تفسير سورة العصر 1

  • 1996-06-28

تفسير سورة العصر 1

الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل وأعطرُ التحيات التسليمات والصلوات الصَّلاة على سيِّدنا مُحمَّدٍ خاتَم النبيين والمرسلين وعلي أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخوَيه سيِّدَينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه مِنَ النبيين والمُرسلين وآلِ كلٍّ وصحْبِ كلٍّ أجمعين، وبعد:

أحكام إنفاق الأوقات والأزمنة:
نحن الآن في تفسير سورة العصر، مرَّ معكم في الدرس الماضي أن تفسير العصر هو الزمن والدَّهر الذي لا يعرف أوَّلُه مِنْ آخره، ويتفرَّع عنه وقت الإنسان.. وقت الإنسان مِنَ العصر والدَّهر والزمان المُطلق، حَلَفَ الله للإنسان بالزمن ودائماً المحلُوف به يكون له قيمةٌ ومكانةٌ للحالِف، فحَلَف الله بالزمن ليُعرِّفنا قيمته ولنعرِفَ كيف نستفيد من الوقت، لا نُضيِّع وقتنا ولا عُمرنا لا قليلاً ولا كثيراً إلا مقابل أن نأخذ ما ينفعُنا ويُفيدنا في ديننا ودنيانا، أما أن تصرِفَ وقتاً وزمناً دون أن تأخُذَ مقابله ما ينفعك فهذا يُعتبر مِنَ اللغو، واللغو هو كلُّ شيءٍ تفعله لا ينفَع ولا يضُر.
وكذلك هناك زمنٌ واجب، إذا صار وقت الجهاد فصرف الوقت في الجهاد واجب، وإذا دخل وقت الصَّلاة فصرف الزمن والوقت لأداء الصَّلاة واجب، ويوجد شيءٌ إذا صرفته بالزمن استعملت الزمن بالحرام كما إذا استعملت وقتك وشبابك ومالَك وقوَّتك وحُكمَك في معصية الله، وأن يمضي وقتٌ لا تنتفع فيه ولا تضرُّ فهذا زمنُ لغو، اللغو هو ما لا نفْعَ منه ولا ضرر، إلا إذا كنت مُتعباً وصرفت الوقت في الراحة فهذا ليس لغواً.

معنى العصر في السورة:
هذه أحد تفاسير العصر بالزمن، الزمن المطلق، وبعض المفسرين قالوا أن العصر الذي حَلَفَ الله به.. بالنسبة للأول حياة الإنسان وأعماله كلُّها موقوفةٌ على الوقت، يقول لك: أعطني القليل مِنَ الوقت لأعمل لك ما تريد، له تفاسيرٌ متعددةٌ وأنا اخترت الأول.
والثاني: العصر أي عصر سيِّدنا مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم وعصر وحي القرآن، ذلك العصر الذي بُنيَ فيه أفضل إنسانٍ وأعظم عقلٍ يعقِلُ الدنيا بكلِّ أبعادها وخيراتها ومنافِعها سياسةً واقتصاداً وتجارةً وصحةً وعِلماً وآخرةً وتقوى وعبادةً إلى آخره.. فأشرف العصور والأزمنة هو عصر النبوة حيث أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمعونةٍ مِنَ الله وتأييدٍ استطاع أن يبني الإنسان الفاضل العظيم، إنسان الجسد والعقل، يُعلِّمُه الحكمة وهي العقل الكامل الناضج الذي قلَّ ما يُخطئ، علَّمه العقل السماوي ليُؤمِّنَ مُستقبله في عالم الخلود، بنى فيه عقل السياسة ليبنيَ الدولة العُظمى العالميَّة السياسيَّة التي ما سجَّل التاريخ في عصرٍ مِنَ العصور كما سجَّله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في عصره حيث بنى أرقى دولة.
أين الدولة الديموقراطية التي يدَّعون بها ويتعالون بها على شعوب العالم؟ القتل والجرائم والمُسكرات والمخدرات واستعمالها دجلاً على الشعوب الضعيفة ليكون الشعب عشرين شعباً وحزباً، فعصر النبوة بُنيَ فيه الإنسان العظيم الذي لم يُبنَ إنسانٌ قبل عصر النبوة مثل إنسانِ النبوة ولا بُنيَ إنسانٌ بعده إلا إذا بُنيَ على منهاجِه ومِنواله.

ما يميز عصر النبوة:
وما حصل في عصر النبوة للإنسان أنه أقام دولة العِلم:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[سورة البقرة]

كتاب الله، كتاب الله يُعلِّمُ الإنسان فيه كلَّ ما يحتاجه ويُزيِّنه ويُكمِّلُه في أمور دنياه وأمور روحه وأخلاقه مع نفسِه وأسرته ومع مجتمعه ومع عدوِّه ومع ابن السبيل الذي يُعبَّر عنه بالأجنبي، القرآن عبَّر عن الأجنبي بابن السبيل الغريب، فكم وصَّى القرآن بالأجنبي ابن السبيل أي ابن الطريق وليس ابن البلد، ثم بنى الدولة، أيُّ دولة؟ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عملياً كان رجل الدولة، ولكن تنازل عن لقب رجل الدولة لما نزل جبريل يُخيِّره عن الله: أتريد يا مُحمَّد ملِكاً نبياً -تأخذ لقب المَلِك والنبي- أم عبداً نبيَّاً؟ فقال:

{ عبداً نبياً (1) }

[السنن الكبرى للنسائي]

وهو في مركز المَلِك ماذا كان قصره وماذا كانت مظاهره التفخيمية وخصائصه الدنيوية وامتيازاته المالية؟ تُوفِّـي وجعل ميراثَه للأمَّة لا يرِثُ مِنْ مالِه الخاص أحدٌ ولا ابنته، لما طلبت فاطمة ميراثها ولم تعلم أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:

{ نحنُ معاشرَ الأنبياءِ لا نُورثُ (2) }

[صحيح البخاري]

غضبت وغاضبَت أبا بكرٍ رضي الله عنه الذي قال أنا سمعت، وإذا سمع سيِّدنا أبو بكرٍ من النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم هل يُطيعه أم يُطيع فاطمة؟
فالخلاصة في مقام المُلك لو كان غير نبيٍّ سيعمل الأُبَّهة والعَظَمة لنفسِه وأهله وذريَّته، ولكنه كان يجلس على التراب وكان يربط الحجر والحجرين على بطنه مِنَ الجوع وكان يمشي في الأسواق فتُوقِفُه الجارية -العبْدة المملوكة- تعرِضُ عليه حاجتها فيقف لها ويستمع إليها، وتُمسك بيده العجوز الفقير فتأخذه إلى حيث يقضي حاجتها، إذا كانت لها مشكلةٌ من المشاكل، لا تحتاج استدعاءً وطوابعَ ومحاماة.. فهذا العصر الذي وُجِدَ فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبنى فيه الإنسان الفاضل الذي تخيَّلته الفلاسفة في أفكارهم وكتبوه في كُتبهم ولكن عجِزُوا أن يُوجِدوه على الواقع المنظور والمشهود لإنسانٍ واحد.
أما مُحمَّدٌ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بنى الأمة الفاضلة وبشهادة السماء:

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
[سورة آل عمران]

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) لا لأنكم عربٌ أو عَجَمٌ أو هِندٌ فالتفاضُل بين النَّاس لا يكون باللغات والقوميات، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) تأمرون بالخير وبأداء الواجب (وَتَنْهَوْنَ) تردَعون وتمنعُون (عَنِ الْمُنْكَرِ) الباطل الضَّار المُؤذي (وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).

أفضل الإيمان :
الإيمان بالله: أفضل الإيمان أن تشهَدَ أن الله معك حيث ما كُنت، فإذا كان شرطيٌّ إلى جانبك هل تستطيع أن تعمَلَ ما يُخالف القانون؟ الشرطي يرانِي ويُعاقبني، فقال: أفضل الإيمان أن تعلَم أن الله معك، فإذا الشرطي وهو إنسانٌ مِثلُك إذا كان معك تحسِبُ له هذا الحساب، فإذا كان خالِقُك وخالِق الكون والعالَم ورازقُك وواهِبُك الحياة والسمع والبصر والوجود وكلَّ النعم، إذا كان يراك ويَشهدك ويسمع كلامك ويُبصر أعمالك فكيف يكون حالُك معه إلا على أحسن ما ينبغي أن يراك ويَشهَدك؟ فبهذه التربية نشأ أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ أُمِّيتهم وأعرابيتهم وفقرِهم وجهلِهم إلى أن أخذوا شهادةً مِنَ النبوَّة عندما وصفهم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال:

{ حكماءُ علماءُ، كادوا مِن فِقْهِهم أن يكونوا أنبياءَ }

[حلية الأولياء]

(علماءُ) ومِنْ قبل كانوا جُهلاء سفهاء خُرافيين وثَنيين، (حكماءُ علماءُ) يعني فلاسفة لكن فلاسفة أعمالٍ لا أقوالاً وأفكاراً، (كادوا مِن فِقْهِهم) مِنْ زيادة العلوم (أن يكونوا أنبياءَ)(3).

عجز الفلاسفة عن صنع الإنسان الفاضل:
النَّبيّ هو الذي يصنع الأمَّة الفاضلة، الفلاسفة عجِزوا أن يصنعوا الإنسان الفاضل، أما النبوَّة تصنع الأمَّة الفاضلة، وسيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم صنع الأمم الفاضلة، لا أمَّة العرب والعَجَم والترك والكُرد والأفغان والباكستان، بل صنع نصف العالم القديم الصناعة الفاضلة، الشيوعية رغم ما فعلت لتُسعِدَ النَّاس فآخر ما وصلت له في ألقاب مِنْ يُؤمِنُ بها سمَّته رفيقاً، إذا كنت في السفر والصحراء ورأيت أحداً في طريقك ماذا تُسمِّيه؟ رفيق، بعد مدةٍ تفترقون ولا يتعرَّف أحدٌ على الآخر، أما الإسلام سمَّى المؤمن سمَّاه بالأخ:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
[سورة الحجرات]

كذلك لم ينفِ أخوَّة الإنسان غير المُؤمن، هذه أخوَّة الإيمان وهنالك أخوَّة الإنسان للإنسان الأخوَّة العالمَية.

حُسن التعامل مع الآخرين:
لما كان المُغيرة بن شُعبة في محاربة الفرس صار حوارٌ بين قائد جيش الفُرس وبين المُغيرة بن شُعبة وفي أثناء الحوار قال المُغيرة لقائد جيش الفُرس: إن الله خلق النَّاس كلَّها مِنْ آدم، أبوهم واحدٌ وأُمهم واحدةٌ فهُم إخوةٌ أشقاء، لم يقُل عن المسلمين إخوةً بل قال: النَّاس كلُّهم إخوةٌ والإنسان أخو الإنسان أحبَّ أم كرِه، وفي القرآن:

وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
[سورة الأعراف]

(وَإِلَى عَادٍ) المُشركين الوثَنيين (أَخَاهُمْ هُودًا).

وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13)
[سورة ق]

مع أن سيِّدنا لوط لم يؤمِن به مِنْ قومِه ولا شخصٌ واحدٌ ومع ذلك سمَّاهم إخوته وإخوانه، فجعل الإنسان أخا الإنسان وغَرَسَ فيه أداء حقوق الإنسان لأخيه الإنسان حيَّاً أو ميتاً، مُؤمناً أو غير مُؤمن.
في حياة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يُوزِّع الصدقات فأتاه وثنيٌّ يطلب الإعانة، فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم للوثني: أنت لست على ديني فلا أُعطيك، فنزل الوحي حالاً مُعاتباً لرسول الله على فِعْلَته وعدم رعايته للإنسان ولو كان وثنيَّاً قائلاً في سورة البقرة:

لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
[سورة البقرة]

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) أنت لست مسؤولاً عن عقيدته، أنت مسؤولٌ عن إعانته (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) هذه مِنْ خصائص الله، أما المساعدة (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) إلى آخر الآية.. فقال: رُدُّوه عليَّ، فأعطاه كما يُعطي المسلمين مِنَ المعونة.
ومرَّت به جنازة يهوديٍّ فقام لها احتراماً فقيل: يا رسول الله إنه يهودي؟ أي على غير دينك، فقال: أوليس إنساناً؟

تقديس الله عزَّ وجلَّ لعصر النبوة :
ألا يستحِقُّ عصر النبوة أن يكون مُقدَّساً ويميناً يحلِفُ الله به؟ بماذا شُرِّفَ عصره؟ الزمن يُشرِّف الإنسان أم الإنسان يُشرِّف الزمن أو المكان؟ مكة شُرِّفَت بإبراهيم أم إبراهيم شُرِّفَ بها، شُرِّفَت بإبراهيم وبمسجده، المدينة شُرِّفَت بالنبي أم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم شُرِّفَ بها؟

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
[سورة العصر]

(وَالْعَصْرِ) فالله حَلَف بالعصر الزمن على الرواية الثانية للمُفسرين أن المقصود هو عصر النبوة، ولماذا جعله الله يميناً مُقدَّساً له؟ لفِعل الإنسان الذي فعَله ذلك الزمن، هذا ليُعلِّمَ القرآن المسلمَ أن يعمل الأعمال التي عمِلَها الأنبياء على سُننهم ومنهجهم مِنَ الأعمال الفاضلة، العِلم والحكمة والأخلاق والجِد والاجتهاد وعمل الدنيا.

الغنى والفقر في الإسلام:

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
[سورة القصص]

امتنَّ الله على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في القرآن بالغِنى فقال:

وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8)
[سورة الضحى]

(وَوَجَدَكَ عَائِلًا) فقيراً (فَأَغْنَى) ليُعلِّمَنا أن نُحارب الفقر لنعيش في الغنى، والنبي وضَّح أكثر مِنْ ذلك فقال:

{ كادَ الفقرُ أن يكونَ كُفرًا (4) }

[شعب الإيمان للبيهقي]

وإذا جعل الزكاة فريضةً والزكاة لا تُنال إلا بالغنى، فمعنى ذلك أن يكون المسلم غنياً ليكون مُزكياً، فلما فهِمَ المسلمون هذا العِلم النبويَّ السماويَّ فكيف كان حالهم؟ جَمَعَ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أصحابه مرةً فقال لهم:

{ ألَمْ أجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بي، وكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فألَّفَكُمُ اللَّهُ بي، وعَالَةً فأغْنَاكُمُ اللَّهُ بي }

[صحيح البخاري]

(وكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فألَّفَكُمُ اللَّهُ بي) سلام، (وعَالَةً) فُقراء (فأغْنَاكُمُ اللَّهُ بي)(5) يعني الإسلام منهاجه أن يجعل الفقير غنياً والذليل عزيزاً والمُتفرِّقين جماعةً موحدةً والاستعمار استقلالاً ولتحرير الشعوب.. أيضاً في بعض محاورات المسلمين مع الفُرس وقد سأل الفُرسُ المسلمين: لماذا أتيتم إلينا تُحاربوننا؟ فقالوا: إن الله ابتعثَنا لنُخلِّصَ النَّاس مِنْ عبادة العباد -أن يعبد الإنسان الإنسان- إلى عبادة الله، وأن ننقُلَهم مِنْ ضِيق الدنيا إلى سَعَتها، ما معنى هذا؟ أي أن الإسلام يُحارب الفقر، المسلم لا يجب أن يكون فقيراً، القرآن يقول: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى)، آتوا الزكاة يعني صيروا فقراء مُعدمين لتؤدُّوا هذه الفريضة؟ لا، معنى صلُّوا يعني توضؤوا لتُصلُّوا.
ولننقِذَ النَّاس مِنْ جَوْرِ الأديان إلى عدالة الإسلام، لنُنقِذَ الإنسان المظلوم، حقوق الإنسان، إذا كان على الإنسان جورٌ وظلمٌ وعدوانٌ أو كان جائعاً وعرياناً ومعتدى عليه فالإسلام قام بحقوق الإنسان ليُنقِذه مِنْ جَوْرِ الشرائع أدياناً أو غيرها إلى عدالة الإسلام، مواطناً أو غير مواطن عدوَّاً أو صديقاً:

وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
[سورة الإنسان]

الأسير عدوٌّ أم صديق؟
أمَرَ الله المسلمين أن يرحموا العدوَّ إذا وَقَعَ في الأسْرِ كما يُعاملون أعزَّ النَّاس عليهم رحمةً وحناناً وعطفاً كما ترحم الفقير والمسكين واليتيم، تعطُف عليه، هكذا عامِلوا عدوَّكم إذا وَقَعَ أسيراً بين أيديكم.

عصر النبوة هو عصر الإيمان والروح والحكمة:
فهذا العصر الذي بعشر سنواتٍ في المدينة وفي مكة ثلاثة عشرة سنةً عمَّر دولة الإيمان والروح والأخلاق والحكمة، والحكمة هي فِعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشَّكل الذي ينبغي، والصواب في القول والعمل، لا تعمل عملاً فيه خطأ، كلُّه صواب، ولا تقول قولاً فيه خطأ، كلُّه صواب، الإسلام يُعلِّمك الحكمة لتكون دائماً على صوابٍ مُنزَّهاً عن الأخطاء في نُطقك وسمعِك وبصرك ومجلِسك وصُحبتك وتجارتك وزواجك وكلِّ شؤونك، فهذه هي الحكمة:

{ من أخلصَ للهِ أربعينَ صباحًا ظهرتْ ينابيعُ الحكمةِ من قلبهِ على لسانهِ }

[مصنف ابن أبي شيبة]

(من أخلصَ للهِ أربعينَ صباحًا) كان قلبه مع الله ذاكراً ومُخبِتاً وطاهراً مُطهَّراً من الذنوب والخطايا ومُقبلاً على ربِّه ومُعرِضاً في قلبه عن كلِّ ما سواه، (من أخلصَ للهِ أربعينَ صباحًا ظهرتْ ينابيعُ الحكمةِ من قلبهِ على لسانهِ)(6)، فهذا العصر هو الذي جعله الله يميناً حَلَفَ به وهو عصر الإنسان الكامل المُكمِّل عصر سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم عصر الإسلام كما أنزله الله مِنَ السماء عندما ينزل المطر ماءً مُعقَّماً طهوراً يُعطي الحياة ويَنبِت الزروع ويُدرُّ الضروع ويُعطي العيش.
كذلك الإسلام بمعناه الأصيل النبوي جعل مِنَ العبيد أحراراً ومِنَ الأُميين علماءً وحكماءً ومِنَ الأعراب أبناء الصحراء ملوكاً وأباطرةً لا فراعنةً ونمارداً يستعملون السلطان لظلم الإنسان كما تفعله أمريكا وغيرها بستارَة هيئة الأمم لتتحكم بشعوب العالَم وبالضعفاء، أما في الإسلام فالنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ لَو سرَقَت فاطمةُ بنتُ محمَّدٍ لقطَعتُ يدَها(7) }

[صحيح البخاري]

فهذا العصر هو العصر اليتيم الفريد الذي لم يأتِ عصرٌ مثله قبله ولا بعده.

الاقتداء بعصر النبوة في بناء العصر
هذا العصر جعله الله يميناً مُقدساً، لماذا؟ ليُحاول المُسلم أن يقتديَ بهديِ ويستنَّ بسُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بناء عصره وزمانه، لتنظُر إلى عصرك أنت، وكلُّ واحدٍ لعصره حدود، الزوج في بيته عصره في بيته أن يُصلِحَ أهله زوجته وأولاده:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[سورة التحريم]

هذا فرضٌ عليك أن تجعل مِنْ عصرك وحياتك في زمنك أقلَّ الدرجات بعد أن تبنيَ نفسَك ببناء الإسلام، والإسلام الذي معناه الاستجابة لنداءات الله والتطبيق لكلِّ أوامر الله، ثم تقوم لـ (قُوا أَنْفُسَكُمْ) أصلِح نفسَك، فإذا صلَحَت أصلِح غيرك، لتقوم فتُصلِح الأقربين، فإذا فعلت ذلك صار عصرك كأنك بنيت أسرةً فاضلة، إذا أراد الله أن يُشرِّفَك أكثر :

وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
[سورة الشعراء]


حسن الوصية بالجار:
جارك، في الحديث النبوي يقول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ما زال جبريلُ يوصيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيُوَرِّثُه (8) }

[صحيح البخاري]

يعني يجعله مِنْ أحد الوَرَثة لعَظيم حقِّ الجار على جاره، إن كان جائعاً تُطعمه، عرياناً تكسوه ومحتاجاً لمساعدةٍ تُساعده وإذا كان جاهلاً تُعلِّمُه، وإذا كان فاسقاً تدعوه إلى التوبة والإنابة، خَطَب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مرةً على منبره الشريف قائلاً:

{ ما بالُ أقوامٍ لا يُفقِّهون جيرانَهم ، ولا يُعلِّمونهم ، ولا يَعِظونَهم ، ولا يأمرونهم }

[مجمع الزوائد]

أسمعتم؟ يعني بعد أن تسمعوا ماذا ستفعلون مع جيرانكم؟ هل تستطيعون بدءاً مِنْ هذه الليلة ستَقرَع باب الجار وتقول له: هل تسمح أن تشرب عندي فنجان شايٍ أو أنا أشرب عندك لنتكلَّم، هل يحدث لكم شيءٌ أو هل تخسَرون شيئاً؟ فإذا ذهبت إليه أو أتى إليك فآنِسْهُ أولاً لا تخبِره فوراً، اجعل بين يدي ذلك رسولاً كنكتةٍ وكذا.. وانظر إلى قابِليته مِنْ أي نافذةٍ تنفُذُ إلى قلبه، الصَّلاة والذِّكر والعِلم ومجالِسه، يقول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ (9) }

[صحيح البخاري]

لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك مِنَ الدنيا وما فيها، الإسلام معناه الاستجابة لأوامِر الله.

العناية بالأهل وهدايتهم:
(قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) أليس هذا أمراً؟ هل استجَبْتَ له ووقَيت أهلك ونفسَك مِنْ نار جهنم ومِنْ معصية وغضب الله؟ إذا امتثلت واستجَبت فأنت مسلمٌ بهذا الحُكم الإلهي، وإذا لم تستجِب فأنت كافرٌ بهذا الحُكم الإلهي، فعدِّد الأوامر والوصايا الإلهية وانظر إلى ما استجَبت لها فأنت مسلمٌ بها والتي أعرَضْتَ عنها فأنت بها كافر، مِنْ هذا المُنطلق قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ مَن ترَكَ الصَّلاةَ فقَد كفَرَ (10) }

[سنن ابن ماجه]

يعني كَفَرَ بفرضِيَّتها.

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)َ
[سورة آل عمران]

(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ) يعني ومَنْ لم يستجِب لأداء فريضة الحج (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).

الموازنة بين الأمور:

وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
[سورة الرحمن]

(وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) العدل (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) ليكُن وزنكم جيداً، هذه مرتان، (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ) ثلاثة (بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)أربع مراتٍ الله يقول لك وازِن بين الأمور، كُن عادلاً وأعطِ لكلِّ ذي حقٍّ حقه، ما هذا القرآن المهجور في عصرنا مِنْ قبل المسلمين؟ العالِم هَجَرَ التعليم -أن يُعلِّم المسلمين- لأنه ليس لديه تيارٌ كهربائي، تعلَّم، أخذ شهاداتٍ وهذا جيد، ومدَّد الأشرطة وهذا جيد، ووضع المفاتيح وهذا جيد، لكن لا يوجد تيارٌ كهربائي.

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)
[سورة النور]

أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (22)
[سورة الزمر]

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) لماذا فقد النور؟ لغفْلَته عن ذِكْرِ الله لذلك قال الله: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ستبحث عن إنسانٍ قبل العِلم القرائي أو بعده لتحظى بالعِلم الذَّوقي، إذا قيل لك ما هو طعم السُّكر وأنت لم تذُقه لكن سمعت أنه حلوٌ فتقول: إنه حلو، وإذا قالوا لك ما هي الحلاوة؟ فقُل هذه لا توصف، لكن ذُقْ تعرف، مَنْ عرف اغترف ومن غَرَف زاد وأسرف.

علم القلب:

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
[سورة طه]

هذا ما يُسمَّى بعِلم القلب، هذا هو:

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)
[سورة الكهف]

(فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) مِنْ أين أخذ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم علوم النبوة؟ مِنْ خلوته مع الله في غار حراءٍ لسنينٍ متتابعة، سورة الكهف -يعني سورة المغارة- لشبابٍ قال الله عنهم: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا).
السيدة مريم عليها السَّلام:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
[سورة مريم]

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) ابتعدت (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا) احتجَبت عنهم، لماذا يحتجِبُ الشخص عن النَّاس؟ الإنسان اسمه إنسان مشتقٌ مِنَ الأُنْس يأنَسُ مِنْ غيره، بلا أنيسٍ يستوحِش ولا يستطيع العيش، لتُفتِّش عن الأنيس الباقي الرَّباني، (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) فأعطاها الله مِنْ روح قُدسِه ما استطاعت أن ترى جبريل حيث أن بقية النَّاس لا تستطيع رؤية الملائكة لأنهم فقدوا الروح القدسية.

الإيمان الحق عند الصحابة رضوان الله عليهم:
هذه المعاني كانت في معظم أصحاب رسول الله، رأى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الصحابيَّ حارثة رضي الله عنه، فسأله: كيف أصبحت يا حارثة؟ فقال: مؤمناً حقاً يا رسول الله، شابٌ ويمكن أن الشعر لم يخرج في وجهه ويدَّعي أنه مُؤمنٌ؟ وليس مُؤمناً فقط بل مُؤمناً حقاً، جاهزٌ للفحص، قال له إذاً نفحَصُك ما حقيقة إيمانك؟ فقال: أصبحت كأني أنظر إلى ربي في عرشه، اعبُد الله كأنك تراه، نظِّف مرآة قلبك مِنْ سواد المعاصي والآثام ومِنْ أوساخ اللغو والبطالات وأكثِرْ مِنْ ذِكر الله، وجَّهت وجهي للذي فَطَر السماوات والأرض، وإذا بِك إذا حافظت أربعين يوماً على هذا الحال ينعكس في مرآة قلبك نور مَنْ جالَسته وذكَرته حيث يقول الله:

{ أنا جَليسُ مَن ذَكَرَني (11) }

[البيهقيُّ في شعب الإيمان]

قال: وكأني أنظر إلى أهل الجنة في نعيمهم وإلى أهل النَّار في عذابهم، فقال له صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ عرَفْتَ فالْزَمْ (12) }

[مصنف ابن أبي شيبة]

عبدٌ نوَّر الله قلبه بالإيمان:

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)
[سورة النور]

هذا اسمه عِلم اليقين، وإذا وصل إلى الآخرة فما رآه في مرآة قلبه يراه بعين رأسه فينتقل إلى عين اليقين، مِنْ فضل الله وكرَمِه كثيرٌ مِنَ الشباب ومِنَ النساء وصلوا إلى عِلم اليقين في هذا المُجمَّع المبارك.

عصر الصحابة شُرِّفَ بأعمالهم:
لذلك نعود إلى حَلْفِ الله بعصر النبوة والإسلام ونزول القرآن، هذا لِعصر النبوة وأصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فهل تفهَم مِنْ هذا وعصرُهم شُرِّفَ بأعمالهم وإيمانهم وصِدقهم مع الله، فهل تُفكِّر؟ قدَّسوا زمانهم ومكانهم وأهليهم وأقوامهم، فهل تُفكِّر أن تُشرِّفَ عصرك ومكانك وبيتك وصحبتك وأصحابك؟ لعلَّك تصير مُقدَّساً يحلِفُ الله بعصرك بل ويحلِفُ بك.

لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2)
[سورة البلد]

لا ليس لها لزوم، أي أقسم بهذا البلد وهو مكة، مكة هل صارت يميناً مُقدسَّاً بحجارتها السوداء ولأنها وادٍ غير ذي زرع؟ الحيوان لا يسكن فيها، صارت مُقدَّسةً بإبراهيم وبوجود النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ورسالته ودعوته، قال أقسم بهذا البلد إذا كنت حالَّاً ومُقيماً فيها، أما إذا فارقتها وفارقتها رسالتك ودعوتك فهي بلدٌ كسائر البلدان تتفاضل بحسب تفاضُل البلدان ماءً وخضرة، وما تُعطي النبوة مِنْ عِلمٍ وحكمةٍ وتزكيةٍ للنفوس وتطهيرٍ لها مِنْ أرجاسها ونقائصها ونقلةٍ بها إلى فضائلها ومكارمها وصنعِ عُظماء الرجال وعُظماء الإنسان فيها، فالرجل صار الرجل العَظيم لأن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حلَّ في تلك البلد التي سكن فيها رجلٌ ضائع، فببركة حلول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم صار الضائع الإنسان الجامِعَ للعِلم والحكمة وتزكية النفوس.

قسم الله عزَّ وجلَّ بعصر النبوة:
(وَالْعَصْرِ) حَلَفَ الله بعصر النبوة، لماذا؟ لما أكرم الله به رسوله مِنْ أعمالٍ ومِنْ نور النبوة، وهذا لم يجعله امتيازاً خاصاً محصوراً في النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ (13) }

[سنن أبي داود]

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ (90)
[سورة الأنعام]

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
[سورة السجدة]

(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) قدوةً (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) إذاً بمن سنقتدي؟ سنقتدي بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم بدءاً مِنْ غار حرائِه ولكن حراء نلجأ إليه للخلوة بالله إذا فقدنا العارِف بالله، الصحابة لم يذهبوا إلى حراء، كان حراء الميت، لكن أووا إلى حراء الحي وهو قلب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إلى محبة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي كان أحبَّ إليهم مِنْ أرواحهم وأموالهم وأولادهم فكانوا في قلبه وكان في قلبهم، فبِهذا الإيواء إلى قلب ومحبة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خرجوا مِنْ غار الحب أمَّةً:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
[سورة النحل]


الإنسان الأمة :
مَنْ هو الرجل الأمَّة؟ إبراهيم، لكن هل يُمكن لغيره أن يكون أمَّة؟ الأمَّة وصفٌ خاصٌ بإنسانٍ معينٍ أم يمكن أن يكون لكلِّ إنسان؟ قال يُمكن أن يكون لكلِّ إنسان، ما هو الإنسان الأمَّة؟ قال هو الذي يُعلِّم النَّاس دينهم ويُعلِّمهم الخير ويُجنِّبُهم الشر، ما هذا الدين وما هذه الحضارة وما هذا العِلم الذي يجعل مِنَ الشخص الواحد أمَّة؟ إذا وُضِعت أمَّة في الميزان لا تساوي رجُل أمَّة، لو وزَنا الأمَّة ووضعناها في كفَّة الميزان وسيِّدنا عمر رضي الله عنه بكفَّته الأخرى أي الكفتين ترجَح؟ عمر، خالد في أمَّةٍ والعرب في أمَّة، خالد اليرموك، ربع مليون مقاتلٍ رومانيٍّ في حضارةٍ مِنْ ألفِ سنة، أنهى المعركة في ستة أيام، القادسية أنهاها سعدٌ رضي الله عنه مع إمبراطورية كِسرى في أربعة أيام، عشرة أيام أنهى فيها الاستعمار العالمي، الرجل الأمَّة الذي يُعلِّمُ النَّاس دينهم والخير.

تقصير المشايخ اليوم:
المشايخ ألا يُعلِّمون الدين؟ هل صاروا أمَّة؟ أين نتاجُهم وبناؤهم وثِمارهم؟ يأخذ الشهادة، يُعلِّم النحو وهذا جيد، ويُعلِّم فقه العبادات الجسدية، لكن هل يُعلِّم فقه الحكمة؟ هل يُعلِّم فقه تزكية النفوس يصنع النفوس والتزكية فيها؟

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[سورة البقرة]

(العلماءُ ورَثة الأنبياء) فإذا لم يُعلِّموا العِلم النافع الذي ينقُل النَّاس مِنْ فقرٍ إلى غنى ومِنْ ذلٍّ إلى عزٍّ ومِنْ فُرقةٍ إلى وحدةٍ ومِنْ عداوةٍ إلى أخوّةٍ ومحبة، حتى يصير النَّاس كالجسد الواحد، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ووارِثُه هكذا يفعل، من كان والده يملك السيارة، فإذا مات الوالد وورثت السيارة ألا تستعملها كما كان يستعملها والدك؟ فإذا تركت السيارة وركبت جحشاً صغيراً وتزحلَق بك ووقعت أنت وهو في وادٍ فهل تكون وارثاً؟ ألم ترِثْ السيارة لتنعَم بها وتصِل بها إلى حيث تريد؟ لذلك نحتاج صحوةً عقليةً وفكريةً وعلميةً وتعليميةً وتربوية.
أهل التصوُّف رحمة الله عليهم بنوا المسلم الرَّهباني، بنوا أخلاقاً لا تُنكر، لكن بنوا مع الأخلاق ضعفاً في أمور الدنيا وفي العقل والفكر والأسباب والمُسبَّبات وفي الانعزال عن النَّاس، قالوا: بئس العلماء على أبواب الأمراء، فهذه الكلمة حربٌ على القرآن، القرآن يقول لموسى ابتعِدْ عن باب فرعون فبِئس الأنبياء على أبواب الفراعنة؟ هل قال هكذا له ولهارون؟ بل قال لهما:

اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)
[سورة طه]

(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) الطاغية، ووضع له أيضاً المخطط، ليس بشكلٍ فظ، قال: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).

الإسلام الحقيقي في عصر النبوة:
(وَالْعَصْرِ) هذا عصر النبوة وأصحاب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وعصر الإسلام، أقاموا فيه الإسلام حتى أوصلوه إلى الصين وإلى حدود فرنسا، فأرِنا عصرك أيها المسلم، أولئك كان كلُّ واحدٍ منهم لما يُسلم يذهب إلى قبيلته المُشركة الكافِرة الوثنيَّة ويدعوها إلى الله فتستجيب للقرآن والإسلام فيأتي بقبيلته إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مؤمنةً ومسلمةً والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يُكمِل ما بدأ به ذلك الصحابي، فانطلاقاً مِنْ هذا المعنى كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم)، ليُصير عصرك مُقدساً يحلِفُ الله به عليك أن تعمل كما عمِل مَنْ حَلَفَ الله بعصره وهو رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عمِل بأهله، لما نزل مِنْ حراءٍ وأوحي إليه بالنبوة بلَّغ أول مَنْ بلَّغ زوجته خديجة رضي الله عنها وعليُّ بن أبي طالب كان يعيش في بيته وكان هناك غلامٌ كعبدٍ لخديجة رضي الله عنها، فدعا الطفل والزوجة والعبد، (ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم) ما يجهلون (ولا يفقهونهم) في ما لا يعلمون (ولا يفطنونهم) إذا لم ينتبهوا لشيءٍ وهم يقبَلون فذكِّرهم (ولا يأمرونهم) بمعروفٍ، و:

{ مَن أمر بمعروفٍ، فليكن أمرُه بمعروفٍ }

[شعب الإيمان للبيهقي]

هذا ليس لكم خيارٌ فيه هذا ليس أمراً اختيارياً، هذا فريضةٌ مثل فريضة صلاة الظهر، تقرَع على جارك، متى يوجد لديك وقتٌ لنتشرَّف بزيارةٍ ونشرب فنجان شاي؟ ماذا يقول لك جارك؟ يقول لست مُتفرِّغاً الآن في الساعة الفلانية، وليس فوراً، قم بمقدماتٍ وكذا إلى آخره شيئاً بشيءٍ بحسب قابليته وعقلانيته.
المرأة هكذا مع المرأة والشاب مع الشاب، فلو كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حياً ألا يُكرر هذا الحديث ويُوجِّهه لكلِّ واحدٍ منا؟ وألا يكون الواجب على كلِّ واحدٍ منا أن يُطبِّقَه فيذهب إلى جيرانه ليُعلِّمهم ما يعلَم ويُفقِههم فيما يجهلون ويُفطِّنهم فيما لا يعلمون ويأمرهم بما هم تاركوه وينهاهم عما هم مُرتكبوه؟ فما الفرق بالنسبة لحديث النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأمره إذا كان موجوداً بجسده أو كان موجوداً بأحاديثه وحكمته؟ يعني حديث النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُطاع وهو حيٌّ وإذا تُوفي وانتقل إلى الملأ الأعلى لا يُعمَل بكلامه؟

تعليم النَّاس أمر إلهي وواجب:
ثم قال: (وما بال أقوامٍ لا يتفطنون ولا يتعلَّمون ولا يتفقَّهون؟ ليُعلِّمن قومٌ جيرانهم وليتعلَّمنَّ قومٌ مِنْ جيرانهم) العالِم يجب أن يُعلِّم، ليس موظفاً، هل كان الصحابة موظفين؟ لا يوجد راتبٌ ومعاش، هل كان للصحابة رواتبٌ ومعاشات؟ موظفون بأمر الله وبمرسومٍ سماويٍّ قدسي، وبالحكمة والموعظة الحسنة، وهناك مَنْ يظنُّ أن الدولة تحزن والله لا تحزن وتكون راضيةً ومسرورة، لأن الدين يمنع الجرائم والعدوان ومخالفة القانون والخيانة والكذب، فنُريحُ الدولة ونُخفِّف السجون والمساجين والمحاكم والجرائم والمجرمين، لكن يجب أن يفهم أدب الدعوة والدَّاعي، ثم قال: (وليتعلَّمنَّ قومٌ من جيرانهم) العالِم ليُعلِّم والجاهل ليتعلَّم (أو لأعاجلنَّهم العقوبة في الدنيا)(14).

الفرض لا خيار فيه:
يعني المسألة ليست باختياركم يا بُني، صلاة الظهر هل لكم خيارٌ أن تُصلُّوا أو لا؟ لأنها فرض، كذلك تعلُّم الجاهل فرضٌ عليه، وأن يُعلِّم العالِم هو فرضٌ عليه، وما تعلَّمته يجب أن تُفتِّش عن مَنْ يجهل الذي علِمته وتعلَّمته فعلِّمه له، هكذا كانت سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إحياء السُّنة ما هو؟ القليل مِنَ الشعر، هذه سُنَّة، لكن إذا أرخيت لحيتك هل ينتصر الإسلام؟ وإذا حلقتها هل يُهزم؟ هذا لا يتعلق بهذا فهذا شيءٌ شخصي، أما هذه السُّنة في التعليم والتعلُّم إذا أحييتها تُحيي الأمَّة والإسلام والعالَم، أما إذا صار طول لحيتك كيلو متراً فلا تحيا أنت ولا غيرك بها، وإذا حلقتها لا تموت ولا يموت غيرك، لكن على كلِّ حالٍ هي سُنَّة، لكن إذا وازننا بين السُّنتين سُنَّة العِلم والتعليم والتعلُّم وسُنَّة الشعر والسواك والجلباب فيوجد فرقٌ كبير.

العصر بأهله:
نعود (وَالْعَصْرِ)، ألا يوجد أناسٌ إذا كانوا مِنْ أهل الخير وكانوا أهل نفعٍ للناس مِنْ علماء أو أغنياء أو أسخياء، يقولون رحِم الله زمانهم وعصرهم، هذا العصر هو (وَالْعَصْرِ)، فهل تستطيع أن تجعل زمانك وعمرك وحياتك مُقدسةً يصحُّ الحَلف بها؟ ألا يُقال: وحياتك؟ ما معناها؟ عصرك وزمانُك ووجودك، جعل الله وجودنا طاهراً مُطهَّراً، نكون قد فقِهنا معنى هذه السورة، قال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) كلُّ إنسانٍ أمريكيٍّ أو إنكليزيٍّ أو طليانيٍّ أو ألمانيٍّ أو يابانيٍّ لو وصلوا القمر وداسوا عليه، ما الحصيلة؟ على كلِّ حالٍ هم يزدادون عِلماً ليَحصُلوا على شيء، حصلوا على عِلمٍ على كلِّ حالٍ ولم يُفدهُم شيئاً، ولكن قد يُفيدهم يوماً من الأيام، فالإنسان الغربي يغوص ويحفِر في أعماق البحار فتارةً يُخفق ويخسر وتارةً يربح ويستفيد.. تحرَّك فزمانك وعمرك وحياتك كيف تُنفقها وتكسب في مقابل صَرفها؟ فيجب في كلِّ يومٍ أن تُفتِّش نفسَك هل ربحت أم خسرت، الله يقول: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) الإنسان الخام مثل أرض الصحراء هذه أرضٌ خام، أما البستان والمزرعة أرضٌ ولكنها استُعملت وحُرِثت وزُرعت وتُعِبَ عليها وأُلقي فيها البذار وبُذِلَ عليها المجهود ف:

وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
[سورة الحج]

فبعد أن كانت صحراء تقتل مُسافرها عطشاً وضياعاً صارت جنةً خضراءَ تُعطي الثمار والطعام والرِّزق والنُّضرة والجمال، فما أحلى أن يكون عصرك وعمرك ووقتك جِناناً وبساتيناً بدل أن يكون صحراءً وأشواكاً، وإلا فأنت خاسرٌ لعمرك، الذي مضى مِنَ العمر ذهبَ، الذي نشأ على الصلاح والتقوى كسِبَ بقدر ما عمِل، والذي نشأ على الضياع والإضاعة وعلى مخالفة أمر الله فالماضي انتهى، فإذا استطاع أن يستدرِك فيما بقي والله يحلِفُ أنه خاسر.

الكل خاسر إلا الذين آمنوا:
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) فهنا إذاً يوجد ربحٌ وخسارة، يوجد رابحون وخاسرون، يوجد ناجحون وخائبون، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات مقابل الزمن كسِبوا الإيمان بصحبة أهل الإيمان، في زمن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصُحبة أهل الإيمان على مائدة العِلم والحكمة وتزكية النفوس، فالعِلم الشرعي والعالِم الشرعي إذا لم يقُم موظفاً أو غير موظفٍ براتبٍ أو بغير راتب، في زمان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم تكن هناك عمامةٌ وجُبةٌ وشهادةٌ وكذا.. كان البدوي يجلس ساعةً مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيدخل النور قلبه فيسمع بضع كلماتٍ فيعود بذلك النور وتلك الروحانية فيُدخل قبيلته في الإسلام، وترى رجلاً أخذ أعلى الشهادات كالدكتوراه في الشريعة ومِنَ الأزهر يعيش ويموت لعلَّه لا يُفكر في الدعوة إلى الله، كلُّ ما يُفكِّر به أن يكون موظفاً ذا راتبٍ ليعيش به، يريد أن يُعلِّم النحو والفقه، لو علَّم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم الإسلام على طريقة الأزهر والكليات لاحتاج ألف سنةٍ ليقوم بإسلام مكة والمدينة، كان نوراً إلهياً وقوةً روحانيةً إلهيةً مَنْ وقع نظره على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حُباً ولو واحداً بالألف يُشعل به ذلك النور ويتصل بالعقل فيخرج مِنْ مجلس النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مُتعلِّماً حكيماً مُزكَّى.
(ِإنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) الله يحلِفُ، كلام الله وحلفُه فيه شك؟ أنت إنسانٌ أم لا؟ الله يقول أنت خاسر، وأنت يا أبا حسن هل أنت إنسانٌ أم حيوان؟ الله يقول لك: خاسر، أما الحمار ليس خاسراً، لأنه خُلِقَ ليخدم الإنسان فأدَّى الواجب الإلهي، أما الإنسان خُلِقَ ليعبُد الله ويتثقَّف بكتاب ومدرسة الله وهديِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، هرب من المدرسة ورفض الثقافة السَّماوية وتعاليم الله ورسوله فهذا رابحٌ أم خاسر؟ لو مَلَكَ الدنيا جبالها ذهباً وفضةً ولو أخذ أعلى الشهادات وصار أعلى ملوك الأرض إذا مات لم يبقَ مِنْ ذلك كلِّه إلا أعماله ومسؤوليته أمام الله عزَّ وجلَّ.

الإيمان في الحقيقة نور في القلب:
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا هو الإيمان، ما هو الإيمان؟ الإيمان في الحقيقة نورٌ في القلب، منهم مَنْ يُبصره ويُشاهده ومنهم مَنْ يُحجَب عنه ولكنه موجودٌ فيه يقوده إلى الأعمال الصالحة، وإذا ازداد نور الإيمان فمن أجل هذا الإيمان كان المسلم في زمن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يهجُر بلده وأهله، والمرأة تترك زوجها والرجل يترك زوجه وأولاده وتجارته وديونه إلى المدينة ليتعلَّم العِلم والحكمة ويتزكَّى بتزكية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فالإيمان والعمل مقرونان كما ورد في الأثر مِنْ قول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ الإيمانُ والعملُ شَرِيكانِ في قَرَنٍ، لا يَقْبَلُ اللهُ أحدَهما إلا بصاحِبِهِ }

[السلسلة الضعيفة للألباني]

(شَرِيكانِ في قَرَنٍ) مربوطان بحبلٍ لا يُفارق أحدهما الآخر.

الإيمان الحقيقي:
إذا وُجِدَ الإيمان أن في حوضك كنزٌ مِنْ ذهبٍ وآمنت إيماناً جازماً أن الكلام صحيح، وإذا أتاك الخبر بعد العشاء أنه في حوض بيتك بجانب الشجرة على عمق خمسين سنتيمتراً يوجد كنزٌ مِنْ ذهبٍ وآمنت أن الخبر حقيقي ماذا تفعل هل تنام؟ لا تنام ولو كان الجو مطراً ولو كان هناك طين، هذا هو الإيمان الذي يُلازمه العمل كما يُلازم الإنسان إذا مشى في الشَّمس وجود ظلِّه تحت ضياء ونور الشَّمس:

{ ليس الإيمانُ بالتَّمَنِّي ولا بالتحلِّي ، ولكن هو ما وقر في القلبِ ، وصدقَهُ العملُ }

[شعب الإيمان للبيهقي]

(ليس الإيمانُ بالتَّمَنِّي ولا بالتحلِّي) تلبَسُ لِباس أهل الإيمان وعمائمهم وجُببهم ولِحاهم، هذا شيءٌ ظريفٌ وجميل،(ولكن هو ما وقَرَ في القلبِ ، وصدقَهُ العملُ)، والقرآن :

لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
[سورة الواقعة]


الهجرة إلى الله ورسوله:
روح القرآن لا تُخالِطُ روحك حتى تتمثلُه روحك عملاً وسلوكاً إلا إذا هاجرت إلى الله ورسوله أو إلى ورَثة رسوله، الهجرة إلى العارِف بالله فرضٌ، هجرة المجالَسة والمحبة وهي أن يكون قلبك مع قلبه وعقلك في جوار عقله وعواطفك مع عواطفه، هجرة الجسم والقلب والمشاعر:

{ أنْ يكونَ اللهُ ورسولُهُ أحبُّ إليه ممَّا سواهُما (15) }

[صحيح البخاري]

(ولكن هو ما وقر في القلبِ ، وصدقَهُ العملُ) ولذلك قال الله: هذا الإيمان الحي، أما إيمان تدَّعيه لا يُصدِّقُه عملٌ فهذا دليلٌ على أنه ما وقَرَ في القلب فهذا إيمانٌ مُزيفٌ أو ميت، ما الفائدة مِنْ عروسٍ لا روح فيها؟ عروسٍ من حجر، صوَّرها المصور بأحسن الصور وألبسَها أفضل الثياب، إذا رأيتها ليلة زفافك هل تكون راضياً أم ساخطاً؟ تقول: هل تهزؤون بي؟ أحضرتم حجراً لي؟

الاجتهاد دون التحجج بالزمن وواقعه:
فاجتهدوا ولا تقولوا أول الزمان وآخره، زمن فرعون أليس مِنْ أول الزمان؟ ماذا استفاد مِنْ أول الزمان؟ سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم آخر الزمان بالنسبة لزمن فرعون، ماذا صار لزمانه؟ صار يميناً مُقدَّساً لربِّ العالمين، فلذلك أنت الزمان أنت تُشرِّفُ الزمان وأنت تُقدِّس المكان، فالإنسان ليس الذي يتشرَّفُ بزمانه أو مكانه أو آبائه، بل هو الذي يتشرَّفُ به آباؤه ويتقدَّسُ به زمانه ومكانه.

التواصي بالحق:
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، (ولَكِن ما وقرَ في القلبِ وصدَّقَهُ الفِعلُ) (16)
(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) هو نال الإيمان الحقيقي الصادق وظهر في أعماله وأخلاقه وقلبه وتزكية نفسِه، لم يكتفِ، سيقوم ليُصلِح الآخرين ويُبلِّغَ العِلم للجاهلين، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) إذا رأى شخصاً تاركاً للحقِّ والواجب ولفرائض الله سيقوم ويُوصيه ويُذكِّره ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، فقد يُرفَض ولا يُقبَل منه وقد يُجافى وقد يُهزَأ به ويُؤذى، أيضاً مع التواصي والدعوة تحتاج صبراً وأناةً:

وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127)
[سورة النحل]

إمامنا وسيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كم صَبَر على التواصِي بالحق لما وصى قومه ومنهم الهازئ والمُؤذي والمُعرِض والسَّباب والشَّتام ومَنْ بصَقَ في وجهه ومن نَتَفَ شعره وبنهاية الأمر تآمروا على قتله حتى اضطروه ليترك بلده ودارَه وأهله، فإذا فعلت ذلك فأنت الرابح، وإذا لم تفعل ذلك فأنت الخاسر، تخسر عمرك كلَّه وتخسر شبابك ومالَك وجاهك وحُكمك وسُلطانك.

الخاسر هو من لم يكن له عمل يتبعه عند الموت:
إذا جاء الموت تُسلَبُ مِنْ هذا كلِّه، قال صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنانِ ويَبْقَى واحِدٌ، يَتْبَعُهُ أهْلُهُ ومالُهُ وعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أهْلُهُ ومالُهُ ويَبْقَى عَمَلُهُ }

[صحيح مسلم]

إذا مات المرء يتبعه إلى قبره ثلاثة أشياء (مالُهُ) سيارته أو عَبْده ومُلْك يمينه والآن لم يبقَ عبيد، (أهْلُهُ ومالُهُ وعَمَلُهُ) فإذا وُضِعَ في القبر ودُفِنَ: (فَيَرْجِعُ أهْلُهُ ومالُهُ ويَبْقَى عَمَلُهُ)(17).
(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) عندما قرأتها هل فكَّرت في نفسك هل أنت مِنَ الخاسرين أم الرابحين؟ في آخر السنة ألا يقوم التاجر بالحساب وجرد البضائع ليرى نفسه خاسراً أم رابحاً؟ هذا في التجارة الفانية الزائلة، فكيف بالتجارة الباقية الخالدة؟ وفي نفس الوقت يضمن الله لك أيضاً فيها السعادة المؤقتة في الدنيا:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة النحل]

ولما صَدَق أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمون الأُوَل ما عاهدوا الله عليه هل أعطاهم الله الآخرة وحرَمَهم الدنيا؟ كانوا أعظم أهل الأرض أمَّةً وقوةً وجيشاً ودولةً وحضارةً وثقافةً وحكمة، وفي الآخرة:

{ أنتمْ الغُرُّ المُحَجَّلُونَ يومَ القيامةِ ، من إسباغِ الوُضوءِ }

[صحيح الجامع للألباني]

أنتم الغرُّ المُحجَّلون من آثار الوضوء يوم القيامة.

وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
[سورة آل عمران]

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
[سورة القيامة]


فضل سورة والعصر :
فجِدُّوا واجتهدوا لتكون سورة العصر المدفونة في قبور نسياننا وإهمالنا، نكتفي من القرآن بالتلاوة بلا فهمٍ ولا قصدٍ للعمل والتعليم، لا يكفي أن تفهمها ولا أن تعمل بها، بل الواجب عليك أن تُعلِّمها لغيرك كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: لو أنه لم ينزل من القرآن إلا سورة والعصر لكفت النَّاس جميعاً، من القائل؟ الإمام الشافعي، وكان أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا التقوا وتفرَّقَ مجلِسُهم يقرأ كلُّ واحدٍ منهم في نهاية المجلس (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) قرؤها للحسنات والبركة أم للذكرى لكي لا تُنسَى ولتُشاهَد في أعمالهم وحياتهم ومجتمعاتهم مع كلِّ مَنْ يلقَونه في أنفسهم؟ هل تُعاهدوني على سورة العصر؟ العِلم علِمتمُوها والفهم فهمتمُوها، بقيَ العمل، وبقي أيضاً إذا عمِلْتُم أن نكون مُخلِصين في العمل:

إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
[سورة الإنسان]

ولا أن يعلَم النَّاس ماذا نعمل، يوجد مَنْ يتباهى بدروسهم أو تعليمهم، لا.. المهم أن يقبَل الله عزَّ وجلَّ، إذا قَبِلَ الله فهناك افرح، وقبل أن تعلَم القُبول أول مَنْ تَسْعُر بهم نار جهنم مِنْ جُملتهم عالِمٌ لم ينفعه الله بعِلمه، لم يعمل ولم يعلِّمهُ للآخرين، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وصلى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.

الترحيب بزوار من بروناي:
اليوم في زيارة المُجمع إخواننا من بروناي برئاسة الدكتور مغفور عثمان رئيس الوفد والوفد المرافق له، فأنا أرحِّبُ بهم وأقول أهلاً وسهلاً ومرحباً، وإذا أحببتم أن تلقوا كلمةً فالإخوان يُسرُّون كثيراً، هل هذا ممكن؟ كما تحبون، بسم الله، بروناي ما شاء الله مسلمون ومؤمنون بالإسلام بزبدته وحيويَّته، حفظهم الله وحفظ بلادهم والمسلمين جميعاً، بروناي في الشرق الأقصى بجانب أندونيسيا وفي قلب البحر، فما أعظم أولئك المسلمين الذين أوصلوا الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها، فرضي الله عنهم وأرضاهم، ورضي أيضاً عن مَنْ استجاب وإلى الله وأناب.

كلمة رئيس الوفد:
السَّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته: الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
في الحقيقة لست لائقاً بهذا المجلس فهذا مجلس سماحة الشَّيخ أحمد كفتارو، ولكنه أذِنَ لي بالكلام، فلا أستطيع أن أتكلَّم إلا أن أقول نحن مِنَ الشرق الأقصى، نحن نزوركم هنا لتوثيق العلاقة بيننا نحن المسلمين، وفي الحقيقة دخل الإسلام بلدنا بجهادٍ لدعوةٍ لا للقتال، إنما بدعوةٍ من الدعاة الذين كانوا يصلون إلى بلدنا قبل خمسة قرونٍ تقريباً والحمد لله، مع بُعد المسافة بيننا ولكننا إخوةٌ إن شاء الله، وسوف تكون الاتصالات بيننا في المستقبل إن شاء الله، ويسرنا جداً أن نستطيع أن نزور فضيلة الشَّيخ أحمد كفتارو وأن نزور هذا المعهد والمُجمع وأن نزوركم جميعاً، وشكراً على استقبالكم وجزاكم الله يا سماحة الشَّيخ، والسَّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

عودة للشيخ رحمه الله تعالى:
أتى إخواننا بعضهم مِنْ مُراكش، مُراكش في آخر المغرب في الدنيا، واليمن بالطائرة مِنَ اليمن إلى بروناي سبعاً أو ثمانِ ساعات، وكانوا يركبون على القوارب والسُفن الصغيرة في الأخطار وأمواجٍ كالجبال في سبيل الله، منهم رأيت قبر القثم بن العباس في بلاد سمرقند، هذه قرب الصين، وُلِدَ في مكة والمدينة وقبره في الصين، لماذا ذهب؟ ليُصيِّف ويُتاجِر ويلهو؟ كان عمرهم وشبابهم وكلُّ طاقاتهم لنشر الإسلام والدعوة إليه، هذا مِنْ بعض واجبات الإسلام على المسلم، قم بهجرةٍ مثلما هاجر أهل اليمن وأهل المغرب إلى بروناي وأندونيسيا، هؤلاء كانوا لعلَّهم لا يُصلُّون إلا بسُنَّةٍ أو سنَّتين، الأخطار والأهوال والغرق والوحوش وقطاع الطرق والأفاعي والأسود والنمور، كلُّ هذا ما وقف في طريقهم ولا دقيقة ًواحدةً ما دام:

{ هلْ أنتِ إِلَّا إِصبَعٌ دَميتِ و في سبيلِ اللهِ ما لقيتُ }

[صحيح الجامع للألباني]

شُدوا همَّتكم، إسلام الصَّلاة أظنكم جميعاً تُصلُّون أليس كذلك؟ جعلها الله الصَّلاة التي:

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
[سورة العنكبوت]

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
[سورة المؤمنون]

شُدوا الهمَّة لأداء هذه الفريضة، كلُّ واحدٍ منكم ألا يوجد له رفيقٌ أو جارٌ أو صديقٌ أو قرين؟ فليدعُ، إذا استجاب (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها)(18)، وإذا لم يستجِب كَتَبَ الله لك الثواب والأجر.
أكرر: النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع كفار قريش مرةً واحدةً أعرضوا وهو أعرَضَ عنهم؟ ظلَّ يدعوهم إلى الله حتى لقيَ الله، وإن شاء الله نكون على سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، هذا هو الكتاب وهذه هي السُّنة، سُنَّة اللحية هيِّنة، تُوفر حلاقةً على نفسك وبآخر السنة يكون لديك مبلغٌ جيد من المال، أما سُنَّة الدعوة إلى الله واحدٌ يسُبُّك وآخر يتكلَّم عليك وآخر يقول ما أغلَظَه وآخر يقول ما شأنه، ويوجد أناسٌ يُقبِّلون يدك ومَنْ يقول أكثَرَ الله خيرك، ويبقى هادياً ويهدي غيرك وهذا كلُّه يكون في صحيفة الدَّاعي الأول، والحمد لله رب العالمين.

الحواشي:
(1) السنن الكبرى للنسائي، كتاب الوليمة، باب الأكل متكئاً، رقم: (6710).
(2) صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس، باب /، رقم: (3093)، صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نورث..، رقم: (1759).
(3) حلية الأولياء، أبو نعيم، (7/271)، البداية والنهاية، ابن كثير، (7/371).
(4) شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (6188)، (9/12)، حلية الأولياء لأبي نعيم، (3/53)، الدعاء للطبراني، رقم: (1048)، (1/319).
(5) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، رقم: (4330)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام ...، رقم: (1061).
(6) مصنف ابن أبي شيبة، رقم: (35485)، (19/77)، مسند الشهاب القضاعي، رقم: (466)، (1/285).
(7)صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء: باب حديث الغار، رقم: (3475)، كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (3733)، كتاب المغازي: باب/ رقم: (4304)، كتاب الحدود: باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع، رقم: (6787)، صحيح مسلم، كتاب الحدود: باب قطع السارق الشريف وغيره، رقم: (1688)، واللفظ: عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حد من حدود الله»، ثم قام فاختطب، ثم قال: «إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
(8) صحيح البخاري، كتاب الأدب: باب الوصية بالجار، رقم: (6015)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب: باب الوصية بالجار والإحسان، رقم: (2625).
(9) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، رقم: (2783)، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضى الله تعالى عنهم، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه، رقم: (2404).
(10) سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، رقم: (1079)، سنن الترمذي، أبواب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، رقم: (2621)، سنن النسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، رقم: (463)، جميعهم بلفظ: ((إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمِ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ)).
(11) أخرجه البيهقيُّ في شعب الإيمان، من مناجاة الله تعالى لموسى عليه السَّلام، رقم: (670)، (2/171).
(12) مصنف ابن أبي شيبة، رقم: (30423)، (6/170)، جامع معمر بن راشد، رقم: (20114)، (11/129)، المعجم الكبير للطبراني، (3/266).
(13) سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641). والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682). سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223).
(14) المعجم الكبير للطبراني كما عزاه له الهيثمي في بغية الرائد (1/403)، ومعرفة الصحابة لابن منده كما عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/301).
(15) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، رقم: (16)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، رقم: (43).
(16) شعب الإيمان، رقم: (65)، (1/158).
(17) صحيح مسلم، رقم: (2960).
(18) سبق تخريجه.