تفسير سورة الأعلى 01

  • 1995-11-03

تفسير سورة الأعلى 01

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمدًا يُوافي نعمه ويُكافئ مزيده، وأفضل الصلوات وأتمُّ التسليم على سيِّدنا وحبيبنا مُحمَّد وعلى آله وصَحبه أجمعين، وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيِّدينا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه مِنَ النبيين والمُرسلين، وآلِ كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وبعد:

معنى التسبيح:
فنحن في تفسير سورة الأعلى، يقول الله عزَّ وجل: بسم الله الرحمن الرحيم، مُخاطبًا نبيَّه الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم، ومُخاطبًا كلَّ مؤمنٍ ومؤمنة قائلًا: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ هذه السورة، وكلُّ سور وآيات القرآن هي ثقافة الإنسان ليكون الإنسان الفاضل، والعالِم، والحكيم الناجح، ليكون الإنسان الغني المنتصر، والإنسان الصحيح القوي، فمعنى ﴿سَبِّحِ﴾ التسبيح في الأصل هو بمعنى التنزيه، يعني: أيها الإنسان نزِّه فكرك وعقلك في فهمك لله عزَّ وجلَّ عن كلِّ ما لا يليق بمقام الألوهية والربوبية، فإن الإله الذي خلَقَ الكون بنجومه وشموسه ومجرَّاته حيث كما قال تعالى:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
[سورة الإسراء]


عظمة مخلوقات الله عزَّ وجلَّ:
الآن اكتشف علماء الغرب أنَّ بعض النجوم في الفضاء لا يصل نورها إلى الأرض إلا بمليون ونصف مليون مِنَ السنين بسرعة الضوء، الضوء يمشي في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلومتر، فإذا كان بيننا وبين بعض النجوم مليون ونصف مليون سنة بسرعة الضوء! هذا الذي وصل إليه عِلم الإنسان الذي وصفه الله عزَّ وجلَّ بقوله:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
[سورة الإسراء]

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
[سورة البقرة]

فما هي عَظَمة مخلوقات الله عزَّ وجلَّ؟ فما هي عَظَمة الله عزَّ وجلَّ؟

العَظمة لله وحده:
فالله عزَّ وجلَّ يأمر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم صلَّى الله عليه وسلَّم وكلَّ إنسان أن ينزِّه عقله وإدراكه، أن ينزِّه اسم الله عزَّ وجلَّ عما لا يليق به، فقدرته التي عمَّت هذا الكون، وإبداعه الذي أبدَع وفطَرَ هذا الوجود، مِنْ أصغر مخلوقٍ إلى أعظَم مخلوق، هذا المذياع لما اختُرِع وظهر للوجود كم صار يُنظَر إلى مُخترعه بأنه عظيمٌ وعالِم؟ الذي اخترع الطيران كم أكبَرَ النَّاس اختراعه وعِلمه وإبداعه؟ دنيانا هذه كلُّها مِنْ أولها إلى آخرها هي طائرةٌ تطير في الفضاء بسرعة مئة وثمانية آلاف كيلومتر في الساعة، فهل هناك طائرة تطير بهذه السرعة؟ أعظم الطائرات تصل إلى ثلاثة آلاف كيلومتر في الساعة، فالطائرة التي تركبونها تطير بسرعة مئةٍ وثمانية آلاف كيلومتر في الساعة، وتلك تتعرض إلى مطبَّات، ويحصل لها اهتزاز، وبعض الأوقات تتدهور فتسقط وتذهب بكل مَنْ فيها، ويكون فيها سبعة أو ثمانية طيارين ومساعدين حتَّى ينتظم شأن الطيران، وفي المطارات أبراج مراقبة الطيران يكونون دائمًا على صلة بها حتَّى ينتظم سيرها.
فهذا الإله الذي خلق هذا الكون، الذي خلقك مِنْ ذرَّة، مِنَ الذرة جعل جهاز المعدة لهضم الطعام، فلو أدخلت إلى معدتك أقسى اللحوم -لحم تيسٍ عمره عشر سنين يصعب طحنه بأقوى الأدوات- فعندما يدخل إلى المعدة: الله عزَّ وجلَّ خلَقها وخلَق فيها مِنَ السوائل التي تُذيب ذلك اللحم الذي لا يذوب إلا بمثل تلك الأدوات، فتُذيب اللحوم وهي لا تذوب! فلو كانت مِنْ فولاذٍ لذابت على كثرة استعمالها خلال خمسين سنة، لو كانت مِنْ نحاسٍ لذابت، هي مِنَ اللحم، وتفرز مِنَ العصارات ما يُذيب كلَّ شيءٍ يدخل إليها مِنَ الغذاء، فما هذا المبدع والمصمم والمخترع؟ إذا نظرت إلى اللعاب في فمك: حين تأكل الخبز أو الكعك لو لم يكن هناك لعابٌ لصار طحينًا فهل يمكنك ابتلاعه لو لم يكن ممزوجًا بماء يجعله بشكلٍ يمكن ابتلاعه؟ فمَنْ خلَق ست غدد – يعني ستة ينابيع – للعاب في فمك؟ ومتى يخرج؟ بمجرد المضغ الذي مثل المضخة وكل مَضْغة تُخرج كميةً مِنَ اللعاب.
﴿وَالَّذِي قَدَّرَ﴾ ركَّب وأبدع ونظَّم كلَّ شيءٍ في الوجود، بين عينك ومركز البصر في الدماغ، الذي ينظر هي خلايا الدماغ بواسطة الأعصاب التي توصل إلى العين، وهي التي ترسل صور المشاهَدات، مِنَ العين إلى الدماغ يوجد ثلاثون مليون عَصب، فمَنْ ركَّب هذه الأعصاب؟ مَنْ جعلها مهيأةً لتنقل الصور؟ مَنْ خلَق أعصاب الأذن لتوصل موجات الصوت إلى مركز السمَع في الدماغ؟ الله عزَّ وجلَّ قال عن الآيات التي تدلُّ على الله عزَّ وجلَّ:

وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
[سورة الذاريات]

حتَّى تعرفوا ربكم؟

أمر الله عزَّ وجلَّ المؤمن بالتسبيح:
فالله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿سَبِّحِ﴾ يا مُحمَّد، ويا مُؤمن، ويا مُؤمنة، ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ نزِّه اسمه ولا تذْكره إلا بما يليق به مِنَ التعظيم والحب والعشق، وامتثال كلِّ أمرٍ اقترَن باسمه.
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ فإذا ذُكِر مع اسم ربك ابن: ابن الله؛ فسبِّح الله عزَّ وجلَّ عن الابن:

لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)
[سورة الإخلاص]

(لَمْ يَلِدْ) وإذا ذُكِر الآب، الابن الإله، الأب الإله؛ هكذا مصطلح الكنيسة؛ (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) فنزِّه اسم الله عزَّ وجلَّ عن أن يُشرَك به اسم والدٍ أو ولَد. ويقولون عن مريم عليها السَّلام: أم الإله، فيذكرون الأمَّ مع اسم الله، فقال: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ الذي ربَّاك وأنشأك وخلَقك.
﴿اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ الأعلى مِنْ كلِّ ما تتصوَّر فيه مِنْ عظَمةٍ وعِلمٍ وقدرةٍ ورحمةٍ وحنانٍ وغنًى وعطاء، مَنْ أعطاك الحياة؟ لك مُعطون كثيرون، لكنْ هل هناك مَنْ أعطاك عطاءً أعلى مِنْ عطاء الله عزَّ وجلَّ؟ أعطاك السمع والبصر، هل هناك قادرٌ أعظَم مِنْ قدرة الله عزَّ وجلَّ؟ مَنْ الذي يُمسك الأرض في الفضاء أن تهويَ إلى مكانٍ سحيق؟ مَنْ يحملها؟ يا تُرى بأيِّ وقودٍ تطير؟ مَنْ يقودها؟ فهل قائد الطائرة عندما يقودها أعلى أم الله عزَّ وجلَّ أعلى؟ وكم في فضاء الله عزَّ وجلَّ مِنْ طائرات؟ قالوا: لو أحصينا عدد ذرات الرمل في الصحارى فإن أعداد النجوم والعوالِم والشموس في عالَم الفضاء هي أكثر مِنْ عدد رمال الصحارى التي على هذه الأرض.

عند الله مفاتيح الغيب:
فهل عَرفت عظَمته في قدرته وعِلمه؟

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59)وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
[سورة الأنعام]

(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) ماذا سيحدث معك غدًا؟ هذا مُغيَّبٌ عنك، لكنَّ الله عزَّ وجلَّ يعلم ماذا ستفعل غدًا، (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ) كم يوضَع ويُزرَع في الأرض من الحبوب من قمح وشعير وسمسم وغيرها.. (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ) مَنْ الذي يأخذ كلَّ مداركك عندما ينوِّمك؟ فلا تسمع ولا تبصر ولا تفهم، (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) هذه اليد اسمها جارحة، والعين اسمها جارحة، واللسان اسمه جارحة (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) يعني ما فعلتم بجوارحكم في النهار (ثُمَّ) ليس فقط يعلم (يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) في النهار، فالنوم مثل الموت والنهار كما لو قامت قيامتُك، لكنها القيامة الصغرى.

مرجع الإنسان إلى الله عزَّ وجلَّ:
(ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) ستُدعَى إلى محكمة الله عزَّ وجلَّ وأضابير أعمالك في كتابٍ:

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
[سورة الكهف]

(لَا يُغَادِرُ) لا يترك (صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً) مِنْ أعمالك: مِنْ كلامٍ أو نظرٍ أو سمعٍ، مِنْ نوايا داخلية مِنْ غدرٍ ومكرٍ وغشٍّ وحسدٍ وحقدٍ (إِلَّا أَحْصَاهَا)، (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
[سورة يس]

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ) يُغلق الله عزَّ وجلَّ اللسان عن الكلام، (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ) غدًا تُخاطب يدُك اللهَ عزَّ وجلَّ فتقول: يا ربِّ أنا سرقت، أنا ضربت، أنا أجرمت، أنا جَنيت؛ يدُك تقول: يا ربِّ أن تصدَّقت، أنا عاونت، أنا فعلت المعروف (وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
[سورة فصلت]


الله صانع كل شيء:
فهذا الخالق العظيم مُبدع الكون، مِنْ أدنى ذرَّةٍ وحشرةٍ وميكروبٍ إلى أعظَم شيءٍ خلَقه مِنْ ملَكٍ وإنسانٍ وعوالمٍ ونجومٍ وشموسٍ وأقمار، هذا الهواء الذي نتنفسه مُركَّبٌ مِنْ عدة مواد: مِنْ آزوت، وأوكسجين وغيرهما.. وبنسبٍ متفاوتةٍ بين سبعين بالمئة وواحد بالمئة وغير ذلك، فلو اختلَّ تركيب الهواء لمات كلُّ حيٍّ على هذه الأرض، فمَنْ كوَّن الهواء بهذا التركيب الإلهي؟
مرةً قال لي شخصٌ ملحد: ما الدليل على وجود الله؟ قلت له: كأس الشاي التي في يدك تشربها! قال لي: كيف؟ قلت له: يا تُرى هذا الشاي صار وحده أم هناك مَنْ صنعه؟ قال: بل هناك مَنْ صنعه، قلت له: والكأس، هل صارت وحدها أم لها مصنعٌ وصانعٌ ومهندسون؟ بل لها صانع، والزجاج؟ هل جاء وحده مِنَ المعادن والجبال أم هناك مهندسون وخبراء وحفارون؟ بل هناك مهندسون وحفارون، قلت له: وعيناك مَنْ ركَّبهما لك؟ أمك أم أبوك أم وحدهما؟ فقال: لا أمي ولا أبي ولا وحدهما! قلت له: إذًا يجب أن يكون لهما صانع؟ قال: واللهِ يا شيخي إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحمَّدا رسول الله! إلى آخره..
فـ ﴿سَبِّحِ﴾ نزِّه ﴿اسْمَ رَبِّكَ﴾ ونزِّهه عن الطَرَش وعن العمى، عندما تفعل الرذائل وترتكب الآثام وتعتدي على الآخرين وتسرق؛ فأنت تعتقد أن الله عزَّ وجلَّ أعمى لا يراك! أهذا تنزيهٌ لله عزَّ وجلَّ أم تنقيصٌ في الإيمان به تعالى؟ حين تسرق تظن أن الله عزَّ وجلَّ نائمٌ أو أعمى أو أحمق، أو أنك إذا أغلقت الستارة لا يراك! فهل أنت مسبِّحٌ لله أم مشوِّهٌ لأوصاف الله عزَّ وجلَّ ومعرفته؟ فالحقيقة يجب أن تُنزِّه عقلك وفكرك ومفاهيمك الخاطئة إلى الفَهم الصحيح، أن تعرِفَ ربَّك عزَّ وجلَّ بصفاته الحقيقية.

تسبيح الله بالأفعال وليس فقط بالأقوال:

وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (75)
[سورة النمل]

هذا المعنى إذا اكتسبه المؤمن مِنْ إيمانه ينجح في كلِّ شؤون حياته، إذا كان عاملًا فإنه يعمل بصدق وإخلاصٍ وجدٍّ واستقامة، لا بد أن يرى صاحب المعمل استقامته وأمانته ففي نهاية الأمر يرفعه إلى عملٍ أعلى وهكذا.. وإذا كان بالعكس: كذابًا، خائنًا، سارقًا، مُهملًا، فإنّ:

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
[سورة التغابن]

فإذا كنت تعتبر أنَّ الله عزَّ وجلَّ ليس خبيرًا بما تعمل، فهل تكون قد نزَّهت الله عزَّ وجلَّ أم اعتقدت فيه النقص؟
كأنك تقول: إن الله عزَّ وجلَّ لا يراني فلذلك أنا أعمل كما أريد، آكل الحرام وأتكلم الحرام وأنظر إلى الحرام، وأتعدَّى على النَّاس التعدي الحرام في أموالهم وحقوقهم وفي كراماتهم، إذًا فأنت لا تنزِّه الله عزَّ وجلَّ بل كأنك تقول له: أنت يا ألله لا تسمعني ولا تراني ولا تُحاسبني! وكلامك في القرآن عن الحساب كلُّه غير صحيح، وإذا قلت: سبحان الله سبحان الله فهل تعرف معنى سبحان الله؟ معنى سبحان الله: ما إعراب سبحان في النحو؟ مفعولٌ مطلق، وهو اسم مصدر، يعني: أسبِّح الله تسبيحًا، وهذا كذب! لأنك تُسبِّحه بلسانك وتنسِبُ له الغفلة والجهل والعمى والطَّرَش بأنه لا يسمعك ولا يراك وليس عنده عِلمٌ بأيِّ شيءٍ مِنْ أعمالك! فأنت لست مسبِّحًا بل كذاب، تكذب على الله عزَّ وجلَّ وتكذب على نفسك! وفي النهاية مَنْ الخاسر؟ الله عزَّ وجلَّ أم أنت؟ المحتاج إلى التسبيح أنت أم الله عزَّ وجلَّ؟ الله عزَّ وجلَّ عظيم، ليس صغيرًا لتكبِّره أو تعظِّمه بتسبيحك، التسبيح يجب أن يُعظِّمك أنت، عندما تُعظِّم أمرَ الله عزَّ وجلَّ تصير عظيمًا، عندما تُعظِّم ذِكر الله أن الله عزَّ وجلَّ يراك لا يخفى عليه مِنْ أمرك شيءٌ في سرِّك وعَلَنك مع النَّاس أو انفرادًا بنفسك.

حلم الله عز وجل:
فـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ نزِّه فكرك عن اعتقادك في الله عزَّ وجلَّ غيرَ ما هو عليه الله عزَّ وجلَّ في صفاته وذاته وعِلمه وقدرته، إذا أذنبت فأنت لا تفكِّر أن الذنب مُسجَّلٌ وأن العقوبة عليه مُسجَّلةٌ وأن هناك كما قال الله عزَّ وجلَّ:

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)
[سورة الطارق]

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا) باعتدائهم على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم والصحابة رضي الله عنهم والمسلمين (وَأَكِيدُ كَيْدًا) يعني أُمهِلُهم ولا أستعجل بعقوبتهم:

فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
[سورة مريم]

عندما تدقَّ ساعة العقوبة والتنفيذ فلو كنت ملك الملوك فبلحظةٍ واحدةٍ يجعلك في أسفل السافلين، لو كنت تصارع الثيران وتغلب خمسين ملاكماً يوقف لك عصبًا مِنْ أعصابك فتُصاب بالفالج نصفك ميتٌ يحمله النصف الحي.
فلا تغترَّ بحِلم الله عزَّ وجلَّ، لا تقرأ القرآن قراءة الحمقى، ما معنى ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾؟ لا يفهم، لا تعتقد بالله عزَّ وجلَّ خلاف ما عليه الذات الإلهية، الله عزَّ وجلَّ سميع:
يـا مَـن يرى مدَّ البعوض جناحهـــا في ظلمة الليل البَهيم الأليـَــــــل ويـرى عـروقَ نِـيـاطها في نحوهـــا والمـخ فـي تـلك العِـظـام النُّـحل اغـفـي لعـبـدٍ تـاب مـِنْ فـيـطـاتـه مـا كـان مـنـه في الزمــــان الأوَّل
{ أَبو العَلاء المَعَرِي }
البعوض هو الناموس الذي يأتيك في الليل، فإذا مدَّت جناحها في ظلمة الليل يراها الله عزَّ وجلَّ، ويرى عروقها التي في رقبتها ونخاعها في أرجلها الرفيعة جدًّا.

معرفة الله عزَّ وجلَّ:
فـ ﴿سَبِّحِ﴾ اعرِف الله عزَّ وجلَّ حق المعرفة لا تعرفه معرفةً لا تليق به، فوبال جهلك عليك، ومردود غفلتك عليك، وستؤدي الحساب في الدنيا قبل الدار الآخرة، لما دخل العرب مدرسة القرآن وكانوا التلامذة النجباء الفهماء الواعين الدَّارسين كلمةً كلمة، وكانت معدة عقولهم وقلوبهم تهضِم كلام القرآن، المعدة عندما تهضم الموز هل تُبقيه موزًا أم تحوله ليصير دمًا، والدم يتحول إلى طاقةٍ للعمل، كذلك القرآن غذاءٌ للعقل وللقلب فهل يُدركه عقلك؟ وهل نظَّفتَ معدة قلبك مِنَ الغفلات وملأتها بطاقة ذكر الله عزَّ وجلّ حتَّى تهضم كلمات القرآن إلى إيمان، ويهضم العقل كلمات القرآن إلى فهمٍ للأمور بحقائقها؟ فإذا فهمتها بحقائقها وملأ الإيمان بها قلبك؛ فستتحوَّل في الحال إلى عملٍ وإلى سلوك.
هذه آيةٌ مِنْ أكثر مِنْ ستة آلاف آيةٍ مِنْ آيات القرآن، فكان العرب في الجاهلية يعبدون الحجر، فالذي يعبد الحجر ويُشاوره إذا أراد أن يسافر أو يقاتل أو في أموره المهمة فكم عنده نسبةٌ مئويةٌ من العقل؟ ليس لديه عقل أبدًا، أحدهم رأى ثعلبًا رافعًا رجله ويبول على رأس صنمه، فأيهما يفهم أكثر الثعلب أم الإنسان؟ قال:
أَرَبٌ يَبولُ الثُعلُبانُ بِرَأسِهِ لَقَد هانَ مَن بالَت عَلَيهِ الثَعالِبُ
{ العباس بن مرداس }
فكان ذلك سبب إسلامه في زمن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

القرآن وأثره في حياة المسلمين:
فهذا القرآن الذي لم ينزِل مصحفًا كما هو بين أيدينا، بل آيةً بعد آية، وآيتين بعد آيتين، جعل من أجهَل أمم الأرض وأفقَرها وأشدِّها عداوةً وتناحرًا وتمزقًا، كانت مستَعمَرةً: بلاد الشام، فلسطين، مصر، شمال أفريقيا، العراق، الخليج، بين الفرس والروم؛ فبين عشيَّةٍ وضحاها صاروا أعظَم أمة: عِلمًا وفلسفةً وحضارة وقوة ودولة وفتحوا البلاد لا ليذلوا شعوبها بل لينهضوا بهم ويجعلوهم على مستواهم في العِلم والمعرفة والعقل والفكر، هل فتَحَ الأوربيون البلاد ليجعلوا شعوبها على مستواهم؟ أم لينشروا فيهم المسكرات والمخدرات والزنى والفسوق والأمراض، ويسحبوا أموالهم فيُبقوهم في فقر العِلم والمال والصحة وكلِّ ميادين الحياة؟
فالمسلمون الآن مليار مسلمٍ ويزيد، هل يا تُرى درسوا القرآن؟ هل تثقَّفوا بثقافة القرآن؟ لا، لماذا؟ لأنه لا يوجد مُعلِّمُ القرآن، المسجد هو مدرسة المسلمين، هو جامعة المسلمين، هو مستشفى لأمراض العقول وأمراض النفوس وأمراض الأخلاق والصفات؛ لكنَّ مستشفى بخمسين طابقًا ولا أطباء فماذا يستفيد المريض لو أقام واعتكف فيه مئة سنة؟ لو كانت الجدران مِنْ ذهبٍ والأرض مِنْ ألماسٍ فهل يُعلِّم الحجرُ الإنسانَ؟

الإيمان بعقوبة الله ومثوبته:
فـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ إذا ذُكِر اسمه ليملأك عظَمةً وحبًّا وتقديسًا وهيبةً وإجلالًا ومَهابةً منه وحياءً منه لأنه يعلم كلَّ أعمالك، ونظراتك، وما تسمعه آذانك، وما ينطِقُه لسانك، وما تُكنُّه في صدرك ونفسك:

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
[سورة الملك]

هو الذي اخترعك واخترع قلبك ومخك وأعصابك، ألا يعلم ماذا في داخلها؟ الذي اخترع السيارة ألا يعرف ماذا في داخلها؟ هذا ﴿سَبِّحِ﴾ فعل أمرٍ مُوجَّهٌ أولًا للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم ومِنْ بعده لأمته، يا تُرى هل أنتم مستعدون لتأتمروا بهذا الأمر الإلهي؟
إذا كنت تفعل معصيةً وتعتقد أن الله عزَّ وجلَّ لا يراك أو أنه يكذب عليك ولن يُعاقبك، فهل تكون مُسبِّحًا لله أو بالعكس تحتقر الله عزَّ وجلَّ؟ أنت بهذا تحتقر الله عزَّ وجلَّ – والعياذ بالله – إذا ظلمتَ إنسانًا أو حيوانًا بكلمةٍ أو بمالٍ أو بعدم أداء الحق إليه أو باحتقاره ولو بكلمة، وبأيِّ نوعٍ مِنْ أنواع العدوان؛ فهل آمنت بأن الله عزَّ وجلَّ منزَّهٌ ولا بد أن يقتصَّ للمظلوم مِنْ ظالِمه؟ الله عزَّ وجلَّ اقتصَّ مِنْ امرأةٍ مِنْ أجل هرةٍ حبستها حتَّى ماتت فأدخلها الله عزَّ وجلَّ نار جهنم، وكافأ امرأةً زانيةً رأت كلبًا يلعق الطين مِنَ العطش فنزلت إلى البئر وشربت وملأت فمها وخُفها ماءً وسقت الكلب فشكر الله عزَّ وجلَّ لها ذلك فغفر لها.
فهل أنت مؤمنٌ بالمكافأة على عمل الخير والعمل الصالح ومؤمنٌ بأن هناك عقوبةً وقصاصًا على العمل السيئ والعمل الفاجِر والعمل الظالِم الجائر؟ ولو مع نملةٍ ولو بالكلمة ولو بسمع:

وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
[سورة القلم]

يعني لا تصغِ بأذنك إلى سماعه وقل له: لا يا أخي هذه غيبة وأنا لست مستعدًّا لسماعها، أنت تقول لي عن فلان أنه تكلَّم عني فأنت نمام، وقد أمرني الله عزَّ وجلَّ ألَّا أُصغي إلى النَّمام، هل حفظت القرآن بهذا المعنى؟ وهو المعنى الذي أراد لك الله عزَّ وجلَّ أن تحفظه به.

الاتباع ليس بالكلام فقط :
أما أن تحفظ الكلمات فأنت مثل الذي يأخذ وصفة الطبيب فيقرؤها ويحفظها عن ظهر قلب، ثم يأتي بمطربةٍ ويقول لها: أسمعيني موَّال هذه الوصفة لأني مريضٌ وأتحسَّن بقراءة هذا الدواء، فأخذت المطربة تغني له بمضمون ما في الوصفة، فإذا نظر النَّاس إليه كمريضٍ يريد أن يُعالِج مرضه بهذا الأسلوب فماذا سيقولون عنه؟ إما دجال أو حمار، من الذين يمشون على رجلين مِنْ غير ذيل، يوجد حميرٌ بذيل ويمشون على أربع، ويوجد حمير يمشون على اثنتين ومِنْ غير ذيل، أيهما أجهَل؟ الحمار إذا زجَرته انزجَر، وإذا شددت اللجام وقَف، وإذا أخذته مِنْ طريقٍ ولو في الليل يحفظه مِنْ أول مرة؛ والذي يسمع كلام الله عزَّ وجلَّ فلا يفهمه ولا يعقِله ولا يتأثَّر به:

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
[سورة الأعراف]

فعليك أن تبحث عن المعلِّم، إذا لم تجده إلا في الهند فاذهب إلى الهند، في الصين اذهب إلى الصين، لأنه هو الذي سيُحوِّلك من:

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
[سورة الفرقان]

ليجعلك الإنسان الفاضل، الإنسان الحقيقي.
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ اعتقد به الاعتقاد كما وصَف ذاته بذاته في كلامه:

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
[سورة النحل]

هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1)
[سورة الإنسان]

مَنْ عندنا شيءٌ مذكورٌ؟ دكتور، مهندس، وزير، أبو فلان، مَنْ الذي سوَّاك بعد أن لم تكن شيئًا مذكورًا؟ فإذا عَرفتَه فهل عظَّمتَه؟ هل حَرصت على رضاه؟ هل قرأت كتابه لتُطبِّقه وتُنفِّذه؟ إن فعلت ذلك فأنت مُؤمن، وإن لم تفعل فأنت لم تُسبِّحه لأنك تعتقد أنه يُهدِّد ولا يُنفِّذ، ويعدُ ولا يُوفي، وتعتقد أنه ضعيفٌ لا يُقاصص ولا يُعاقب، ولا يسمع قولك، ولا يرى سوء فعلك، إذًا أنت لا تُسبِّح اسم ربك، بل بعكس ذلك: ربِّك الأدنى، تجعل ربك أدنى وأحقر لذلك لا تُبالي به.

تسبيح الله عزَّ وجلَّ تعني سرعة الاستجابة:
إذا كنت تسير على الشمال وأشار لك الشرطي بإصبعه على بعد مئة متر أو دون أن يُشير إليك بل بمجرد أن تراه هل تصرُّ على سيرك على الشمال؟ سبِّح اسم الشرطي! بمجرد سماعك لاسم الشرطي تُسارع إلى التزام القانون، فهل الشرطي أعظَم في نفسك وعقلك مِنَ الله عزَّ وجلَّ؟ وهل الله عزَّ وجلَّ عندك أحقر وأصغَر وأضعَف مِنَ الشرطي؟
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ إذا كان بين يديك ضعيفٌ أو أجيرٌ أو فقيرٌ أو أيُّ إنسانٍ تتجاوز حدود الله عزَّ وجلَّ معه، لا تعدِل معه، تظلمه وتُنقِصه حقَّه، أي حقٍّ مِنَ الحقوق، فإذًا أنت ما سبَّحت باسم ربك ﴿رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ الأعلى قدرةً، والأعلى عقوبةً.

فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)
[سورة الفجر]

لا يوجد عذابٌ يشبه عذاب الله عزَّ وجلَّ في شدَّته ولا في إيلامه في الدنيا والآخرة، يسلبك رِجليك، يسلبك عينيك، يسلبك راحتك فيجعلك لا تنام الليل، مِنْ غير ضربٍ ولا خيزرانةٍ ولا سياط:

إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)
[سورة آل عمران]

كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ أحِبُّوا اللهَ لِما يغذُوكم بِهِ مِنْ نِّعمَةٍ، وأحبونِي لحبِّ اللهِ، وأحِبوا أهلَ بيتي لِحُبِّي (1) }

[ضعيف الجامع]

وأعظَم النِّعم كتاب الله عزَّ وجلَّ، فهل أنتم مستعدون لأن تسبِّحوا؟ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ إذا كذَبتَ فهل تكون قد سبَّحت؟ تعتقد في الله عزَّ وجلَّ أنه لا يسمعك ولن يُعاقبك، ولن يُطبِّق الكلام الذي أنزله على نبيِّه وعلى أنبيائه عليهم الصَّلاة والسَّلام، ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ الأعلى جمالًا وحبًّا وعطاءً وعقوبةً وانتقامًا.

نعم الله في خلق الإنسان وتسويته:
﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ خلَق كلَّ شيءٍ خلقًا بديعًا متناسقًا ما فيه اعوجاج، مخترع السيارة: لو كان أحد الدواليب – الأيمن مثلًا – أكبر بقليلٍ مِنَ الأخرى، فهل هذا خلقٌ مستوٍ؟ بل معوجٌّ، إذا جعل المقود في الأعلى في السقف ولم يجعله داخل السيارة فهل يمكنك القيادة في الهواء والبرد والمطر والحر؟ خلقها خلقًا متناسقًا كاملًا يُعطي الغاية مِنَ الركوب وبكلِّ راحة، أيضًا ﴿خَلَقَ فَسَوَّى﴾ خلَقَ لك أذنين: لو أنه جعل طول الأذن شبرين فكيف ستضعها على الوسادة؟ ولو جعل إحدى الرِّجلين أطوَل مِنَ الأخرى بسنتيمترين لأصبحنا عُرْجًا، ولو جعل عينيك تحت إبطك فكيف ستمشي؟ وكيف ستلبس قميصك؟
﴿خَلَقَ﴾ أسنانك: عندما تمضَغُ الطعام الذي يُطحن تحت أضراسك، مِنْ الذي يُحوِّل المطحون ويأتي بالذي لم يطحن ويضعه تحت الأضراس ليُطحن؟ اللسان، وكم عضلةً فيه؟ أكثر مِنْ عشر عضلات أو خمس عشرة عضلة لكلٍّ منها عملٌ معين، بعضها يجعل اللسان إلى الأمام وبعضها إلى اليمين أو الشمال وبعضها يقلِبه، هل حدث هذا لوحده؟ ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ جعل لك الأمعاء: إذا امتلأتْ وأردتَ الذهاب إلى الحمَّام أعطاك جرسًا منبِّهًا لا يسمعه غيرك: أنها امتلأت فقُم لتُفرِغ، فلو أن هذا الجرس كان يُسمَع فكم واحدًا منا كان سيرنُّ جرسه الآن؟ وإذا كنا في حفلة والأجراس ترن مِنْ هنا وهناك وبعضها أقوى مِنْ بعض؟ إحراج! وأيضًا جعل لك مكابح لتكون لديك مهلةٌ مِنْ نصف ساعة إلى ساعة، وليس بمجرد أن يرُنَّ الجرس.
﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ عينك: الجفن دائمًا يصعد وينزل، لو كان مِنَ الفولاذ ويحتكُّ بعضه ببعض، السيارة بعد أربع أو خمس سنين تحتاج قطعها إلى تبديل لأنها تذوب وهي مِنَ الفولاذ، فكيف هذا اللحم على الشحم يعمل كلَّ لحظةٍ مدة ستين أو سبعين أو مئة سنة ولا يذوب؟ ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾.
وماذا ستعُدُّ مِنْ كمالات الله عزَّ وجلَّ؟
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
{ لبيد بن ربيعة }

هداية الله عزَّ وجلَّ للإنسان:
﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ رتَّب الأمور ترتيبًا متقنًا، وهَدى إليها الذي خُلِقت له يعرِفها بلا تعليم، ترى العجل عندما يولَد - أو العجلة – مَنْ الذي علَّمه أن الطعام موجودٌ في ثدي أمِّه؟ والطفل عندما يُولَد: مَنْ الذي علَّمه أن يمصَّ حلمة الثدي بمجرد وضعها في فمِّه؟ وعندما يكون الجنين في بطن أمه قبل الولادة يكون رأسه إلى الأعلى وقدماه إلى الأسفل، وعند الولادة ينقلِبُ فيُصبح رأسه إلى الأسفل كالذي يريد أن يغطُسَ في المسبح، فمن الذي قلَبك؟ أمُّك؟ أبوك؟ الطبيب؟
فهذا الإله الخالق الذي لا توجد ذرَّةٌ في الأرض ولا في السَّماء إلا يعلَمها ويُديرها، وخلَقها بحكمة، وعملُها بنظام، ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ لو خَلَق لك عيونًا بلا أجفانٍ ونمت فنزل تراب، أو كنت ماشيًا في الشارع فثار غبارٌ فكيف ستغطِّي عيونك؟

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
[سورة المؤمنون]

إذا أعطاك أحدهم وردةً تقول له شكرًا، وإذا أعطاك ألف ليرةٍ تشكره أكثر، وإذا أعطاك مئة ألف؟ فلو أنك كنت مليارديرًا تملك ملايين الدولارات ولم يكن لك عينان فبِكم تشتري عينين؟ فيا تُرى هل ذكرت الله عزَّ وجلَّ ﴿الْأَعْلَى﴾ في العطاء، الأعلى في الخلق، الأعلى في العِلم، الأعلى الذي:

وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
[سورة طه]

ما ستُسِرُّه بعد عشر سنين، أسرارك التي ستُسِرُّها بعد عشر سنين يعلمها قبل أن تُسِرَّها، فهل سبَّحتَه؟ هل عرَفته؟
إذا عرفت النَّار حق المعرفة فهل تضع إصبعك فيها؟ لا تضعها، لأنك مؤمنٌ بأن النَّار محرقةٌ ولأنك تعلم، لذلك فالعاصي هو أجهل الجاهلين، هو جاهلٌ رغم أن الله عزَّ وجلَّ أعطاه كلَّ إمكانات التعلُّم لكنه ضيَّعها وأهملها فسيُعاقَب عليها لأنه رفض نعمة العِلم والتعليم، ورفض نعمة الإيمان ونعمة الذين جعَلهم الله عزَّ وجلَّ ورثة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليأخذ منهم العِلم والحكمة ولتتزكَّى نفسه.

الإيمان يدعو للصبر على المصيبة:
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ لو أصابتك مصيبةٌ تقول: لما تفعل بي هكذا يا الله؟ حسنًا، أين إيمانُك:

وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30)
[سورة الشورى]

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
[سورة النحل]

لو أن الله عزَّ وجلَّ يُؤاخذك على كلِّ ذنبٍ لكان أهلَكك مِنْ زمن، لأنه خلَقَ لك مِنَ الورد خمسين ألف لون، ومِنَ الفواكه خمسين ألف فاكهة، والمشمش ليس نوعًا واحدًا، واللهِ إن قِشْرَ البطيخ كثيرٌ علينا على حسب أعمالنا! أعطانا بطيخة لذيذةً ووضعها في علبةٍ وكذلك الشمام، وبرائحةٍ طيبةٍ ثم نكفر به ونعصيه ونتمرَّد عليه، وهو معنا مشاهدٌ لأعمالنا ومُطَّلعٌ على سرائر قلوبنا، فلو صفعَنا خمسمئة ألف صفعة، وضربنا خمسمئة ألف عصا وكسَّر العظم على معصيةٍ واحدة؛ فإننا نستحق أكثر مِنْ ذلك!
الشرطي نتهيَّب ونمتثل أمره ونجتنِب نهيه، والله عزَّ وجلَّ لا تُعامله مثل الشرطي! لا تمتثل له أمرًا ولا تجتنب له نهيًا، هل أنت مؤمنٌ أم مسلم؟ هل أنتِ مؤمنةٌ أو مسلمة؟ ما السبب؟ كيف سيصير الشخص طبيبًا وهو يجلس في الدباغة حيث يدبغون جلود البغال والحمير؟ وكيف سيصير طيارًا وهو يجلس عند الإسكافي؟ الحدادة مِنْ عند الحدادين، والنجارة مِنَ النجارين، والإيمان والعِلم والحكمة عند ورثة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

وجوب الهجرة إلى المعلم أو البحث عنه:
فكانت الهجرة في زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم– حتَّى يصير الإنسان مسلمًا – فريضةً على الرجل وعلى المرأة حتَّى وعلى الطفل المميِّز، الآن يا تُرى هل نعرف ما هو الإسلام؟ ما واجباتنا الإسلامية؟ ما حقُّ مَنْ يجعله الله عزَّ وجلَّ في هذا المقام وهذا الميراث؟ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول لك: هذا نائبي، هذا وارِثي، هذا وكيلي، إذا قال لكم الطيار: هذا نائبي ووكيلي، هذا هو الطيار مِنْ بعدي، تُعامله كما تُعامل الأصيل بكلِّ ما يجب له مِنْ حقوقٍ وامتثالْ وإلى آخره.. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل آذاننا تسمع الحقيقة، ولا يجعلنا مِنَ الذين يسمعون وهم لا يسمعون، ولا يجعلنا ممَّن قال الله عزَّ وجلَّ عنهم:

وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
[سورة الأعراف]

(إِلَيْكَ) إلى جسدِك (وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) مقامَك وحقيقتك وعَظَمتك.

مخالفة الأوامر الإلهية إضرار بنفسك:
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ بمجرَّد ما تسمع الاسم أو تذكره تذكَّر كلَّ الصفات والأوامر الإلهية ﴿الْأَعْلَى﴾ الأعلى في كلِّ الكمالات ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ هو الذي أوجَدَ كلَّ شيءٍ في هذا الوجود ﴿فَسَوَّى﴾ وخلَقَ خلقًا كاملًا، خلَقَ لك السمع ستين أو سبعين سنة لا يحتاج إلى ميكانيكي، وإذا استعملت جسدك بحسب الوصية القرآنية فربما تعيش مئةً وخمسين سنة، أعظم الأمراض تأتي مِنَ الفوضى في الأكل والشرب وهذا مخالِفٌ للقرآن، الله عزَّ وجلَّ قال:

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
[سورة الأعراف]

هذا يقول لك: عندي مرض السكر، لماذا؟ لكثرة ما يلتهم مِنَ الحلويات والقشدة والسكريات كالدبس وغيره.. أكثر مِنْ طاقة جهاز البنكرياس الذي يهضم السكريات فيُعطِّله لأنه ما فهم ولا فقه قول الله عزَّ وجلَّ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا)، والثاني عنده داء المفاصل لأنه يتناول اللحوم وغيرها بلا تنظيمٍ ولم يفهم قول الله عزَّ وجلَّ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا) لا في الدهون ولا في السكريات ولا في البروتينات وإلى آخره..
﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ مَنْ خلَقَ لك المشمش؟ مَنْ خلَقَ لك الزوجة والوَلد؟ مَنْ خلَقَ لك الطاقة؟ مَنْ ركَّب أعضاءك؟ لو جعل يدك قطعةً واحدةً مِنْ غير مفاصل، أو أصابعك قطعةً واحدة، في كلِّ إصبعٍ مِنْ أصابعك ثلاثة مفاصل إذا ضممتها هكذا صارت كأسًا تشرب بها الماء، وإذا ضممتها بقوة صارت سلاحًا تدفع به عدوَّك، وبطريقةٍ أخرى تُمسك بها القلم وغير ذلك.. فمَنْ سوَّى هذه التسوية؟ ومَنْ أبدَع هذا الإبداع؟ هل تشكره؟ هل تذكره؟ هل تُحبُّه؟ هل تُعظِّمه؟

فقه القرآن بالارتباط بالمعلم:
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا مِنَ الذين يفقهون القرآن، لكنَّ الله عزَّ وجلَّ قال:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

القلب هو الذي يُغذَّى بالذكر الدائم، فلو ذكرنا الله عزَّ وجلَّ ليل نهارٍ لا نفتُر عن الذكر ساعةً واحدةً لما أدينا ما يجب علينا، وأقلُّ الدرجات أن يذكر الإنسان ساعتين في اليوم: ساعةً في الصباح وساعةً في المساء، عليه أن يتعلَّم الذِّكر ويرتبط بالمعلِّم برِباط الحب الذي يسمَّى الرابطة، لو كانت هناك خمسون مقطورة في الصحراء مليئةً بالجواهر ولم تكن لها قاطرةٌ ترتبط بها لأصبحت نهبًا لقطاع الطريق، وإذا صارت لها قاطرةٌ تربطها تسير بسرعة مئة ومئتي وثلاثمئة كيلومتر في الساعة، وبلا رابطة: حجرٌ أو صخرةٌ في جبل.

التسبيح هو المسارعة إلى الطاعة:
﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ هل تتذكَّر الخالِق؟ مَنْ خلَقك؟ مَنْ خلَقَ لك الزوجة والأولاد والنِّعم؟ ﴿فَسَوَّى﴾ كلها في منتهى الكمال، لو خَلَق البطيخ بلا قشرٍ لما استطعنا أكل البطيخ، ولو خلق الجوز بلا قشرٍ لما تركت لنا الغربان جوزةً واحدة! إلى آخره..
﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ كيف يتِّجه الطفل منذ خروجه مِنْ بطن أمَّه إلى الرضاع مباشرة؟ كيف يرى الطائر عشَّه بعد أن يبتعد عشرات الكيلومترات؟﴿قَدَّرَ فَهَدَى﴾ الطيور الوافدة التي تأتي مِنْ روسيا إلى أفريقيا في الشتاء تبرد فتهاجر إلى مناطق الدفء مَنْ علَّمها أن أفريقيا دافئة؟ ومَنْ علَّمها وأعطاها خارطة الطريق لتطير آلاف الكيلومترات فوق الجبال والصحارى، وأنت لو أخذت مئة خارطة لما عرفت كيف تصل ولما عرفت الطريق كما تعرفه هي، فمَنْ هداها ومَنْ علَّمها؟
﴿وَالَّذِي قَدَّرَ﴾ قدَّرها أن تكون طائرةً وبهذا الشكل وهداها إلى ما خُلِقت لأجله وما يضمن وجودها ويضمن استقرار حياتها، فهذا ألا يجب أن تُسبِّحه؟ ألا يجب أن تعترِف أنه أكمَل مِنْ كلِّ كمال، وأعلى في الصفات مِنْ كلِّ شيءٍ في هذا الوجود؟ فهل عرفته؟ هل أحببته؟ هل عَظَّمته؟ هل سارعت إلى امتثال أمره؟ هل عملت بوصاياه؟ هل وقفت عند حدوده فلم تتجاوزها إلى محارِمه؟ هكذا يُقرَأ القرآن، أما أن تقرأه بالأنغام وتهزَّ رأسك كما تهزُّه للطرب فهذه ليست قراءةً ولا هذا هو السماع:

قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
[سورة الإسراء]

وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
[سورة الإسراء]

يعني امتثالًا وطاعةً وانقيادًا.

تسبيح الله عزَّ وجلَّ الحقيقي بطاعته:
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ فالذي يعصي الله عزَّ وجلَّ هل يُسبِّحه؟ يعتقد أن الله عزَّ وجلَّ لا يراه، ولو كان يعتقد أن الله عزَّ وجلَّ يراه فهل يجرؤ على معصيته؟ تعصي الشرطي وتسير على الشمال إذا لم يكن الشرطي موجودًا أما إذا رأيته جانبك فتلتزم، أليس الله عزَّ وجلَّ معنا أينما كنّا؟ أليس الله عزَّ وجلَّ بما يعملون بصيرًا؟ بما يعملون عليمًا؟ بما يعملون خبيرًا؟ هل آمنا بهذه الكلمات؟ هل الإيمان بالقرآن أن تقول آمنتُ؟ هل الزواج أن تقول تزوجتُ؟ الغنى أن تقول أنا غني؟ الوزارة أن تقول أنا وزير؟ اللسان يطاوعك في كلِّ ما تقول، فنسأل الله عزَّ وجلَّ ألَّا يجعلنا مِنَ الكذابين على أنفسنا فأعظَمُ الكذب أن تكذب على نفسِك.
يُروى عن أشعب الطماع الذي يُضرَب به المثل في الطمع، أنه كان إذا مشى في الطريق يلحقه الأولاد صائحين: يا أشعب يا أشعب، يتسلُّون به، فأراد أن يصرفهم عنه فقال لهم: يا أولاد، في الحارة الفلانية مات شخصٌ وأهله يُوزعون عن روحه الطعام فهيا إليها، فتركه الأولاد واتجهوا إلى الحارة التي قال لهم عنها، وحين ركضوا إليها ركض خلفهم، فقال له الذي كان يمشي معه: أنت تكذب عليهم فكيف تتبعهم؟ فقال له: وماذا لو تبيَّن أن كلامي صحيح؟.
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ﴾ لو جعل عينًا أكبر مِنْ عين؟ لو كانت أسنانك متفاوتة الارتفاع فكيف ستمضَغ الطعام؟ لو جعل فمك بلا لعابٍ فكيف ستبلع الخبز الجاف والكعك وأمثال ذلك؟ ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ لو جعل خروجك إلى الحمَّام مِنْ غير أن تشعر بإحساس معيَّن لوجدت نفسك تفعلها وأنت في الجامع، فمَنْ الذي أعطاك الجرس الذي لا يحسُّ به غيرك؟ ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ مَنْ علَّم الكليتين أن تغسلا دمَك كلَّ أربع وعشرين ساعة ستةً وثلاثين مرة؟ مَنْ خلق هذا الجهاز؟ فيا ألله ارزقنا معرفتك! ارزقنا الإيمان بك، ارزقنا تسبيحك، ارزقنا طاعتك، ارزقنا حبك، ارزقنا مَنْ يُعلِّمنا حبك، مَنْ يُعلِّمنا طاعتك، بفضلٍ وكرمٍ منك يا أكرم الأكرمين.

تسبيح الله بأن تتذكر أن أعمالك مسجلة عليك:
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ هذا الخطاب والأمر موجَّهان لكلِّ واحدٍ منا، فهل أنتم مستعدون أن تسبِّحوا؟ أباللسان مِنْ غير فهمٍ ولا تطبيق، أم بفهمٍ وعِلمٍ وتطبيق؟ يعني إذا أردت أن ترتكب معصية وتنسى أن الله عزَّ وجلَّ يراك فهل تكون قد سبَّحت أم رفضت التسبيح؟ إذا ارتكبت معصية ولا تُبالي فكأنك تقول: أنت يا ألله أطرش وأعمى وأبله لا تراني ولا تعاقبني وليس هناك جنةٌ ولا نار وليس هناك ملائكة يسجِّلون أعمالي؛ هذا معنى أنك لا تبالي، وإذا كنت تؤمن حين تعمل العمل بأن الملائكة سيكتبون، وأن الله عزَّ وجلَّ معك، وأن أعمالك مسجَّلة وأنك ستُحاسَب عليها وستكافَأ في الدنيا والآخرة كما فعل الله عزَّ وجلَّ بفرعون: في الدنيا غرَق وفي الآخرة حرَق، وكما فعل بأبي جهل: قُطِع رأسه في الدنيا "إعدام"، وفي الآخرة سيكون كرةً في وديان جهنم:

فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
[سورة الزمر]

فـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ أتريدون أن يكون تسبيحكم صحيحًا؟ هل تستطيعون أن تجروا عمليةً بلا مبالاة؟ إذا لم تبالِ بأن الله عزَّ وجلَّ يراك ويسمعك ويعلم سرائر قلبك، إذا أردت أن تنوي نيةً في نفسك وأنت غافلٌ عن أن الله عزَّ وجلَّ يعلمها لا تكون قد سبَّحته، وإذا عرفت أنك تريد أن تنوي غدرًا أو مكرًا أو حقدًا أو حسدًا، إذا أنعَم الله عزَّ وجلَّ على عبدٍ بنعمةٍ بفضل الله عزَّ وجلَّ ثم بجده واجتهاده؛ فلماذا تُعاديه وتُحسده وتنقِّصه وتسبُّه؟ فها أنت سبَّحت الله عزَّ وجلَّ؟ الله عزَّ وجلَّ قال:

لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
[سورة الشورى]

لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
[سورة الأنبياء]

أنت هل رأيتَ اجتهاده وسهَره وتعبه، وكسلك وخمولك وجهلك وتضييع عمرك باللهو واللعب والطفولة؟ إلى آخره..

العقل نعمة من الله للإنسان:
فسبِّحوا الله عزَّ وجلَّ، سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله مِنْ غير أن نفهم أي واحدةٍ منها؟ هذا لا يصلُح عند الله عزَّ وجلَّ، إذا كان لديك مئة ألف دولار مزورة فهل تنفعُك أو تخرب بيتك؟ إذا أمسكوا معك دولارًا واحدًا مزوَّرًا أخذوك إلى السجن! ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ ليس ﴿الْأَعْلَى﴾ فقط، بل أيضًا ﴿خَلَقَ﴾ أوجَدَك مِنَ العَدم إلى الوجود:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
[سورة التين]

أعطاه مِنَ الدماغ ما جعله يطير ويطوف حول الكواكب، أعطاه مِنَ الدماغ ما يستطيع إذا استعمله أن يكون أسعَد النَّاس وأغناهم وأقواهم وأكملهم، وإذا أهمَله؟
عندك سيارةٌ وتركتها حتَّى صدِئت واهترأت دواليبها، وآخر استعمل سيارته وجمع منها الثروة وتاجَر بها وربح، ثم تأتي فتحسده؟ لماذا؟ الله عزَّ وجلَّ أعطاك قوةً كما أعطاه، هو استعملها وأنت رميتها، أيجب أن تسبَّ نفسك أم تسبَّه؟ تُعادي نفسك أم تعاديه؟ فنسأل الله عزَّ وجلَّ ألَّا يمسخنا، وأن يُرينا الأبيض أبيض، اللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، تعلَّمْ منه، تعلَّم مِنْ همَّته ونشاطه واستقامته إلى آخره..

الذي أخرج المرعى :
﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ تكون الأرض صحراء غبراء قاحلة:

وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
[سورة الحج]

الزهور والروائح والجمال والخضرة، مَنْ أخرَج المرعى؟ قال بعد ذلك: ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً﴾ يصبح يابسًا يُداس، ﴿أَحْوَى﴾ يتفتَّت، قال: هكذا حياتك أيها الإنسان كالمرعى، كيف يكون النبات في أول ظهوره ظريفًا حلوًا أخضر لماعًا وزهرًا وغير ذلك.. ثم في آخر الصيف لا تراه إلا يذبل شيئًا فشيئًا ثم تدوسه الأقدام ويصبح كأنه لم يكن شيئًا مذكورًا، فلا تغترَّ بدنياك ولا بشبابك، هل يدوم الشباب؟ هل تدوم الحياة؟ نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل أملنا برضا الله عزَّ وجلَّ وبلقائه، وفي نفس الوقت يُعلِّمنا الله عزَّ وجلَّ الدنيا كما يُعلِّمنا الآخرة:

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]


تغير الحال في الدنيا:
﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً﴾ ما هو الغُثاء؟ الغُثاء في الأصل هو الوسَخ الذي يتجمَّع في السيل ويترسَّب على جوانب الوادي، يعني يُرمى في القمامة، وفي النهاية ماذا تصبح حياتنا الجسدية؟ قمامة، ويدفنوننا في حفرة لكيلا تخرج روائحنا، هذه دنياك، أما الروح فهي التي لها الخلود، وإما سعادة الخلود وإما شقاوة الخلود، وإذا سِرنا على نهج القرآن فواللهِ سننال سعادة الدنيا والآخرة.
لما قرأ أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورضي الله عنهم القرآن حقَّ قراءته كانوا فقراء فتحوَّلوا إلى أغنياء، كانوا جُهلاء فصاروا حكماء علماء فقهاء، كانوا أذلاء بين الفرس والرومان فألقوا الرومان في البحر وعقَّموا كلَّ بلادهم منهم ودخلوا بلادهم لا ليستعمروهم ولكنْ ليجعلوهم إنسانيين، القوي يساعد الضعيف، فهذا هو الإسلام مع الأعراب والبدو؛ الآن المسلمون: مطابع، ومصاحف، وقرآن في الإذاعة والتلفاز لكنْ لا يوجد قلب! ولا يوجد (يَتَفَكَّرُونَ)، لا يوجد العقل القرآني ولذلك:

إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
[سورة النمل]

إذا أردت أن تُلقي درسًا في المقبرة فماذا يفهمون منك؟ كذلك يوجد كثيرون يسمعون القرآن، فتسأل أحدهم: ماذا فهمت؟ الله عزَّ وجلَّ يتكلَّم، لو كلَّمك شرطيٌّ لفهمت كلامه أليس كذلك؟ إذا قال لك: هاتِ أوراقك فربما تفتح له محفظة نقودك! وإذا فتحت له محفظتك عفا عن أوراقك، ليسوا كلهم، إلى آخره..
هل هناك خلود؟ أين آباؤنا وأعمامنا وأصدقاؤنا؟ هذه القبور أكبر مدرسة: "كفى بالموت واعظًا يا عمر" كان سيِّدنا عمر رضي الله عنه قد كتب هذه الجملة على خاتَمه، هذا هو القرآن وهذه تجارب التاريخ: لما قرؤوا القرآن حقَّ القراءة صاروا هم هيئة الأمم! هم مجلس الأمن، هم أصحاب الفيتو، لكنْ ليس الفيتو الظالم الجائر للمصلحة الشخصية، بل الفيتو لمصلحة العدل والمساواة وحقوق الإنسان بالصدق لا بالنفاق وبالحقيقة لا بالاستغلال.
﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ مِنْ أين أخرجه؟ بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً﴾ صار تبنًا و﴿أَحْوَى﴾ مُتغيِّرًا أسود تحت النعال.
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ فإذا سبَّحت اسم ربك التسبيح الحقيقي، وذكرته الذكر الحقيقي، وعقلته وعرَفته بأنه الخالِق الكامل ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ وعرَفته أنه الذي ﴿قَدَّرَ فَهَدَى﴾ وعرَفته أنه الذي ﴿أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ وخلَق هذا الكون، إذا عرَفت هذه المعرفة فسيُلقي في قلبك مِنَ العلوم ما تقرؤها في صفحات قلبك، يُلهِمك مِنَ الحِكَم ما لم تكن تعرِفها مِنْ قبل:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2)
[سورة الجمعة]

لأنهم سبَّحوا ربهم وعرَفوا ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ وعرَفوا الذي ﴿قَدَّرَ فَهَدَى﴾ وعرَفوا الذي ﴿أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ واستقاموا على حسب معرفتهم: أطاعوه في كلِّ ما أمرهم وابتعدوا عن كلِّ ما نهاهم عنه ونفَّذوا كلَّ ما وصَّاهم به.

تأخر المسلمون اليوم بابتعادهم عن القرآن وهديه:
﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ أيها الإنسان، أول مَنْ أقرأه الله عزَّ وجلَّ هو نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، قال له:

اقْرَأْ (1)
[سورة العلق]

﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ هذا وعد، لكن هل أقرأه؟ أقرأه، فما هي القراءة التي أقرأه إياها؟ هذه المُسجَّلة في القرآن، هي نزلت عليه في ثلاثٍ وعشرين سنة والآن تُقدَّم لنا في ساعةٍ واحدة: تفضل، هذا الوحي الذي نَزَل على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في ثلاثٍ وعشرين سنة تفضل وخذه أنت في هذه الساعة الواحدة!
فيا تُرى هل سنبقى هكذا مسلمين نُسيء إلى الإسلام بانتسابنا إليه؟ الآن المسلمون مُهانون في العالَم، كلمة إسلام ومسلمين محتقَرةٌ في العالَم الأوروبي والأمريكي والياباني لأنهم يعرفوننا متأخرين جاهلين متمزقين، العرب اثنتان وعشرون دولة والمسلمون خمسون دولة أو يزيد، والإسلام يقول:

إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
[سورة الأنبياء]

فمتى؟ الآن! واللهِ لو أن كلَّ واحدٍ منكم أنتم الموجودين في الجامع يلزَمه قلبٌ ذاكر، ليس كلُّ مَنْ صفَّ الصواني صار حلوانيًّا.
ما كلُّ مَنْ سمع كلام النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صار أبا بكر رضي الله عنه أو عمر رضي الله عنه، أبو جهل سمع كلام النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لكنْ ماذا صار؟ أبا جهل! وأبو لهب عمُّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ماذا صار؟ أبا لهب:

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
[سورة المسد]

الذين انتفعوا بالسماع:

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
[سورة الزمر]

الذين قالوا:

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
[سورة البقرة]

أما الذين قالوا:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (93)
[سورة البقرة]

أو يسمعون :

وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
[سورة الأعراف]

فهل استفادوا مِنَ القرآن؟ رُبَّ تالٍ يتلو القرآن والقرآن يلعنه!

من تعلم واتبع فاز بخير الدنيا والآخرة:
﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ إذا كنت تُسبِّح وتعرف ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ سنُعلِّمك وتكون أستاذ مدرستنا، وخريج مدرستنا يفوز بخيري الدنيا والآخرة، يُبدِّله الله عزَّ وجلَّ بذله عزًّا، وبفقره غنًى، وبضعفه قوة، وبجهله عِلمًا، هذا مَنْ يُسبِّح اسم ربِّه الأعلى، فإذا كان الشرطي أعلى مِنْ ربِّك، الشرطي يأمرك فتمتثل، وربك يأمرك فلا تمتثل، فأيهما الأعلى إذًا عندك وفي قلبك وفي أعمالك؟ إذا قال لك الطبيب: لا تأكل هذا الطعام فإنك لا تأكله، أما إذا قال لك الله عزَّ وجلَّ إن هذا حرام فإنك تأكله، فأيهما الأعلى إذًا؟
فالذي يكون ربُّه هو الأعلى هو الذي سيكون الأعلى، أما إذا كنت تُعامل ربك بالمعاملة الأدنى فستصير أنت الأدنى، وهل يُدخل الله عزَّ وجلَّ في مدرسته الحقيرين الذين هم في أدنى مراتب الإنسانية؟ لا، الذي يُقرِئه الله عزَّ وجلَّ ويُعلِّمه ويجعله تلميذه في مدرسته هو الذي سبَّح اسم ربِّه الأعلى، والذي عرَف ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾ والذي عرَف الذي ﴿قَدَّرَ فَهَدَى﴾ والذي عرَف الذي ﴿أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ فهذا سيكون تلميذ المدرسة الإلهية وعندئذٍ يكون الله:

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
[سورة الرحمن]


الله نقل الإنسان بالكتاب من الجهل إلى العلم:
فإذا كان الله عزَّ وجلَّ أستاذك:

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[سورة البقرة]

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) يُعلِّمك: ينقلك مِنَ الجهل إلى العِلم، (وَالْحِكْمَةَ) مِنَ الحمَق والسَّفه وسرعة الغضب وكذا وكذا.. إلى الحِلم والفضائل وإلى النظر الكامل، فإذا عرفتَه صرتَ مقبولًا في مدرسته ومرشَّحًا لها، عند ذلك ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ كما أقرأ الله عزَّ وجلَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال له:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
[سورة العلق]

قرأ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، هل قرأه بلسانه؟ بل بقلبه وأعماله وكلِّ شعوره ووجدانه فكان إذا صلَّى يقول:

{ جُعِلتْ قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ (2) }

[سنن النّسائي]

وكان يُعبِّر عن الصَّلاة بأنها معراج المؤمن.

من صفات المؤمنين:
وقال الله عزَّ وجلَّ:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
[سورة المؤمنون]

(الْمُؤْمِنُونَ) ليس الذين يُصلُّون بل (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) ما يتلقاه مِنْ أوامر الله عزَّ وجلَّ القولية والعملية، القولية معروفة، والعملية: حين تركع فمعنى ذلك أنني أنا يا ربِّ خاضعٌ لأوامرك وركوعي رمز لخضوعي، وخارج الصَّلاة تخضع لأوامر الشيطان! تركع في الصَّلاة بجسدك لله وبأعمالك لأعداء الله عزَّ وجلَّ! إذًا أنت ما ركعت، لذلك لا تُفلح ولا تنجح (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) فقط؟ (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) لغو الكلام أي كلامك الذي لا ينفع ولا يضر، تجلس ساعتين أو ثلاثًا ماذا نفعت الآخرين أو انتفعت منهم طوال السهرة؟ فالمؤمن عمره ووقته غاليان عليه لا يصرفهما إلا في مجلس خيرٍ في علمٍ أو تعليم، عطاءٍ أو أخذٍ لما ينفعه في حدود الله عزَّ وجلَّ.

الله عزَّ وجلَّ هو من يعلم الإنسان:
﴿سَنُقْرِئُكَ﴾:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
[سورة العلق]

وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
[سورة النساء]

فإذا كان الله عزَّ وجلَّ أستاذك:

{ من أخلصَ للَّهِ أربعينَ صباحًا تفجَّرَتْ ينابيعُ الحكمةِ من قلبِهِ على لسانِهِ (3) }

[مصنف ابن أبي شيبة]

هل يمكن أن يُعلِّمنا الله عزَّ وجلَّ؟ قال الله عزَّ وجلَّ:

وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
[سورة البقرة]

مَنْ علَّم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؟ مَنْ علَّم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام؟ الذين قرؤوا في الأزهر وأخذوا الدكتوراه وربما لا يهدي أحدهم إنسانًا طول عمره، وهناك أناسٌ أميون لا يقرؤون ولا يكتبون، ولكنْ:

مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
[سورة التغابن]

ترى الله عزَّ وجلَّ يهدي على يده المئات!
الشَّيخ أمين الزملكاني رضي الله عنه كان أميًّا، كان مقيمًا في مولانا خالد، وكان النَّاس يزحفون إلى مولانا خالد مِنْ منتصف الليل، مِنَ الميدان ومِنْ آخر المدينة مِنْ منتصف الليل، وكان أميًّا، وبعد موته: لو عاش المريد مِنْ مُريديه مليون سنة لا يمكن أن ينسى شيخه ولا لحظةً واحدة، لأنه أعطاه شيئًا لا يعرفه إلا مَنْ أخذه. فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا أهلًا لأن ندخل مدرسة الله عزَّ وجلَّ، ولأن يُعلِّمنا الله عزَّ وجلَّ:

وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
[سورة البقرة]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
[سورة الأنفال]

إلى آخر الآيات..

تعليم الله لا يُنسى:
﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ وإذا علَّمك الله عزَّ وجلَّ فإن عِلم الله وتعليمه لا يُنسى، لأنه يُرسَّخ في خلايا القلب والروح، ﴿فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ مما نسخه الوحي، أو كما كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أنْسَى كما تَنْسَوْنَ (4) }

[مسند أحمد]

في الأمور التي لا تخِلُّ عادةً بأمور الشريعة والرسالة، ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾ ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ عِلم الله عزَّ وجلَّ الإلهي ثابتٌ لا يزول، قال: لكنك كطالبٍ في مدرسة الله عزَّ وجلَّ عليك أن تكون عالمًا بأنه يعلم سرَّك وجهرك، عليك أن تُراقب الله عزَّ وجلَّ بحيث يكون سرُّك طاهرًا، وسريرتك طاهرة، ونواياك طاهرة، وصدرك طاهرًا، وقلبك طاهرًا، وجهرك: أعمالك البدنية: في يدك، في رجلك، في سمعك، في بصرك يجب أن تكون كذلك على هذا المستوى.

رقابة الله تمنع الإنسان من الإثم
﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾ هل آمنت أن الله عزَّ وجلَّ يعلم أعمالك التي يراها النَّاس؟ فهل راقبت الله عزَّ وجلَّ في أعمالك؟ ويعلم ما يخفى، أعمالك التي تُخفيها على النَّاس هل تعلم أنها لا تخفى على الله عزَّ وجلَّ؟ فإذا آمنت بهذه الآيات هل يمكن أن تعصي الله عزَّ وجلَّ؟ أو تقترف إثمًا أو ظلمًا أو غشّاً أو كذبًا؟ ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾ الابن مع أبيه والأخ مع أخيه، والزوجان بعضهما مع بعض، والجيران بعضهم مع بعض، والأرحام بعضهم مع بعض، والعدو مع عدوه:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
[سورة المائدة]

يعني اعدِل مع عدوك، لا تظلم عدوَّك ولا تبخَسه حقه.

تتعلم الاستجابة لله من العالم الوارث:
ما مدرسة القرآن هذه؟ ما كتاب الإسلام هذا؟ يا تُرى هل تعلَّمناه؟ قرأناه فهل فهمناه؟ فهمناه فهل حوَّلناه وهضَمناه فمثَّلناه في أعمالنا وأخلاقنا وسلوكنا؟ بذلك تكون مسلمًا يعني مستجيبًا وعملك إسلامًا يعني استجابةً لأمر الله عزَّ وجلَّ، وهذا لا يكون ولن يكون إلا بصحبة العالِم العامِل الوارِث النبوي، فلا يمكن أن تصير نجارًا بلا مُعلِّم، ولا حدادًا بلا مُعلِّم، فكيف تريد أن تكون ذلك الإنسان الكامل الفاضل ولا مُعلِّم يعلِّمك الكتاب، ولا يُعلِّمك الحكمة، ولا يُزكِّي نفسك؟ فهل يوجد في مدارسنا الشرعية يا تُرى هذا البرنامج القرآني؟ فيها قراءة أوراق، تحفظ الورقة فيُعطونك شهادة، هل أخذ سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه ورقة؟ كانت أوراق عِلمه في خزانة قلبه وروحه.
﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ فلا تُمحَى هذه القراءة بنسيانٍ ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ إما مِنَ المصلحة أن تنساه أو أن يُنسَخ، ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ﴾ يعني إذا أردت أن تتكلَّم بكلمةٍ سيئةٍ أمام ولدٍ صغيرٍ تخجل، وإذا أردت أن تتكلَّم بها مع صديقٍ لك ليس بينك وبينه كلفة ومرَّ شخصٌ غريبٌ تسكت خشية أن يسمعك فيُعيب عليك، فيا ترى هل تُعامل الله عزَّ وجلَّ كما تُعامل إنسانًا عاديًّا؟ يا تُرى هل تتَّقي الله عزَّ وجلَّ الذي ﴿يَعْلَمُ الْجَهْرَ﴾ أعمالك العلنية وأعمالك الخفية؟ هل آمنت بهذه الآية؟
هذا هو الإيمان والتطبيق هو الإسلام، إذا آمنت بالأفعى أوالثعبان فما مُقتضى إيمانك؟ أن تحترز منها، وإذا آمنت بالذهب والألماس يقتضي إيمانك أن تبذل الجهد لتكتسبهما وبالحلال، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الإيمان الحقيقي مِنَ المعلِّم الحقيقي، مِنْ أجل العِلم والمعلِّم الحقيقي كانت الهجرة فريضةً على المسلم والمسلمة، كانت المرأة تُهاجر وحدها خمسمئة كيلومتر في الصحارى والجبال والوديان، وبوجود قطاع الطريق فتعرِّض حياتها وأعزَّ ما عندها للخطر في سبيل الوصول إلى مَنْ يُعلِّمها الكتاب والحكمة ويُزكِّي نفسها.

إذا تعلمت واتبعت سييسرك الله لليسرى:
فإذا قرأت ما يُقرِئك الله عزَّ وجلَّ وتعلَّمت التعلم الحقيقي ما يُعلِّمك الله عزَّ وجلَّ فعند ذلك: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ تصير أمورك كلُّها ميسَّرة: إذا دخلتَ الحروب ينتظرك النصر، وإذا وقعت في الشدائد:

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
[سورة الطلاق]

وإذا كنت فقيرًا:

وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
[سورة الضحى]

وكان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول لأصحابه رضي الله عنهم:

{ ألَمْ أجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بي؟ وكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فألَّفَكُمُ اللَّهُ بي؟ وعَالَةً فأغْنَاكُمُ اللَّهُ بي؟(5). }

[صحيح البخاري]


التيسير للشريعة اليسيرة:
﴿وَنُيَسِّرُكَ﴾ للحياة اليسرى وللشريعة اليسرى التي تُوصلك إلى اليُسر، إلى الغنى، إلى العز:

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
[سورة الأعراف]

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
[سورة آل عمران]

فالإسلام نُقلةٌ مِنَ العَدم إلى الوجود، مِنَ الذلِّ إلى العز، مِنَ الضعف إلى القوة، مِنَ الجهل إلى العِلم:

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[سورة ق]

ألا كنْ لأربابِ القلوبِ ملازما وفي قربهم حصِّل لك القلبَ سالما وإن رُمتَ من خِلٍّ قديمٍ جمالَــه فقلبُكَ مرآةٌ فقابله دائمـــــــــا
{ منقول }
(وإن رُمتَ من خِلٍّ قديمٍ جمالَــه) يعني إذا أردت أن تتنعَّم بجماله ونوره وتجلِّياته.

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
[سورة الأنعام]

﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ تصير حياتك كلُّها ميسرة:

وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
[سورة الطلاق]


ثمرة دخول مدرسة القرآن:
مَنْ دخل مدرسة القرآن ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ ثمَّ: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ فمَنْ اتقى الله عزَّ وجلَّ جعل الله له مِنْ كلِّ ضيقٍ فرجًا ومِنْ كلِّ همٍّ مخرجًا ورزقه مِنْ حيث لا يحتسب، وليس معنى تقوى الله عزَّ وجلَّ أن نجلس في زاوية الجامع ونصلي ولا نخرج مِنَ الجامع ولا نشتغل، مِنْ تقوى الله عزَّ وجلَّ:

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
[سورة الملك]

مِنْ تقوى الله عزَّ وجلَّ:

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
[سورة المؤمنون]

ألَّا يكون لك لغو الكلام بأن تتكلَّم بلا فائدة، ولا لغو الوقت بأن تعيش عمرك ثلاثين أو أربعين سنةً كلُّها لغوٌ بلا إنتاج، عمرك كلُّه لغو.
فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا مِنَ الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسَنه، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.

الهوامش:
(1) ضعيف الجامع للألباني، رقم: 176.
(2) سنن النّسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، رقم: (3940).
(3) مصنف ابن أبي شيبة، رقم: (35485)، (19/77)، مسند الشهاب القضاعي، رقم: (466)، (1/285).
(4) مسند أحمد بن حنبل، (24259)، (40/303).
(5) صحيح البخاري, كتاب المغازي, باب غزوة الطائف, رقم: (4330), صحيح مسلم, كتاب الزكاة, باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام ..., رقم: (1061).