تفسير سورة الليل

  • 1996-02-09

تفسير سورة الليل

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصَّلوات وأعطر التحيات على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّد سيِّد ولد آدم والمبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهِرين، وعلى مَنْ تبعَهُم بإحسانٍ وعمِلَ بعملِهم إلى يوم الدين، وبعد:

القسم بالليل:
فنحن في تفسير سورة الليل، يقول الله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ هذه الواو للحَلف ولليمين، فعندما يُريد الإنسان أنْ يحلِفَ يستخدم الواو، فيقول: واللهِ، الواو هذا حرف قَسم ﴿وَاللَّيْلِ﴾ يعني أحلِفُ بالليل، مَنْ الحالِف؟ هو رب العالمين، أحلِفُ وأُقسِمُ: مَنْ الحالِف؟ الله عزَّ وجلَّ، ومَنْ المحلُوف له؟ الإنسان، الحالِف الله عزَّ وجلَّ، فعندما تحلِفُ أمام إنسانٍ فهذا دليلٌ على أنك تُكرِّمُه تكريماً وتعمل له قدراً وقيمةً واهتماماً، فكان يكفي أنْ لا يحلِفَ لنا الله عزَّ وجلَّ؛ بل أن يأمُرنا وينهانا، والذي لا يمتثل فعقابه وجزاؤه عليه؛ ولكنْ مِنْ حنانه ورحمته وحكمته وعنايته بهذا الإنسان الذي جعَله خليفةً له في هذا الكوكب، ليُعمِّره الإنسان بالعِلم وبالحكمة وبما يُحقق للإنسان سعادته، فأرسَل له رئيس ملائكته جبريل عليه السَّلام روح القدس، وجعل مِنْ قلوب الأنبياء صحائف يكتُبُ الوحيُ فيها البرنامجَ الذي يصنَعُ الإنسان الفاضل، يصنعه بمادة العِلم وبمادة المعرفة وبمادة الحكمة، استعمال العقل والفكر بكلِّ طاقاته وإمكاناته ثمَّ وضَع له برنامجاً وهيَّأ له الوسائل لتزكية نفسه، ولينقُلَه مِنْ صفات الحيوان الذي لا يعرف إلَّا الجسد ومتطلباته:

ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
[سورة الحجر]

(وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) عن مرتبتِهِم الإنسانية، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) يعني بأنَّهم خاطِئون وجاهِلوا الحقيقة، ويُباعدون أنفسهم عن السعادة، فأقسَم لهم وهو الصادق المصدَّق فمَنْ هو ومَنْ نحن؟

رحمة الله عزَّ وجلَّ بخلقه:
ولكنْ عندما نعلم عن طريق نبيِّنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم بأن الله عزَّ وجلَّ خلَقَ مئة رحمة، أودَع منها رحمةً واحدةً في هذه الدنيا؛ لتتراحَمَ بها مخلوقاته مِنْ إنسانٍ وحيوانٍ وغيرهما.. وادَّخر تسعاً وتسعين رحمةً إلى يوم القيامة، ويُضيف إليها رحمة الدنيا، إذًا يُعاملنا الله عزَّ وجلَّ بمنتهى رحمته ومحبَّته وهو أحنُّ بنا مِنْ حنان وعطف ورحمة الأم برضيعها.
مرَّ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مرةً في طريقه فرأى امرأةً تخبِزُ خبزها في تنُّورها، فأتت المرأة واعترضت طريق النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الشارع، تركت التنور وواجهت النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وجهاً لوجه ومعها رضيعها وطفلها، وخاطبت النَّبيَّ الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم مُسائِلةً: يا رسول الله أتُراني مُلقيةً رضيعي وولدي في هذا التنور؟ أيُمكن؟ قال: لا. قالت: فكيف يحرِقُ الله عزَّ وجلَّ عباده في الآخرة في جهنم؟ فما كان جواب النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بلِسانه ولا بكلماته؛ ولكنْ أجابها بدموع عينيه، لأنَّ شريعة الله عزَّ وجلَّ قائمةٌ على تربية الإنسان، وتربية الإنسان كما يُربِّي الوالد ولده، يُربِّيه بالترغيب وبالعطاء كما يُربِّيه بالتخويف وبالعقاب؛ أمَّا بأحد الشيئين دون الآخر فلا تتحقَّق التربية.

قسم الله عزَّ وجلَّ بمخلوقاته:
ومِنْ أسماء الله عزَّ وجلَّ: ربُّ العالمين، فالله عزَّ وجلَّ في سورة الليل يُخاطبنا: أيها الإنسان أحلِفُ لك وأُقسِمُ لك، إذا كنت لن تُصدِّقني إلَّا بالحَلف فسأحلِفُ لكَ يميناً ويمينين وثلاثةً وأربعةً.. ففي سورة الشَّمس كم يميناً حَلَفَ؟ سبعة أيمانٍ لنُصدِّقه؛ لأنَّ المكذبين لكلام الله عزَّ وجلَّ أكثر مِنَ المُصدِّقين، وماذا نحن؟ ماذا يُهمُّ الله عزَّ وجلَّ لو كنَّا موجودين أو لا وجود لنا؟ فماذا يُؤثر على الله عزَّ وجلَّ لو عصيناه وماذا يُفيده إذا أطعناه؟ فنعود ونقول: يقول الله تعالى:

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
[سورة العنكبوت]

أيها الإنسان أحلِفُ لك، أعوذ بالله يا ربِّي أنت الصادق المصدَّق وتحلِفُ لنا؟ يجب أنْ ندفِنَ أنفسنا في التراب لأنَّه لو لم يعلَم أنَّ في قلوبنا شكٌّ فيما يقول لما خاطبنا بهذا المنهاج الكلامي والنُّطقي؛ ومع ذلك، هذا الواقع: أُقسِمُ لكم بالليل.

القسم يكون بعظيم:
الليل يدلُّ على أنَّه شيءٌ عظيمٌ لأنَّ الإنسان لا يحلِفُ بالشيء الحقير، إذا كان شخصٌ يُريد أنْ يُخاطبك ويُثبت لك شيئاً مهمّاً، فهل سيحلف لك بالمكنسة ونحوِها، أو يحلِفُ لك بحذاء والدك؟ يحلِفُ لك بالشيء العظيم، وهذا العظيم مِنْ أي ناحية؟ قال الله تعالى:

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
[سورة الروم]

الدليل على وجود الله عزَّ وجلَّ ورحمته وعظَمَته:

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
[سورة غافر]

مِنَ الحركة والعمل والتعب.

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)
[سورة النبإ]

راحةً لأبدانكم مِنَ نَصَبِكُم وتعبِكُم في نهاركم، إلى جانب أمورٍ كثيرةٍ ليست موضوع بحثنا الآن، خلاصةً أُقسِمُ، لماذا؟ حتَّى ينتزِعَ مِنْ قلوب الإنسان الشكّ فيما يُعلِّمُنا وفيما يُخبرنا، أُقسِمُ بالليل ﴿إِذَا يَغْشَى﴾ حين يغشى ويُغطِّي نصف الأرض فينقلِبُ نورها إلى ظلام، ويرتاح الإنسان والحيوان والنباتات، ﴿وَالنَّهَارِ﴾ وأقسم بالنهار يُضيء لنا نصف الأرض بمصباح كهرباءٍ واحد، وجعلها كرويةً ودائريةً، ليكون الليل سكناً وراحةً وهدوءاً.

خلق الله عز وجل:

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
[سورة النبإ]

والنهار لنقوم إلى معايِشنا وتدبير أمورنا، فأُقسِمُ بالليل إذا يغشى ظلامه أرضكم وبالنهار وضيائه ﴿إِذَا تَجَلَّى﴾ وظهر على النصف الثاني مِنَ الكرة الأرضية، وهذا الليل شيءٌ عظيمٌ يحقُّ أنْ يُحلَف به لأجل أنْ تقنَعَ بكلام الله عزَّ وجلَّ بأنَّ الله عزَّ وجلَّ صادقٌ ولا يقول إلَّا الصدق.
﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ كذلك أحلِفُ لكم بخَلْقِي مِنَ القمح والشعير، يخلِقُ الله عزَّ وجلَّ مِنَ القمحة سنبلةً وسنابل، ويخلِقُ الله عزَّ وجلَّ مِنْ بذرة المشمش أشجاراً وأوراقاً وأزهاراً وثماراً، ومن الأغذية: مِنَ الفجل والبطاطا والكوسا واليقطين يخلِقُ غذاءً، يُحوِّله الجهاز الهضمي إلى دم، ويذهب الدم إلى الأعضاء وكلُّ عضوٍ يُحوِّل الدم إلى ما خصصه الله عزَّ وجلَّ به، فيذهب الدم إلى الخصيتين فتُحوِّل الخصيتان الدم إلى حيوانات منوية، ويذهب إلى المبيض في المرأة فتخلِقُ في المبيض البويضة مِنَ الكوسا واليقطين والفجل والبطاطا؛ ثمَّ عندما يلتقي الذكر والأنثى يتَّجه الحيوان المنوي مِنَ الرحم إلى الشارع الذي تأتي منه البويضة ليستقبِل عروسه، وتخرج البويضة مِنْ بيت أهلها مِنَ المبيض لتتجه نحو عريسها، والنُّطف والحيوانات بالملايين كلُّها مُتجهةٌ نحو قِبلتها، فمَنْ علَّمها ورسَم لها مخططها؟ ومَنْ أوجَدَها ومَنْ أوجد البويضة؟ هذا خلقٌ عظيم، فهل يستطيع كلُّ أهل الأرض أنْ يخلقوا حيواناً منويّاً واحداً؟ وأُقسِمُ بخلقي للذكر والأنثى ومِنْ معدنٍ واحد، خيراً يا ربي لماذا تحلِفُ لنا؟ لعلَّك تريد أنْ تُخبرنا بشيءٍ عظيمٍ لأنَّك تحلِفُ بشيءٍ عظيم؟

أعمال النَّاس في الدنيا مختلفة:
قال تعالى: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ أعمالكم في هذه الحياة مختلفة، فيتجه أناسٌ نحو الصناعة وأناسٌ نحو التجارة وأناسٌ نحو العِلم وأناسٌ نحو الجهل وأناس نحو البطالة، أناسٌ يعملون عمل الأشرار وأناسٌ يعملون عمل الأبرار إلى آخره.. أناسٌ بالسياسة وأناسٌ بالحروب؛ لكنْ كلُّ هذه المساعي التي لا تُحصى، تنحصِرُ في نهاية الأمر في سعيين وطريقين؛ طريق الإيمان وطريق الكفر، طريق معرفة الله عزَّ وجلَّ وشرعه وقوانينه أو الجهل بها أو محاربتها:

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
[سورة الانفطار]

ينقسمون في نهاية الأمر إلى أبرارٍ وأشرار، مؤمنين يعني مُصدِّقين الله عزَّ وجلَّ خالِقهم فيما أخبَرهم ويقبلون تعليمه فيما يُعلِّمُهم، وهل الذي خلقنا مِنَ العدم يُعلِّمنا ما يضرُّنا؟ الذي خَلَقَ لنا عالـماً اسمه الجنة التي:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
[سورة آل عمران]

فهل هذا الخالِق ولـمَّا أوجَدنا في الأرض في بطون أمهاتنا وأوجَد لنا كلَّ ما يُحقق وجودنا وما تتحقق به حياتنا على هذا الكوكب، فهل تكون تعاليمه فيها خطأ أو ضرر، وأوامره تكون عبثًا! كلُّ أوامره لسعادتنا، وما حرَّمه علينا لكي لا نشقَى.

ثمرة اتباع أوامر الله عزَّ وجلَّ:
فمَنْ اتَّبع مُخطط الله عزَّ وجلَّ كما كان المسلمون في مرحلتهم الأولى في زمن النبوة والقرن الأول من الإسلام، لـمَّا مشى العرب على مخطط الله عزَّ وجلَّ وعملوا بتعاليمه وحرَّموا ما حرَّم الله عزَّ وجلَّ وأدَّوا ما فرَضَ الله عزَّ وجلَّ في الدنيا بقطع النظر عن الآخرة، إذا فُرِض أنه لا توجد جنةٌ ولا نارٌ ولا آخرةٌ ولا حسابٌ ولا أي شيء، فهل مشيُهُم على منهاج الله عزَّ وجلَّ أسعَدَهُم أم أشقاهم، صاروا به جهلاء أم علماء، وصاروا به سعداء أم أشقياء وأذلاء أم أعِزاء، وموحَّدين أم متمزِّقين؟ توحَّدوا ثمَّ وحَّدوا الشعوب على اختلاف لغاتها وألوانها وعاداتها، جعلوهم:

{ مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحمّى }

[صحيح مسلم]

(كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له) وتنادى وتعاوَنَ مِنْ أجلِه (سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحمّى)(1).
هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فيقول الله تعالى:

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
[سورة السجدة]

(مَّا أُخْفِيَ لَهُم) مِنَ السعادات والنَّعيم (مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) الولَدُ البارُّ قرة عين والديه، يُخبئ الله عزَّ وجلَّ لنا شيئاً تقرُّ به أعيننا وتمتلئ بالسعادة به قلوبنا في الدار الآخرة.
فلو قرأنا التاريخ وحده بقطع النظر عن الآخرة، فبعد أنْ كانوا قبائل في البادية والصحارى وثنيين وخُرافيين ومُتقاتلين وجائعين ومُستَعمَرين، كان الخليج مستعمَرةً للفرس، وشمال الجزيرة العربية للرومان، وشمال أفريقيا للرومان، فأتى الإسلام فوحَّدهم أمةً واحدةً وحفِظَ لهم لغتهم أربعة عشر قرناً، ولولا القرآن الكريم لكانت اللهجات جعلت مِنَ اللغة العربية مئة لغة؛ كما حصل في اللغة اللاتينية إلى غير ذلك - وليس الحديث الآن عن تعدادٍ لفضائل القرآن الكريم والإسلام - فضلاً عن سعادة الأبد والخلود وفي دار الأبد والخلود.

الأعمال منحصرة بين التقوى والمعصية:
وأُقسِمُ لكم بخلقي للذكر والأنثى ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ﴾ انتبهوا: أنتم تعملون أعمالاً مختلفةً، وكلُّ أعمالكم وصناعاتكم وعلومكم واتجاهاتكم تنحصِرُ في شيئين، ففي الآخرة لن يبقى نجارٌ ولا صيدليٌّ ولا طبيبٌ ولا حدادٌ ولا طيَّانٌ ولا طيارٌ ولا كذا إلى آخره.. ننقسم إلى قسمين: القسم الأول ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)﴾ يعني صدَّق بالشريعة وبالقوانين الإلهية التي كلُّها حُسْنٌ وخيرٌ وسعادةٌ للإنسان وبما فيها الجنة، الجنة كذلك اسمها الحسنى:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة النحل]


جزاء الكريم المعطي:
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى﴾ أول ما بدأ بأنْ يعمل المجتمع على مكافحة الفقر، وأنْ يعمل على نقل المجتمع مِنْ فقرٍ إلى غنى، ومِنْ أخذٍ إلى عطاء ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى﴾ إذا أعطى الغني مِنْ مالِه ليُساعد الفقير، وإذا أعطى العالِم مِنْ عِلمه ليُعلِّم الجاهل، وإذا أعطى القوي مِنْ قوَّته ليُناصر الضعيف على ظالِمه ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى﴾ عطاء الخير والفكر والعِلم والغذاء والدواء، وكلُّ مساعدةٍ لكلِّ محتاج، فيا تُرى هذه أعلى وأقدر أم شريعة لينين وماركس؟ هذه موسكو بعد سبعين سنةً ظهَرَ أن التجربة فاشلةٌ وأُلقيَت في القمامة؛ أمَّا الإسلام ورسالة الله عزَّ وجلَّ ومبادئ السَّماء على ضعف المسلمين، ومع أننا لا نُمثِّلُ الإسلام بحقيقته وجوهره؛ ومع ذلك عظماء العلماء بمجرد الاطلاع عليه يتركون كلَّ عقيدةٍ ودينٍ كانوا عليه ويعتنقونه عن عِلمٍ ويقينٍ وتقبُّلِهِ مِنْ ألفه إلى يائه.
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى﴾ أول شيءٍ نصرة الإنسان الضعيف، أنْ نُساعده إنْ كان جاهلاً فنُعلِّمه:

{ طلبُ العِلم فَريضة (2) }

[سنن ابن ماجه]

على الجاهل، والتعليم فريضةٌ على العالِم، وفي الحديث النبوي:

{ ألا أخبرُكُم بالأجوَدِ الأجوَدِ اللَّهُ الأجَودُ الأجوَدُ وأنا أجوَدُ بني آدمَ وأجوَدُهم من بعدي رجلٌ علمَ علمًا فنشرَ عِلمَه يبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً وحدَهُ }

[مسند أبي يعلى]

(ألا أخبرُكُم بالأجوَدِ الأجوَدِ)(3) مَنْ أعطانا الشَّمس والقمر؟ مَنْ وضَعَ نظامهما ووضَعَ الطاقة على سيرهما في أفلاكهما؟ مَنْ يحْملها في هذا الفضاء، هل تستطيع أنْ تحمل وزناً معيناً لمدة ساعةٍ أو أربع وعشرين ساعةً بشكلٍ دائم؟ (اللَّهُ الأجَودُ) وهو المُعطي، أعطانا الحياة وكلَّ ما في الحياة ممَّا يُحقق سعادتنا ووجودنا، ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى﴾ ماذا يجب أنْ يُعطي الحاكم؟ العدل والإحسان إلى الرعية، وكلُّ إنسانٍ يجب أنْ يُعطي ممَّا عنده مِنَ الخير لمن هو بحاجةٍ إليه، قال: فمع اختلاف مساعيكم واهتماماتكم وركضكم وتعبكم والنَّصَب:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
[سورة البلد]

ومكابدةٍ إلى أنْ تنتهي القضية إلى نوعين وطريقين، ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى﴾ وأول ما بدأ بالعناية بالإنسان الضعيف الفقير المريض الغريب غير المواطن.

التقوى مع العطاء:
﴿وَاتَّقَى﴾ التقوى هي الامتثال والاستجابة لكلِّ أوامر الله عزَّ وجلَّ ونداءاته، والاجتناب والابتعاد والبعد عن كلِّ ما نَهَى وحرَّم الله عزَّ وجلَّ، وما فرَضَ الله عزَّ وجلَّ علينا شيئاً إلَّا لأنَّ سعادتنا لا تتحقق إلَّا بعمل ما أمَرَ الله عزَّ وجلَّ، وما حرَم علينا شيئاً إلَّا لأنَّه في النهاية - إنْ لم يكن في البداية - تحقق فيه شقاءنا وتعاستنا وتدميرنا أفراداً أو جماعاتٍ أو أمماً أو شعوباً، ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى﴾ يعني الذي يمشي على هدي الله عزَّ وجلَّ وقانونه، وهو أنْ يُعطي ممَّا أعطاه الله عزَّ وجلَّ لكلِّ مخلوقٍ هو بحاجةٍ إلى هذا العطاء، ﴿وَاتَّقَى﴾ ما هي التقوى؟ أنْ تستجيب لكلِّ أوامر الله عزَّ وجلَّ، وأنْ تنتهي وتبتعِدَ عن كلِّ ما نهى وحرَّم الله عزَّ وجلَّ.

التيسير لليسرى:
قال: ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ بالمكافأة الحسنى وبالقوانين الإلهية الحسنى وبالجنة الحسنى ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) ﴾ يعني للحياة اليسرى، فكلُّ حياته يُسرٌ وسعادةٌ وعزَّةٌ وانتصارٌ وتقدُّم، ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ هذا طريق السعادة وأعطانا الخريطة التي هيَ القرآن العظيم، وأرسل لنا المُعلِّم مِنْ مدرسته، ولا تحتاج مدرسته إلى معرفة للقراءة والكتابة:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)
[سورة الجمعة]

وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)
[سورة الشورى]

(مَا الْكِتَابُ) الكتابة (وَلَا الْإِيمَانُ) وشرائع الإسلام، أين كانت مدرسة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وجامعته؟ في المغارة، في غار حراء، ماذا في المغارة؟ هل يوجد جامعةٌ أمريكية أو جامعةٌ إنكليزية أو جامعةٌ فرنسية؟ خلا بربِّه وظلَّ اللوح والكتابة في قلبه يمحُو منْه ويُنظِّفه مِنْ أوساخه التي لا تقبَلُ الكتابة، حتَّى صَقَلَ روحه وصار مرآةً وتوجَّه بكليته إلى ربه حبّاً وعشقاً وذكراً ومجالسةً، أقبَلَ على الله عزَّ وجلَّ فأقبَلَ الله عزَّ وجلَّ عليه، ذَكَرَ الله عزَّ وجلَّ فذَكَره الله عزَّ وجلَّ:

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
[سورة البقرة]

أقبَلَ على الله عزَّ وجلَّ:

{ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً (4) }

[صحيح البخاري]

بماذا يُقبِلُ عليه؟ يُحيي روحه بروح الله عزَّ وجلَّ، ويُنِيرُ قلبه فيطرُدُ الظلمات التي تجعله كالأعمى لا يعرف كيف ينجو مِنَ السقوط في الآبار والوديان.
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى﴾ أعطى كلَّ ما يملكه لمن هو بحاجةٍ إليه، واتقى الله عزَّ وجلَّ في ظاهره وباطنه، في خلوته بنفسه وفي لقائه مع النَّاس.
﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ بالمكافأة والمثوبة والجنة، ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ﴾ في هذه الحياة للحياة اليُسرى:

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
[سورة الطلاق]

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
[سورة الطلاق]

فتتعلَّم الطب لكي تُؤمِّن خبزك ومستلزمات بيتك، أمَّا الحياة الأبدية مع هذه الحياة المؤقتة، إذا مشيت على طريق الله عزَّ وجلَّ ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.

ابتعاد الملحدين عن دين الله عزَّ وجلَّ:
العقل الإنساني بلا دين، ترك الملاحدة والشيوعيون طريق الله عزَّ وجلَّ وقد يكون لهم بعض العذر بإلحادهم بدين الله، دين الله الحقيقي لا يستطيع عقلٌ أنْ يُلحِدَ به في الدنيا أمَّا ما أُلحِد به مِنَ الدين فهو الدين المُغيَّر عن حقيقته، المحرَّف، عمامتي هذه بحقيقتها ذات لونٍ أبيض، فهل يُمكن لإنسانٍ في الدنيا له عينان أنْ يُلحِدَ ببياضها ويقول هي سوداءٌ أو خضراءٌ أو حمراء؟ فدين الله عزَّ وجلَّ في ظهوره للعقل بكماله وإسعاد المؤمن به أبلَغُ مِنْ ظهور البياض على هذه العمامة؛ لكنَّ المترجم الذي هو رجل الدين في كلِّ الأديان لا يُحسن الترجمة، سواء الترجمة الفكرية باللسان أو الترجمة القلبية والروحية في الأعمال والقلب والجنان.
لم أرَ مُلحداً في حياتي، ولقد التقيت بأكبر أكبر ملاحدة العالم، منهم الأمين العام للحزب الشيوعي وكان دائماً يقول لي: الإسلام الذي أسمعه منك أضعُه على رأسي، ورئيس اتحاد القوميات الأعلى في الكرملين بعد حوار ساعتين، كان الحوار: هل الله موجود؟ وآخر كلمة: هل الله موجود؟ فصمت ولم يستطع أنْ يقول لا، ولكنْ ذهب وفدٌ برلماني وفيه بعض إخواننا وألقى كلمة الوفد في الكرملين، فقال له: أشمُّ مِنْ كلامك رائحة مفتي سوريا، فقال له رئيس الوفد: هذا مِنْ إخوانه، يقول لي هذا الأخ: لمَّا ودَّعهم في المطار أخذ الأخ على حِدة وقال له في أذنه: قل للمفتي أنا مُؤمن.
مع نائب بريجينيف أيضاً في الكرملين حوارٌ استمر ساعةً، وآخر كلمةٍ انتهى بها المجلس قال لي: إذا كان الإسلام ما أسمعه منك فالإسلام شيءٌ حَسَن.

الإسلام هو دين الأنبياء جميعهم:
الإسلام هو دين المسيح عليه السَّلام، الإسلام هو الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ فهل كان المسيح عليه السَّلام مُتمرِّداً على أوامر الله عزَّ وجلَّ؟ سيِّدنا موسى عليه السَّلام كان مسلماً، لأنَّه كان مستجيباً لأوامر الله عزَّ وجلَّ، وسيِّدنا إبراهيم عليه السَّلام:

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
[سورة آل عمران]

ويقول الله تعالى في سورة البقرة:

أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
[سورة البقرة]

إبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام قال الله تعالى عنهما:

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
[سورة الصافات]

يعني استجابا لأمر الله عزَّ وجلَّ، فإذاً الإسلام هو اسمٌ وصفي، مثل نجار، يعني إنسانٌ موصوفٌ بعمل النجارة، وليس اسم عَلَمٍ مثل أحمد ومحمود وخالد، فمعنى مُسلم هو المُستجيب لأوامر الله عزَّ وجلَّ، فإذا قلنا عن هذا مُسلم ولم يكن مُستجيباً فكلامنا كذب، وإذا قال هو أنه مُسلم فمَنْ يدَّعي شيئاً ليس موجوداً فيه فهو منافق؛ لأنَّه يدعي وجود شيءٍ لا وجود له، يا تُرى الذين يُسمُّونهم مسلمين فهل هذا الاسم ينطبق عليهم تماماً؟ فيلزمنا تشميٌر وجَدٌّ للعلم، سواءً ما يُؤخَذُ مِنَ اللسان إلى الأذن وأعظَم منه ما يُؤخَذُ مِنَ القلب عن الله عزَّ وجلَّ.

نجاح الإسلام وفشل الشيوعية:

وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
[سورة البقرة]

مَنْ علَّم الأنبياء؟ مَنْ علَّم مُحمَّداً رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ لينين وستالين والشيوعية لم تدُمْ ولم تُعمَّر سبعين سنةً وبالحديد وبالنَّار وعلى الإسلام وما استطاعت أنْ تُحوِّل المسلم عن دينه، وأربعة عشر قرناً والإسلام كما يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ لَيَبْلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلَغَ اللَّيلُ والنَّهارُ (5) }

[مسند أحمد]

ما كان مصدره الأبدية والخلود فتُرافقه دائماً الأبدية والخلود.
نعود: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ في الدنيا صاروا ملوكاً وأغنياءَ، وقد كانوا مِنْ فقرهم يُجففون الدم ويأكلونه، وإذا ماتت الميتة يأكلونها، ولذلك قال الله تعالى:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)
[سورة المائدة]

فبعد ذلك الفقر ماذا صاروا؟ صارت مملكتهم مِنَ الهند إلى حدود فرنسا في أقلَّ مِنْ مئة سنة أمَّةً واحدةً ودولةً واحدةً وعقيدةً واحدةً.

إعراض البعض من المسلمين اليوم عن حقيقة الإسلام:
فيجب على العرب وغيرهم وعلى المسلمين وغيرهم أنْ يدرسوا الإسلام، ولكنْ دراسةً حرةً، ودراسةً تُوصل إلى فهم الإسلام بحقيقته، فلا يُحقق السَّلام ولا سعادة الإنسان إلَّا برنامج الله عزَّ وجلَّ وتعاليمه، فالآن أنتم وهذه الآيات هل تتقبَّلون وتُصدِّقُون يمين الله عزَّ وجلَّ؟ وتقولون أنت يا ألله صادق ولست كاذباً، وتحلِفُ لنا يميناً، ورغم اليمين لن نصدِّق! هل تصدقون الله عزَّ وجلَّ؟ وهل الله عزَّ وجلَّ صادق؟ نعم بأقوالكم، وإذا خرجت أعمالكم منافيةً لما أخبَرَ الله عزَّ وجلَّ فأنتم تقولون لله عزَّ وجلَّ أنت لست صادقاً! فلذلك نحن لن نكون ممَّن أعطى ولا ممَّن اتقى، ولن نكون ممَّن صدَّق بالشريعة الحسنى، وإذا يسَّرتنا لليسرى أو للعسرى فلا نُبالي ولانسأل، أليس الكثير مِنَ النَّاس هكذا؟ يسمعون كلام الله عزَّ وجلَّ فهل يستقرُّ شيءٌ مِنْ معانيه في القلوب، وهل يظهر في مرآة الأعمال والحياة والمعاملات؟
هذا دليل؛ إذا قال لك أحدهم: إنَّ لدغة الأفعى قاتلةٌ وقلت له: أجل أنت صادق، صدق الله العظيم، وبعدها وضعت إصبعك بين أنيابها؟ فلا تكونوا كالذين:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
[سورة المائدة]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
[سورة الأنفال]

ويُعزِّكُم ويرفَعُكُم.

جزاء البخيل المكذب:
﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ﴾ أعطاه الله عزَّ وجلَّ عطاءً مِنَ المال والجاه والحكم والقوَّة والعِلم؛ فيجب أنْ يُعطي ما يستطيع عطاءه: فيجب أنْ يُعلِّم مِنَ العِلم، ويجب أنْ يُساعد مِنَ المال، ومِنَ الحُكم أنْ يعدِل إلى آخره.. خاصةً العِلم والتعليم، قال الله تعالى:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
[سورة النحل]

قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (ألا أخبركم بالأجود؟ الله الأجود)، عند الله عزَّ وجلَّ عِلمٌ فهل أعطانا هذا العِلم؟ أعطانا بطريق الوحي وبطريق الأنبياء، أعطانا:

وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
[سورة إبراهيم]

ولكنْ إنْ رفَضَ أحدُهم عطاء الله عزَّ وجلَّ، يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ لَتَدْخُلُنَّ الجنةَ كلُّكُمْ إلَّا مَنْ أبى }

[صحيح البخاري]

(لَتَدْخُلُنَّ الجنةَ) مَنْ يقول هذا القول؟ النَّبيُ صلَّى الله عليه وسلَّم، فـ (كلُّكُمْ) هذه تشمل مَنْ؟ كلَّ بني الإنسان وبني آدم (لَتَدْخُلُنَّ الجنةَ كلُّكُمْ إلَّا مَنْ أبى)(6)، إذا أحضرنا للحمار طبقاً من الحلويات، تفضل، هل يقبَل؟ لا، وإذا أحضرنا له تِبناً؟ يقبَل، لماذا رفض الحلويات وأقبَلَ على التبن؟ لأنَّه حمار! وإذا رفض عطاء الله عزَّ وجلَّ وتعاليمه وقبِلَ عطاء الشيطان فالحمار خيرٌ منه، لأنَّه إذا رفض الحلويات لا يموت جوعاً بل يعيش بالتبن أمَّا الإنسان إذا عاش على الجهل بالله عزَّ وجلَّ وبدين الله:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)
[سورة طه]

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ﴾بما أعطاه الله عزَّ وجلَّ مِنْ نعَمِه على مَنْ هو بحاجةٍ إليها، العالِم يبخل بالتعليم، والتعليم فرضٌ والمُعلِّم يُعتبَر أمةً، (وأنا أجود بني آدم) هذا قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم (وأجوَدُهم مِنْ بعدي رجلٌ علِمَ علمًا فنَشرَ عِلمَه يبعثُ يومَ القيامةِ أمَّةً وحدَهُ)(7).

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
[سورة النحل]

ما هو معنى كلمة أمَّة؟ إبراهيم عليه السَّلام كان شخصاً واحداً، هل كان أمّة؟ إذًا فما معنى كلمة أمّة عندما تُطلَق على شخصٍ واحد؟ قال: الأمّة هو الرجل الأمّة، هو الذي يُعلِّم النَّاس الخير ويُعلِّمُهم شريعة الله عزَّ وجلَّ، هذا هو الأمّة.

الأمة لا تكون بالأماني:
ألا تريدون أنْ تكونوا أمةً؟ لكنْ هل تكون الأمَّة بالأماني، وهل ينقلب الجهل عِلماً؟ كيف يصبح الشخص صيدليّاً أو طياراً أو ضابطاً؟ كله:

وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39)
[سورة النجم]

قال الشيوعيون: الدين أفيون الشعوب، هم "أَفْيَنوا" وعندما استيقظوا رموا الشيوعية على في القمامة، أمَّا دين الله عزَّ وجلَّ: فمع كلِّ ما تبقى منه مِنْ أجزاءٍ بسيطةٍ لا يزال قائماً ومستمرّاً وسيعود إنْ شاء الله كما أخبَرَ رسول الله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم:

{ إن خِيَارَ أمتي أولُها وآخِرُها، وبين ذلك ثَبَجٌ أَعْوَجُ، لَيْسُوا مِنِّي، ولَسَتُ منهم (8) }

[شرح مشكل الآثار]

الثَّبَج يعني الوسط.

خيبة الكافر:
﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ﴾ بماله عن الفقراء، أو بخِلَ بعِلمه عن الجهلاء، وبخِلَ بقوَّته عن مناصرة الضعيف ﴿وَاسْتَغْنَى﴾ عن الله عزَّ وجلَّ وتعاليمه ووصاياه ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾ لا يُؤمن بالثواب ولا بالعطاء ولا بالآخرة ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ حياته كلُّها عسرٌ ومشاقٌّ وتعب، فنجد الفاسِق الكافر؛ لماذا الدول الآن أمريكا كم ملياراً في السنة تُنفِقه على السلاح؟ مئات المليارات مِنَ الدولارات تُنفقها على تسلحها، فهذا دليلٌ على أنَّها مٌطمئنةٌ أم خائفةٌ مِنَ الشرِّ والعدوان، شرُّ وعدوان مَنْ؟ عدوان الإنسان، هل هذه الصواريخ وقاذفات القنابل والدبابات للأفاعي والذئاب والسباع والنمور؟ هذه ضد الإنسان الوحش، ومع كلِّ هذا لا تُوقِفُ شرَّه وأذاه، دائماً يخاف الإنسان مِنَ الإنسان، هل تخافون مِنَ الإنسان أكثر أم مِنَ الأفعى؟ تُعامِلُ إنساناً لعشر سنوات أو لعشرين سنةً؛ ثمَّ تسنّحُ له فرصةٌ للدغِكَ فيلدغُكَ لدغةً ليس لها دواء، أمَّا لدغة الأفعى فلها دواء.

تحقق السَّلام بالإسلام:
فما الذي يُحقق الأمن والسَّلام؟ هو دين الله ولذلك سُمِّي الإسلام، الإسلام له اسمان: الإسلام بمعنى الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ، ويسمى بالسَّلام: اللهم أنت السَّلام، ومنك السَّلام، وإليك يعود السَّلام، ويُسمَّى بالسِّلم، السِّلم والسَّلام شيءٌ واحد:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208)
[سورة البقرة]

فتجد الإنسان مع الإنسان التَّقي الحقيقي: أمِّنه على مالِك وعلى عرضك وأسرارك فيحفظُها، فلا تظنَّ الإسلام أنْ تصلي وتصوم بالشكل الظاهر، الصَّلاة مدرسةٌ لتنهى عن الفحشاء والمنكر، والصوم علاوةً على أنَّه تركٌ للطعام في أوقاتٍ محددةٍ لأجل صحتك:

{ صُوموا تَصِحُّوا (9) }

[السلسلة الضعيفة للألباني]

وأضف إلى ذلك يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجَهْلَ، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ (10) }

[صحيح البخاري]


الإسلام عِلم يحتاج إلى مُعلِّم:
الإسلام عِلم، فهل تعلَّمت الإسلام؟ مَنْ مُعلِّمك؟ هل تأدَّبت بالإسلام؟ مَنْ هو مُؤدِّبك؟ ومَنْ هي مدرستك الإسلامية؟ ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى﴾ بخل بما أعطاه الله عزَّ وجلَّ، واستغنى عن تعاليمه وثقافته ووصاياه، ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾ لا يُؤمن بمكافأة الله عزَّ وجلَّ ولا بالأجر ولا بالثواب ولا بالجنة ولا بالعطاء الإلهي، ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ﴾ للحياة العُسرى، فهو دائماً في خوفٍ وذعرٍ وأمراض، يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ لم تظهرِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعْلِنُوا بها إلا فَشَا فيهمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضتْ في أسلافهم الذين مَضَوْا }

[سنن ابن ماجه]

(لم تظهرِ الفاحشةُ) يعني الزنا والشذوذ الجنسي وهو اللواطة (في قومٍ قطُّ حتى يُعْلِنُوا بها) تصبح جهراً وعلناً بلا حياءٍ ولا خجلٍ وبدون أي ملاحظة (إلا فَشَا فيهمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضتْ في أسلافهم الذين مَضَوْا)(11)، هذا الإيدز هل يأتي مِنَ الزواج الشرعي؟ وأمراضٌ وأمراضٌ إلى آخره..
﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى﴾ إذا وقَعَ في الردى وتردَّى في حفرة قبره فماذا يُفيده ماله الذي جمعه وتعب فيه وحرَصَ عليه ولم يُبالِ مِنْ حرامٍ أو مِنْ حلال ولم يؤدِّ حقوق الله عزَّ وجلَّ فيه؟ فماذا يُفيده إذا تردَّى ووقَعَ في حفرته ودخل في قبره؟ قال: لا يُفيده، قال تعالى: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ﴾ حين يتردَّى وحين يسقط في القبر.

الله تعالى تولى هدايتنا وبيان الحق لنا:
﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ مِنْ حقكم؛ ولا حقَّ لمخلوقٍ على خالِق، لكنَّ هذا مِنْ تمام رحمته، وهو يُخاطبنا باللغة التي نفهمها، ﴿لَلْهُدَى﴾ نحن علينا أنْ نُبيِّنَ لكم طريق السعادة مِنْ طريق الشقاوة، طريق الأمن والسَّلام مِنْ طريق العذاب والهوان، وقد بيَّن الله عزَّ وجلَّ في قرآنه لما اهتدى به العرب كانوا مِنْ سعداء الأرض والسَّماء، كانوا مِنْ أعزِّ أهل الدنيا، نبشوا علوم الأولين مِنَ الشرق والغرب ونمَّوها ووسعوها، وعنهم أخذت أوروبا العلوم التي يُسمُّونها علوم الحياة أو العلوم العصرية أو إلى آخره.. لأنَّهم فهموا الإسلام ديناً ودنيا، فهموا الإسلام عقلاً وقلباً وعِلماً وإيماناً.
﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ فهذه الكمبيالية التي فرضها الله عزَّ وجلَّ على نفسه هل أدَّاها لنا؟

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
[سورة الفاتحة]

هذه أول سُوَر القرآن الكريم، هذا طلب استدعاءٍ مِنَ الإنسان، أجابه الله عزَّ وجلَّ عليها في السورة التي بعدها سورة البقرة:

الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)
[سورة البقرة]

(الم) ألا تريدون الهدى إلى الصراط المستقيم؟ تفضلوا (لِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) كلُّه صدقٌ (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)، طلبتم مني الهدى تفضلوا هذا هو الهدى، تمشون في الظلمات فطلبتم نوراً يُضيء الطريق أمامكم لكي لا تقعوا في الآبار والحفر فتفضلوا هذا هو الهدى، يا تُرى هل قبِلْنا الهدى؟ منهم مَنْ تقبَّل ربعه أو ثُمُنه أو عشره أو نصف عشره، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يُحيي فينا عقل الإيمان وعقل القرآن الكريم.

على الله عزَّ وجلَّ أنْ يهديك وعليك أنْ تهتدي:
﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ شيءٌ على الله عزَّ وجلَّ وشيءٌ عليك أيها الإنسان، على الله عزَّ وجلَّ أن يٌعلِّمك وعليك أنْ تتعلَّم، على الله عزَّ وجلَّ أنْ يهديك وعليك أنْ تهتدي، يُقال بأنَّ مُتسولاً وقَع في حفرةِ كنيف وأتى النَّاس ليُنقذوه، فيقولون له: هاتِ يدك فلا يفعل ويكاد يختنق في ذلك البئر وتلك القاذورات، وتحيَّروا بسبب عدم إعطائهم يده ليُنقذوه ولا يدرون أنَّه متسول، فأتى شخصٌ يعرفه أنَّه متسوِّل فقال: هذا لا يفهم بتلك اللغة ولا يعلِم كلمة هات؛ وإنَّما يعلم كلمة خُذ، قولوا له: خُذ يدنا فيُعطيكم يده. فقالوا له: خُذ يدنا فمدَّ لهم يده.
أيضاً يوجد أناسٌ لا يفهمون إلَّا مصلحة الجسد الفاني المنعدم بعد قليل؛ أمَّا لغة البقاء ولغة الروح ولغة الخلود فلا يفهمها، فهذا يحتاج إلى المُعلِّم وإلى الطبيب والحكيم:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[سورة البقرة]

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) العِلم (وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ).
﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ اللهم آتِ نفوسنا تقواها، هذا طلبٌ منك، فالطلب القولي مثل سكة القطار: القطار لا يمشي على خطٍ واحدٍ بل يجب أنْ يكون معه خطٌ ثانٍ وعند ذلك يمشي القطار، كذلك الدعاء طلبٌ قولي، فالطلب القولي إذا لم يُضمَّ إليه الطلب العملي؛ تطلب مِنَ الله عزَّ وجلَّ الولَد بالدعاء: اللهم ارزقني ولداً يقول الله عزَّ وجلَّ لك: اذهب فتزوج واطلب الولد بالعمل أيضاً وأنا أرزقك الولد، اللهم ارزقنا قمحاً هذا دعاء الطلب، يقول الله عزَّ وجلَّ لك: أعطيتك البذار والمحراث فاحرُث الأرض وألقِ البذار، فعمل كل المسلمين الآن بتمديد الخط الأول مِنْ هنا إلى الهند خطٌ واحدٌ وسكةٌ واحدةٌ لا يوجد إلى جانبه خطٌ ثانٍ، فهذا الخط كم ألف كيلو مترٍ يمشي بك القطار؟ يبقى مكانه، لذلك الدعاء لا يكفي، والمشايخ ما شاء الله مُتقنون للدعاء: اللهم واللهم، اللهم ارزقني ولداً لكنْ لا أريد منك زوجةً، اللهم ارزقنا منك نصراً لكنْ لا نُعِدُّ العُدَّة كما أمرتنا:

وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
[سورة الأنفال]

نريد عِزَّةً لكنْ لا نسلُك طريقها، الدعاء وحده لا يكفي، أتى رجلٌ إلى سيِّدنا عمر رضي الله عنه فقال له: مرضت جمالي فادعُ الله أنْ يشفيها، قال له: اجعل مع الدعاء قطراناً، القطران هو الدواء، فالمسلمون دائماً: اللهم، قُم تحرك! لماذا خلق الله عزَّ وجلَّ لك أقداماً؟ مِنْ أجل أنْ تقعد؟ وعيوناً لترى الطريق، وآذاناً لتسمع، إذا سمعت القطار وأنت تمشي على السكة لكي تتجنب المشي على السكة إلى آخره..

سعادة البشر في القرآن:
﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ فهل يوجد شيءٌ ممَّا يُحقق سعادة الإنسان أهمَلَهُ القرآن؟

وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
[سورة النحل]

(وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) الحياة الحسَنَة (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
[سورة الحجر]

(لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا) العمَل وأحسنوا العِلم والأخلاق والسلوك (فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) هنيئاً لمن تكون الدار جنَّته (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) إلى آخره..
﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ﴾ نحن نملك الآخرة مقرُّكم النهائي في عالَم السماء وهو الجنة ﴿وَالْأُولَى﴾ فالدنيا في يدنا والآخرة في يدنا، فما دام الشيء بيدنا وعبَّدنا لكم الطريق للدنيا لتكونوا سعداء فيها وللجنة لتكونوا سعداء فيها، فماذا بقيَ على الله عزَّ وجلَّ؟

أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
[سورة البلد]

﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ وقد هدانا، قال:

ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)
[سورة البقرة]

(ذلِكَ الْكِتَابُ) الظلام دامسٌ ولا نرى الطريق نريد نوراً، تفضلوا (لَا رَيْبَ فِيهِ) لا شكَّ في صحته، (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) عندما تسمعون أنتم الذين في المسجد، أو الذين سيسمعون كلامي بعد ذلك، هل تقرؤون القرآن للفهم والعِلم؟ للعِلم والعمل؟ للعِلم والتعليم؟ هكذا كان المسلمون في زمن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهكذا القرآن أمرنا أنْ نقرأه لنعْلَمَه ونعمَل بِه ونُعلِّمه للآخرين، ومَنْ قرأه للعِلم والعمَل والتعليم يصير أمّةً كإبراهيم عليه السَّلام، ومَنْ هو الأمّة؟ هو الإنسان الذي يُعلِّم النَّاس الخير الذي هو الدين ويُحذِّرهم مَنْ الشر، ويُعلِّمُهم أمور دينهم، فالمرأة المُعلِّمة العاملة هي أمّة، والشاب ولو كان حداداً يتعلَّم ويُعلِّم فهو أمّة، ويوجد أناسٌ ربما:

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
[سورة الحجر]

(إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ) دابة قال: لا ليس كالأنعام (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) أحقر وأصغر مِنَ الأنعام، الثور والبقرة والتيس والنعجة مِنَ الأنعام، قال: يوجد أناسٌ مثل التيس والنعجة ومثل الثور والبقرة، ويوجد أناسٌ أضلُّ وأحقر وأصغر، كالفأر، فالفأر يأكل ويشرب ولا يوجد فأرٌ منزله بالأجرة! إذًا فهو سعيدٌ أكثر منك فليس عنده بيتٌ ولا يتحمَّل هم القسط والمؤجر وإلى آخره.. ودائمًا يأكل وصحته جيدة ولا يحتاج إلى الطبيب ولا للمستشفى، وأعطاه الله عزَّ وجلَّ مِنَ الأجهزة المناعية ما يحفَظُ عليه صحته.

لنكن ممن وصفهم الله تعالى بأنهم خير أمّة:
فلا نكنْ كمن وصفهم الله عزَّ وجلَّ، لنكن:

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
[سورة آل عمران]

ليكُنْ أحدنا أمّة، يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ صَوْتٌ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ فِئَةٍ (12) }

[مسند أحمد]

الإسلام يجعل الواحد بألف رجل، ويجعل الواحدَ أمّةً، والآن الأمم الإسلامية لا تُمثِّل شيئاً، منظمة المؤتمر الإسلامي خمسون دولةً إسلامية ويزيد ماذا فعلوا ليُعيدوا الفلسطينيين إلى أوطانهم ومساقط رؤوسهم؟ فضاع النَّاس بين رجُل دينٍ لا يُحسِنُ فهم الدين وتفهيمه، وبين إنسانٍ مغرورٍ بشهادةٍ لا تَصلُحُ إلَّا كلاصقٍ على الجدار، وكل ما يترجَّى منها أنْ يعيش بجسده وبدنه ككلِّ حيوانٍ مخلوقٍ على هذه الأرض، أمَّا الإسلام بمعناه العِلمي والعملي والتعليمي، فهو الإنسان الكامل الفاضل العالِم الأخلاقي الملائكي السَّماوي الأرضي، لكنَّ الأزمة أين نجد هذا المُعلِّم الذي يُعلِّم هذا الإسلام؟ فجِدوا واجتهدوا، الصحابة رضي الله عنهم لم يدخلوا مدارسَ ولا حصلوا على شهادات، فإذا لم يحصل أحدكم على شهادةٍ فلا تزال مدارس الإسلام موجودة، وإذا نالَ شهادةً تكون:

۞ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
[سورة النور]

هذا مِنْ أمور الدنيا، الإسلام حثَّ على الدنيا أم نهى عنها؟

الجمع بين الدنيا والآخرة:
حثَّ:

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
[سورة القصص]

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

﴿وَإِنَّ لَنَا﴾ الدنيا في يدنا والآخرة في يدنا، لا نعطي الدنيا إلَّا لمن يمشي على قانونها، فأنزلنا لكم قانون الدنيا وأنزلنا لكم قانون الآخرة، وهذا التاريخ اسألوه: مَنْ مشى على مخططنا هل أعطيناه الأولى؟ ماذا؟ المال: زحَفَت قناطير وخزائن الذهب والفضة على أقدامهم، القوَّة: كانوا أقوى أمم أهل الأرض، العِلم: كانوا أعلَمَ أهل الأرض، قبل الإسلام كانوا إذا أشكَلَ على أحدهم شيءٌ يسأل الصنم والحجر: ما رأيك أيُّها الصنم؟ أريد أنْ أزوِّجَ ابنتي فما رأيك هل أزوِّجُها أم لا؟ أريد أنْ أسافر، فيسأل الغراب، يخرج خارج البلد فإذا رأى غراباً يضربه بحجرٍ فيطير الغراب، إذا طار باتجاه اليمين يكون سفراً مباركاً، مثل الذي يستعمل المِسبحة أو يفتح المصحف، أين عقلك؟ الاستخارة تكون بصلاة ركعتين وتدعو الله عزَّ وجلَّ بدعاء الاستخارة وتستعمل عقلك، وهذا المنطق وهذا العقل وهذا الذي مشَتْ عليه الأمم التي تقدمت في الحياة باستعمالها لعقولها، ونحن عُدنا مع فارقٍ بسيطٍ نسأل الجماد عن أمورنا وشؤوننا.

إنذار الله تعالى للبشر تبليغ لهم:
﴿وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى﴾ انتهى، ها قد بلَّغنا الله عزَّ وجلَّ، والنتيجة بعد التبليغ؟ ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ﴾ احذروا! كلامي ليس فارغاً ولا رخيصاً، كلامي غالٍ جدّاً وأوامري مطبَّقة، ومَنْ يُخالفها فأمامه العقوبة الشديدة ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾ تلتهب، لعلَّ طول ألسنتها مئات الكيلومترات، ونارٌ سوداء مُظلمة ﴿لَا يَصْلَاهَا﴾ لا يدخلها ﴿إِلَّا الْأَشْقَى﴾ الجهل سعادة أم شقاء؟ شقاء، والظلم والجور، والبطالة، وعدم دراسة القرآن، وترك المُعلِّم، والمشي بالأهواء والشهوات وترك العقل والفكر وتعاليم الله عزَّ وجلَّ ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى﴾،
(لَتَدْخُلُنَّ الجنةَ كلُّكُمْ إلَّا مَنْ أبى) قالوا: ومَنْ يأبى يا رسول الله دخول الجنة؟ قال: (مَنْ أطاعني دخل الجنة، ومَنْ عصاني فقد أبَى)(13) إذا كنت لم تأخذ تذكرة صعود الطائرة ولم تدفع ثمنها وأنت تريد أنْ تذهب إلى الحج؛ ألم تأبَ أنْ تذهب إلى الحج؟ لأنَّك لم تُهيِّئ الوسائل التي تُوصِلك إلى ما تريد ﴿لَا يَصْلَاهَا﴾ ليس الشقي، بل أشقى الأشقياء الذي يُعرِضُ:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)
[سورة طه]

عن القرآن ومدرسته ومُعلِّمه وتعاليمه؛ هذا هو الأشقى الأنحَس ﴿الَّذِي كَذَّبَ﴾ كذَّب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكذَّب رسالته ﴿وَتَوَلَّى﴾ عن امتثال أوامر الله عزَّ وجلَّ ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى﴾ ليس التقي، تحتاج زيادةً في التقوى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)
[سورة آل عمران]


حال المسلمين الأُول:
فكان المسلمون الأُوَل - رضوان الله عليهم - في تقواهم وعبادتهم وأخلاقهم وزُهدهم، وليس معنى الزُّهد الفقر، الزُّهد معناه الامتلاك ثم العطاء، الامتلاك، فهل تستطيع أنْ تُعطي وأنت فاقِد؟ تُعطي إذا كنت الواجِد.
فحُرِّفت معاني الإسلام، فصاروا يُطلِقون على الزُّهد الفَقد والعَدم، ويُطلِقون على إهمال العقل والإعراض عن الفكر: التوكُّل، توكَّل على الله عزَّ وجلَّ، لا تدرُس الأسباب والمُسببات، بينما ورَدَ أنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أراد إيجاد شيءٍ مِنَ الأشياء هيَّأ لك أسبابه، فالله عزَّ وجلَّ إذا أراد إيجاد الأشياء يوجدها بالأسباب، فأتى باسم العِلم والدين مَنْ يقول لك: خالِف تعاليم الله عزَّ وجلَّ وقانونه واطلب الأشياء بلا أسبابها وبلا سعيٍ إليها، كذلك الذي سقط في البئر وقالوا له: أعطِنا يدك، يُريد أنْ يأخذ، ماذا يأخذ؟ خُذ لك خمسين عصا على رأسك لكي يصحو مخك! ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى﴾ كيف تُريد أنْ تكون أتقى أم أشقى؟ فلمَّا نزل قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)
[سورة آل عمران]

سألوا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ما حقُّ التقوى؟ قال:

{ أنْ تُطيعَه فلَا تعصِيَه، وتشكُرَه فلا تكْفُرَه، وأن تذكُرَه فلا تنسَاه }

[ورد في الأثر]

(أنْ تُطيعه فلا تعصِيَه، وتشكُرَه فلا تكفُرَه) نعمة البصر والسمع والحياة وتركيب الهواء ولا يوجد شيءٌ يقع نظرك عليه إلَّا هو نعمةٌ مِنْ نِعَمِ الله عزَّ وجلَّ (وأن تذكُرَه فلا تَنسَاه)(14)، هذا حق التقوى وهذا هو الأتقى، فماذا ينقُصُنا؟ هل كان أبو بكر رضي الله عنه يزيد علينا بشيء؟ هل كان مثلاً له أربع أعينٍ أو كان له خمس عشرة أذناً أو سبع عشرة قدماً؟ كان مثلنا، لكنَّهم آمنوا بالقرآن إيمان العمل، إيمان القلب، ارتبطوا بحب المُعلَّم ارتباط الروح بالجسد، وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحبَّ إليهم مِنْ أموالهم وأولادهم وآبائهم وأوطانهم وحتَّى حياتهم، وفي المعارك عندما تشتدُّ السهام على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يضع أحدهم صدره أمام صدر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، أمام المُعلِّم المزكي والحكيم ويقول: "صدري لصدرِكَ وِقاء وروحي لروحِك فِداء"، ويقول صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ لايؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِه ووالدِه والناسِ أجمعِينَ (15) }

[صحيح مسلم]


معاملة الوارث عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم :
ثمَّ يقول:

{ العلماءُ ورَثةُ الأنبياءِ (16) }

[سنن أبي داود]

ما معنى الورَثة؟ يرِثُون الواجبات التي على الأنبياء، مِنْ تعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس، ومع واجبات الأنبياء عليهم يرِثُون أيضاً حقوقهم، فهل المُسلم يا تُرى يُؤدي للوارِثِ حقَّه الذي أوجَبَهُ الله عزَّ وجلَّ عليه؟

{ أنْ يكونَ اللهُ ورسولُهُ أحبُّ إليه ممَّا سواهُما (17) }

[صحيح البخاري]

هل تُحبُّ هذا الوارِث أكثر ممَّا سواه، أكثر مِنْ أهلك ومالك وولدك؟ هل أنا مُخطئ؟ هل يوجد شيءٌ مُبهمٌ عليكم فأشرحه لكم أكثر؟ يقول النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إذا أبغضَ المسلِمونَ علماءَهُم ، وأظهَروا عمارةَ أسواقِهِم ، وتناكَحوا علَى جمعِ الدَّراهمِ ، رماهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ بأربعِ خصالٍ : بالقَحطِ منَ الزَّمانِ والجَورِ منَ السُّلطانِ والخيانَةِ مِن ولاةِ الأحكامِ ، والصَّولةِ من العدوِّ }

[أخرجه الحاكم]

(إذا أبغضَ المسلِمونَ علماءَهُم ، وأظهَروا عمارةَ أسواقِهِم) أصبحوا ماديين ((وتناكَحوا) همُّهم وكلُّ طاقاتهم (علَى جمعِ الدَّراهمِ ، رماهمُ اللهُ عزَّ وجلَّ بأربعِ خصالٍ : بالقَحطِ منَ الزَّمانِ والجَورِ منَ السُّلطانِ والخيانَةِ مِن ولاةِ الأحكامِ ، والصَّولةِ من العدوِّ)(18).
هذه إسرائيل احتلَّت فلسطين، وطائراتها دائماً فوق لبنان وإلى آخره.. ذهب الاستعمار العسكري واستُبدِلَ بالاستعمار الاقتصادي والثقافي والفكري وإفساد الأخلاق وإلى آخره.. والورَثة لأنَّ المسلمين ما تجاهلوا بل جحدوا حقوقهم، فكذلك عندما تجهَل حق الورد والياسمين ييبِّس الله عزَّ وجلَّ لك الشجرة وتُصبح لا تصلُح إلَّا للاشتعال والنَّار، لا لأنْ تُشَمَّ وتتنعَّم بعطرها أو تتزيَّن العروس بها على رأسها.

الأمر بالزكاة وبرعاية الفقراء والأرامل والأيتام:
﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾ انظروا! يقولون شيوعية، ولا توجد سورةٌ مِنَ السور القرآنية - أو أغلب السور – إلا وتعتني ليس بالفقير فقط، بل بالفقير وبالضعيف والأرملة والمسكين وبابن السبيل، ماركس اليهودي وتلميذاه لينين وستالين أخذا بقوله، ونحن مَنْ نحن؟ أين مدرسة القرآن؟ أين مُعلِّم القرآن؟ أين قلوبنا تجاه القرآن؟ أين آذاننا؟ أين عقولنا نحو مُعلِّم القرآن؟ يا تُرى هل تُحب مُعلِّمَ القرآن؟ تُحبُّه بالقول أم بالعمل؟ بالقلب أم باللسان؟ وأمورٌ كثيرةٌ وكثيرةٌ وكثيرةٌ وكثيرة! نريد شجراً بلا غراس، ونريد حصاداً بلا بذار، ونريد أنْ نقطف مِنَ الشوك العنب، هذا يُخالف قانون الله عزَّ وجلَّ، فلا يكون للمُتمَنِّي أمنياته:

{ ليسَ الإيمانُ بالتَّمنِّي ولكنهُ ما وقرَ في القلبِ وصدَّقَهُ العملُ }

[شعب الإيمان]

(ما وقرَ في القلبِ) عقيدةً وإيماناً عميقاً (وصدَّقَهُ العملُ)(19).

الخير يكون لوجه الله عزَّ وجلَّ:
﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى﴾ هذه الوصايا وهذه الدروس وهذه التعاليم التي تُجنِّبُ الإنسان النَّار الكبرى، سيُجنَّبُ النار الكبرى ﴿الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾ ليُزكِّيَ ويُطهِّر نفسه مِنْ رذالة ونجاسة البخل والشح ﴿يَتَزَكَّى﴾ ويتصدَّق، ﴿وَمَا لِأَحَدٍ﴾ عندما يُعطي المال ويُقدِّمُه امتثالًا لأمر الله عزَّ وجلَّ لمن هو بحاجةٍ إليه مِنْ إنسانٍ أو مشروعٍ علميٍّ أو ممَّا يأمر به الله عزَّ وجلَّ، لا يفعله ليمدحه النَّاس أو لتحقيق مصلحةٍ دنيوية، ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى﴾ لا يُعطيه مقابل شيء، إذاً مقابل ماذا؟ قال: ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾ يبتغي أنْ يُكرِمَه الله عزَّ وجلَّ بأنْ ينظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة:

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)
[سورة القيامة]

مُسفِرةٌ مُضيئة.

ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
[سورة الحجر]

إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)
[سورة القيامة]

الرُّطَب قبل نُضجه إذا قُطِف يتجعَّد وييبس، والحُصرم إذا قُطِف قبل نُضجه يتجعَّد، هذا ما اسمه؟ ووجوهٌ يومئذٍ مُتجعِّدة ومتكدِّسةٌ بعضها على بعض وسوداء مُظلمة ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى﴾ لا يُعطي مكافأةً:

{ ليسَ المُكافئ بالمُحسِن (20) }

[حلية الأولياء]

إذا أعطيت أحداً شيئاً مقابل شيءٍ فأنت لست مُحسنًا، المكافئ مَنْ يُعطي بلا مقابل ﴿إلا ابتغاء وجه﴾ ابتغاء رضا الله عزَّ وجلَّ ﴿وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ في الدنيا واللهِ وفي الدار الآخرة.

قبول الرسالة السَّماوية:
فما رأيكم هل تتقبَّلون هذه الرسالة السَّماوية مِنَ الله عزَّ وجلَّ؟ أنا أفهمتكم معاني كلماتها، فهل أنتم مستعدُّون للإيمان بها كإيمانكم بصُرَّة الذهب إذا قُدِّمت لكم، عندما تؤمنون بأنَّه ذهبٌ فهل تقبَلون أم ترفضون؟ وتحرِصُون عليها أم تُلقُونها؟ كلام الله عزَّ وجلَّ ووصاياه أعزُّ مِنْ كلِّ شيء؛ لأنَّ فيه الحياة الدنيا والحياة الآخرة، فيه السعادة في الدنيا وفي الآخرة، فإذا وُفِّقتم بعد العِلم إلى العمَل، وبعد العمَل إلى التعليم، فكما يقول سيِّدنا المسيح عليه السَّلام: "مَنْ علِم وعمِل ثم علَّم دُعِيَ عظيماً في الملكوت الأعلى" يُصبح مِنَ العُظماء عند الله عزَّ وجلَّ، يا سلام! أتريدون أنْ تصبحوا عُظماء أم حُقراء في نظرِ الله عزَّ وجلَّ؟ عُظماء في نظرِ إبليس حُقراء في نظرِ الله عزَّ وجلَّ أو عُظماء في نظرِ الله عزَّ وجلَّ حُقراء وأعداء في نظرِ إبليس؟ فهل أنتم مستعدُّون لتكونوا مِنَ الأتقى؟ مَِنَ الذي سوف يرضى؟
فأرجو الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعل كلَّ واحدٍ منَّا أُمَّةً، والأمَّة مِنْ غير تشكيل تُقرأ الأَمَة؟ الجارية العبدة السوداء التي تُباع وتشترى في الأسواق، فهل تريد أنْ تصبح أَمَةً عبداً ذليلاً حقيراً وفقيراً، أو أُمَّةً عظيماً قويّاً غنيّاً؟ صفة "أعطى" هل هي صفة الفقير أم صفة الغني؟ فالغنى بالمال يُعطي مِنَ المال، الغني بالعِلم يُعطي العِلم، الغني بالإيمان يُعطي لقليل الإيمان، الغني بالحكمة يُعلِّم الحكمة لمن فقدها، وهكذا تعاليم الله عزَّ وجلَّ:

{ لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ ، ولا لأبيضَ على أسودَ ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقوَى (21) }

[مسند أحمد]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[سورة الحجرات]

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ) المُكرَّم المُعظَّم المُحبَّب (أَتْقَاكُمْ) ما معنى الأتقى؟ التقوى هي أداء فرائض وواجبات الله عزَّ وجلَّ على الوجه الأكمَل، والانتهاء والابتعاد عن محارِم الله عزَّ وجلَّ، يا تُرى هل يوجد أحدٌ يجهل فرائض الله عزَّ وجلَّ ومحارِمَه؟ القِطُّ يعرف الحلال والحرام، إذا كان على الطعام وأعطيته قطعة لحمٍ بيدك فأين يأكلها؟ يأكلها بين يديك، وبعد أنْ يأكلها يُقبِّلُ يدك ويُصدِرُ لك أصوات شكرٍ وغناء؛ وإذا خطَفَها يعرف أنَّه أكل حراماً أم حلالاً؟ فأين يأكلها؟ بقفزةٍ إلى الدرج الثاني وقفزةٍ إلى السطح! وإذا كان لا يوجد درج ففورًا إلى الهرب! فـ:

{ الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيِّنٌ (22) }

[صحيح البخاري]

فهل يسير القطار إذا كان لا يوجد نفطٌ أو فحم؟ أو تطير الطائرة؟

الإخلاص في العبادة:
فالعِلم:

{ النَّاسُ كلُّهمْ موتَى إلَّا العالِمونَ، والعالِمونَ كلُّهمْ هَلْكَى إلَّا العامِلونَ، والعامِلونَ كلُّهمْ غرْقَى إلَّا المُخلِصونَ، والمُخلِصونَ على خطرٍ عظيمٍ(23) }

[شعب الإيمان]

ما هو الخطر؟ اللهم ثبِّتنا "يا مُقلِّبَ القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك" إبليس عَبَدَ الله عزَّ وجلَّ خمسين ألف سنة، ومِنْ أجل شيءٍ تافهٍ حقيرٍ قال لهم: اسجدوا لآدم، فسجَدَ كلُّ الملائكة؛ لكنَّ المنحوس منحوسٌ ولو علقوا في وجهه خمسين ألف فانوسٍ قال:

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12)
[سورة الأعراف]

الله عزَّ وجلَّ الذي خلَقَك وخلَقَ الكون ألا يعرف أنْ يأمُر بما فيه الكمال والفضل والسعادة والخير؟ يريد أنْ يجعل نفسه إلهاً على الله عزَّ وجلَّ! فبمخالفةٍ واحدة، بترك سجدةٍ صار ملعوناً إلى يوم يُبعَثون، فتارك الصَّلاة في اليوم والليلة كم سجدةً يترك مِنَ الفرائض؟ الظهر كم سجدة؟ ثمانية، والعصر؟ ثمانية، والعشاء؟ ثمانية، كم صارت؟ والفجر؟ أربعة، والمغرب؟ ستة، كم صارت؟ أربعاً وثلاثين سجدةً، إبليس ترك سجدةً واحدةً فصار إبليس، فهذا كم إبليساً يعادل؟ أربعة وثلاثين إبليساً في اليوم الواحد، يا سلام! وبالأسبوع كم إبليساً؟ فيوجد إنسانٌ أمَّةً مِنَ الخير والفضل والعِلم والحكمة، وهناك أناسٌ أمةً مِنَ الأبالسة والشياطين والمنحوسين والملاعين، اللهم أرِنا الحق حقّاً وارزُقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزُقنا اجتنابه.

دعاء بأن نكون من أهل الهداية:
اللهم اجعلنا مِنَ الذين يستمعون الخير فيتِّبِعُون أحسَنَه، اللهم اجعلنا مِنَ الأجود الذين نتعلَّم ونعمَل ثمَّ نُعلِّم:

{ لأن يَهْديَ اللَّهُ علَى يدَيكَ رجلًا ، خيرٌ لكَ ممَّا طلَعت علَيهِ الشَّمسُ وغرَبَت }

[الزهد والرقائق لابن المبارك]

(لأن يَهْديَ اللَّهُ علَى يدَيكَ) يعني إنساناً واحداً (خيرٌ لكَ ممَّا طلَعت علَيهِ الشَّمسُ وغرَبَت)(24).
هل اتفقنا بشأن سورة ﴿وَالَّلْيِل﴾؟ تعودون وتقرؤونها وحدكم، ولديكم الأسبوع كلُّه، فلتبلِّغوها وتُعلِّموها للآخرين، فمنهم مَن يستجيب ومنهم مَنْ لا يستجيب، لم يستجب كلُّ النَّاس للأنبياء، لكنْ نحن علينا أنْ نُلقي البذار، والمطر على فضل الله عزَّ وجلَّ؛ ولكنْ هل يمكن لمن يسعى ويعمل ويكدح ألَّا يجنيَ الثمر؟ يوجد زرعٌ مثل البقلة يُحصَد بعد أربعين يوماً، ويوجد زيتون يحتاج إلى عشر سنواتٍ لكي يُقطَف.
يُقال بأنَّ الملك كسرى خرج في نزهةٍ هو وزوجته فرأى فلاحاً عجوزاً يزرع الزيتون، فوقف عليه وقال له: ماذا تزرع؟ قال له: زيتوناً، قال: هذا كم يريد لكي تقطُفَه؟ قال: عشر سنوات، قال: هل تأمل أنْ تعيش عشر سنينٍ لكي تقطِفَ ثمَرَ ما تغرِس؟ قال له: يا ملك الزمان، مَن قبلنا غرسوا ونحن قطَفنا، ونحن يجب علينا أنْ نغرِسَ ليقطِفَ منه مَنْ بعدنا. فطُرِب الملك بهذا الجواب وقال: خُذ جائزةً ألف دينار. فأخذها ثم قال: يا ملك الزمان، لي كلمةٌ معك، قال: تفضل، قال: عادةً الزيتون لا يُثمِر إلَّا بعد عشر سنين، وأنا غرسي أثمَرَ مِنْ أول سنة، أثمَرَ وأنا قطفتُه مِنْ أول سنة، فطُرِبَ الملك أيضًا مِنَ هذه الحكمة، فقال: أعطوه ألفاً أخرى، قال: لدي كلمةٌ أخرى - يبدو أنه أستاذٌ بجَلْب المال! - قال: عادةً الزيتون يُثمِرُ في السنة مرةً واحدةً، وزيتوني أثمَرَ في السنة مرتين! قال: أعطوه ألفاً ثالثة! فقالت له امرأته: لنذهب، فإذا بقينا معه ساعةً أخرى فسوف يُفرِغُ الخزينة!
فأسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتِّبِعون أحسنه، ويجعل مِنْ كلِّ واحدٍ منكم أُمَّة أم أَمَة؟ أمَّة نساءً ورجالاً.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبِه وسلَّم.

الهوامش:
(1) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين، رقم: (6751).
(2) سنن ابن ماجه، افتتاح الكتاب بالإيمان: باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (224).
(3)مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176).
(4) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ويحذركم الله نفسه، رقم: (7405)، صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب الحض على التوبة والفرح بها، رقم: (2675).
(5) مسند أحمد، رقم: (16957)، (28/154).
(6) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، رقم: (7280).
(7) مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176).
(8) شرح مشكل الآثار باب بيان مشكل من أحكام من كان بعد من حمده (6/ 270) رقم (2473).
(9) السلسلة الضعيفة للألباني، رقم: (5188).
(10) صحيح البخاري، كتاب، باب قوله تعالى: { واجتنبوا قول الزور..}، رقم: (6057).
(11) سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات، رقم: (4019). المستدرك، للحاكم، (4/582).
(12) مسند أحمد، رقم: (13745)، (21/284). المستدرك على الصحيحين، رقم: (5504)، (2/397).
(13) سبق تخريجه.
(14) ورد في الأثر
(15) صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين وإطلاق عدم الإيمان على من لم يحبه هذه المحبة، رقم: (44).
(16) سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641). والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682). سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223).
(17) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، رقم: (16)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، رقم: (43).
(18) أخرجه الحاكم، رقم: (7923)، (4/ 361).
(19) شعب الإيمان، رقم: (65)، (1/158).
(20) حلية الأولياء، (8/129)، بلفظ: ((لَيْسَ الْمُكَافِئُ بِالْوَاصِلِ)).
(21) مسند أحمد (23489)، (38/474)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (4774)، (17/132).
(22) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم: (52)، صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم: (1599).
(23) شعب الإيمان باب إخلاص العمل لله عز وجل وترك الرياء (9/181) رقم: (6455).
(24) الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/ 484) ورقم (1375).