تفسير سورة الأعلى 02

  • 1995-11-10

تفسير سورة الأعلى 02

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصَّلاة وأتم التسليم على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّدٍ سيِّد الأولين والآخرين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخوَيه سيِّدينا موسى وعيسى، وآل كلٍّ وصحْبِ كلٍّ أجمعين، وبعد:


تذكير بما سبق:
فنحن لا نزال في تفسير سورة الأعلى، الإله الأعلى قدرةً وعِلمًا وحكمةً ورحمةً وعطاءً، أمرَنا الله عزَّ وجلَّ بتسبيحه يعني تنزيهه أي تنزيه اعتقادنا في الله عزَّ وجلَّ عما لا يليق بعظَمته وجلاله وجماله، أن تعتقد أن الله عزَّ وجلَّ إذا فجَرتَ أو عصَيت لا يراك؛ هذا ضد التنزيه، يعني جعلته جاهلًا، إذا عمِلت الخير وظننت أن الله عزَّ وجلَّ لا يُكافئك فقد أسأت التسبيح والتنزيه، إذا علِمت بأنك إذا أذنبت ذنبًا فإن الله عزَّ وجلَّ لم يرَك ولا يُعاقبك فقد أسأت فهم قُدسية الله عزَّ وجلَّ، الله عزَّ وجلَّ يقول:

وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
سورة الزلزلة

إذا عملت مِنَ الشرِّ ليس بمقدار ذرة أو سمسمة، إذا قسمنا السمسمة إلى سبعين جزءًا وعملت مِنَ الشر بمقدار جزءٍ مِنْ هذه الأجزاء يُخبرك الله عزَّ وجلَّ بأنك سترى عقوبته.
وأنت لست أعظَم عند الله عزَّ وجلَّ مِنَ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، ولا قدْرك عنده أعظم مِنْ قدرهم، أوّل الأنبياء سيِّدنا آدم عليه السَّلام لما عصى الله عزَّ وجلَّ فأكل مِنَ الشجرة، والشجرة لا تتأذى إذا قطَف الإنسان منها بل بالعكس هي ستلقي ثمرتها على الأرض، فأتى وأكلها رغم أن الله عزَّ وجلَّ نهاه عن أكلها، فمتى عاقبه؟ هل أخَّر عقابه؟ بل فورًا:

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)
[سورة طه]

ونزَل أيضًا عريانًا هو وزوجته ولقيَ مِنَ العناء فكان أكله فيها:

إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
[سورة طه]

فصار يجوع ويتعب وصار له الأعداء والأحزان وتصيبه الأكدار وأورَث ذلك ذُرِّيته وإلى يوم القيامة وكل هذا بذنبٍ واحد! فهو لم يشرب خمرًا بل أكل تفاحة، ومَنْ هو؟ نبي الله آدم عليه السَّلام، خلقَه بيده ونفَخ فيه مِنْ روحه وبذنبٍ واحدٍ فحصل عليه وعلى ذريته وإلى يوم القيامة ما هو معلومٌ لنا.
فأن تعتقد أو تُفكر أنك إذا أذنبت فأنت أفضل مِنْ آدم عليه السَّلام ولك كرامةٌ عند الله عزَّ وجلَّ أكثر مِنْ آدم، آدم عليه السَّلام طرَده الله عزَّ وجلَّ من الجنة ووقع في البلاء بسبب الذنب، فأنت تعتقد أن الله عزَّ وجلَّ لا يراك ولن يُعاقبك وأنه بابتسامةٍ وضحكة منك وشيءٍ مِنَ التوسل ستنجو مِنَ العقاب؛ فهل هذا تسبيح لله عزَّ وجلَّ؟ بل هو عكس التسبيح، التسبيح تنزيهٌ وتقديسٌ واعتقادُ كل كمال في الله عزَّ وجلَّ، لو أن الدولة عاقبت مذنبًا وتركت الآخر وذنبهما واحد فماذا يُقال عن هذا القاضي؟ هل هو منزَّه؟ هل يستحق الثناء والحمد؟

تسبح الله عن الغفلة عنه:
فـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ نزِّههُ عن أنه لا يراك فهو يراك، وهل يصدُق الوعد؟ نعم يصدُق الوعد، شديد العقاب؟ نعم شديد العقاب، يعلم ما تُسِرُّ وما تُعلن، ما معنى يعلم ما تُسِرّ؟ يعني أن الله عزَّ وجلَّ سيُحاسبك على أعمال السر كما يحاسبك على أعمال الجهر؟ إذا كنت تعمل أعمال السوء ولا تفكر مطلقًا بأن الله عزَّ وجلَّ يراك لتستحيي وتخجل منه ولا بأن الله عزَّ وجلَّ سيعاقبك لتخاف وتحذر عقابه، فهل تكون قد سبَّحت ونزَّهت الله عزَّ وجلَّ عن الغفلة، ونزَّهته عن معاقبة المخرِّب المجرم المؤذي؛ أم أنك تعتقد فيه كلَّ هذه الصفات الناقصة؟
سيِّدنا مُحمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام لما عبَسَ في وجه ابن أم مكتوم حالًا أنزَل الله عزَّ وجلَّ الوحي مُعاتبًا له:

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
[سورة عبس]

لذلك كان بعضهم يقول:
تضعُ الذنوبَ على الذنوبِ وترتجي درَجَ الجِنانِ وطيبَ عيشِ العابدِ ونسيتَ أنَّ اللهَ أخرجَ آدمًـــــــــا منها إلى الدنيا بذنبٍ واحــــدِ!
{ منقول }
وإبليس: ترك سجدةً واحدةً فجعله الله عزَّ وجلَّ مذمومًا مدحورًا ملعونًا مطرودًا وإلى أبدِ الآباد، فتارك الصَّلاة كم سجدةً يترك؟ تارك الصَّلاة، إبليس ترك سجدةً واحدةً فصار ملعونًا إلى يوم يُبعَثون، وإذا ترك أحدهم سجدتين؟ سيصير ملعونًا بما يعادل مِنَ الآن إلى يوم القيامة مرتين! وإذا ترك مئة سجدة؟ وألف سجدة؟ قال الله عزَّ وجلَّ:

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (132)
[سورة طه]

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ) مثل أمر الله عزَّ وجلَّ للملائكة بالسجود، ولآدم بألَّا يأكل مِنَ الشجرة، ولإبليس بأن يسجد، الله عزَّ وجلَّ أمَرك: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا).

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
[سورة الشعراء]

أهلك، جيرانك، مَن حولَك، علِّمهم، أنذرهم، مُرْهُم بالمعروف وانههم عن المنكر، أقِم الصَّلاة، آتِ الزكاة، هذه أليست مثل:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
[سورة البقرة]

فالذي سجد ربِحَ رضا الله عزَّ وجلَّ، وواحدٌ منهم ما سجَد وكان قد عبد الله عزَّ وجلَّ خمسين ألف سنة، ردَّ سجدةً واحدة، فهل تارك السجدة الواحدة ذنبه أعظم أم تارك مئة ألف سجدة؟ هذا يساوي مئة ألف إبليس.

القرآن مدرسة والله عزَّ وجلَّ هو المعلم:
فيجب أن نعرف كيف نقرأ القرآن، القرآن ليس لقلقة باللسان أو ترديده بالأنغام أو استماعه كنغمِ موسيقى، القرآن مدرسة والله عزَّ وجلَّ هو المعلِّم وأنت التلميذ، فإذا كنت التلميذ النابِه الواعي الحافِظ الذي يكتب وظيفته بالشكل المطلوب فآخر السنة:

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
[سورة الانشقاق]

كم نرى مِنْ أصدقائنا وأقاربنا ومعارفنا بقَلْبةٍ واحدة:

فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
[سورة النازعات]

فقدِّر نفسك أنك أنت ذلك الميت، فيا تُرى كم سجدةً تركت؟ وكم أمرًا مِنْ أوامر الله عزَّ وجلَّ ضيَّعت؟ وكم مُحرَّمًا مِنْ محارم الله عزَّ وجلَّ ارتكبت؟ ولم تتُب التوبة الصادقة النصوح، التوبة النصوح هي ألَّا تعود إلى الذنب ولا تكرره مرةً ثانية كما أن اللبن والحليب لا يعود إلى الضَّرع إذا خرج منه.
فإذا كنت تعتقد أنك تفعل كلَّ شيءٍ ولن يُحاسبك الله عزَّ وجلَّ؛ فالله عزَّ وجلَّ لا يقول هذا، بل يقول:

وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

مثقال الذرة سيَرى جزاءه وحسابه وسيُدعى إلى محكمة الله عزَّ وجلَّ وبحضور الأنبياء:

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ۖ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
[سورة المائدة]

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) في محكمة الله عزَّ وجلَّ (فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) بلَّغتم؟ بلَّغْنا (مَاذَا أُجِبْتُمْ) هل أجابتكم أممكم وأطاعَت الله ورسوله؟ (قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا) نحن متنا وفارقناهم (إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

القرآن والمعلم القرآني:
فالقرآن كتاب عِلم، القرآن كتابُ تغيير الأعمال والأفكار والسلوك والأصدقاء والفكر والنفس والنوايا والإرادات، وهل يمكن أن يجعل كتابُ الطب الإنسانَ طبيبًا بلا أستاذ؟ هل أخذ الأطباء الشهادة بالكتب في بيوتهم أم بالكتب في كليات الطب مِنْ أساتذتهم؟ كذلك المسلم: إذا لم يأخذ القرآن مِنْ مُعلِّم القرآن ومِنْ أستاذ القرآن حتَّى يُجلِّي له كلَّ غوامِضِه ويشرح له كل حقائقه ويصل قلبه بقلبه بصلة الحب الصادق.
وكان المعلِّم القرآني الأول - وهو سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم - يطلب مِنْ كلِّ مسلمٍ ومسلمة أن يُحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أكثر مِنْ ماله وتجارته وأمِّه وأبيه وداره:

قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
[سورة التوبة]

(آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) الأسرة والأصحاب والأصدقاء (وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا) نريد أن نرى المزرعة، المصنع، مكان العمل، التجارة في بيروت في أوروبا، إلى آخره.. (وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا) نريد أن نرى القصر، (وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ليس الأمر أنكم لا تحبون الله عزَّ وجلَّ والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم بل أنكم تحبون هذه الأشياء أكثر،وتُقدِّمونها على الله ورسوله (فَتَرَبَّصُوا) يعني انتظروا (حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) يعني بعذابه، (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) الفسق: إذا خرج الدولاب عن السكة فقد فَسَق، فالفاسق هو الذي يخرج عن هدي الله عزَّ وجلَّ إلى أهواء نفسه وشهواتها ومصالحها، يفضِّل جانب نفسه على هدي الله عزَّ وجلَّ وتعاليمه.

الإيمان الحقيقي يظهر في التطبيق:
لذلك: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾نزِّه الله عزَّ وجلَّ واسمه عن أن يخطر ببالك ما لا يليقُ به، إذا أردتَ أن تفعل شيئًا:

وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
[سورة طه]

وإذا كنت تفعله ولا تُبالي فكأنك تعتقد أن الله عزَّ وجلَّ جاهل وأعمى وأطرش لا سَمِعَ سفاهة كلامك ولا رأى قبائح أعمالك وينسى ولا يهتم بك أبدًا وأنت اعمل ما تشاء، فهل هذا يا ترى تسبيحٌ وتنزيهٌ وتقديسٌ لله عزَّ وجلَّ أو بعكس هذه المعاني؟ فالنَّاس:

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
[سورة الأنعام]

فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا حقيقة الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، إذا آمنت بحقيقة الثعبان وأنت إنسانٌ بالغٌ عاقلٌ تفهم كلَّ شيء فماذا يقتضي إيمانك؟ أن تضعه تحت قميصك؟ أو أن تلُفَّه على رقبتك أو رأسك؟ أو أن تجعله ربطة عنق؟ فإذا قلت الثعبان وذكرت طوله وعرضه ولونه وسمومه؛ ثم أردت أن تجعله ربطة عنق، فهل أنت عالِمٌ أم جاهل؟ أنت عالِمٌ لم ينفعه الله عزَّ وجلَّ بعِلمه، وعالِمٌ يُستعاذ مِنْ عِلمه:

{ اللهمَّ إنِّي أعوذُ بك من علْمٍ لا ينفعُ (1) }

[صحيح مسلم]


عقوبة مخالفة أوامر الله عز وجل:
فإذا سبَّحت الله عزَّ وجلَّ بأن تعرفه حقَّ المعرفة: العليم الذي لا يخفى عليه شيء، القادر الذي لا يُعجِزه شيء، المُحسن الذي يُكافئ المُحسن إلى مستوى لا يخطر على بال المؤمن وبغير حساب، والمُسيء قد يُعاقَب على ذنبٍ صغير وهو ذو شأنٍ خطيرٍ عند الله عزَّ وجلَّ، كما عاقب الله عزَّ وجلَّ آدم عليه السَّلام مِنْ أجل تفاحة أخرجه وزوجته حواء مِنَ الجنة، فكيف إذا كان قد شرب الخمر؟ شرب الخمر أعظَم أم الزنى؟ أم قتل النفس؟ أم الغيبة؟ أم الاعتداء على النَّاس؟ مِنْ أجل تفاحة! ماذا جرى؟
وإبليس: من أجل سجدةٍ واحدة، إذا ترك صلاة الظهر فكم سجدةً فيها؟ أريع ركعات فيها ثماني سجدات، فإذا ترك صلاة الظهر صار ثمانية أبالسة! وإذا ترك العصر أيضًا صار ستة عشر إبليسًا! والمغرب ستة صاروا اثنين وعشرين، والعشاء ثمانية، والفجر أربعة، صار المجموع أربعةً وثلاثين، إذًا أخذ رتبة أربعة وثلاثين إبليسًا في يومٍ واحد! فهل أنت تفهم القرآن حين تقرؤه؟ لمَ؟ لأنه ليس لك المعلِّم، إذا أعطوك سيارة فخمة ولا تعرف قيادتها فماذا تستفيد منها؟ بالعكس: إذا كانت واقفةً في طريقٍ جبليٍّ وتمكنتَ مِنْ تحريكها ونزلت وأمامك وادٍ فربما تهلك!
كان هناك أخٌ مِنْ إخواننا رحمه الله وغفر لنا وله، في الأربعينيات كان عندي فرسٌ أصيلة لكنها كانت مِنَ الخيول المخيفة، إذا لم يكن الشخص خيَّالًا يُخشى عليه مِنْ ركوبها، ففي يومٍ مِنَ الأيام قال لي: أتسمح لي بأن آخذها لأجدد لها حدواتها؟ فسمحت له، ويبدو أنه ركبها في شارع بغداد فأسرَعَت به وهو ليس خيَّالًا فصار يصرخ ويستغيث بالمارة طالبًا المساعدة.
فاليوم حياة وربما يكون غدًا موت، اليوم دنيا وغدًا آخرة، وهذا القرآن سيسألنا الله عزَّ وجلَّ عنه سورةً سورة وجملةً جملة، عِلمًا وعملًا، لا يكفي أن تطبِّق القرآن على نفسك بل عليك أن تُعلِّم الآخرين:

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (132)
[سورة طه]

وعليك أن تأمُر جيرانك :

وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
[سورة الشعراء]

عليك أن تأمُر بالمعروف، أينما وجدت إنسانًا تاركًا واجبًا مِنْ واجبات الله عزَّ وجلَّ.

صفات المؤمنين:
إذا كنت مؤمنًا فهذه صفات المؤمنين:

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
[سورة الزلزلة]

(بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ) كتلةٌ واحدة، وحدةٌ كاملة هذه أول صفة: وحدتهم، الصفة الثانية: (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أينما رأوا إنسانًا تاركًا واجبًا مِنْ واجبات الله عزَّ وجلَّ ذكَّروه بالحكمة والموعظة الحسنة، قل له: يا أخي لو أنك تصلي، لو أنك تزكِّي، تصل الرحم وكذا وكذا.. (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ) هؤلاء الذين يحملون هذه الصفات، هُؤلاء لا غيرهم (سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ)، (أُولَٰئِكَ) ما معنى (أُولَٰئِكَ)؟ هُم لا غيرهم.

التوفيق إلى معلم القرآن:
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُوفِّقنا إلى مُعلِّم القرآن:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[سورة البقرة]

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) بالحكمة يُكبِّر لك عقلك بأن تفعل ما ينبغي - تؤدي الواجب الذي عليك - في الوقت الذي ينبغي - تصلي صلاة العصر في وقتها، فإذا صليتها وقت الظهر أو بعد غروب الشَّمس لم تكن في الوقت الذي ينبغي - على الشكل الذي ينبغي - إذا اتجهت إلى الكعبة بظهرك أو اتجهت إلى القابون، إلى الشرق أو الغرب، لم تكن صلاتك على الشكل الذي ينبغي، فعليك أن تتعلم الحكمة.
بعد ذلك: (وَيُزَكِّيهِمْ) يُزكِّي نفسك، إذا كان في نفسك طمعٌ في الحرام يُعقِّم نفسك مِنْ هذا الطمع، فيها كذبٌ أو غشٌّ أو حسدٌ أو عدوانٌ أو فجورٌ أو رياء:

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
[سورة البينة]

حتَّى نعيش على الإسلام لنموت عليه، يقول النبي عليه الصَّلاة والسَّلام:

{ يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ علَى ما ماتَ عليه (2) }

[صحيح مسلم]

عند موتك تموت على الحالة التي عِشت عليها.

الله هو غفار الذنوب:
أما بالأماني: الله عزَّ وجلَّ غفورٌ رحيم، يعني أن توقيع الله عزَّ وجلَّ بيدك، فإذا وقَّعتَ لنفسك أنني غفرت لنفسي فمعنى ذلك أنك صرت أنت الله! أنت الذي تغفر، والله عزَّ وجلَّ يقول:

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
[سورة آل عمران]

هذا القرآن، فأنت تقول لله عزَّ وجلَّ: لا، أنت مخطئ! أنا الذي أغفر ذنوب نفسي، لأني بكلمةٍ واحدةٍ أقول الله عزَّ وجلَّ غفورٌ رحيمٌ وانتهت المسألة!
فيردُّ عليه الله عزَّ وجلَّ قائلًا: أنت تكذب على نفسك وتكذب على الله عزَّ وجلَّ وتكذب على القرآن! أنا أقول في القرآن:

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ (82)
[سورة طه]

الذي يترك كلَّ الذنوب توبة نصوحًا، ما هي التوبة النصوح؟ هي أن تترك الذنب فلا تعود إليه إلا إذا عاد اللبن والحليب إلى الضرع، هل يمكن أن يعود الحليب إلى الضرع بعد أن يخرج منه؟ كذلك التوبة النصوح: أن تترك الذنب فلا تعود إليه:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ (8)
[سورة التحريم]


الخبير هو الذي يطلع على دقائق الأمور:
هل نحن نفهم كلام الله عزَّ وجلَّ؟ وإذا فهمناه فهل يا تُرى نُسارع إلى امتثاله؟ تكون مثلًا قد أوقفت سيارتك بشكلٍ مُخالفٍ للقانون، فيقول لك الشرطي: حوِّلها إلى المكان الفلاني، فهل تستطيع أن تُخالف له أمرًا؟ وهذا عبدٌ مثلك لن يضعك في جهنم ولن يخسِّرك جنةً عرضها السَّماوات والأرض، فربُّ العالمين سبحانه وتعالى يقول لك: (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) فمَنْ أعظَم في نفسك مُسارعةً إلى طاعته وبُعدًا عن مُخالفته: الله عزَّ وجلَّ أم الشرطي؟
إذا أردت أن تفعل شيئًا معيبًا ورآك ولدٌ صغيرٌ استحييت وامتنعت خوفًا مِنْ أن يراك الولد فإما أن تصرفه أو تختبئ عنه حياءً وخوفًا مِنْ الفضيحة، وإذا كان الله عزَّ وجلَّ يقول لك:

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
[سورة المجادلة]

وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
[سورة البقرة]

وما سألتَ عن عِلم الله عزَّ وجلَّ بأعمالك ولا عن خبرة الله عزَّ وجلَّ، الخبير الذي يطَّلع على دقائق الأمور، خفايا النفس كلُّها تكون مكشوفةً له.

الخوف من الله في السر والعلانية:
فهل أنت بذلك تكون مؤمنًا بالقرآن؟ مؤمنًا بالله عزَّ وجلَّ؟ هل أنت مسبِّحٌ لله عزَّ وجلَّ بأنه يعلَم السِّر وأخفى؟

يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
[سورة التغابين]

فهل وهو يعلم سرَّك إن أسررته عن النَّاس، السرُّ يكون على النَّاس، أما الله عزَّ وجلَّ فلا سرَّ عليه، على النَّاس تُخفي سرائرك وتخفي علانيتك حياءً وإجلالًا واحترامًا للناس، وإذا قال لك الله عزَّ وجلَّ: كيف لم تستحيِ مني وأنا أعلم سرَّك وأخفى؟ كيف لم تستحِ مني؟ كيف لم تخجل مني؟ كيف لم تخَف عقابي وأنت تخاف مِنْ مخالفة الشرطي؟
فإذا كنت بهذا الشكل فأنت تعتقد في الله عزَّ وجلَّ ما لا يليق به، والاعتقاد في الله عزَّ وجلَّ بما لا يليق به هو عكس التسبيح، التسبيح أن تعتقد في الله عزَّ وجلَّ بما يليق به مِنْ كمالٍ لا نقص، ومِنْ عِلمٍ لا جهل، ومِنْ رحمةٍ:

قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
[سورة الأعراف]

(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) لكنْ لمن؟ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ) إمامهم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم (الرَّسُولَ) إمامهم ليس بالكلام: إذا ركَع نركع معه، وإذا سجَد نسجد معه، إذا فعل نفعل وإذا ترك نترك، هذا معنى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).
يا ترى هل يفهم المسلمون القرآن حسب القرآن أم عكس ما يدعو إليه القرآن؟ يا تُرى هل المسلمون في أعمالهم وسلوكهم مع القرآن أو ضده؟ في كلامك، في نظرك، في خفايا نفسك، في حقدك، عند غضبك، عند رضاك، في غناك، في فقرك، مع مَنْ تحب، مع مَنْ تكره، كلمة مُسلم: الإسلام هو الاستجابة لأوامر الله عزَّ وجلَّ، والمسلم هو المستجيب، فإذا كان الشخص بيطريًّا وادعى أنه طبيب عيون اختصاصيٌّ مِنْ جامعة خان الباشا، فهل يُسلِّمه أحدٌ عينه وهو يرى عُدته مِنَ المطارق وأدوات تعديل حوافر البِغال والحمير؟ فهل يدخل أحدٌ عيادته؟

لله العظَمة في كل شيء:
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ نزِّه الله عزَّ وجلَّ عن اعتقادك الوسخ وعن اعتقادك الجاهل، اعتقد في الله عزَّ وجلَّ العظَمة في كلِّ شيء، في عِلمه: لا يخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السَّماء، في قدرته: قادرٌ أنه في لحظةٍ واحدةٍ:

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
[سورة إبراهيم]

في عطائه: لو أعطاك في لحظةٍ واحدةٍ ملء السَّماوات والأرض لا ينقُص مِنْ ملكه شيء، في رحمته، لكنْ:

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ (82)
[سورة طه]

الذي يُؤمن بالأفعى ويُؤمن بالسُّم هل يشربه؟ وإذا قال: آمنت بالسُّم أنه قاتل في ساعته وشرِبَه، فهل الجاهل أفضل أم عِلمُ هذا؟ الجاهل مسكين لا يعرف، أما هذا فيُقال عنه: ما ألعنه! ما أحمقه! يعرف أنه سمُّ قاتلٌ وشرِبَه!
لذلك ورَدَ في الحديث:

{ أشدُّ النَّاسِ عذابًا يومَ القيامةِ عالمٌ لم ينفعْهُ علمُهُ (3) }

[شعب الإيمان للبيهقيُّ]

إذا قال لك أحدهم: أنا وضعت لك ألف ليرةٍ ذهبيةٍ في صُرة في المكان الفلاني فاذهب وخذها، فعلِمتَ ذلك ولم تأخذها فأخذها النَّاس، فلو أنك كنت جاهلًا ولم يُخبرك أحدٌ بذلك تكون مؤاخَذًا أم بعد العِلم والإهمال مؤاخَذًا أكثر؟ فـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ وسبِّح ربك عزَّ وجلَّ عمَّا لا يليق به، هل يليق بالله عزَّ وجلَّ أن يُعامل الصالِح كالطالِح؟ وأن يُعامل التقي كالفاسق؟ وأن يُعامل الفاجِر العاهِر الظالِم الطاغية كالمستقيم المُحسن الذي كلُّه خيرٌ للآخرين؟

أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
[سورة ص]

الله عزَّ وجلَّ يسألنا، ألا نجيب؟ لا واللهِ يا ربِّ، لا تُعامل الفاجِر كالتقي، ولا تُعامل الصالح كالمُفسد، وإذا اعتقدت هكذا فهل أنت مسبِّح أم غير مسبِّح؟ فلا تغترَّ بسبحان الله سبحان الله سبحان الله، التسبيح يجب أن يكون عقيدةً في القلب تظهر في العمل والمعاملة وفي أعمالك وبأعضائك وفكرك وقلبك، لا غش، لا حقد، لا خيانة، لا غدر، لا حسد، إلى آخره.. وإلى هنا كان درسكم الماضي.

البدء بالخلوة إلى الله:
فبعد أن ذكَر الله عزَّ وجلَّ سورة الأعلى قال: ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ فبعد أن سبَّح النبي صلَّى الله عليه وسلَّم اللهَ عزَّ وجلَّ التسبيح اللائق، وعرَف اللهَ عزَّ وجلَّ المعرفة الحقيقية الحية؛ صفَتْ روحه وصارت ملائكيةً فظهر له سفير الله عزَّ وجلَّ مِنْ ملائكته سيِّدنا جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام في غار حراء، وقال له: أنت أُمِّي:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)
[سورة الجمعة]

أُمِّيٌ في مدرسة البشر لكنني سأضعك في مدرسةٍ أعلى مِنْ مدرسة البشر، في المدرسة الربانية، وسأرسل لك مُعلمًا مِنَ السَّماء، أشرف الملائكة وهو جبريل عليه السَّلام، وجبريل قال له:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
[سورة العلق]

(اقْرَأْ بِاسْمِ) ببركة وبقوة ونورانية اسم (رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، (اقْرَأْ) يعني: اعلم، تعرَّف، كشف له عن المغيَّبات، القراءة لتعلَم الشيء غيبًا، أما إذا صار ذلك المغيَّب مشهودًا فعِلمك به قراءةً أو مشاهدةً أعظَم؟ مشاهدة، إذا قال لك شخص تعرف صدقه: إن الشَّيخ في الجامع، تكون قد علِمتَ وجود الشَّيخ، فإذا دخلت الجامع ورأيت الشَّيخ مع إخوانه فأي "اقرأ" أبلغ في العِلم؟ "اقرأ" بالعين أو "اقرأ" باللسان؟ فبصفاء روحانية رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وتوجُّهه الدائم إلى الله عزَّ وجلَّ وبتخطيط الله عزَّ وجلَّ وترتيبه وتقديره نزَل عليه الملَك، وقال له:

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
[سورة النساء]


تقوى الله عزَّ وجلَّ:
ونحن بالنسبة لنا يمكننا دخول هذه المدرسة، يقول الله عزَّ وجلَّ:

وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
[سورة البقرة]

هذه مدرسة (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أن تتقي الله عزَّ وجلَّ بقلبك، لا يغيب ولا يغفَل عن الله عزَّ وجلَّ طرفة عين، دائمًا أنت مع الله عزَّ وجلَّ، دائمًا الله عزَّ وجلَّ معك، الله عزَّ وجلَّ رقيبٌ وشهيدٌ عليك:

يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

فإذا كان معك واحدٌ مِنَ الأمن فهل يُمكنك أن تفعل مخالفةً ضد مصلحة وقوانين الأمن؟ فكيف تفعل مخالفةً ضد أوامر الله عزَّ وجلَّ وهو معك؟ وملائكته معك وموظفو الأمن الإلهي معك وكتاب تسجيل الأعمال: لا القلم يجفّ ولا الورقة تتمزَّق! فهذا بعض سورة ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾.
﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ إذا سبَّحت الله عزَّ وجلَّ وعرفته واتَّقيته وذكَرته وعرفت صفات الله عزَّ وجلَّ وتأثَّرت بها؛ ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ يُدخلك في مدرسته فتصبح تلميذًا في المدرسة الإلهية ومُعلِّمك رب العالمين سبحانه وتعالى:

وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
[سورة البقرة]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
[سورة الأنفال]


حق التقوى:
(إِن تَتَّقُوا اللَّهَ) وحقُّ التقوى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)
[سورة آل عمران]

ما حقيقة التقوى؟ القرآن يقول: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) وليست التقوى الكاذبة بل الصادقة، فكان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول عن حق التقوى:

{ أن تُطيعه فلا تعصيه، وأن تشكره فلا تكفره، وأن تذكره فلا تنساه (4) }

[ورد في الأثر]

(أن تُطيعه فلا تعصيه) لا بيد، ولا بنظر، ولا بسمع، ولا بلسان، ولا بمال، ولا في غضب، ولا في حُب:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
[سورة الأنفال]

بأضواء السيارة في الليل ألا يمكنك أن تُميِّز بين الحُفر وبين الوادي وبين الإسفلت وبين طريق الصحراء؟ مَنْ الذي يُسبِّب هذا التفريق؟ النور، فإذًا النور فرقان، والقرآن هو الفرقان، فإذا قرأته بقلب ذاكر، إذا لم يكن لك قلبٌ ذاكرٌ فعليك أن تدخل مدرسة الذكر وتبحث عن أستاذ يُعلِّمك كيف الذكر، ويذكر أمامك لتذكر وراءه.

القرآن يطلب منك أن تصير إمامًا:
معلم الرياضة البدنية يقوم هو أولًا بالحركة أليس كذلك؟ إذا رفع يديه رفع الطلاب أيديهم، وإذا حرَّك قدميه حرَّكوا أقدامهم مثله، فهل يصلُح مِنْ غير إمام؟

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
[سورة الفرقان]

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
[سورة السجدة]

فالقرآن لا يطلب منك أن تكون مقتديًا بل أن تصير إمامًا ومُعلِّمًا بأعمالك، الإمام هل يقول للناس اركعوا؟ بل بأعماله: يركع فيأمرهم بالركوع عمليًّا، فالتعليم بالعمل أبلَغ أم بالقول؟
فحق التقوى قال: (أن تُطيعه فلا تعصيه، وأن تشكره فلا تكفره).
نعمة الله عزَّ وجلَّ عليك، أنعم الله عزَّ وجلَّ عليك بالعيون فلو كنت فاقد البصر وتملك مليارًا وثمن العينين مليار؛ أما كنت ستشتري عينين بالمليار؟ على الأقل كنت تشتري عينًا واحدة - فالعوَر أسهل مِنَ العمى - وتبقي معك نصف مليار، فكم دفعت ثمن العينين اللتين أعطاك الله عزَّ وجلَّ إيَّاهما؟
نعمة اللسان:

خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
[سورة الرحمن]

لو لم يكن لك لسانٌ وكنت جائعاً أو عطشاناً أو أردت أن تسافر أو تريد البدلة الفلانية؛ فكيف ستتكلم؟ كم أخذ منك ثمن اللسان؟
(وأن تشكره فلا تكفره، وأن تذكره فلا تنساه) دائمًا إذا أكلت أو شربت أو دخلت بيتك أو مزرعتك أو سيارتك أو محلك أو رأيت مالك أو أولادك؛ نذكر الله عزَّ وجلَّ فنشكره شكر القول واللسان والعمل.

قصة فيها عبرة:
يُذكَر عن بعض الأنبياء أن أحد أتباعه طلب منه أن يدعو له الله عزَّ وجلَّ بالغِنى، وألحَّ بالطلب حتَّى دعا النبي لذلك الإنسان، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إلى النبي: أنْ خيِّره بين أن يكون الغنى في أول عمره أو في آخره، فقال له: عندي زوجةٌ صالحة:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
[سورة آل عمران]

شاوَر زوجته فقالت له: ما رأيك أنت؟ فقال لها: في آخر العمر نكون قد عجزنا وتعبنا ولم نعد نستطيع العمل فنرتاح ويغنينا الله عزَّ وجلَّ وعندنا كلُّ ما نحتاجه، فقالت له: لا! بل أول العمر، فقال لها: لماذا؟ قالت: نكون شباب أقوياء حتَّى نصرف زهوة عمرنا وحياتنا في طاعة الله عزَّ وجلَّ ونحن مكْتفيان مِنْ أمر الدنيا وقالت له: إن الله عزَّ وجلَّ يقول:

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
[سورة إبراهيم]

فلا تُصدِّق قصة نصف العمر فهذا امتحان يمتحنك الله عزَّ وجلَّ به! فقال للنبي: أول العمر.
فأغناه الله عزَّ وجلَّ، وحين يُعطي اللهُ عزَّ وجلَّ فكما خلقك مِنْ عدم يُعطيك كلَّ شيءٍ مِنْ عدم، فأغناه، فأنشأ سوقًا يدخله الفقير: إلى الحمَّام، ثم يخرج مِنَ الحمام فيتجه إلى الخياط فيأخذ البدلة التي يريدها، ثم يدخل المطعم فيأكل ما لذَّ وطاب، ثم يذهب إلى سوقٍ فيه كلِّ حاجات البيت فيأخذ منها ما يشاء مما يحتاجه في بيته، وفي نهاية السوق يكون في انتظاره صُرةٌ فيها مبلغٌ كبيرٌ مِنَ المال، وهذا كلُّه على أساس: (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).
فلما حان منتصف العمر قالت له زوجته: يا ابن الحلال الموعد منتصف العمر فيكفي هذا، عليك أن تستعمل المكابح! فقال لها: يا بنت الحلال، عندما أعطانا الله عزَّ وجلَّ هل كان عطاؤه مع مكابح أو بدونها؟ فالله عزَّ وجلَّ عوَّدني عادةً وعوَّدتُ عباده عادةً وهو لا يُغيِّر عادته فأنا لا أغير عادتي! فلما استمر الأمر شهرًا ثم شهرين وسنةً ثم سنتين تعجَّبت زوجته فأوحى الله عزَّ وجلَّ إلى نبيِّ ذلك الزمان: أن قُل لعبدي فلان: لأنه شكرني وصدَقني فقد أغنيته في أوَّل عمره إلى آخره!

على العبد التقوى والشكر والذكر :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)
[سورة آل عمران]

(أن تُطيعه فلا تعصيه، وأن تشكره فلا تكفره، وأن تذكره) إذا أغناك الله عزَّ وجلَّ ألَّا تبطَر، وإذا قوَّاك لا تظلِم، وإذا رفعك لا تحتقر النَّاس، كن دائمًا متواضعًا لله عزَّ وجلَّ مسارعًا إلى مرضاته.
هذه من ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ سنعلِّمك، ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ لما كان الوحي ينزل على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يخاف أن ينساه فيُكرره أثناء الوحي، فقال له الله عزَّ وجلَّ: لا، لا تخف ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ سنُعلِّمك القرآن بشكلٍ لا تنساه أبدًا :

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
[سورة طه]

ما دام الوحي متواصلًا فابقَ أنت مُصغيًا وانتبه إلى الحفظ، أما النسيان فأنت في أمانٍ منه بالتأمين الإلهي: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ وكلُّ شيءٍ بمشيئة الله عزَّ وجلَّ.

الإيمان بأن الله عزَّ وجلَّ معك :
﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾ يعلم سرَّنا وجهرنا، ظاهرنا وباطننا:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
[سورة ق]

فكيف نعصي الله عزَّ وجلَّ والإيمان يقول لنا: عليك أن تُؤمن بأن الله عزَّ وجلَّ معك، وإذا لم تُؤمن بأنه معك فما هو ضد الإيمان؟ الكفر! فهل أنت كافرٌ وتعتقد أن الله عزَّ وجلَّ ليس معك في السوق؟ وليس معك عندما تضرب زوجتك؟ أو عندما تريد أن تغش؟ لا يعلم ما في الصدور عندما تنوي الغدر أو المكر أو الأذى؟ فما معنى:

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)
[سورة الملك]

يعني نظِّفوا صدوركم مِنَ الغش والمكر والخديعة، نظفوا بواطنكم مِنَ الحقد والعداوة مِنَ الرياء والسُّمعة إلى آخره..

جزاء التسبيح:
﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ فإذا سبَّحت ربك وكنت تلميذًا في مدرسته وهو مُعلِّمك الذي يُقرئك ويُعلِّمك فماذا يكون مصير تلميذ الله عزَّ وجلَّ؟ ما هي مرتبة تلميذ الله عزَّ وجلَّ في مدرسته ومنزلته وسعادته؟ قال: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ نجعل أمورك كلها ميسَّرة، أنت مطلوبٌ منك أن تُنشئ دولةً توحِّد فيها الأمة العربية وتنقُلها مِنَ الأمية والجاهلية والوثنية إلى خير أمَّةٍ في العالَم، ويا ربِّ مَنْ أنا؟ وماذا أملك أنا؟ وكم مئة ألف مدرسةٍ يحتاج الأمر؟ وكم مئة ألف أستاذٍ يلزم؟ قال له: لا تخف إذا سبَّحت ﴿اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ ودخلت مدرستنا ونحن كنا المعلِّمين ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ و﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾.
وإذا بمُحمَّدٍ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في عشرين سنةٍ وهو لا يقرأ الورق ولكن يقرأ في صحف الله عزَّ وجلَّ وفي صحف الغيب ما لا تراه العيون، وانقلبت صفحات قلبه إلى قرآنٍ يقرؤه ليس بحبرٍ أسود بل بالحبر النوراني.
﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ كل أمورك التي يعجز ملايين النَّاس عن عملها ستعملها أنت وحدك وبشكلٍ ميسَّر، ففي عشرين سنةٍ صنع أعظَم أمَّةٍ بشهادة القرآن:

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
[سورة آل عمران]

ليس أُخرِجَت للعرب بل (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) للعالَم كله، وأوجد أعظَم دولة، وضع بناء ليس دولةً قوميةً ولا وطنيةً بل الدولة العالمية، الدولة السَّماوية التي لا تتحيَّز فوطن القومية يتحيَّز لأبناء الوطن وأبناء لغته، أما الدولة الإلهية فتتحيَّز لكلِّ مَنْ خلقهم الله عزَّ وجلَّ مِنْ عباده.
عندما طُعِن سيِّدنا عمر رضي الله عنه قالوا له: أوصِ يا أمير المؤمنين، لأنه صار قريبًا مِنَ الموت، فقال: "وأوصيكم بأهل الذمَّة خيرًا"، يعني أوصيكم بالمواطنين مِنْ غير المسلمين خيرًا، على فراش الموت يُوصي بالمواطن غير المسلم! "فإنهم مِنْ أهل ذمَّة الله عزَّ وجلَّ وذمَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، واستوصُوا بالأعراب خيرًا فإنهم مادة الإسلام ومادة العرب" أيضًا بالقومية العربية.
وقام تلامذته مِنْ بعده وفي أقل مِنْ مئة سنةٍ وفي خلافة عثمان رضي الله عنه كان الإسلام واصلًا إلى الصين، يعني في عشرين سنة مِنْ مكة إلى الصين، ومِنْ مكة إلى البحر الأطلسي، لا طائرات ولا سكك حديدية ولا سيارات ولا هواتف ولا أي شيء، ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ نُوفِّقك لشريعةٍ يسرى ونجعل على يديك أعظَم دولة وبالطريقة اليسرى.

إن مع العسر يسرًا:
وقد تجد بعض العُسر ولكنْ:

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
[سورة الشرح]

والقاعدة العربية: أن لفظ المعرفة الذي فيه الألف واللام كما إذا قلت: جاء الرجل ورأيت الرجل وذهب الرجل، فكم رجلًا هؤلاء؟ واحد، وإذا لم يكن هناك ألف ولام، إذا قلت: رأيت رجلًا، ونام عندي رجل، وركبت مع رجل، مِنْ غير ألفٍ ولام، نكرة، فكم رجلًا هؤلاء؟ ثلاثة، مفهوم؟ كذلك يقول الله عزَّ وجلَّ: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) بالألف واللام (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) العُسر بالألف واللام والذي بالألف واللام إذا تكرر ولو مئة مرة فكم واحدًا يكون؟ واحدًا، و(يُسْرًا ) (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) فـ (يُسْرًا) بلا ألف ولام نكرة فيكون مكرَّرًا، لذلك يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ لنْ يغلِبَ عُسرٌ يُسرينِ }

[ورد في الأثر]

في الآيتين ذكر الله عزَّ وجلَّ عسرًا واحدًا وذكر يُسرين.

تيسير الله للإنسان لا يتوقف على نظام البشر:
﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾.

وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
[سورة الطلاق]

كنت مرة في خدمة شيخي رضي الله عنه في الحج، وبعد الحج كنا في جدة لنركب الباخرة، وكان ذلك في زمن الفرنسيين وكان مِنْ جملة تسلُّطهم أنهم يفرضون التأشيرة على الحاج عندما يريد أن يرجع إلى بلده، يعني علينا أن نستخرج تأشيرة مِنَ السفارة الفرنسية في جدة، فكنت أنا وحدي مع شيخنا، ذهبنا إلى السفارة وكانت مزدحمةً والجو حارًّا، وكان شيخنا مريضًا وصدره يضيق فقال لي: لنجلس خارجًا في الظل حتَّى يخف الزحام، فجلسنا قليلًا وإذ يمرُّ رجلٌ كأنه مغربي فسأل شيخنا: لماذا تجلسان؟ قلنا: لنستخرج تأشيرة، فقال: أرياني جوازكما، فأريناه إياه فقال: هذا مؤشَّر! قلت له: لا، قال: بلى، وكانت لغتي الفرنسية في ذلك الوقت جيدة وأعرف التأشيرة فقلت له: ليس مؤشَّرًا، فقال: واللهِ العظيم إنه مؤشَّر! فقال لي شيخنا: هيا نقمْ فقد حلَفَ الرجل بالله! قلت له: ليس مؤشَّرًا، قال: لقد حلف بالله، وقد كان عمري حوالي ست عشرة سنة يعني في سن المراهقة لا أملك أن أخالفه، فقال لي: قم بنا، فقمنا، ولم يكن في جدة في تلك الفترة ميناء، وكانت القوارب تسير بين الشاطئ والباخرة ثلاث ساعات لوجود الصخور والتعرجات في الطريق وعلى عمق متر ونصف متر، الخلاصة وصلنا إلى الباخرة وصعدنا السُّلَّم والضابط الفرنسي في أعلى السلم يدقق تأشيرات الجوازات، فقلت لنفسي: وقعنا في مشكلة! قبْلنا شخصٌ لم يكن مؤشِّرًا فركله الجندي الفرنسي بقدمه فأوقعه في البحر هو وأغراضه! استبدادٌ وطغيان! قلت لنفسي: وقعنا دون شك! لأن جوازنا غير مؤشَّر، لما وصلنا قدَّم له الجواز فنظر إليه وقال لنا: ادخلا! كيف ادخلا؟ ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾:

وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
[سورة الطلاق]


حماية الله عزَّ وجلَّ لنبيّه في غار ثور:
لما اختبأ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في غار ثور وأتى كفار قريش يُفتشون عنه ليقتلوه فوصلوا إلى الغار، صار أبو بكر رضي الله عنه يرى أقدامهم لأن الغار منخفضٌ قليلًا وهم على فوهة الغار فرأى أقدامهم ونعالهم، فصار يبكي، ما لَك يا أبا بكر؟ قال: يا رسول الله، أما ترى؟ فقال:

{ ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟! }

[صحيح البخاري]

إذا كان الله عزَّ وجلَّ هو شريكنا وهو الحامِي لنا وهو الحافِظ فهل هناك خوف؟ (ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ)

إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
[سورة التوبة]

(عَزِيزٌ) غالبٌ على أمره، و(حَكِيمٌ) يعلم كيف يرتِّب الأمور حسب حكمته.

شكر نعمة العِلم:
﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ فما أحسَن ذلك: إذا سبَّحت ﴿اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ وإذا صار الله عزَّ وجلَّ أستاذك، هو الذي يُقرئك ويُعلِّمك وأنت تلميذه وأخذت أول شهادة: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾، فإذا وفَّقك في حياتك لليسرى في دينك ودنياك فهذا يلزَمه شكر، فالشكر أن تقوم بعد ذلك: تُعلِّم الجاهل وتُذكِّر الغافل: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ رحِم الله امرأً قال في داره: يا أهلاه، يا قوماه، يا بنتاه، يا أماه، يا كذا، قُوموا إلى صلاتكم، إلى صيامكم، إلى كذا، إلى كذا }

[ورد في الأثر]

فإذا أنعَم عليك الله عزَّ وجلَّ بهذه النعَم فشُكرُها: ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ إذا رأيت الأرض خصبةً وقابلةً للزراعة فنأتي بالجرَّار ونُنزل سكته ونلقي البذار، وإذا كانت الأرض صخريةً فهل نلقي البذار على أرضٍ صخرية أو أرضٍ مبلَّطة؟ لا، فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في الغار هل سيُذكِّر المشركين الذين أتوا ويريدون قتله؟ هل تنفع الذكرى أم تضرّ؟ تضرُّ الذكرى، فالحكمة: فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي وعلى الشكل الذي ينبغي.

مخاطبة كل إنسان حسب عقله:
فكلُّ إنسانٍ يُخاطَب بالشكل الذي يهضمه عقله ويقْنعُ به فكره، رأى سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تمرةً في المسجد فأخذها الحسن أو الحسين ليأكلها والصدقة حرام على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وآله فخاف أن تكون مِنْ تمر الصدقة، فقال له:

{ كِخْ كِخْ (5) }

[صحيح البخاري]

لو قال له حرام فالطفل لا يفهم كلمة حرام، خاطبه بلغته، ما هو الحرام بلغة الطفل؟ كخ كخ، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الحكمة:

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
[سورة البقرة]

(وَمَا يَذَّكَّرُ) ما يتقبَّل الذكرى (إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) أولو العقول التي تقْبل الحق، اللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، لا يكفي أن ترى الحق وتسمع الحق ولكنك تُخالفه، اللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، الانقياد إليه، أن نُحوِّله مِنْ كلامٍ وسماعٍ إلى عملٍ وحقائق منظورة.

التذكير واجب كل مسلم:
﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ والتذكير هذا واجبٌ كلِّ مسلمٍ وكلِّ مسلمة، كان النبي عليه الصَّلاة والسَّلام يقول:

{ بلِّغوا عني ولو آيَةً (6) }

[صحيح البخاري]

الذي تسمعه وتتعلَّمه يقول لك النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: علِّمه غيرك.
يُقال أن أستاذًا للغة الإنكليزية في الشرق الأقصى قال: علَّمت اللغة الإنكليزية وحدي بلا مدرسة لألفي رجل! هذا أمرٌ خارجٌ عن المألوف أن يُعلِّم ألفي شخصٍ اللغة الإنكليزية مِنْ غير مدرسة، قالوا: كيف؟ قال: كنت إذا علَّمت رجلًا أقول له: علِّم أنت أيضًا رجلًا آخر، وإذا علَّمته فقُل له أن يُعلِّم غيره.
كذلك أنتم: إذا هدى الله عزَّ وجلَّ أحدكم وأذاقه طعم الإيمان وعرَّفه بصراط الله عزَّ وجلَّ؛ صار أمانةً في عنقه أن يقوم فيذكِّر، أن يقوم فيبلِّغ، والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ }

[سورة الزلزلة]

(لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا)(7) المرأة إذا هدى اللهُ عزَّ وجلَّ على يدها جارتَها أو كنتها أو سلفتها أو حماتها - وإن كان أمر الحماة صعبًا قليلًا - أو ضرّتها، إذا صدَق الإنسان مع الله عزَّ وجلَّ فالله عزَّ وجلَّ على كلِّ شيءٍ قدير:

لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (24) ﴾
[سورة الأحزاب]


بذل كل الوسائل في الدعوة:
يُروى عن سيِّدنا إبراهيم عليه السَّلام أنه أراد هداية إنسان وحاول معه بكلِّ الوسائل بلا فائدة، ثم دعاه إلى وليمةٍ وذبح له عجلًا وجلَب له حلويات زمانه وكرَّمه كل التكريم، ثم قال له: أنا طلبت منك أن تُسلم فلم ترضَ وأريد منك شيئًا بسيطًا، قال له: ما هو؟ قال: أن تسجد لربي سجدةً واحدة، ولا أريد منك أن تُسلم ولا أن تصلي وتصوم، قال له: فقط؟ قال: فقط، قال: حسنًا، إكرامًا لشيخوختك وإكرامك لي، فكيف أسجد؟ فطلب منه أن يستقبل القبلة وعلَّمه كيف يسجد، فلما سجَد رفع سيِّدنا إبراهيم رأسه إلى السَّماء وقال: يا ربِّ ها قد سلَّمتك إياه، فإذا أفلَت فلا شأن لي! فقد صار عندك، قالوا: فبِصدق إبراهيم عليه السَّلام وبإخلاصه ما رفع المجوسي رأسه إلا باكيًا مُؤمنًا مُوقنًا.
فما أحلى أن ينقلك الله عزَّ وجلَّ مِنْ ضلالٍ إلى هداية ومِنْ هدايةٍ إلى هدايتك للناس، اللهم اجعلنا هادين مهديين، ويقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: (لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا) إذا سافرت سفرةً وقمت بتجارةٍ ربحت فيها مئة ألف دولار، واللهِ إنه شيء يَسُرُّ أليس كذلك؟ وماذا إن ربحتَ اللهَ عزَّ وجلَّ؟ (لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ). هل في الدنيا مئة ألف دولار؟ مليون؟ مليار؟ ألف مليار؟ الدنيا كلّها؟ قال: (خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ).
هل تعتقد أنت أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صادِقٌ أم كاذِب؟ فإذا كان صادِقًا وما صدَّقت كلامه فنفَّذته عمليًّا أفتكون مُصدِّقًا أم مُكذِّبًا؟ إذا لم تطبِّق كلامه فأنت لست صادقًا في ادعائك تصديقَه، لو كنت صادقًا لطبَّقت، لو أن أحدًا دلَّك على مكانٍ فيه عشرة دولارات لركضت إليه، وإذا كانت مئة دولار ركضت أكثر، وإذا كانت مئة ألف دولار أسرعت ولو اعترض طريقك نهرٌ لرميت نفسك فيه وتابعت سباحةً بثيابك المبتلة، فإذا قال لك النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهو الصادِق المصدَّق الذي لا ينطِق عن الهوى: (لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ).

الدنيا ليست مذمومة:
فكم نحن جاهلون في التجارة؟ التجارة الفانية والصناعة الفانية والثروة الفانية هي كلُّ آمالنا وأبعادنا وأفكارنا، والثروة الباقية الخالدة الربَّانية التي تكسَب بها الأرض والسَّماء وإذا اتقيت الله عزَّ وجلَّ فهل تذهب دنياك؟

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۚ قَالُوا خَيْرًا ۗ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[سورة النحل]

وقال الله عزَّ وجلَّ عن سيِّدنا إبراهيم عليه السَّلام:

وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
[سورة النحل]

الحياة الحسنة، كان سيِّدنا إبراهيم عليه السَّلام مِنْ أغنياء الأنبياء عليهم السَّلام، كانت عنده قطعان الأغنام والأبقار والجِمال بالألوف.
ونبيُّ الله سليمان عليه السَّلام قال:

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35)
[سورة ص]

لو كانت الدنيا مذمومةً فسيِّدنا سليمان عليه السَّلام لا يطلب مِنَ الله عزَّ وجلَّ شيئًا مذمومًا، ليست الدنيا هي المذمومة بل تصرُّفك السيئ فيها هو المذموم، هل السيارة الفخمة مذمومة؟ لكن إذا جاء سائق عربةٍ وأراد أن يقودها فتدهور بها وانكسرت رقبته فمَنْ المذموم؟ السيارة أم الذي يقودها؟ فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول:

{ لا تَسُبُّوا الدنيا ؛ فنِعْمَ مَطِيَّةُ المؤمنِ، عليها يَبْلُغُ الخيرَ، وبها يَنْجُو من الشَّرِّ (8) }

[مسند الفردوس للدليمي]

نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُوفِّقنا.

والآخرة لا تقول لك اترك الدنيا ولكن تذكر الموت:
﴿وَنُيَسِّرُكَ﴾ نوفِّقك في كلِّ أمورك لتصبح ميسرة، ﴿فَذَكِّرْ﴾ فإذا أنعمنا عليك وسبَّحت ﴿اسْمَ رَبِّكَ﴾ فقُم إذًا واشكر الله عزَّ وجلَّ واهدِ النَّاس وذكِّرهم بالله عزَّ وجلَّ وعرِّفهم به، وعرِّفهم أن الدنيا: عِش ما شئت فإنك ميت، اليوم تلبس بدلةً مِنْ سوق الحميدية وغدًا تلبس بدلةً بيضاء ليس فيها خياطة ولم يدخلها مقص، وربطةً عند رأسك بدل ربطة العنق، وربطةً في وسطك، وربطةً عند قدميك، ولا تأخذ معك مالك ولا شهاداتك ولا وزارتك ولا ملكك ولا سلطانك.
والآخرة لا تقول لك اترك الدنيا، لا، يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ ليسَ بخيرِكم منْ ترك دنياهُ لآخرتِه، و لا آخرتَه لدنياهُ، حتى يصيبَ منهما جميعًا (9) }

[تاريخ دمشق لابن عساكر]

ولذلك القرآن علَّمنا:

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35)
[سورة ص]

والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ المؤمنُ القويُّ خيرٌ منَ المؤمنِ الضَّعيفِ (10) }

[سنن أبي داود]


الذكرى النافعة:
﴿سَيَذَّكَّرُ﴾ ليس كلُّ النَّاس يتقبَّلون، كان شيخنا يقول: ما كلُّ مرةٍ تلد أمك صبيانًا، بل مرةً صبيًّا ومرةً بنتًا ومرةً سقطًا ومرة يكون الحمل كاذبًا، علينا أن نلقي البذر أما نزول المطر فمِنْ فضل الله عزَّ وجلَّ وحاشاه إلا أن يجزي الصادقين بصِدقهم، فإذا ذكَّرتَ ونصحت ودَعوت قال: ﴿سَيَذَّكَّرُ﴾ ويستجيب ﴿مَنْ يَخْشَى﴾ الموفَّق يستجيب، ومَنْ كان منحوسًا غير مُوفَّق فأنت قد أدَّيت واجبك، وضمنت أجرك وأجرتك عند الله عزَّ وجلَّ، وزادَ الله عزَّ وجلَّ في حسناتك ورفَع درجتك، أما هو فأنت لست مسؤولًا عنه، أنت قد بلَّغت الرسالة وأديت الأمانة وضمنت الأجرة والراتب الإلهي الباقي الخالِد، اللهم اجعلنا هادين مهديين، ولا تجعلنا ضالّين ولا مُضلِّين.
﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ وكيف تنفع الذكرى؟ إذا كانت بالحكمة والموعظة الحسنة، أما إذا كانت بالفظاظة والغلاظة وفي الوقت وبالشكل غير المناسب؛ فلن تنفع الذكرى، تنفع الذكرى إذا أُدِّيت وعُمِلت بشرائطها وبآدابها وبالإخلاص والصِّدق وإرادة وجه الله عزَّ وجلَّ ولا يريد غير رضاه، واللهِ:

لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (24)
[سورة الأحزاب]

ألم يستجِبِ العرب للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم؟ وفي كلِّ زمانٍ وكلِّ مكانٍ إذا استوفيت شروط الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ وإيمانك الصادق ودعوتك المُخلصة وتذكيرك للناس بحسب المخطط الإلهي؛ فهل يمكن أن يضع الله عزَّ وجلَّ خريطةً مغلوطةً غير صحيحة؟ وتكون عقيمةً غير مُنتجة؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا هادين مهديين، فما أحلى أن يهديك الله عزَّ وجلَّ ويهدي النَّاس بك.
﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ إذا رأيت شخصًا غضبان قد أعماه الغضب وقلت له قُم صلِّ فقد يسبُّ الصَّلاة، اصبر عليه وكلُّ شيءٍ بحسَبه، اللهم ارزقنا الحكمة.
﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى﴾ مَنْ الذي يتقبَّلها؟ الذي يخاف الله عزَّ وجلَّ ويخشاه، والخشية فرعٌ مِنْ فروع الإيمان، إذا كان عنده إيمان يستجيب وإذا لم يكن عنده إيمان بل كان شقيًّا مِنْ أهل الخذلان:

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
[سورة آل عمران]

﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾ وإذا رفضها فهذا دليلٌ على أنه ليس شقيًّا بل هو أشقى النَّاس، ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّار﴾ اتركه لله عزَّ وجلَّ الذي سيجعل مصيره: ﴿النَّار الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا﴾ فيستريح ﴿وَلَا يَحْيَى﴾ الحياة الطيبة فيَسعَد.

حياة الآخرة لا موت بعدها:
ورَدَ في الحديث لما يدخل أهل الجنةِ الجنة وأهل النارِ النار:

{ يُؤْتَى بالمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أمْلَحَ، فيُنادِي مُنادٍ: يا أهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ، فيَقولُ: هلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، هذا المَوْتُ، وكُلُّهُمْ قدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنادِي: يا أهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ، فيَقولُ: وهلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، هذا المَوْتُ، وكُلُّهُمْ قدْ رَآهُ، فيُذْبَحُ، ثُمَّ يقولُ: يا أهْلَ الجَنَّةِ، خُلُودٌ فلا مَوْتَ، ويا أهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فلا مَوْتَ (11). }

[صحيح البخاري]

فمَنْ يبيع هذه السعادة الأبدية الخالدة التي قال الله عزَّ وجلَّ عنها:

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
[سورة السجدة]

يقول الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي:

{ أعددتُ لعبادي الصَّالحينَ ما لاَ عينٌ رأت ولاَ أذنٌ سمعت ولاَ خطرَ على قلبِ بشرٍ (12) }

[صحيح البخاري]

أتبيع سعادة مليارات السنين ببطالة وشقاوة عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة؟ هل هذا تاجر؟ هل يعرف كيف يبيع ويشتري؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُعرِّفنا كيف نتبايع ونشتري معه، أن نُتاجر مع الله عزَّ وجلَّ :

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
[سورة التوبة]

﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾نعوذ بالله عزَّ وجلَّ أن نكون مِنَ الأشقياء الذين يبتعدون عن مجالِس الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، عن مجالِس الذكرى، عن مجالِس العِلم ومجالِس الذِّكر.

سياحة الملائكة على الذاكرين:
يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:

{ إنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا قَالَ: يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: «يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ» قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ: فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ (13) }

[صحيح البخاري ]

ويبدو أن واحدًا من الملائكة يحب أن يتدخَّل بشيء لا ندري ما حقيقته فيقول: (فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ) سأل عن صاحبه في البيت فلم يجده، وفي المحل فلم يجده، وقيل له: ربما تجده في الجامع، فذهب إلى الجامع ليس مِنْ أجل أن يتعلَّم أو يستمع أو يتَّعظ بل ليبحث عن صاحبه، فلما رأى المجلس جلس غصبًا عنه ولم يستطع أن يقوم بالحركة التي أتى مِنْ أجلها (فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ) أنت قلت: (فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ) وهذا أيضًا؟ فيقول الله تعالى: (هُمُ الجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ).
يا ألله يا ألله! كيف حبيبهم؟ كيف عاشقهم؟ كيف الذي أمضى عمره معهم؟ اللهم إنا نسألك حبك وحب مَنْ يحبك وحب عملٍ صالحٍ يُقرِّبنا إلى حبك.

الفلاح يكون بالتزكية:
﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ﴾ ونجح وظفِر وربِح مَنْ؟ ﴿مَنْ تَزَكَّى﴾ كيف تفصل البرغل عنَ الحصى؟ فإذا لم يبقَ حصى فماذا يكون قد حصل للبرغل؟ تزكَّى، يعني تنظَّفَ من الأوساخ والأحجار، كيف إذا كان ثوبك كلُّه وسخٌ وقذرٌ ووضعته في المغسلة ثم أخذته إلى الكوي؟ ماذا يكون قد حصل للثوب؟ تزكَّى.
فكذلك أنت كيف إذا كنت تستطيع أن تفصل عيوبك ونقائصك ومساوئك وقبائحك وتُخرجها مِنْ نفسك؟ لا يوجد كذبٌ بل صدق، لا يوجد خيانةٌ بل أمانة، كنت لا تخاف مِنَ الله عزَّ وجلَّ فأصبحت تخشاه، كنت كسِلًا في مرضاة الله عزَّ وجلَّ فأصبحت سريعًا في طاعته:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
[سورة آل عمران]

(وَسَارِعُوا) سابقوا، فإذا بدَّلت صفاتك الجاهلية وصفات الفسق والمعاصي والآثام إلى صفات التقوى ومرضاة الله عزَّ وجلَّ وطاعته؛ اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكِّها، ما اسم هذه الأشياء؟ التزكية:

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
[سورة الشمس]

طهَّرها ونظَّفها وأبعد عنها ذنوبها ومعاصيها وعيوبها وخطيئاتها، وزكِّها أنت خيرُ مَنْ زكاها أنت وليُّها وأنت مولاها.

وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
[سورة الشمس]

(خَابَ) وخسِر وندِم (مَنْ دَسَّاهَا) يندم في الدنيا قبل الآخرة، الذي يمشي في غير طريق الله عزَّ وجلَّ لا بدَّ أن يقع في يومٍ مِنَ الأيام في ماله و في بدنه و في سمعته وفي أرضه ثم في سمائه، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا اليقظة ونحن نائمون على سكة القطار قبل أن يأتي القطار فيمشي على الرقبة! فإذا مشى على الرقبة وندمنا فهل يُفيدنا الندم؟
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) ماذا يقول المؤذن؟ حيَّ على الفلاح، تعالوا أفلحوا، تعالوا تزكَّوا (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ) ما كلُّ مَنْ يسمع: "حيَّ على الفلاح" ويأتي إلى الجامع، هو يأتي إلى الجامع لكي يتزكَّى، لكنْ هل إذا أتى إلى الجامع يجد المزكِّي؟ لأن الثوب لا يُكوى مِنْ غير كوَّاء، وقطعة القماش لا تتحوَّل إلى بدلةٍ مِنْ غير خياط، والخشب لا يصبح نافذةً مِنْ غير نجار، يا تُرى مَنْ هو مزكِّيك؟ مَنْ هو مربِّيك؟ مَنْ هو معلِّمك؟ مَنْ هو مهندسك الذي يُهندس إسلامك؟

لا تحصل التزكية دون معلم:
كانت الهجرة - أليس هناك المهاجرون والأنصار؟ - كان يجب على المسلم أن يترك وطنه، إذا كان في مكة فعليه أن يترك مكة إلى المدينة، يُهاجر، لماذا؟ ليتعلَّم الكتاب والحكمة ويُزكِّيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فينزع منه غشّه ونقائصه ورذائله وعيوبه بالفضائل والكمالات، أما مِنْ غير هجرة، مِنْ غير مزكٍّ، مِنْ غير مُعلِّم الكتاب والحكمة فكيف تريد أن تصير المؤمن الذي ذكره الله عزَّ وجلَّ في القرآن! أنت تتمنى وعلى جهلٍ أيضًا.
فلذلك عُدَّ مِنْ كبائر الذنوب وعظائمها: التعرُّب بعد الهجرة، يعني أن مَنْ هاجر إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ثم ترك الهجرة وذهب إلى البادية إلى غنمه وأبقاره، فهذا يُعتبَر مِنْ كبائر الذنوب؛ فكيف بمَنْ لم يُهاجر طول عمره؟ ليس له شيخٌ وليس له مُعلِّم، يا ترى أيصبح المرء نجارًا مِنْ غير مُعلِّم؟ حدادًا مِنْ غير مُعلِّم؟ صيدلانيًّا مِنْ غير أساتذة؟ خياطًا مِنْ غير مُعلِّم؟ كيف تريد أن تتعلَّم علوم القرآن حتَّى تنطبع فيك أعمالًا وأخلاقًا وقلبًا وسلوكًا وحكمةً وعِلمًا وتصير داعيًا إلى الله عزَّ وجلَّ؟
أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ماذا صاروا؟ صاروا بشهادة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم

{ عُلماء وحُكماء وفُقهاء، كادوا مِنْ فِقههم أن يكُونوا أنبِياء (14) }

[حلية الأولياء]

مَنْ أدخل الأمم في الإسلام؟ أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، في زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان الواحد يهدي خمسةً أو عشرة أو عشرين أو ثلاثين، وبعد زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم هل صاروا يهدون العشرة والعشرين والثلاثين؟ بل صاروا يُدخلون الأمم كاملةً في الإسلام!

الحرص على التعليم والدعوة إلى الله:
فأنت يا مسلم الآن هل تزكَّيت؟ فبعد أن تزكَّيت كنت غريقًا وأنعَم الله عزَّ وجلَّ عليك بالنجاة ومدَّوا لك حبلًا وسحبوك، يا تُرى هل يُشرِّفك أن يمشي هذا الحبل خلفك بطول خمسة أو ستة أذرع؟ أم أن تفُكَّ الحبل وتعود إلى البحر فترميه إلى شخصٍ غريقٍ ليتمسَّك به وتسحبه لتُنقذ غيرك كما أنقذك غيرك، يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم:(لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ)(15)يعني الجِمال الحمراء التي تقطع الصحراء ويُسَرُّ بها العرب كثيرًا.
إذا قال لك أحدهم: تعال معي اليوم واترك محلك، يا أخي المحل ورزقي، قل له: أنت كم تربح؟ خمسمئة ليرة أو ألف ليرة أو ألفي ليرة، فإذا كنت ستربح في هذا المشوار مئة ألف ليرة ليرة أفلا تترك المحل؟ وأنت تعرف أن كلامه صادق، علينا أن نصدُق مع الله عزَّ وجلَّ، كم بقي مِنَ العمر؟ وأيضًا الشباب يموتون في لحظةٍ واحدة، يكون أحدهم ماشيًا فيقع أرضًا فلا يبقى له زوجته ولا بيته ولا سيارته ولا تجارته ولا شهادته ولا وظيفته ولا وزارته، والآخرة هل تضيع عليك الدنيا؟ اجمع الدنيا والآخرة:

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

ما أحسَنَ الدِّينَ والدُّنيا إذا اجتَمَعا وأقبَحَ الكُفرَ والإفلاسَ بالرَّجُلِ
{ أبو دُلامة }
مُفلسٌ في الدين ومُفلسٌ في الدنيا فهذا مِنْ أبأس ما يكون، نعوذ بالله مِنَ البؤس.
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ والذي لم يتزكَّ هل أفلح أم خابَ وخسِر وتحسَّر وندِم؟ فهل تريدون أن تتحسَّروا وتندموا أم يجب أن تفوزوا وتنجحوا وتفرحوا وتُغبَطوا؟
﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ إذا أردت أن تُصلِّي فعليك أولًا لا أن تُطهِّر بدنك فقط بأن تغسل يديك ورجليك ووجهك وتمسح رأسك فهذا للجسم، أين وضوء قلبك؟ أين توبتك الصادقة التي تُطهِّرك مِنْ ذنوبك؟ يا تُرى النَّاس الذين يُصلِّون هل يتعلَّمون الصَّلاة بمراحلها الثلاث؟ إن شاء الله كلكم تتعلَّمون وتصبحون أساتذة ومُعلِّمين.

إيثار الحياة الدنيا:
﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ﴾ لماذا لا تفلحون ولا تتزكَّون؟ قال: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ هذا يقول لك: محلي، وهذا يقول: بستاني، وهذا يقول: سيارتي، وهذا: صيدليتي، وهذا: عيادتي، وهذا يقول لك: نزهتي، ﴿تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ الله عزَّ وجلَّ ينصحنا، هل الله عزَّ وجلَّ يغشُّ أو يكذِب؟ هل نصَحَ أحدًا نصيحةً وكانت غير صحيحة؟ الله عزَّ وجلَّ ينصحكم فهل تقبلون نصيحته؟ ويُحذِّركم: لا تؤثروا الحياة الدنيا وقدِّموا آخرتكم ودينكم على دنياكم ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾.

كل هذه التذكرة أتى بها الأنبياء عليهم السَّلام:
﴿إِنَّ هَذَا﴾ التعليم والإرشاد والهُدى الذي تسمعونه مِنْ سورة ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ موجودٌ مثله: ﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ فكلُّ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام هذه دروسهم وهذه مدرستهم.
فقولوا آمين: اللهم اجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، ثانيًا: اللهم اجعلنا هادين مهديين، ثالثًا: هل يبقى الدرس معكم في الجامع فقط أم خارج الجامع أيضًا؟ إلى المساء أم إلى الأسبوع القادم؟ إن شاء الله مدى الحياة والخير يتتابع إلى أن نلقى الله عزَّ وجلَّ وهو راضٍ عنا.
وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.

الهوامش:
(1) صحيح مسلم، كتاب الذِّكر والدُّعاء والتَّوبة والاستغفار، باب التَّعوُّذ من شرِّ ما عُمل وشرِّ ما لم يُعمل، رقم (2722).
(2) صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، رقم: (2878).
(3) شعب الإيمان للبيهقيُّ، رقم: (1642)، الجزء (3/273), المعجم الصغير للطبراني، رقم: (507)، (1/305).
(4) ورد في الأثر.
(5) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يذكر في الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (1420)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم، رقم: (1069).
(6) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم: (3461).
(7) صحيح البخاري، رقم: (4210).
(8) رواه الشاشي في مسنده (1/387، رقم 383)، والديلمي في مسند الفردوس (5/10، رقم 7288) عن ابن مسعود.
(9) تاريخ دمشق لابن عساكر عن يزيد بن زياد القرشي البصري، رقم: (8276)، (65/197) .
(10) سنن أبي داود، أول كتاب العلم، باب الحثُّ على طلب العلم، رقم: (3641). والتِّرمذيُّ، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682). سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحثُّ على طلب العلم، رقم: (223).
(11) صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن: باب قوله: {وأنذرهم يوم الحسرة}، رقم: (4730)، صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب النار يدخلها الجبارون ... رقم: (2849)، متفق عليه إلى: (...فلا موت)، وبتمامه في الترمذي، أبواب تفسير القرآن: باب ومن سورة مريم، رقم: (3156)، الزهد والرقائق لابن المبارك (2/79)،
(12) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم: (3244)، كتاب تفسير القرآن: باب قوله: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}، رقم: (4779)، (4780)، باب قول الله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله}، رقم: (7498)، صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم: (2824)، (2825).
(13)صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل، رقم: (6045).
(14) حلية الأولياء، أبو نعيم، (7/271)
(15) سبق تخريجه.