تفسير سورة العصر 2

  • 1996-07-05

تفسير سورة العصر 2

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وأعطرُ التحيات وأفضل الصلوات الصَّلاة على سيِّدنا مُحمَّدٍ خاتَم النبيين والمرسلين وعلي أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخوَيه سيِّدَينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه مِنَ النبيين والمُرسلين وآلِ كلٍّ وصحْبِ كلٍّ أجمعين، وبعد:

مقدمة:
نحن في تفسير سورة العصر، سبق معكم أن الإمام الشافعي رضي الله عنه كان يقول: لو لم ينزل مِنَ القرآن إلا سورة العصر لكَفَت النَّاس جميعاً، وكان أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا اجتمعوا وانقضى مجلِسُهم كلُّ واحدٍ منهم يقرأ سورة العصر، المشكلة في زمننا ومع المسلمين أن القرآن لا يقرؤونه للغاية التي أُنزِلَ مِنْ أجلها، القرآن لنفهَمَه ونحوِّلَه ونحوِّل كلماته إلى أعمالٍ في فرائضه وابتعادٍ عن محرَّماته، ولا يكتفي الإسلام مِنَ المسلم بذلك بل يفرِضُ عليه بعد أن يفهم القرآن وأوامره ووصاياه وإرشاده أن يقوم ليُعلِّم الآخرين ما يجهلونه مِنْ كتاب ربِّهم، هذا القرآن العظيم هو الذي عرَفَه ولكن لم يُوفَّق إلى أن يستفيد مِنْ كنوزه.

قوة وعزة المسلمين:
رئيس وزراء بريطانيا بلاديستون وفي مجلس العموم المجلس النيابي البريطاني أخذ المصحف وقال: ما دام هذا المصحف عند المسلمين فلن نستطيع التغلُّب عليهم، فليس المقصود والمُخيف مِنَ الأعداء وجود المصحف بأوراقه وطباعته وتهذيب جلده، القرآن يَسعَدُ به مَنْ علِمَه وفهِمَه وقرأه ليفهَمَه ويَعلَمه ثم ليعمَل به ويُعلِّمه للآخرين، فإذا كان الإمام الشافعي يقول عن سورة العصر: لو لم ينزل مِنَ القرآن إلا سورة العصر لكَفَت النَّاس جميعاً، يعني تكفيهِم في إسعادهم ورُقيِّهم وعزَّتهم ووحدتهم وتقدُّمِهم، فهل تعاهدونني بالنسبة لسورة العصر أن تقوموا بها عِلماً وعملاً وتعليماً؟ سورة العصر وحدها إذا صدَقنا العهد فيها مع الله.. الإمام الشافعي وهو كما هو معلومٌ مِنْ مقامه العِلمي رضي الله عنه يقول بأنه لو لم يكن في القرآن إلا سورة العصر لكَفَت النَّاس إسعاداً وقوَّةً وعزَّةً وتقدُّماً.

المقصود بالعصر:
فسبق معكم في الدرس الماضي في قوله تعالى: (وَالْعَصْر) العصر في تفسيره له عدة تأويلاتٍ وأوضحها أن العصر إما الزمن كلُّه أو عصر النبوة الذي أُنزِلَ في القرآن وأكرم الله الإنسان بالإسلام لأنه كان عصراً رفَعَ الإنسان إلى ذروة العُلا في العِلم والسعادة والاقتصاد والدولة والحكمة والإنسانية والعدالة وكلِّ شيءٍ بعد أن كانوا في الحضيض ولم يكونوا في نظر الأمم أمَّةً، كانوا قبائل بدويةً في الصحراء يقتلون أولادهم مِنَ الجوع، ويقتلون بناتهم خشية الفقر، ويُألِّهون الأحجار فيعبدونها، في بحرٍ مِنَ الخرافات والتخلُّف والجهل والجاهلية، فبينَ عشيةٍ وضُحاها صاروا أعظم الأمم خيرَ أمةٍ أخرجت للناس ويتحررون مِنَ الجهل فيصيرون أعلَمَ أمم الأرض، أعظم إنسانيةً تجاه أمم الأرض، فهزموا الاستعمار في مشارق الأرض ومغاربها وحرروا الشعوب مِنَ الظلم والتخلُّف والجهل والفقر، فمن حدود فرنسا إلى الهند أمةً واحدةً ودولةً واحدةً:

{ مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم ، وتَرَاحُمِهِم ، وتعاطُفِهِمْ . مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى }

[متفق عليه]

(إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى) وتنادى واستجاب (لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى).

فهم القرآن الكريم وتطبيقه:
كانوا في أدب قراءتهم للقرآن يقرؤونه عشر آياتٍ عشر آيات، فلا يبدؤون بالعشر الثانية حتى يُتقنوا الأولى فهماً وعِلماً وعملاً وتطبيقاً وأخلاقاً وسلوكاً، فإذا أعطوها حقَّها تماماً مِنْ هذه النواحي يقرؤون عشر آياتٍ الأخرى على هذه القاعدة، المسلمون الآن يقرؤون القرآن على أربع عشرة روايةً فهل قرؤوها على مذهب أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ أربع عشرة قراءةً والفرق أن تقول والضحى بإمالةٍ أو بدونها، وهذه لا يوجد فيها شيءٌ جديدٌ ينهَض بذمَّة الإنسان أو يزيد في إيمانه أو يرقى بعقله أو يُعطيه حكمةً ولنفسه تزكيةً وأخلاقاً، يجب أن نقرأ قراءة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقراءة أصحابه عِلماً وعملاً.

غاية الله تعالى من قسمه:
فالله يحلِف لنا، فإذا قلت لبائع الفلافل: الزيت الذي قليت به الفلافل ليس جيداً، فإذا حلَف بالله أن زيته أصليٌّ فهل تُصدِّقه؟ وإذا حلّفَ لك بائع السمن أو أي شيءٍ .. فالله حلَف لنا، فمَنْ الحالِف ومَنْ المحلُوف له، العادة أن يكون الذي يحلِف أدنى مِنْ درجة المحلُوف وبحاجةٍ إلى المحلوف له، فهل الله بحاجةٍ إلينا؟ إذا صدَّقناه هل ينتفع أو يسعَدُ أو يَعظُم؟

إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
[سورة الزمر]

الله يحلِفُ لك.
فإذا كنت مع رئيس الجمهورية وقال لك حديثاً هل تُصدِّقه مِنْ غير يمين؟ أو مع وزيرٍ أو صاحبك وصديقك وقال لك قصةً هل تُصدِّقه؟ وإذا حلَف يميناً أعوذ بالله سيادة الوزير أنت تحلِف؟ وإذا حلَف رئيس الجمهورية لك يميناً ثم لم تعمل بمقتضى ما يقول .. فإذا كان الحالِف رب العالمين ورب الكون الذي يعجز الإنسان عن عدد مجرَّاته ونجومه وشموسه وأقماره، كوكب الأرض الذي من الشَّمس والقمر.. مِنَ الشَّمس لا تُرى الأرض أبداً، ومِنَ القمر تُرى بحجم القمر على ستة أضعاف، وإذا ابتعدنا لا تُرى، فإذا كان مثل الأرض وأكبر منها وبملايين المرات وبعدد ذرات الرمال بعمق ثلاثمئة مترٍ في الصحراء الكبرى الأفريقية هذا عدد النجوم في هذا الكون، فخالِق هذا الكون واضع نظامه وقوانينه، انظر في نفسك وفي أنفسكم، وأقلُّ نعمةٍ من نعمه؛ جفنُك عندما يرِفُّ على عينك مثل مسَّاحة السيارة، ستون وسبعون وثمانون سنة، فلو كانت عينك والمسَّاحة مِنْ فولاذٍ لاحتاجت التغيير عشر مرات تقريباً، ومن غير تشحيمٍ وتزييتٍ أيضاً، فلو زاد الدمع عن الحاجة اختل النظر ولو قلَّ تتآكل العين والجفن، الريق في فمك لو زاد لسال لعابك ولو نقص لجفَّ حلقُك وصَعُبَ عليك الكلام.

الدليل على وجود الله:

وَوَضَعَ الْمِيزَان (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَان (8)
[سورة الرحمن]

وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
[سورة الذاريات]

يعني الآيات التي تدل على وجود الله موجودةٌ في أنفسكم.
أتاني أحد كبار الشيوعيين عضو اللجنة المركزية أظنُّ في بلغاريا في المسجد هنا، وأنا أُحدِّثُه ونحن نشرب الشاي فقال: ما الدليل على وجود الله؟ وأنا أُحدِّثُه عن الله، فقلت له: الدليل على وجود الله كأس الشاي التي في يدك، فقال لي: كيف؟ فقلت له: يا ترى الورق الذي صُنِعَ منه الشاي هل صارت لوحدها أم بِزارع؟ فقال لي: بل بِزارع، فقلت له: وقُطِفَت بنفسها أم بقاطِف؟ ثم صُنِعَ الشاي بمصنِّعٍ أم بنفسه ثم سافر مِنَ الهند إلى هنا، ثم وثم وثم وُضِعَ على الموقد وغُلِيَ ثم كذا، كم صانعاً صار ليصِلَك كأس الشاي؟ الكأس البلوري كم صانعاً له؟ فقلت له: هذا الكون العظيم خلايا الإنسان في جلده وعظمه وعضلاته وقلبه ومُخِّه بعقلٍ ونظام، فهذه صارت لوحدها؟ هذه السيارات التي نراها صارت لوحدها؟ وسيارات السماء والفضاء تمشي وحدها ؟

قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
[سورة البقرة]

(كَفَرَ)أو سأل أو إلى آخره.

الإنسان بلا إيمان خاسر:
فالشاهد أن الله يحلِفُ لكم، وإذا لم تُصدِّقوه.. فلو قال: (إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر) الإنسان بلا إيمانٍ هو خاسر، ماذا يخسر؟ عند موته خَسِرَ حياته كلَّها، ماله يخسره كلَّه وشهاداته وعلومه خسِرها ورئاسة وزارته ورئاسته ومُلْكه وأملاكه وكلَّها (إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر) هذا الإنسان إذا لم يدخل مدرسة القرآن ومدرسة الله الذي خلق الكون، ووهَبَ لك السمع، جهاز السمع إذا تعطَّل هل تستطيع بكلِّ الدنيا أن تُحضِر آذاناً بدل آذانك؟ لو كانت أذن حمارٍ لكن هل تُسمِّع؟ مقبولةٌ طويلةٌ تقصُّها وتُهذِبُها وكذا، لكنها أذن حمار، أخي دعني أسمع أو أذن أرنبٍ أو قط، فالسمع والأبصار والعقل وخلايا المخ أربع عشر مليار أيها الطبيب؟ بالمليارات كلُّ خليةٍ لها عملها وقانونها وتعاونها المنظم لا يوجد اختلافٌ يختلفون مع بعضهم البعض، هذا هل حصل لوحده؟ فهذا الخالق العظيم يكون لك المُعلِّم والمُربِّي ليُسعِدَك كما أنعم عليك بنعمة الوجود وأعطاك هذا الجسد:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
[سورة التين]

لو جعل رجليك واحدةً أطول مِنَ الثانية بخمسة سنتيمترات لصرتم عُرجاً كلكم، لو لم يضبط عيونك لصِرت أحولاً، لو وضع يداً مِنَ الأمام والأخرى مِنَ الخلف هل يصلُح العمل؟ (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم).
فهذا الإله العظيم خالِق الكون الحكيم أرسل الأنبياء أساتذةً وهو أستاذهم وعلَّمهم ليُعلِّموا خَلقه ما يُسعِدُهم لا في آخرتهم ودينهم وعبادتهم، بل وفي دنياهم وسياستهم، قصَّ في القرآن الأنبياء الملوك: داود وسليمان عليهما السَّلام، وقصَّ الوزراء: سيِّدنا يوسف عليه السَّلام، وعلَّمنا التجارة وأطول آيةٍ في القرآن آية التجارة في سورة البقرة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ (282)
[سورة البقرة]

إلى آخر الآية.

الإعجاز في خلق الإنسان:
فهذا الإله الذي أوجَدَك مِنْ ماذا؟ أوجدك مِنْ ذرةٍ لا تراها العيون مِنَ الحيوان المنوي مِنْ أبيك والبويضة مِنْ أمِّك، قالوا: لو أن الإبرة غُرِسَت في النطفة يعلَقُ في رأسها خمسون ألف حيوانٍ منويٍّ يعني خمسين ألف واحدٍ مثلك، هؤلاء يُشكلون مدينة، أين يسكنون؟ على رأس إبرة، ثم أحدهم صار فلاناً البيك والآخر صاحب المعالي والآخر المنفوخ وصار غنياً وثرياً، الله يقول له: يا أيها الإنسان فيقول لا أسمع، يا أيها النَّاس فيقولون: لا نسمع، يا أيها الذين آمنوا؛ فيقول: لا أسمع، فهذا إذا لقِيَ الله يوم يُجرَّد مِنْ جسده وعيونه ورأسه وبدَنِه ومالِه وزوجته ودارِه وأملاكِه ويلقى الله عزَّ وجلَّ والاستنطاق يكون والجسد في القبر، ينزل الملَكان فيسألانِه أي يسألان الرُّوح فالجسد لم يعُدْ له قيمة، لكن تبقى الروح لها صلةٌ بجسدها، فهذا الإله الخالق الرازق أعطاك الأولاد والنِّعم يحلِفُ لك يميناً، فهل هو يكذب علينا ؟ هل يكذِبُ عادةً لنشُكَّ في كلامه لنحوِجَه ليحلِف يميناً لنُصدِّق أم مِنْ قلَّة عقولنا وعُمق غفلاتنا وعظيم جهلنا بخالقنا؟ مَنْ هو الله وما هي صفاته؟

الإيمان سبيل الربح:
(وَالْعَصْر (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر) إذا قال الله لك هذا يجب أن تقول ويلٌ لي، إذا كانت حياتي في خُسرٍ فمِنْ أجل ماذا حياتي؟ قال لا: سأدلُّكم على طريقٍ تستدركون به الخسارة وتكونوا مِنَ الرابحين، وأدلُّكم على تجارةٍ لن تبُور:

هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
[سورة الصف]

الإيمان الذي يتبَعه العمل، لما يُقدِّم لك كأسين من العصير واحدةٌ فيها سُمٌّ والأخرى لا يوجد بها سُمٌّ ويأتي المُخبر ويقول لك وأنت في مُنتهى العطش يقول لك: هذه فيها سُمٌّ وهذه لا يوجد فيها سُم، فيا تُرى هل تُؤمن بكلامه؟ ما مُقتضى الإيمان؟ أن لا تشرب ما لا سُمٌّ بها وتجتنِبَ وتُلقي تلك الكأس بما فيها إلى الأرض، هذا هو الإيمان الذي يستتبِعُ العمل، أما إيمانٌ لا يستتبِعُ العمل فكما ورد:

{ ليس الإيمانُ بالتَّمَنِّي ولا بالتحلِّي ، ولكن هو ما وقر في القلبِ ، وصدقَهُ العملُ(1) }

[شعب الإيمان للبيهقي]

والله أنا مؤمن فهذا تمنِّي وأماني.
يذكرون عن أحدهم رحمة الله عليه كان له جارٌ يتصدَّق عليه وعنده نحُلَ يتصدَّق عليه بشيءٍ مِنَ العسل على مدةٍ كان عنده جرَّةٌ يضع العسل في الجرَّة ويُعلِّقُه بالسقف، فحتى امتلأت وهو نائمٌ فكر أنه يجب أن يتزوج، ثم قال: بعد الزواج وصار العرس وبعد العرس جاء الولد وبعدها كَبُر ولما كَبُر الولد أمره أبوه بشيءٍ خالفه ففي جانبه فِرشاةٌ طويلة المَقْبِض، قال: أخذها وضرب فكسر الجرَّة التي فوق رأسه فنزل العسل على رأسه، إذا كلُّها هذه أماني، فإذا كان إسلامك أمانيَّ تنكسِر الجرَّة برأسك وتخسر عسَلك.

العمر رأس مال الحياة :
(إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان والقرآن قال: الإيمان هو الذي يصاحبه العمل، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ الإيمانُ والعملُ أخَوانِ شَريكانِ في قرْنٍ ، لا يقبلُ اللهُ أحدَهما إلَّا بصاحبِهِ }

(ضعيف الألباني)

يعني اثنان مربوطان مع بعضهم البعض بحبلٍ لا ينفَكُّ أحدهما عن الآخر، و(ليس الإيمانُ بالتَّمَنِّي ولا بالتحلِّي ، ولكن هو ما وقَرَ في القلبِ، وصدَّقَهُ العملُ) فالإنسان أي إنسانٍ، مَلِكاً كان أو إمبراطوراً أو مليارديراً أو رئيس الجامعات كلنا إنسانٌ وهو خاسر، ماذا يخسر؟ الله أعطانا الحياة رأس مالٍ لننزل لسوق الحياة فنشتري بهذه الحياة وبأيامها لنشتري بها الدار الآخرة والجنة، نبذل وقتنا وأعمالنا وأموالنا وكلَّ ما نملِك في مرضاة الله عزَّ وجلَّ وحسب شريعته:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)
[سورة الصف]

وفي آيةٍ أخرى:

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
[سورة البقرة]

فالعمر سوقٌ تجاري، ورأس مالِك الحياة والعُمر وما يعطيك الله مِنْ مالٍ وجاه، فإذا استطعت بعمرك وحياتك ومالِك وجاهِك وقِواك أن تشتري بها الدار الآخرة بالإيمان الحقيقي الذي يُثمِر الأعمال الصالحة والذي يدفعُك إلى أداء الواجبات وللدخول في مدرسة الله القرآن، تدخل المدرسة لتفهَم دروسها، أما إذا حفِظْتَ الدرس ولم تفهم منه ولا كلمة فأنت لم تتعلَّم بل حفِظت كلماتٍ لا تفهم معناها مثل الببغاء تتكلَّم ولكن لا تفهم ما تقول، ومثل شريط المُسجِّل يقرأ محاضرةً مِنْ أوَّلها لآخرها ويقرأ القرآن كلَّه، ماذا فهِم؟ فإذا كنا جماداً مثل الشريط ولم نفهم فنحن والجماد شيءٌ واحد، بالعكس الجماد لا يُسأل ولا يُحاسب ولا يُعاقب، أما الإنسان سيُسأل ويُحاسب ويُكافأ على الخير خيراً وعلى الشرِّ عقوبةً في نارٍ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[سورة التحريم]


الحاجة إلى المعلم :
(إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) يدخل مدرسة الإيمان، الفيزياء والكيمياء والجغرافيا والتاريخ واللغات والطيران والطِّب هل يمكن أن ينالها الإنسان بلا مُعلِّمٍ ومُدرِّبٍ ومُربٍ؟ في تعليم الطيران: الطائرة فيها مِقودان: واحدٌ للمُعلِّم والآخر للمُتعلِّم.
فأنت يا مسلم مَنْ مُعلِّمُك الإسلام؟ من الذي علَّمك القرآن؟ لا تلاوة ألفاظه، الشريط مرةً واحدةً يسمَع فيحفَظ القرآن كلَّه، لكن هل يفهم شيئاً أو يعمل؟ فأنت إذاً جمادٌ إذا كنت لا تقرأ للفهم والعِلم والعمل، حتى لو فهمت وعمِلت فلم تُؤدِّ الفرض، حتى تقوم وتُعلِّم ما علِمته وتُبلِّغ ما تبلَّغته، وإلا بشهادة القرآن والله إنك مِنَ الخاسرين، لو خسرت أهلك ومالك يُعوَّضون وحياتك الجسدية يُعطيك الله جسداً أحسن، أما إذا خسرت ربَّك وإيمانك وقرآنك فلا يوجد عِوَض، (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هذا بالنسبة لك، فلو قرأت القرآن وطبَّقته وفهِمته كلمةً بكلمةٍ وحرفاً بحرفٍ عِلماً وعملاً فهل انتهت المسؤولية؟ لا، قال ستقوم وتُعلِّم ما علِمته وتُبلِّغ ما فهمته.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) فأينما كنت مع مَنْ رأيت واجتمعت فإذا رأيته تاركاً واجباً تُذكِّره بالله والآخرة وتُذكِّره بهذا الواجب ليعمَل به وقلبك مملوءٌ إيماناً وصِدقاً وإخلاصاً وعملاً، فستقوم لتُعلِّم الآخرين وتُنقِذهم، فأينما كنت ومع مَنْ كنت.
النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لما تأتي وفود العرب إلى مكة للحج كان يطوف على قبائلهم في الحج قبيلةً قبيلة، يُبلِّغُهم رسالات الله ويُعلِّمهم دينه، وإذا رأى منكراً أنكَره، وإذا رأى تاركَ معروفٍ يُعلِّمه ويأمره، فإذاً هذه السورة تطلب مِنْ قارئها المؤمن بها، هل أنتم مؤمنون بالقرآن؟ هل أنتم مؤمنون بسورة العصر؟ متى آمنتم؟ إذا آمنتم بها هل تواصيتم بالحق؟ أينما رأيت باطلاً تُنكره وأينما رأيت حقاً وفريضةً متروكةً تأمُر بها، وإذا وجدت إنساناً ليس ملتزماً بالفرائض ولا هو تاركٌ لها ولكن تُوصيه أن يُحافظ على فرائضه وأن يجتنِب محارم الله، هذا قبل الترك وقبل ارتكاب المعصية، تُذكِّره بالله والدار الآخرة والموت.

التواصي بالحق:
فالذين آمنوا مِنْ صفاتهم التواصي بالحق في السهرات:

لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
[سورة النساء]

(لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ) ما هي النجوى؟ الثرثرة وأحاديث النَّاس لما يلتقون في مجامِعِهم وسهراتهم وحفلاتهم، ما هو كلامهم؟ الله يقول (لاَّ خَيْرَ) في أكثر لقاءات النَّاس مع بعضهم البعض، إلا.. مَنْ الذي فيه خيرٌ في لقائهم مع بعضهم؟ قال: (إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) في مجلسٍ تُذكِّرُ النَّاس بواجبات الله وفرائضه، (إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) قبل كلِّ شيءٍ حق الفقير والإنسان سواءٌ الصدقة بالمال أو الدواء أو العِلم والتعليم، أعظم الصدقات أن تُعلِّم الجاهل ما يجهله مِنْ أمور دينه وما يُسعِده ويُنقذه مِنْ شقوَتِه وجهالته، فأنت تقول أنك مؤمنٌ بالقرآن، ما معنى الإيمان بالقرآن؟ فهمه ثم العمل به ثم تعليمه للآخرين، أما أن تؤمن بالقرآن، آمنت بالطبيب وبالوصفة ولكن لم تذهب للصيدلي فأخذت الدواء ولا استعملته وعقَقتَ الطبيب أيضاً، في المرة القادمة إذا ذهبت له يُعالجك ويفحَصَك يرفض لأنك أهنت العِلم فلم تُؤدِّ له حقه، إذا ذهبت لمُصلِح الأحذية عندما تأخذ الحذاء هو يُطالبك أم أنت تبدؤه؟ تقول له: كم تأمر؟ فهل تُكرِّم العِلم كما تُكرِّم الأشياء التي هي أقل قيمةً وفائدة، فهذا من جملة أسباب ضعف وتخلُّف المسلمين، وهو إهمالهم للعِلم ولحمَلَته وتكريمه.

المسارعة لما أمر الله تعالى به:
(إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر(2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) هل آمنت بكتاب الله وأوامره فامتثَلتها ومحارِمَه فاجتنَبتها، وما أحبَّه الله واستحسَنه فسارَعت إليه؟ فإذا سمعت القرآن يقول:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
[سورة آل عمران]

وما هي التقوى؟ أن تمتثِل أوامر الله وتؤدي فرائضه وتبتعد وتتحرَّز مِنْ محارِمه، هذه هي التقوى، فإذا اتَّصفت بهذه المعاني فأنت تقيّ، والله قال أن الجنة أُعدَّت للمتقين، ثم خصَّص أشياءً بخصوصيتها قال:

الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
[سورة آل عمران]

(الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) يُنفِق في الغِنى والفقر، هل آمنت بهذه الآية فأنفقت في السراء؟ في السراء معقول، ولكن في الضراء؟ (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) لما تشتعل فيك نار الغضب خاصةً مع إنسانٍ ضعيفٍ أضعَفَ منك تثور ثائرتك عليه، هل آمنت بهذه الآية؟ فتكظِم غيظَك وتدعَس على المكابح فتبقى السيارة في مكانها ولا تتجاوز حدود الله مِنْ كَظْمِ الغيظ مِنَ الظلم والعدوان على الضعيف، (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس) العفو عن المُحسن أم عن المسيء؟ آيةٌ أخرى الله قال ليس العفو صفة المؤمن:

وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
[سورة الرعد]

يُقابِل السيئة بحسنة، يسُبُّك فتقول غَفَرَ الله لك، يُؤذيك ويغتابك فتبعَثُ له هدية، أنت أهديت حسناتك:

هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
[سورة الرحمن]

لأن المُغتاب حسناته تصبح لمن سيسدُّ العدوان بحسناته، فالقرآن يقول لك: لا تُقابله بالعفو فقط، أساء لك بغيبةٍ وغيرها، قال: لا، قابِل السيئة بالحسنة، هل آمنت بـ (وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ)؟
مرةً شيخنا رضي الله عنه كان أحد إخوته اقترَض منه مبلغاً مِنَ المال وكتب السند باسمي، فيوماً مِنَ الأيام قال لي: انزل إلى كاتب العدل وسامِحه، قلت له: يا سيدي هو حاله أفضل منا وحاله جيد، عندي إخوةٌ صغارٌ أولى بهذا الشيء منه، فقال لي: يا ولدي إذا سألنا الله عن هذه الآية:

وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
[سورة البقرة]

(وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) فقلت له: أنظَرتُه سنةً واثنتين وثلاثة، قال لي: أكمل الآية (وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون) قال لي: يا بنيّ دعنا نعمل بالآية ولو مرةً واحدة في عمرنا، هذا هو الإيمان بالقرآن، آمنت بالله وملائكته وكتبه، لا نريد كتبه ولا كتابه.

الإيمان الحقيقي هو المحرك:
آمِن بسورة العصر وحدها، إذا آمنت بها حقيقةً تعطيك الإيمان بكلِّ كتاب الله، هذه لا تكون إلا بالهجرة، لماذا كانت الهجرة فرضاً على المسلمين؟ كانت إلى أين؟ إلى المدينة، الله والنبي لم يقولا الهجرة إلى المدينة، كانت هجرتهم إلى المدينة أم إلى الله ورسوله؟ هل الله في المدينة؟ الله عزَّ وجلَّ لا يحويه مكانٌ فهو مُنزَّهٌ عن المكان، لكن كانوا مَنْ هاجر إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يجدون الله في قلوبهم وأرواحهم ومشاعرهم بصحبة والهجرة لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، مصداق الحديث النبوي:

{ خيارُ أمَّتي الَّذين إذا رُؤوا ذُكِر اللهُ وإنَّ شِرارَ أمَّتي المشَّاؤونَ بالنَّميمةِ (2) }

[السنن الكبرى للنسائي]

وفي حديثٍ قدسيٍّ آخر يقول:

{ أحِبَّائي وأوليائي الَّذينَ يُذكَرونَ بذِكْري وأُذكَرُ بذِكرِهم }

[المعجم الأوسط للطبراني]

لا إذا رؤوا بل إذا ذكَروا أذكر بذِكرهم، بذِكر الصالحين تنزل الرحمة.
شيخنا قدَّس الله روحه ورضي الله عنه كان مِنْ كبار العلماء قبل أن يلتقي بشيخ التربية، وحفظ القرآن ولديه طلاب عِلمٍ فكان يقول: بعد أن دخلت في مدرسة شيخي وأنار الله قلبي بنوره وعرفت ما كنت أجهله مِنْ حقائق الإيمان، قال فعلِمت أني كنت جاهلاً مع عظيم عِلمه ورفيع مكانته وطلبة العِلم ويحفظ القرآن وإمام جامعٍ ويدرس، فالعالِم هكذا يقول.

الهدف الحقيقي للهجرة:
لذلك الهجرة فرضٌ وإذا كان في زمن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مَنْ تخلَّف عن الهجرة فقال القرآن:

فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
[سورة النساء]

العاجِز والذي لا توجد لديه قدرة، المرأة وحدها لا تستطيع السفر عشر أيامٍ في الصحراء:

فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
[سورة النساء]

ولم يقل أنه سيعفو عنهم بل عسى، هل كان لهم طريق؟ حتى الطفل:
(الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ) هل آمنت بهذه الآية؟ هل تُؤمن بما تجهَل؟ هل علِمتها وعرفت مقصودها؟ لما قرأتها هل علِمت أنك يجب أن تُهاجر؟ الهجرة ليست لمكة، مكة جدرانٌ وبيوتٌ وأناسٌ مثل العالَم كلِّه، الهجرة لله ورسوله، رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غاب عنا ولكن هل تُركنا بلا نائب؟ قال: (العلماء) بالله وشريعته، فالهجرة فرضٌ بنصِّ القرآن وفي كلِّ زمانٍ ومكان، فبلا هجرةٍ ولا مَنْ يُعلِّمُكَ الكتاب لا قراءة ألفاظه ومعرفة إجادة النطق بحروفه بل يُعلِّمُكَ حقائقه ومعانيه وأهدافه، والحكمة والعقل الحكيم ويُزكِّيهم، يُزكِّي نفسك ويُطهِّرها مِنْ رذائلها ونقائصها، لو هاجرت مشياً على الأقدام شهراً واثنين وثلاثة ووجدت مَنْ يُعلِّمُكَ الكتاب والحكمة ويُزكِّيك فأنت الرابح، قال: لا تنجو مِنَ الخسارة ولا تُعَدُّ مِنَ الرابحين إلا بالإيمان والعمل الصالح هذا لك.

فضل تعليم الآخرين:
ولا يكفي أن تربح، فالرِّبح لا يتم إلا بأن تقوم فتُعلِّم الآخرين، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) .

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم (13) وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِير (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
[سورة لقمان]

هذا الأب مع ابنه وكذلك سيكون الأخ مع أخيه والإنسان مع رفاقه، الله يسألك عن عِلمك ماذا عمِلت به؟ هل عمِلتَ به وعلَّمته ونقلته للآخرين وهل دلَلت النَّاس على مجالس العِلم ومنابعه لعلَّهم يهتدون؟ (وَتَوَاصَوْا) الجلسة والسهرة والنزهة قائمةٌ وأنت في الحافلة الركوب قُل كلمتين لوجه الله، ف:

{ لأنْ يهدِيَ اللهُ على يديك رجلًا خيرٌ لك ممَّا طلعَتْ عليه الشَّمسُ وغَرَبت }

[الجامع الصغير للسيوطي]


مواجهة الباطل بالحكمة والموعظة الحسنة:
فأصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هل تخرَّجوا مِنَ الأزهر أو حملوا شهادات شريعة وماجستير؟ هل كانوا يقرؤون ويكتبون؟ كان القارئ الكاتب نادرَ النادر، مجلس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومحبته والإيمان به و:

تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16)
[سورة السجدة]

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
[سورة السجدة]

وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
[سورة البقرة]

والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ ألا أخبركم عن الأَجودِ الأَجودِ ؟ اللهُ أجودُ الأجوادِ وأنا أجودُ ولدِ آدم وأجودُهم من بعدي رجلٌ علمَ علما فنشرهُ ، يُبعثُ يومَ القيامةِ أُمَّةً واحدةً }

[مسند أبي يعلى]

(ألا أخبركم عن الأَجودِ الأَجودِ ؟ اللهُ أجودُ الأجوادِ وأنا) يعني النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، (وأنا أجودُ ولدِ آدم وأجودُهم من بعدي رجلٌ علمَ علماً)(3) إذا تعلَّمت وقالوا لك أن هذا الكأس فيها سُمّ، ما هو مُقتضى عِلمك ومعرفتك؟ هل تشرب، وإذا واحدٌ وهو بنظرك صادقٌ وخبره يقينٌ وقال لك: البيت الذي اشتريته احفر الحوض به على عمق خمسين سنتيمتراً يوجد كنز، أو لو رأيت في المنام قائلاً يقول لك: احفر الحوض يوجد كنز، والمنام يوجد منه أضغاث أحلام ويوجد أشكالٌ وألوان، وهو ليس وحياً، يمكن أن لا تنام تلك الليلة أو تقوم مِنْ منتصف الليل وتحفر، فإذا كان رب العالمين يقول لك: طريق الربح لكي لا تكون خاسراً هو الإيمان ثم العمل الصالح، هذا لنفسك، يجب أن تقوم لتُسعِدَ الآخرين، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) أينما رأيت باطلاً تحاول أن تُزيحه بالحكمة والموعظة الحسنة، أينما رأيت فريضةً وواجباً متروكاً ومُهملاً تقوم وتُذكِّر النَّاس كذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجب أن تكون بطاريتك مليئةً بالكهرباء، فإذا كبَستَ الزر ولم يكن فيه البطارية كهرباء هل تُفيدنا شيئاً؟ الكبسة ماذا سيكون معها؟ يجب أن تكون البطارية مليئةً بالتيار الكهربائي.
كنت أسمع مِنْ شيخنا رضي الله عنه يقول: بعض الشيوخ مِنْ أصحاب القلوب خرج إلى نزهةٍ مع إخوانه، وجلسوا على شاطئ نهر، وإذ على جانبهم جماعةٌ يُعربِدون ويسكرون وبآلات اللهو، فقال الشَّيخ لإخوانه: مَنْ منكم يستطيع أن يُزيل هذا المنكر؟ فقال أحدهم: إذا سمحت لي أنا أقوم بهذا العمل، قال له: بسم الله، فقام وجلس وذكَرَ الله عزَّ وجلَّ وتوجَّه بقلبه إلى قلوب أولئك الجالسين، لم يتكلَّم معهم ولا أمرهم ولا نهاهم، وإذ بهم يرون في الجلسة اثنان تشاجروا مع بعضهم البعض ثم يقومون كلُّهم لبعضهم البعض، وأكواب الخمر كلها تقع عن الطاولة وتُكسر الزجاجات والخمر يسيل ويتماسكون مع بعضهم البعض فقال الشَّيخ للإخوان: قوموا، وقال لذاك: يكفيك أوقف مُحركك، المطلوب حصل، فقام إخوان الشَّيخ فأصلحوا بينهم وقالوا لهم أن يجلسوا مع الشَّيخ فجلسوا مع الشَّيخ فهداهم الله جميعاً.

متطلبات الأمر بالمعروف:
فالشاهد أن النُّصح والوصية والأمر بالمعروف يحتاجون قلباً يكون حياً بالله حتى إذا خرَجَ الكلام مِنَ القلب يصل إلى القلب، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) فهذا جعله الله علامة الربح، تربح حياتك وعمرك، مِنْ عمرك وشبابك (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) فأينما رأيت معروفاً وواجباً متروكاً تُوصي النَّاس بفعله، إذا كان مشكوكاً في أمرهم شيءٌ غائبٌ عنك:

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
[سورة النساء]

فالتواصي بالحق أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر هذا هو ربح الحياة والشباب وسعادة الأبد والخلود، كما أن الله عزَّ وجلَّ يُكافئك بقوله:

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
[سورة الزمر]

إذا وعَيتَ عن الله وفهِمت كتابه وقرأته لتفهمه، إذا لم تفهم:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
[سورة النحل]


في فهم القرآن تغيير للحياة:
هذا الكتاب الواحد لما فهمه أبناء الصحراء المُقيمون في وادٍ غير ذي زرع، لا يوجد عندهم لا أنهارٌ ولا عيون ماءٍ إلا بئر زمزم وهو ماءٌ معدني، مِنْ حيث المذاق له بركته هذا شيءٌ آخر.. فهؤلاء بهذا الكتاب إيماناً وفهماً وتعليماً وتطبيقاً استطاعوا أن يكونوا أعظَمَ أمم الأرض، واستطاعوا أن يقهروا الظالمين في مشارق الأرض ومغاربها، وإلى الآن في عصرنا هذا تخاف أوروبا مِنَ الإسلام وتهابُه، وهذا مِنْ جهلهم، يظنون أن الإسلام والمسلمين استيلاءٌ وغصبٌ وتعدٍّ كما هم يفعلون وهم أقوياء، لا، في معارك الفرس وجهاد المسلمين في بلاد فارس صار حوارٌ بين قائد المسلمين ربعيّ وبين رستم قائد الفرس، فسأل رستم وقال: لماذا أتيتم إلى بلادنا؟ فقالوا: إن الله ابتعَثنا ودفعنا إلى الجهاد لننقل العباد مِنْ عبادة العباد إلى عبادة الله، ومِنْ ضيق الدنيا إلى سَعَتها، يعني لا نريد أخذ أموالكم والاستيلاء عليها، بل لنُغنيكم ونُخلِّصكم مِنْ فقركم، ولننقل النَّاس مِنْ ضيق الدنيا إلى سَعَتها، ومِنْ جَوْرِ الأديان- الجَور الذي كان يحصل مِنْ أبناء الأديان- إلى عدالة الإسلام، لذلك كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ إنَّما أنا رَحمةٌ مُهداةٌ }

(صحيح الألباني)

وخاطبه الله:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]


الدعوة بعد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم :
بعد النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مَنْ أكمل الرحمة للعالمين؟ المسلمون مِنْ بعده، لما رجال الدولة فتنتهم الدنيا بزينتها وأهوائها وفِسْقِها وفجورها انهارت الدولة كمسلمين، فقام الدعاة لله وأكثرهم كانوا تجاراً، التجار ذهبوا إلى الشرق الأقصى لكن كانوا علماء وأتقياء وأنقياء وأصحاب قلوبٍ نوارنيَّةٍ ونفوسٍ مُزكاة، فكانت تجارتهم تجارتان: تجارة الدنيا والآخرة، فكان يُتاجر فيربح مال الدنيا ويقوم بالدعوة لله، أندونيسيا بها الآن مئتا مليون مسلم، هؤلاء وصل لهم الإسلام بواسطة الذين فقِهوا (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) وباعتبار أن الدعوة لله تحتاج إلى تعبٍ وتحمُّل إيذاءٍ وصدودٍ ووقتٍ طويل، يعني الأمر لا يصير بلحظةٍ واحدة، ستصبر على الزمان والمكان والقابلية والعداوة والأعداء والاحتقار والإيذاء، قال: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ).

صبر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الأذى:
فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم لما ذهب للطائف ليجعلهم ملوكاً في الدنيا والآخرة، بماذا قابلوه؟ سلَّطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم فرجموه بالحجارة حتى سالت الدماء فملأت خُفَّيه، يعني امتلأ بالدماء مِنْ أفخاذه التي تأذت مِنْ ضرب أحجار السفهاء، فدخل بستاناً لبعض زعمائهم فكفُّوا عنه فجلس في ظلِّ نخلةٍ وشكى إلى الله مناجاته المشهورة:

{ اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلةَ حيلتي وهواني على الناسِ }

[أخرجه الطبراني]

هذه (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر).

{ أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني؟ أم إلى بعيد ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن رحمتك أوسع عندي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك (4) }

[الدعاء للطبراني]


الدعوة إلى الله من السنة:
يا الله! العمل بالكتاب والسنة هذه أليست مِنَ السُّنة؟ أن تقوم داعياً إلى قومٍ كفرةٍ جاهليين وثنيين بمسافة مئة كيلو متراً جبالاً وودياناً ويُصَدُّ أقبح الصدِّ ويُقابَلُ أسوأ الاستقبال ويُرجَمُ حتى تسيل منه الدماء، يا تُرى هذه السُّنة، يقولون أهل السُّنة والجماعة، يا تُرى هل تقوم بهذه السُّنة أنت؟ هذه السُّنة ليست لأهل السُّنة فقط، لأهل السُّنة والجماعة والشيعة، أسأل الله أن يأتي يومٌ وهو ليس بالبعيد أن ننتهي مِنْ هذين اللقبين، كلُّ المسلمين مطالبون بسُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبمحبة آل بيته، نجعل مِنَ الألقاب تقسيماً وتجزئةً للمسلمين، فما لم نرجع إلى كتاب الله المشروح بالصحيح مِنْ سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الله المتلاقية مع صريح القرآن وإلا سنبقى بما نحن فيه إلى أن نعود إلى صراط الله المستقيم.

أفضل الإيمان:
لذلك سورة (وَالْعَصْر (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر) وما هو طريق الربح؟ الله يدلنا عليه لكي لا نخسر الحياة ولا الشباب ولا الصحة ولا العمر ولا الغِنى والسعادة، فقال: أربع أشياءٍ لتكونوا رابحين وإلا:

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
[سورة البقرة]

هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
[سورة الصف]

ما معنى تؤمنون بالله؟ أفضل الإيمان أن تعلَم أن الله معك حيثما كنت، إذا أردت أن تعمل عملاً ناقصاً وطفلٌ يُشاهدك تخجل منه، إذا كان أبوك يراك تخجل أكثر، وإذا رآك شيخك تخجل أكثر وأكثر، وإذا رآك النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بحضرته هل تستطيع أن تعمل شيئاً؟ إذا بحضرة الله والله معك أليس:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

فهل آمنا الإيمان الحقيقي؟ فلو آمنَ بقوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) هل يستطيع أن يتخلَّف عن امتثال أصغر أمرٍ مِنْ أوامر الله؟
لو كنت بحضرة رئيس الجمهورية وأمرك بشيءٍ وتناوله بين يديك هل تستطيع أن تتخلَّف؟ تكون مثل السَّهم في امتثال الأمر، فهل تستطيع أن تعمل شيئاً يُغضبُه وهو يُشاهدك؟ هذا هو الإيمان، أفضل الإيمان أن تعلَم أن الله معك حيثما كنت، فالإيمان بالقرآن لو آمن المسلمون بهذه السورة سورة العصر، لما تقرؤها هل تُفتِّش نفسك أنت رابحٌ أم خاسر؟ يا ربي كيف الربح؟ قال: أنا أدلُّكم على الربح (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا).
حارثة مِنْ أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سأله النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مرة:

{ كيف أصبحت يا حارثة؟ فقال: مؤمنا حقا يا رسول الله، إيماناً باطلاً أم حقاً؟ فقال: إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: أصبحت كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، كأني أنظر إلى ربي في عرشه، مع الله حضوراً وإقبالاً وأدباً وتهيباً وكأني أنظر إلى أهل الجنة في نعيمهم يتنعمون وإلى أهل النَّار في جهنم يتعذبون، فقال له: عرفت فالزم، عبدٌ نوّرَ اللهُ الإيمانَ في قلبهِ (5) }

[مسند البزار]

عبدٌ نوَّر الله قلبه بالإيمان.

دخول مدرسة الإيمان:
يا ترى هل صار لك هذا الإيمان؟ هل دخلت مدرسته وفتَّشت عن أساتذته؟

{ أن جبريلَ سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الإحسانِ، فقال : أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكنْ تراه فإنه يراك }

[صحيح البخاري]

(وَالْعَصْر (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر) يا تُرى لما تقرؤها هل فتَّشت نفسك أنت مِنَ الخاسرين أم الرابحين؟ ما هو طريق الربح لنسلُكَه وطريق الخسارة لنجتنَّبه، فالخسارة أن تخسر الإيمان، الإيمان بالله أن تعلم أن الله معك، الإيمان بالقرآن أن تتعلَّمه، لا تتعلَّم النطق بالحروف والكلمات، بل أن تتعلَّم معانيه وأوامره ووصاياه وتُطبِّقها حتى تكون القرآن العملي ويُقرَأ القرآن في أعمالك.

تطبيق القرآن في الحياة:
سُئِلت سيدتنا عائشة رضي الله عنها عن خُلِقِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقالت:

{ كان خُلُقُه القرآنَ }

[صحيح الجامع للألباني]

ذُكِرَ مِنْ صفات عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان وقافاً عند كتاب الله، أغضبه شخصٌ مِنَ النَّاس لجهلِه وحماقته فهِمَ أن يُؤدِّبه، فكان أحد جُلسائه قال له: يا أمير المؤمنين: الله يقول:

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
[سورة الأعراف]

وإن عمي هذا مِنَ الجاهلين، ومِنْ صفاته أنه كان وقَّافاً عند كتاب الله فسَكَن غضبه وكَظَمَ غيظه.
لذلك (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) الله ذكر في القرآن الوصايا بكثرة:

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
[سورة الأنعام]

وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
[سورة مريم]

هذه الآية تُوجِبُ عليك أن توصي كلَّ إنسانٍ بتقوى الله:

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ۚ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
[سورة النساء]

أولادك، الله قال عن لقمان مع ابنه:

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
[سورة لقمان]

وحدانية الله.

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
[سورة الإسراء]

وقال:

وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
[سورة العنكبوت]

ثم قال:

يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
[سورة لقمان]

مِنْ أعمالك الخير والشر لو مثقال ذرةٍ من خردل لا تخفَى على الله ويعلمها الله وستُقارن على عملِها، إن خيراً فخير وإن إثماً ومعصيةً فعقوبة وكذا.. إذا لم يعفُ الله عزَّ وجلَّ، فأحدكم هل يقول يا أخيَّ يا أخيَّ أو يا صاحبي يا صاحبي أو يا زوجتي يا زوجتي أو يا أبتي يا أبتي كإبراهيم عليه السَّلام مع أبيه آزر؟ هل نأمر بالمعروف؟

وصف الله عزَّ وجلَّ للمؤمنين:
الله وصف المؤمنين والمؤمنات:

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
[سورة التوبة]

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) أول صفةٍ بعد الإيمان أنهم كالجسد الواحد، المسلمون الآن هل بعضهم أولياء بعض؟ والجيران هل بعضهم أولياء بعض؟ وأبناء الأسرة هل بعضهم أولياء بعض؟ وأبناء البلد؟ المسلمون بعد أن قال عن وحدتهم قال: (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أينما وجَدت إنساناً تاركاً لواجبٍ مِنَ الواجبات الإلهية تأمره بمعروفٍ ويكون أمرك له بمعروفٍ وبالحكمة والموعظة الحسنة، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) بعدها قال: (وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) فقدَّم الأمر والنهي.

الوصية بالصبر على الأذى:
وهنا في السورة (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر) فقد تُؤذَى، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لما ذهب للطائف رُجِمَ بالأحجار فصَبَر أم لا؟ قاموا بعدة مؤامرات وهو في مكة، ثم حاربوه عدة حروبٍ وهو في المدينة:

ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
[سورة البلد]

(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) فالمؤمن أينما وُجِدَ مثل الإنسان إذا كان في أشعة الشَّمس يكون ظلُّه معه فهذه ظلال الإيمان، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر) في السفر والحَضَر مع القريب والبعيد، ولذلك قال الإمام الشافعي: لو لم ينزل مِنَ القرآن إلا هذه السورة لكَفَتِ النَّاس، فيا تُرى هل تُعاهدونني على هذه السورة؟ تنقلونها مِنَ الألفاظ إلى العمل أينما كنتم في العُسر واليُسر ومع مَنْ تعرفون ومَنْ لا تعرفون بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس شرطاً أن كلَّ مَنْ نصحته وأمرته ونهيته أن يأتمِرَ أو ينتهي، لما يُلقي المزارع البذور في أرض فلاحته هل كلُّ البذور تُنبِت؟ الشجرة لما تُزهر هل كلُّ الزهر ينعقِد ويصير ثمَراً؟ لا، الصياد لما يُلقي شبكته في البحر فهل في كلِّ إلقاءٍ تخرج الشبكة ممتلئةً سمكاً؟ فالصياد.. أنا كنت في الشباب أخرج للصيد، وكنت أعرف أن الصياد الماهر هو الذي إذا أطلق مِنْ بندقيته مئة طلقةٍ يأتي بخمسين طائر، هذا الصياد الماهر، يعني يستجيب له خمسون بالمئة، أما غير الماهر فقد لا يحضر مِنَ المئة خمسة، يوجد أناسٌ يُحضرون عشرة، المهم أن تقول: يا الله وأن تتبرَّأ مِنْ نفسك ومِنْ حظها وهواها، لا يكون لك إلا هدفٌ واحدٌ وهو إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي.

التواضع في الدعوة إلى الله:
أن تتواضع لمن تدعوه إلى الله وتُكرِمه وتُحسِن إليه، مِنْ سهم توزيع الزكاة سهم المؤلفة قلوبهم، لما فتح النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مكة وانتصر في حنينٍ وغنائم حنينٍ ملأت الوديان فأعطى الغنائم معظمها لا للمجاهدين ولا للأنصار والمهاجرين، أعطى أبا سفيان مئة جملٍ أو ناقة، قال له: ولابنِ فلان؟ قال له: مئة ناقة، وقال له: ولابنِ فلان؟ قال له: مئة ناقة، سيِّدنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كم أعطاهم؟ للمهاجرين والأنصار الذين سيوفهم وأخذوا على خاطرهم وحزنوا وصاروا بين بعضهم البعض قالوا: سيوفنا تقطرُ مِنْ دمائهم والغنائم لهم، بلغ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فجمعهم وقال: ما مقالةٌ بلغتني عنكم؟ فقالوا: والله قلنا يا رسول الله، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إنما أعطي من أعطي لضعف إيمانه وتألفاً لقلبه، وأما أنتم فأكلكم إلى إيمانكم، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي؟ ألم أجدكم أعداء فألف بين قلوبكم؟ ألا تحبون أن يرجع النَّاس بالشاة والبعير وترجعون أنتم برسول الله إلى رحالكم؟ (6) }

[صحيح البخاري]

فصارت لحاهم تقطُرُ مِنْ دموعهم وقالوا: رضينا بالله ورسوله حظاً ونصيباً.

أن يكون غرض الداعي هو رضا الله عزَّ وجلَّ:
فالشاهد سيكون غرض وهدف المُتكلم في الوصية بالحق والدعوة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما يكون له هدفٌ إلا رضا الله مع التأدُّب بأدب الدعوة:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
[سورة آل عمران]

(وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ) يعني إذا أساؤوا (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) إذا أذنبوا، ولا يهولنَّك شيءٌ إذا وقف في طريقك (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ)فمن تأدَّب بأدب القرآن وتفقَّه بفقهه المشروح والمُفسَّر بالسنة النبوية الصحيحة، (أصبحت كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً).

الحاجة إلى الذكر الكثير:
هذه تحتاج الذِّكر الكثير:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
[سورة الأحزاب]

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
[سورة الأحزاب]

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
[سورة آل عمران]

هذا أليس قرآناً؟ هل يوجد شيءٌ حضَّ الله على الإكثار منه وكرر طلب الإكثار كما طلب مِنَ الإكثار مِنْ الذِّكر؟

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
[سورة الجمعة]

(إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى) الصَّلاة؟ بل قال: (إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) إذا لم تكن صلاتك ذِكراً مِنَ التكبير: لما تُكبِّر تُكبِّرُ بلسانك وقلبك وكلِّ جوارحك، لما تقول وجهت وجهي تخاطب الله وكأنك بين يديه، الحمد لله وكأنك بين يديه:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
[سورة الفاتحة]

وفي آيةٍ أخرى:

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
[سورة طه]

جعل الصَّلاة ذِكراً ووسيلةً والغاية هي ذِكر الله بحسب البرنامج الإلهي والخريطة الربانية.

دو شيخ التربية في فهم القرآن:
شيخنا يقول: لما أكرمني الله بشيخ التربية وهو كان مِنْ كبار العلماء، قال: وكنت حافظاً لكتاب الله، فبعدما انجلى قلبي بذكر الله رجعت إلى قراءة القرآن فوجدت أني قبل ذلك كنت لا أفقه قراءة القرآن، وهو العالِم والمُعلِّم والدروس وطلبة العلم.. قال: قبل شيخ التربية وجد نفسه، وهذا شيءٌ واقع ٌوعملي، وبعد ذلك هدى الله به أمةً، وعِلمٌ بلا قلب:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (22)
[سورة الزمر]

فتزكية النفس مع فقه القرآن والحكمة هي معرفة الحقائق على ما هي عليه في الواقع، ومعرفة ارتباط المُسببات بأسبابها قدراً وشرعاً، تعرف حكمة الأقدار والتشريع، وأمراً ونهياً وتعرف حكمة الأوامر والنواهي، هذه اسمها الحكمة:

فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
[سورة الأنبياء]


طهارة القلب من الغفلات :
فأكثروا مِنْ ذِكر الله:

لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
[سورة الواقعة]

لما نزَلت الآية نزَلت في مكة، ولما كان في مكة وحتى في المدينة وحتى وفاة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هل كان هناك مصحفٌ مجموع؟ أين كان المصحف مكتوباً؟ على الأحجار وورق النخل، إذاً (لَّا يَمَسُّهُ) أي لا تمسُّ روحك روح القرآن إلا إذا طهُرَ قلبك مِنَ الغَفلات ونفسُك من الأنجاس:

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
[سورة الأحزاب]

فإذاً سورة العصر هل تعاهدونني على أن تعملوا بها أولاً:

إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلاَّ الْمُصَلِّين (22)
[سورة المعارج]

فإذا كان مُصلياً وهو هَلوعٌ وجَزوعٌ ومَنوعٌ ومنَّاعٌ للخير، يهلَعُ ويجزَعُ لأقلِّ شيءٍ يُصيبه مِنْ مصائب الحياة، والله يقول: المُصلي لا يكون جزوعاً، يكون صبوراً وصامداً وحليماً، ولا يكون مَنُوعاً لواجبات الله في المال والتعليم وكلِّ ما أمر الله عزَّ وجلَّ به، جعلنا الله من المُصلين الذين يخشعون في صلاتهم، فهل تُعاهدونني على سورة العصر؟ هل فهمتموها؟ ونويتم التطبيق؟ أنا جالسٌ معكم على حساب قلبي، الأطباء لو أسمع كلامهم لا يتركونني أجلس نصف هذه الجلسة معكم، أُقدِّم قلبي لكم، هل تُقدرون تعبي وتعملون بها تماماً؟ هل تكونون المؤمنين:

وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۗ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
[سورة فاطر]

وإلى آخر الآيات.. ثم تتواصون بالحق أينما جلستم ومع مَنْ جلستم وتتواصون بالصبر:

يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
[سورة لقمان]

مهما ما أصابك مِنْ كلامٍ أو إيذاء.

صبر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وتثبيته:
فلما جُرِحَ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في بعض المعارك مِنْ جُملة ما جُرِحَ إصبعه فقال لها:

{ هلْ أَنْتِ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيتِ، وفي سَبيلِ اللَّهِ ما لَقِيتِ }

[صحيح البخاري]

جعل الله حياتنا لله:

قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
[سورة الأنعام]

متى ستُباشرون بتنفيذ سورة العصر؟ بدءاً من اليوم؟ يعني مِنْ بعد الصَّلاة؟ اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

{ لأنْ يهديَ اللهُ على يديْكَ رجلًا خيرٌ لك مما طلعتْ عليه الشمسُ وغربتْ (7) }

[سنن الترمذي]

وصلَّى الله على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
نقرأ الفاتحة على روح شيخنا الدكتور ياسر طعمة ووالدته، يَعُزُّ هو وهي علينا أيضاً.

المسعى للمصالحة بين الدول الإسلامية:
لعلَّكم وأنا سمعنا البارحة يمكن وأول البارحة عن مسعى الرئيس لمصالحة الدول الإسلامية بعضها مع بعض، وسابقاً كان له سهمٌ كبيرٌ في اجتماع القمة لرؤساء الدول العربية، الآن بدأ في العمل الأعظم والأكبر وهو جمع رؤساء الدول الإسلامية بعضها مع بعض، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً وحقق الله له الآمال وجَمْعَ المسلمين على كتاب الله وسنة رسوله، الواقع هذا يُعتبر مِنْ أكبر الجهاد:

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
[سورة الأنفال]

ثم تشرَّفنا في هذا اليوم المبارك بالضيوف المباركين مِنْ عُترة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومِنْ علماء البلد الشقيق إيران ومِنْ الكويت وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء، إخواننا الشَّيخ يوسف الرفاعي وزيرٌ وشيخٌ وابن طريق رضي الله عنه، وشرَّفنا أيضاً سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد أبو الحسن نوَّاب معاون رئيس رابطة الثقافة والاتصالات الإسلامية في إيران، فنُرَحِّبُ بهم بقلوبنا ومُهَجِنا، ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحفظ إيران وحكومتها الإسلامية ويُحقق الآمال بعودة المسلمين إلى كتاب الله وسُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا واجبٌ على كلِّ مسلمٍ مهما صَغُرَ شأنه حتى إذا لم يستطع أن يعمل شيئاً يدعو إلى الله بتحقيق هذه الغاية والأمنية وإن شاء يتحقق قول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إن خِيَارَ أمتي أولُها وآخِرُها، وبين ذلك ثَبَجٌ أَعْوَجُ، لَيْسُوا مِنِّي، ولَسَتُ منهم (8) }

[شرح مشكل الآثار]

فأهلاً وسهلاً ومرحباً، لا نقول بضيوفنا، أنتم في بلدكم ومع إخوانكم، والحمد لله رب العالمين.

الحواشي:
(1) شعب الإيمان، رقم: (65)، (1/158).
(2) السنن الكبرى للنسائي، كتاب التفسير، باب ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم، رقم: (1117).
(3) مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176)، بلفظ: «ألا أخبركم عن الأجود الأجود؟ الله الأجود الأجود، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل علم علما، فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمة واحدة، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله حتى يقتل».
(4) الدعاء للطبراني (ص: 315) رقم (1036).
(5)مسند البزار، رقم (6948)، (13/ 333).
(6) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، رقم: (4330)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام ...، رقم: (1061).
(7) سنن الترمذي، أبواب العلم: باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، رقم: (2656).
(8) شرح مشكل الآثار، رقم: (2473)، (6/270)، حلية الأولياء، لأبي نعيم، (6/123).