) همُّه في ليله ونهاره ومنامه المال، (رماهُمُ اللهُ بأربعِ خِصالٍ، بالقحطِ مِن الزَّمانِ، والجَورِ مِن السُّلطانِ، والخيانةِ مِن ولاةِ الحُكَّامِ، والصَّوْلَةِ مِن العدوِّ)(16)، فالعدو إسرائيل تصول وتجول في فلسطين وغير فلسطين وإلى آخره.. فمتى ستكون لنا آذانٌ تسمع كلام الله عزَّ وجلَّ، وعقلٌ ليهضم ويفهم كلام الله عزَّ وجلَّ لنصير مسلمين يعني مستجيبين لتعاليم الله عزَّ وجلَّ، متى؟ أمَّا أنْ تدَّعي وأنْ تتلقب وتقول أنا رئيس جمهورية ومكنسة البلدية في يدك وتقول أنا رئيس الجمهورية وأنا رئيس الوزارة وأنا رئيس الجامعة وأنا المفتي.. فهذا نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يحمينا مِنَ الجنون وكما قيل الجنون فنون، وأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يحمينا مِنْ كل فنون الجنون.

عِلم الله عز وجل وقدرته:
﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ يا تُرى لما تعصي الله عزَّ وجلَّ فهل أنت مؤمنٌ بهذه الآية أنْه يوجد مِنْ يراك أو تظن أنَّه لا يراك أحد، ويُقال في زمن عمر رضي الله عنه كان يقوم بعمل الحارس الليلي، الإمبراطور حارسٌ ليلي، وهل يوجد مثل هذا في الدول الديمقراطية؟ في أمريكا أو أوروبا أو سويسرا أو اليابان، في التاريخ من سيدنا آدم إلى الآن أتت دولة الإمبراطور وقاهر الاستعمار العالمي ورئيس مجلس الأمن في الليل وحده أو معه رفيق فيسمع أمّاً تخاطب ابنتها وتقول لها ضعي في الحليب ماءً ليزداد وزنه، أي تغش الحليب، فقالت البنت: يا أماه إنَّ عمر، قد نهانا عن ذلك، فقالت: ويحَكِ وأين أنت مِنْ عمر، فهل يراكِ عمر؟ قالت: يا أماه إنْ كان عمر لا يراني، ألا يراني ربُّ عمر؟

أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14)
[سورة العلق]

فقال سيِّدنا عمر رضي الله عنه لمرافقه ضع علامةً على البيت، فوضع علامةً وفي اليوم الثاني جمع عمر رضي الله عنه أبناءه وقال لهم مَنْ منكم أعزب؟ فلان، فخطب له تلك البنت وزوَّجه إياها فكان مِنْ نسلها عمر بن عبد العزيز:

{ تَخيَّروا لنُطَفِكم فإنَّ العِرقَ حسَّاسٌ (17) }

[سنن ابن ماجه]

﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ إنْ نسيَ أنَّنا لا نراه، ونسيَ أنَّ:

هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
[سورة آل عمران]

وإنْ نسيَ:

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
[سورة النحل]

فهل أنتم مؤمنون بهذه الآيات أم كافرون؟ لا يوجد ثالث؛ فإمَّا إيمان أو كفر، فإذا آمنت بأنَّ الله عزَّ وجلَّ يعلم ما تُسرُّ فهل ستسرُّ في نفسك وسرائرك شيئاً لا يرضى به الله عزَّ وجلَّ؟ تريدون أنْ تصيروا إسلاماً كاذباً أم إسلاماً صادقاً؟ إيمانٌ بصدق:

مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
[سورة الأحزاب]

إن شاء الله ربي أنْ يُثبِّتَنا بقوله الثابت.

لا تغترّ أيها الإنسان بقوتك وتنكر بديع خلق الله لك:
بعد ذلك قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ نحن نراك فلا تغترَّ بقدرتك، فلقد خلقناك لتُكابِد الحياة، وعلَّمناك كيف يكون الوالِد والولد، وعلَّمناك البلد المقدسة إذا كان حالاً فيها مَنْ يُعلِّم الكتاب والحكمة ويُزكِّي فإذًا اركض وراء المكان والإنسان الذي يُعلِّم الكتاب والحكمة ويُزكِّي، وفوق كل ذلك قال أيضاً لنا عليك مننٌ يجب أنْ تشكرها ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ البارحة عرضوا في التلفاز تشريح العين، يقول بين العين ومركز البصر في الدماغ ما يقارب ثلاثين مليون عصب وكلها مركبةٌ تركيباً هندسيّاً إلهيّاً، فهل يستطيع كلُّ أطباء الدنيا من أمريكا إلى اليابان أنْ يصنعوا هذه الثلاثين مليون عصب؟ وإذا فُقِدَ عصبٌ واحدٌ فهل يستطيعون تبديله؟
مرةً أتاني عضو اللجنة المركزية البلغاري الشيوعي هنا في صالون المجمع، ونحن نشرب الشاي وأنا ليس لي مِنْ حديثٍ غير الله عزَّ وجلَّ والإسلام، فقال لي: ما هو الدليل على وجود الله؟ وكنَّا نشرب الشاي، فقلت له: كأس الشاي هذه، دليل على وجود الله عزَّ وجلَّ، قال لي: كيف كأس الشاي دليلٌ على وجوده؟ لأنَّ هذا الشاي الذي صنع منه الشاي هل زُرِعَ وحده أم له زارِع؟ قال: لا له زارِع، قلت له: قُطِفَ لوحده أم له قاطِف؟ لا له قاطِف، يا ترى صُنِّعَ لوحده وعُلِّبَ لوحده أم له مُعلِّب؟ له مُعلِّب، يا ترى أتى مِنَ الصين ومِنَ الهند وحده أم له مُسوِّقٌ وله تاجر؟ له تاجر، يا تُرى هنا هل يوجد مَنْ استلمه أم دخل لوحده إلى الدكاكين والمخازن؟ له، يا ترى طُبِخَ لوحده أم له طباخ؟ قلت له: فكأس الشاي هذه لها خمسمئة صانع، والذي خلق هذه المجرات والنجوم والشموس والأقمار والمخلوقات هذه ليس لها صانع؟

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
[سورة البقرة]

إلى آخره.. نسأل الله عزَّ وجلَّ ألَّا يجعلنا مِنَ الغافلين، وسنموت ولا تعرف متى سنموت، أحد إخوانكم أبو غنيم خرج من الجامع بالسيارة وقال لابنه اشتري لنا القليل مِنَ المكسرات فذهب ولما عاد وجد أباه قد سلم الروح؛ فإذا كنت ذلك الإنسان أو بغير شكل فأعمالنا مُسجَّلةٌ وسنُسأل عن القرآن.
﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾ فإنْ أهداك امرؤٌ بذلةً أو طقماً فخماً فكلما تراه والله ممتنٌ لك، والله تفضل، والله لا أدري ماذا؟ وإذا أهداك خاتم ذهب؛ أو ألماس أو كلَّ سنةٍ يهديك، فعينك هذه كم ألماسةً تساوي؟ وكانت تكفيك عين واحدة، ألا يكفيك؟ يتمنى الأعمى أنْ تكون له عينٌ واحدة، ولو كانت عين جرذ، أليس كذلك؟ ولو عين حمار؛ أو عين فأر أو عين قطة فقط ليرى أمامه، فعلى ماذا شكرنا الله عزَّ وجلَّ على نعمة العينين؟ ﴿وَلِسَانًا﴾ لم يجعلك كالأخرس المسكين فلا امرأته ولا هو ولا النَّاس، فمرةً يُخطئون ومرةً لا أدري ماذا؟ إلى آخره..

التمييز بين الخير والشر:
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ النجدان هما الخير والشر، فعرَّفك بالخير أنَّه خيرٌ وبالشر أنَّه شر؛ فحتَّى القط يعرف الحلال مِنَ الحرام فإذا خطف اللحم مِنَ السفرة أو من الطاولة فأين يأكلها؟ فوراً إلى السطح فيعرف نفسه مجرماً، ويعرف نفسه بأنَّه تلزمه عدة ضربات بالعصي، وإنْ ناولته اللحم بيدك فأين يأكلها؟ يجانبك وحتَّى لو دفعته، فسيقول لك لا هذه حلال، ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ وهناك تفسيرٌ بأنَّ النجدين هما الثديان؛ لأنَّك عندما تولد من بطن أمك فمن الذي علَّمك الرضاعة؟ وإنْ وضعنا فمه على أنف أمه هل سيرضع أو على أذن أمه أيضاً؟ ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ فهل عرفنا هذا الإله هذا الرحيم وهذا العظيم وهذا الصانع وهذا الخالق هل عرفنا قيمة كلامه ووصاياه وأوامره وقرآنه ورسالاته، لماذا ليعمل مِنْ وراءنا جبةً أم ليكون له سرايا:

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
[سورة آل عمران]

يقول الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي:

{ يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ، فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ }

[صحيح مسلم]

(فمَن وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ) الذي وفَّقه الله عزَّ وجلَّ وسهَّل أمامه الطرق، (وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ) نفسه خبيثةٌ وحقيرةٌ تافهة (فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ) (18).

خلق الله للإنسان قوة ليقوم بفعل الخير ويحرص عليه:
﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ كلُّ هذه النعم وكلُّ هذه العاطاءت.. الله عزَّ وجلَّ هو الأستاذ والله عزَّ وجلَّ هو المُعلِّم والله عزَّ وجلَّ هو المربِّي، ونابَ عنه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وبعد النَّبيِّ النبي أناب عنه الورَثة مِنَ العلماء العابدين، قال لماذا؟ قال الغاية لتقتحِمَ العقبة، ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ أعطيناه قوةً ليُكابد الشدائد وصعوبات وأزمات الحياة ليقتحم العقبة، وما هي العقبة؟ الطريق الوعر في صعود الجبال، قال يلزمها صراع مع النفس الأمارة بالسوء، النفس تهوى وتتمنى فيأتي الإيمان ويقوّي إرادة الخير ويقوي إرادة العزم على الشيء النافع والمسعِد، هلا اقتحم العقبة، بعدما علَّمك يدفعك ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾ قال تعالى: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾:

{ جاء أَعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، قال: عَلِّمْني عَمَلًا يُدخِلُني الجنَّةَ، قال: لَئِن كُنتَ أَقصَرتَ الخُطبةَ لَقد أَعرَضْتَ المَسألةَ: أعتِقْ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرَّقبَةَ، قال: أَوَلَيسا واحدًا؟! قال: لا، عِتقُ النَّسَمةِ أنْ تُفرَدَ بِعِتقِها، وفَكُّ الرَّقبةِ أن تُعينَ في ثَمنِها، والمِنحةُ الوَكوفُ، والفَيءُ على ذي الرَّحمِ الظَّالمِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلكَ فأَطعِمِ الجائِعَ، واسْقِ الظَّمآنَ، وأْمُرْ بِالمَعروفِ، وانْهَ عنِ المُنكَرِ، فإن لَم تُطِقْ ذلكَ فكُفَّ لِسانَك إلَّا مِن خيرٍ }

[صحيح الألباني]

(عَلِّمْني عَمَلًا يُدخِلُني الجنَّةَ) هذا البدوي يبحث عن ماذا؟ يبحث عن الجنة، ونحن نبحث عن ماذا؟ أين سنسهر وأين سنأكل وماذا سنشرب، وماذا كذا.. هذا الشيء مِنَ المباحات، أمَّا كان همُّ البدوي وثقافته أين؟ هل تُهمُّنا الجنة، وهل نسأل: دُلَّنا على عملٍ يُدخلنا الجنة، ليلاً ونهاراً وصبحاً ومساءً كذا يُدخلنا الجنة، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (أعتِقْ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرَّقبَةَ، قال: أَوَلَيسا واحدًا؟! قال: لا، عِتقُ النَّسَمةِ أنْ تُفرَدَ بِعِتقِها، وفَكُّ الرَّقبةِ أن تُعينَ في ثَمنِها، والمِنحةُ الوَكوفُ) إذا كان لديك بقرةٌ كثيرة الحليب فأعطها لفقيرٍ شهراً أو شهرين ليستفيد من حليبها وتبقى البقرة لك ثمَّ تسترجعها، (والفَيءُ على ذي الرَّحمِ الظَّالمِ) إذا كان لك قريبٌ لئيمٌ حقيرٌ تُحسِنُ له وهو يُسيء وتعطيه ويُنكر مثل القطط يأكل، ولكنْ والله ليس كلُّ القطط، والله أنا لدي قطةٌ في المزرعة بمجرد أنْ تراني تركض إليَّ ولا تُفارقني وإنْ أتى وقت الطعام يجلبون لها غدائها، يعني هناك أناسٌ قططهم أفضل منهم وكلابهم أفضل منهم، فلا يوجد أعظَم مِنَ الكلب في شكر إحسان مِنْ يُحسِن إليه، ويوجد أناسٌ أحقر مِنَ الكلاب فمهما أحسنت إليه تجده ناكراً حاقداً وحاسداً لئيماً ومؤذياً فهذا إنسانٌ والله الكلب أفضل منه وبمئة ألف مرة، ويوجد كتيّبٌ اسمه فضل الكلاب على مَنْ تجمَّل بالثياب يذكر بضعة القصص عن الكلاب ووفائهم إلى آخره..

الشكر على المعروف:
قال: (والفَيءُ على ذي الرَّحمِ) (19) أنت تُحسِنُ له وهو: ماذا عملت معي؟ ينسى كل ما عمِلته معه، ولو أحسنت إليه طوال حياته؛ مع أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ مَنْ أُتِيَ إليهِ معروفٌ فلِيكافئَ بهِ ، و مَنْ لمْ يستطعْ فلِيذكرْهُ ، فإنَّ مَنْ ذكرَهُ فقد شكرَهُ، و مَنْ كَتَمَهُ فقد كَفَرَهُ }

[سنن أبي داوود]

(مَنْ أُتِيَ إليهِ معروفٌ فلِيكافئَ بهِ، ومَنْ لمْ يستطعْ فلِيذكرْهُ) إنْ لم تستطع أنْ تُكافئه، بمعروفٍ مقابل معروفٍ فاذكره للناس وقل فلانٌ أحسَن إليَّ وأكثر الله عزَّ وجلَّ خيره ساعدني ويُعينني (إنَّ مَنْ ذكرَهُ فقد شكرَهُ، و مَنْ كَتَمَهُ فقد كَفَرَهُ) (20).

وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
[سورة لقمان]

ولكلِّ مُحسِن.

فعل الخير قدر الاستطاعة:
فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (والفَيءُ على ذي الرَّحمِ الظَّالمِ) لأنَّ هذه ليس فيها حظ نفس، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يرزقنا محاسن الأخلاق ويحمينا مِنَ الحساد والجاحدين واللئام، قال: (فإنْ لم تُطِقْ ذلكَ فأَطعِمِ الجائِعَ) ألا تريد الجنة؟ لن تدخل الجنة بالمجان، العتق عتق الرقاب والقضاء على الرق، وبعد ذلك مساعدة الفقير ومحاربة الفقر ولو كان الفقير لئيماً يُكافئ الحسنة بالسيئة فليكن عملك لله عزَّ وجلَّ، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (فإنْ لم تُطِقْ ذلكَ فأَطعِمِ الجائِعَ، واسْقِ الظَّمآنَ) بما للماء مِنْ قيمة، (وأْمُرْ بِالمَعروفِ) إنْ رأيت شخصاً تاركاً لواجبٍ ففرضٌ عليك أنْ تُذكِّره، فقل له أخي هذا فرضٌ وأنت مسلمٌ والإسلام هو الاستجابة فإذا لم تستجب لأمر الله عزَّ وجلَّ ولم تُنفِّذ أوامر الله عزَّ وجلَّ ستكون قد خرجت مِنَ الإسلام، وبالأسلوب الذي يتناسب مع كلِّ إنسانٍ بما يناسبه، (وأْمُرْ بِالمَعروفِ، وانْهَ عنِ المُنكَرِ، فإن لَم تُطِقْ ذلكَ) لا تستطيع عليها لا عتقاً ولا مساعدةَ الفقير ولا إطعام الجائع ولا تسقي الظمآن ولا تأمر بالمعروف، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: (فإن لَم تُطِقْ ذلكَ فكُفَّ لِسانَك إلَّا مِن خيرٍ)(21)فلا تؤذي النَّاس بلسانك، يوجد أناسٌ لسانهم مثل المقص بطالٌ لا يُشغِّل يده ولا يُشغِّل رجله ولا يُشغِّل جسده في الإنتاج بل يُشغِّل لسانه بأعراض النَّاس وبذكر عيوب النَّاس وفيه مِنَ العيوب ما يلزم معها عشر إذاعات لتشمل وتستغرق عيوبه، فقال: (فكُفَّ لِسانَك) هذا البدوي يركض وراء الثقافة الإسلامية لئلا يكون أميّاً في إسلامه، هذا البدوي الذي كان مِنْ أشراف النَّاس كيف كان حرصه على تفقهه في دينه، والآن أين هم المسلمون؟

الدعوة إلى التكافل الاجتماعي:
هذه سورة البلد: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ وقت المجاعة ﴿يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ الأرحام مُقدَّمون على البعيدين، ﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعمل هذا العمل لا يبتغي به إلَّا الدافع القرآني وابتغاء وجه الله عزَّ وجلَّ، لا ليُحمَد ولا ليُذكَر ولا ليُقابَل بالمثل ولا لأي هدفٍ إلَّا "إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي".

الوصية بالصبر وبالمرحمة:
﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ لأنَّ ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ فماذا تلزم المكابدة؟ يلزمها صمود ويلزمها صبر، ماذا؟ أما والله نريد أنْ ننزل إلى المكابدة ثمَّ تمشي خطوتين أو ثلاثة والله لست بمتفرغٍ والله مشغولٍ والله متعبٍ هذا إنسانٌ مِنَ النخالة وإنسانٌ مِنَ كرتون، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ الصمود والثبات على المبدأ الإلهي وعلى منهاج القرآن وعلى منهاج الوحي وعلى تعاليم النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ أنْ يكون رحيمًا:

{ قالوا : كلُّنا رحيمٌ ، قال : إنه ليس رحمةَ أحدِكم أصحابَه ولكنَّها رحمةُ العامةِ (22) }

[الضعفاء الكبير للعقيلي]

ووَرَدَ في الأثَر حديثٌ يقول: ((رجل في النَّار ينادي: يا حنان يا منان، نجِّني مِنَ النَّار، ويُنادي وصراخ، ويسيل دهن جسده))، وتشتغل ولولته إلى آخره.. ((إلى أنْ يأتيه الإذن الإلهي، فيأمر الله عزَّ وجلَّ بإخراجه ويوقفه بين يديه، ولا يُخاطبه)) فانظر إذاً ساعةً أو يوماً أو عشرة أيام، أو خمسين يوماً، يقول ((حتَّى يجهد من التعب، فيقول يا رب ارحمني هذا اليوم، سأموت وأنا واقف، فيقول الله له، هل رحمت أحداً مِنْ خلقي مِنْ أجلي)) ماذا ما هو يا مطيع؟ ((أحداً مِنْ خلقي مِنْ أجلي؛ حتَّى أرحمك اليوم؟)).

{ الرَّاحمونَ يرحمُهُمُ الرَّحمنُ (23) }

[سنن أبي داود]

يقول فكان أصحاب رسول الله بهذا الحديث، إذا رأوا طيراً في قفص يشترونه ويطلقوه رحمةً به وعملاً بهذا الحديث، قال بعد كل هذه الأعمال ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ رأى شخصاً في مصيبةٍ أو دخل في عملٍ ويريد أنْ يتراجع فيشدُّ همَّته ويشدُّ عزيمته، هذا مع الآخرين أمَّا هو صابرٌ ويُعلِّم النَّاس الصبر، فيا تُرى هل قرأتم أنتم هذه السورة؟ كم مرةً قرأتموها، فيا تُرى هل فكرتم أنْ تفهموا معانيها؟ حسناً وإنْ فهمتم معانيها، فهل فكَّرتم أنْ تعملوا بها؟ وإذا عملتم بها فهل فكرتم أنْ تُعلِّموها للآخرين؟

هذه الأمور ينبغي تعلمها وتعليمها:
هذا هو الإسلام، أنْ تتعلَّم وتعمل ثمَّ تُعلِّم، ترجع إلى بيتك وتُعلِّمهم سورة البلد وترسل وراء جيرانك على كأس شاي، هذا فرض، وكان يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ألا أخبرُكُم بالأجوَدِ الأجوَدِ اللَّهُ الأجَودُ الأجوَدُ وأنا أجوَدُ بني آدمَ وأجوَدُهم من بعدي رجلٌ علمَ علمًا فنشرَ عِلمَه يبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً وحدَهُ (24) }

[مسند أبي يعلى]

﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ لا يرحم فقط بل يُعلِّم النَّاس أنْ يتراحموا ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ أولئك أصحاب اليُمن والبركة والخير والميامين في النَّاس، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ أولئك المشؤمون المنحوسون، ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾ جهنم، يُطبقون الأبواب عليهم فيصرخون ولا مُغيث.

تطبيق السورة:
اللَّهم اجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، فهل تُعاهدوني أنْ تُعلِّموا سورة البلد، وتُعاهدوني أنْ تكونوا مِنْ أهل هذه البلد، وتُعاهدوني أنْ تكونوا الوالِد وما ولد، الذين أقسم الله عزَّ وجلَّ بهما؟ والوالد إبليس وأولاده؛ أم الوالِد إبراهيم وأولاده إسماعيل وإسحق عليهم السَّلام؟ الوالد آدم أبو إبراهيم ونوح عليهما السَّلام، ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُوفِّقنا، وأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يتوب علينا، نسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يغفر لنا، ونسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُكثر لنا المطر، ونسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُكثِر لنا المطر مطر الزرع، ومطر الإيمان ومطر العقل، ومطر الحكمة ومطر العِلم، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى آله وصحبه وسلَّم والحمد لله رب العالمين.

الهوامش:
(1) سنن التِّرمذيِّ في كتاب المناقب، باب في فضل مكَّة، رقم: (3926).
(2) سنن ابن ماجه، افتتاح الكتاب بالإيمان: باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (224)، «طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب»، و أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/254، رقم 1667) وأخرجه الطبراني في الأوسط (8/258، رقم 8567).
(3) مسند الفردوس للديلمي، (3/419).
(4) كشف الخفاء، (2/74).
(5) سنن الترمذي، أبواب النكاح، باب ما جاء في إذا جاءكم من ترضون دينه، رقم: (1084)، سنن ابن ماجه، كتاب النكاح، باب الأكفاء، رقم: (1967).
(6) سنن النسائي، كتاب الطهارة: النهي عن الاستطابة بالروث، رقم: (40)، مسند أحمد، رقم: (7409)، (12/372).
(7) حلية الأولياء، (9/279).
(8) مسند أحمد، رقم: (15646)، (24/404)، المعجم الكبير للطبراني، رقم: (432)، (20/193).
(9) المعجم الأوسط، الطبراني، رقم: (6451)، (6/293)، الشكر لابن أبي الدنيا، رقم: (2)، (1/6). مسند أبي يعلى الموصلي، رقم: (3405)، (6/131).
(10) المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (6627)، (6/365).
(11) المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (6744)، (7/25)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (6148)، (8/503).
(12) رواه مسلم، كتاب الذِّكر والدُّعاء والتَّوبة والاستغفار، باب التَّعوُّذ من شرِّ ما عُمل وشرِّ ما لم يُعمل، رقم (2722).
(13) سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223). وأبو داود، أول كتاب العلم، باب: الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641). والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682).
(14) مسند الشهاب، رقم: (672)، (1/393).
(15) المعجم الأوسط للطبراني، رقم: (8934)، وضعَّفه الشَّوكانيّ.
(16) أخرجه الحاكم، رقم: (7923)، (4/ 361).
(17) سنن ابن ماجه، كتاب النكاح: باب الأكفاء، رقم: (1968).
(18) صحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب: تحريم الظلم، رقم (55-2577)..
(19) سبق تخريجه.
(20) سنن أبي داود، كتاب الزّكاة، باب عطية من سأل بالله، رقم: (1672).
(21)
(22) الضعفاء الكبير للعقيلي، (4/425)، والديلمي في الفردوس، رقم: (1607)، (1/398).
(23) سنن أبي داود، كتاب الأدب: باب في الرحمة، رقم: (4941).
(24) مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176).