تفسير سورة العاديات 2

  • 1996-05-31

تفسير سورة العاديات 2

الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيِّدنا مُحمَّدٍ خاتَم النبيين والمرسلين وعلى أبيه سيِّدنا إبراهيم، وعلى أخوَيه سيِّدَينا موسى وعيسى، وعلى جميع الأنبياء والمُرسلين وآلِ كلٍّ وصحْبِ كلٍّ أجمعين، وبعد:

معنى العاديات :
فسبق معكم في سورة العاديات أن العاديات هي الخيول التي تعدُو وتركُض في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ووضع دستور وقانون الله في هذا الكوكب ليُحقِّق سعادة الإنسان وتقدُّمه في العِلم والحكمة ومكارم الأخلاق، فكانت تركُض ويتراكضون على تلك الخيول العاديات ومِنْ شدَّة ركضِها يُصبح نَفَسُها مسمُوعاً، فنَفَسُ الخيل وتنفُّسُها عند ركضها هو الضَّبْح، أما إذا كانت تمشي الهوينى وبتأنٍّ فلا يخرجُ لنفَسِها الصوت المُسمَّى بالضَّبْح.

الفرق بين فتح المسلمين للعالم وبين احتلال الغرب له:
فأقسَمَ بالعاديات ضَبْحاً، الرَّاكضات ومِنْ شدَّة الركض سواءٌ كانَ طريقاً مُعبَّدةً أو طريقاً صخريةً ذو أحجارٍ فتلمَعُ تحت حوافرها الشَّرر والنَّار إقداماً واقتحاماً على المخاطر والمهالِك مِنْ أجل إنقاذ الإنسان وتخليصه مِنْ جَوْرِ الطُّغاة والحكّام، ونقلِه مِنَ الجَهالة إلى العِلم، ومِنْ تأليهه لجسده حيث يكون خادِماً له إلى أن يكون خادِماً -الله لا يحتاج لخدمتنا- ويكون عبداً -الله لا يحتاج عبوديتَنا- ولكن المقصود أن نُطيعه كما يُطيع العبد مالِكَه، لأن بهذه الطاعة والمُسارعة تكون سعادة الإنسان بمقدار طاعته ومُسارعته.
(فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) وصلت لهدفها وهي في وسط ومعمعة الهدف في مقاتلة الطغاة والجائرين والمعتدين على حقوق الإنسان بالظلم والجَّورِ والتخلُّف ومَنْعِ العلوم عنهم.. المسلمون لما فتحوا البلاد كلُّ ما حملوه مِنْ علومٍ قدموه لتلك الشعوب، حتى سبَقَتْ تلك الشعوب الأعجمية العربَ في العلوم والمعارف، بينما لما استعمَر العالَم الغربي البلاد المُستضعَفة هل قدَّم لها العلوم حتى تُساويه أو تسبِقَه أو تتقدَّمَ عليه؟

الجهاد في سورة العاديات :
(فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) والغُبار مِنَ الرَّكض والتسابُق والإقبال في الجهاد لإنقاذ الإنسان مِنَ الجهل والتخلُّف والظلم وجَوْرِ الجائرين، غُبار المعركة قائمٌ وهو النَّقع، (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) وصلوا إلى وسط المعركة، هذه الآيات مكيَّةٌ ولم يكن في ذلك الوقت حربٌ ولا قتال، فماذا تعني هذه الآيات والقتال مُحرَّمٌ وغير مشروعٍ لأنه لا يُعطي الفائدة التي تُتَطلَّبُ مِنْ عمله؟ ولكن كان هناك جهاد الدعوة ونشر العِلم والمعرفة وتزكية النفس وتحليتها بمكارم الأخلاق وفضائل الصفات، فحَلَفَ الله بالخيل التي تُركَبْ فصارت مُقدَّسة، فكيف بركَّابها وفُرسانها؟ أليسوا أقدس منها وأعظَمَ كرامةً عند الله عزَّ وجلَّ؟ ثم ذَكَر الله الهجوم والهدف في هذا الركض والمسابقة نيرانٌ تقدَحُ تحت سنابك الخيل، والخيل تُسمَعُ أصوات تنفُّسِها، والغبار يعلو في الجو.
قال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) الإنسان جهولٌ بربِّه وكافِرٌ به وعاصٍ لأوامره، فأنتم يا ركّاب الخيول وفرسان العاديات ضَبْحاً عليكم مسؤولية أن تُنقِذوا هذا الإنسان الكَنود الكَفور بأوامر الله، الجَحود بنعم الله، الجَهول بما يُسعِدُه ويُحوِّلُه لا إلى إنسانٍ سعيدٍ فقط، بل أن يكون سعيداً وفوق الإنسان السعيد أن يقوم ليُسعِدَ الإنسان الشقيَّ التَّعيس، فإذاً توجيه العاديات وفرسانها والتي بما تملك الخيل من مُسارعةٍ وإقدامٍ حتى تُسمَعُ أصوات أنفاسها مِنْ مسافات.. ومِنْ شدَّة ركضها يخرج الشَّرر مِنْ تحت سنابِكِها والغبار يعلو في السماء وقد وصلوا إلى قلب المعركة وهي معركة كُنود الإنسان، لتُخرِجَ هذا الإنسان مِنْ جهلِه وجاهليته وخُرافاته وكسلِه وفقرِه والتنازع والعداوات فيما بينه.
بإنقاذ المرأة التي كانت تُعتَبَرُ كأغراض البيت تُورَثُ كما تُورَثُ الكراسي والبُسط والوسادات، وليس لها نصيبٌ مِنَ الميراث، فهذا ضد شريعة الله وكُنودٌ وكفرانٌ بها، وقال: ستتوجهون الآن لإصلاح هذا الإنسان الكَنود، لكن لا تذهبوا مشاةً لأنكم إذا ذهبتم مشاةً يطُول المشوار لتحققوا الهدف، إذاً يجب أن تستعمِلوا أسرع الوسائل التي تُوصلكم إلى تحقيق هذا الكفاح وهذا الجهاد وهو إنقاذ الإنسان مِنْ تخلُّفه وجهلِه وعداوة بعضه لبعضٍ وعبادته لجسده وبطنه وفرْجِه كالحيوان.

بناء الإنسان السعيد الصالح:
مُهمَّتُكم هي بناء الإنسان السعيد الصالح الإنساني، تُنقِذُونه مِنْ إنسان الحيوان الذي لا يعرِفُ إلا بطنه وفرْجَهُ، ومِنْ إنسان الشيطان الذي لا يعلَمُ إلا الإفساد وإيذاء الآخرين إلى الإنسان الإنسانيّ الذي يرى الإنسانية كلَّهم قوميَّته وإخوَته كما ورد في الأثر:

{ الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره (1) }

[ورد في الأثر]

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
[سورة النساء]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
[سورة الحجرات]

إذا كان هناك ثلاثة إخوة: أحمد ومحمود وخالد فالتفرقة بالأسماء لا يجب أن تُمزِّقَ أخوَّتهم وقُربهم وتعاونهم، كذلك الشعوب إذا اختلفت أسماؤها فلا يجب أن تُضيِّعَ إنسانيَّتها، (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) لا لتتقاتلوا وتتعادوا (لِتَعَارَفُوا)، هذا الشعب العربيُّ والتركيُّ والإنكليزيُّ للتعارف لا للاقتتال والتعادي.

التفاضل يكون بالتقوى :
(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ) التفاضل بين الشعوب والأفراد (عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) التقوى هي العِلم والعمل، كلَّما كنت أكثر عِلماً لما ينفعُك وينفع الآخرين في دنياهم وفي دينهم بهذا المقدار تكون الأكرم والأفضل عند الله عزَّ وجلَّ:

{ لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى (2) }

[مسند أحمد]

يعني إلا بالعِلم وبالعمل، فالإسلام نَزَعَ التفاضل بالجنسية واللون والقومية والغِنى والفقر إلا بالعِلم والعمل، إذاً في هذه السورة حضٌّ ودفعٌ لقارئها ليركَبَ العاديات وأن لا يمشي بها نحو إصلاح الإنسان الكَنود الهوينى بل يركض بها بأقصى سرعةٍ ليصير لنفَسِها صوتٌ يُسمَعُ مِنْ بعيد، ليس فقط صوتها بل يُرى كذلك شَرر حوافِرها في ركضِها على الصخور وفي الأراضي الوعرة، ولا يتوقف حتى يصير في وسط المعركة، فالجهاد مع الإنسان الكَنود ليُجاهده بالتعليم والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونقله مِنَ الظلمات إلى النور، فهدَفُ القرآن والإسلام كلُّه هو بناء الإنسان الفاضِل، لا في محيط الوطن أو القوميَّة، بل في محيط الإنسان في كلِّ هذا الكوكب الأرضي كما قال تعالى للمُعلِّم الأول:

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
[سورة الفرقان]

(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ) للعرب نذيراً؟ (لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا).

تطبيق سورة العاديات:
إذاً والعاديات ضَبْحاً فإذا قرأتم هذه السورة أيُّها المُسلم وأيَّتها المُسلمة، هل فهمتموها؟ وإذا فهمتمها هل وطَّنْتَ نفسك لتُحييها بالعمل؟ تُفتِّشَ عن فرسٍ تعدُو فتركَبها وتتجِهَ بها ركضاً لله بغير زادٍ إلا التقوى وعمل المعادي، وقصدُكَ الله وعمل الآخرة، (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) فهل نجِدُك وسط المعركة تهدي الضَّالين وتُذكِّر الغافلين وتُصلِح المُعوَجِّين بالحكمة والموعظة الحسنة؟ فعند ذلك تكون قد قرأتها وآمنت بها، والإيمان بها أن تنتقل مِنْ مرحلة التصديق والإيمان إلى مرحلة العمل بحيث تُقرَأُ هذه السورة في صفاتك، الآن لا توجد خيل، يوجد دراجة، فإذا ركبت الدراجة إلى إنسانٍ كَنودٍ لتُصلِحَه وتُحوِّلَه مِنْ كَنودٍ إلى شكورٍ ومِنْ جَهولٍ إلى عليمٍ ومِنْ غافِلٍ إلى ذاكِر، وإذا لم تكن عندك دراجة فالدراجة النَّارية، هذه هي والعاديات، العَدوُ هو الرَّكض والعاديات هي الراكضات، بالسيارة هذه صارت أيضاً والعاديات، وضَبْحاً للنَفَس زمورها وصوت الدراجة، فليس المقصود أن نقرأ القرآن ولكن أن نفهمه فأوامر الله لتُسعِدك ويَسعَدَ بك الآخرون.

الإيمان بالقرآن هو فهمه وتطبيقه:
هذا هو الإيمان بالقرآن، أما أن تضعه في ثوبٍ مُطرَّزٍ بخيطان الذهب وتُقبِّل الخِرقة بشفتيك ولا تفهم منه شيئاً، وإذا فهمت لا تُوطِّنُ نفسَك على التطبيق والتنفيذ، فهل أنت مؤمنٌ بالقرآن أم جاحِدٌ له ومُعرِضٌ عنه؟ وتُعلِنُ أنك لا تمتثِلُ أوامرك لأنك طول حياتك ما قصَدت أن تفهمه لتُنفِّذَه وتُطبِّقَه، فهذه السورة مُوجهةٌ إلى كلِّ مُسلِمٍ ومسلمةٍ أن يفتِّشَ عن مركوبٍ يكون سريع المشي والوصول إلى الهدف ويكون قوياً بحيث لو وَطَأ على الصخر ينقدِحُ الشَّرر ولا يتراجع إلى أن يصل إلى (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) إلى وسط وجمْعِ الجهل والجاهليين والغَفْلة والغافِلين والضياع والضائعين إلى الإنسان الكَنود كما أن الطبيب مُهمَّتُه أن يصل إلى الإنسان المريض، وإذا كان مرضه خطيراً سيركب بأسرع مركوبٍ ليُنقِذَه مِنْ خطره، فهذا الخطر على الجسد الذي هو علبة الكرتون للساعة الذهبية، فإذا كانت عنايتنا بالكرتون هكذا فكيف بالألماس الذي يوجد داخل الكرتون التي هي الروح والنَّفسُ والعقل؟

مجاهدة الإنسان الجحود:
وصلنا للمعركة فيقول الله له: هذا الكَنود إنزِل فجاهِد به:

فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
[سورة الفرقان]

يعني بالقرآن وتعاليمه وأخلاقه وآدابه أن تلبِّسَهُ إياها وأن تُوصِله بماء سمائها حتى يكون طاهراً ومُطهِّراً، (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) كَفورٌ جَحودٌ ناسٍ لله، مُضيِّعٌ لأوامر الله ومُرتكبٌ لمحارِمِ الله بسبب ذلك واقعٌ في الشقاء والحرمان مهما تقدَّم في أمور المادة والحياة.

لم يصل الإنسان إلى الحياة الراقية إلا بالقرآن:
أمريكا الآن.. يا تُرى هل وصلت إلى ما أوصلَ القرآن العربَ مِنْ سعادةٍ وإنسانيةٍ وربانيةٍ وأخلاق؟ في الفقر كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ ما آمَن بي مَن بات شبعانَ وجارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلَمُ به (3) }

[أخرجه الطبراني]

يعني في القانون الإسلامي لا يجوز أن يوجد جائع، لما فتَحَ خالدٌ الحيرة - مدينةٌ في العراق- وكان لها شأنٌ في ذلك الوقت، وعقَدَ المعاهدة فيما بين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأهل البلد وهم نصارى، وعلى نصرانيتهم كان مِنْ جملة بنود المعاهدة: الضمان الاجتماعي، أيُّ شخصٍ مِنْ سكان البلد إذا عجَزَ عن أداء دينه فلا حق الدائن يضيع ولا المدين يبقى تحت ذلِّ طلب الدائن، فيقوم بيت مال المسلمين بأداء دين ذلك المدين العاجِز عن أدائه، هل يوجد في أوروبا وأمريكا واليابان هل يوجد مثل هذا الضمان الاجتماعي؟ وإذا عجِزَ عن العمل لشيخوخةٍ أو مرضٍ أو بطالةٍ وعدم عملٍ فنفقاته الحياتية على بيت مال المسلمين، هذا مع النصارى لأنهم صاروا مِنْ رعيَّة الدولة الإسلامية، لذلك لما كان المسلمون يُحاصِرون بلدةً يحكُمها الرومان ولما عرفت الشعوب من هذه القوانين الإسلامية الإنسانية الملائكية التي هدفها إسعادُ الإنسان أيُّ إنسانٍ كان، فكانوا عوناً للعرب المسلمين على حكامهم النصارى في فتح مُدنهم ليستلِم قيادتها وسياستها الإسلام والقرآن.

جحود نعم الله عزَّ وجلَّ:
(إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) جَحودٌ يجحَدُ نِعَمَ الله وفضله، خلقك مِنْ نطفةٍ ومِنْ ذرَّةٍ ووَهَب لك السمع والبصر واللسان والجوارح، ركَّب لك الأعصاب والعِظام وجعل لك العضلات للقوة، فهل شكَرته؟ إذا عطِلَ سِنُّك وتسوَّس يأخذك طبيب الأسنان ويُحضرك ويضع المِنخَرَ في سنِّك وشهرٌ وشهران ليُصلِحَ سنَّاً واحداً، وإذا ذهبت أسنانك يضع لك بدلةً إذا سعَلْت قد تخرج إلى الخارج، وإذا عضضت تفاحةً بدل أن تصبح التفاحة في فمك تُصبح أسنانك على التفاحة، فهل تذكر هذا الخالِق العظيم الذي أرسل لك هديةً كتاباً:

لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
[سورة فصلت]


تحويل الإسلام لحياة المسلمين الأوائل:
كتابٌ واحدٌ إلى أمَّةٍ تعيش في الصحارى جوعاً وعطشاً يأكلون الميتة ومِنَ الفقر يذبحون أولادهم ويدفنون البنات حتى جعَلَهم أعظَم وأعلَم وأعزَّ أهل الأرض وبأقل المُدد والتكاليف، في صفٍّ من أمريكا في فرعٍ مِنْ فروع العلوم تأخذ عشرين سنة مِنَ الابتدائي، فسيِّدنا عمر رضي الله عنه كم سنةً أخذ في الجامعة الإسلامية؟ لا إله إلا الله مُحمَّد رسول الله وصحبة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بصحبة الحب الذي كانوا يفدونه بآبائهم وأمهاتهم وأموالهم، فبهذا الحُب.. والحُب مثل ربط المصباح بالتيار الكهربائي، فإذا كانت خمسة آلاف شمعة وربطت بالتيار تقلِبُ الظلمات إلى نور، وإذا لم يكن لها هذا الربط والرابطة فلو كانت مئة ألف ومليون شمعة ضوء سيجارة في الليل يُثبِتُ النور أكثر، فالرابطة كانت رابطة الحُب كانوا يفدونه بأرواحهم وأموالهم وأولادهم، فهل خسروا أو غُشُّوا؟

إعراض الإنسان عن الله وتعاليمه:
قال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) شيءٌ مُشاهدٌ ومعروفٌ إعراض الإنسان عن الله وتعاليمه:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126)
[سورة طه]

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) يعني عن القرآن وثقافته وعلومه وعن العمل به كائناً مَنْ كان (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) معيشة الهوان والذلِّ والشقاء والتعاسة (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا) القرآن (فَنَسِيتَهَا)، الآن اسأل أيَّ مسلمٍ عن سورة العاديات هل يفهم منها شيئاً أو يعمل منها شيئاً أو يقوم ويركب العاديات بأقوى ما يُمكن حتى يصبح نفَسُها يُسمَعُ مِنْ ألف مترٍ ضَبْحاً ضَبْحاً، وتُصبح حوافِرها تقْدَحُ قَدحاً قَدحاً، حتى يصل إلى قلب المعركة لا يخاف العدو.

قدسية خيول الجهاد :
(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) أُقسَمَ بهذه الخيول وبصفاتها، فإذا كانت هذه الخيول صار لها شرف القدسية حتى صارت يمين الله بمَن شُرِّفَت؟ بحوافِرها وشعرها؟ لا، بل شُرِّفَت بركّابها وفُرسانها وأهداف فُرسانها الذين يُريدون أن ينقُلوا العالَم مِنَ التخلُّف إلى التقدُّم، في الدين والدنيا، وفي العقل وفي النفس، والأخلاق والسلوك، المسلم هل آمن بسورة العاديات؟ إذا آمنت بورقة المحكمة أن يوم الاثنين في الساعة الواحدة ستكون في المخابرات رقم مئتين وخمسة عشر، فهل تأتي في الساعة الثانية؟ لأنك مؤمنٌ أن الطاعة والانقياد والاستجابة واجبٌ عليك، المخابرات أعظَمُ أمِ الله أعظَم؟ لكن عملياً ترى النَّاس يُعظِّمُون شرطيَّ السير أكثر أمِ الله أكثر؟ إذا رأى الرجلُ الشرطيَّ وهو يمشي على اليسار بمجرَّد ما يرى الشرطيَّ يركُض فوراً باتجاه اليمين، فإذاً دائماً يراك الله وأنت تُخالِفُ أمره وأنت جاهلٌ وحيَهُ ورافِضٌ كتابَه لا تتعلَّمه، لا قراءة الألفاظ بل يجب أن تتعلَّم الهدف مِنْ آيات القرآن لتحوِّلَها مِنْ كلماتٍ تُكتَبُ وتُنطَقُ باللسان إلى أعمالٍ عظيمةٍ يُبذَلُ في تحقيقها كلُّ الجهود والطاقات لتكون ذلك الإنسان المؤمن والمسلم.
(إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) يا تُرى إذا لم تفكروا في الماضي وكثيرٌ منكم والله يركَب العاديات ضَبْحاً والعاديات مُوريات قَدْحاً وأيضاً يكون (فَوَسَطْنَ بِهِ) في وسط المعركة ومُقبِلٌ على الإنسان الكَنود ليجعله الشَّكور وعلى الجَّهول ليجعَله العالِم وعلى الغافِل ليجعَله الذَّاكر، وعلى الإنسان الذي هو دميةٌ بيد الشيطان ليجعَله نوراً مِنْ أنوار الرحيم الرحمن، لكن أيضاً يوجد أناسٌ منكم لا توجد لديهم العاديات ضَبْحاً ولا الحمير نَهقاً، في طريقه إلى الإنسان الكَنود ليَهدِيَهُ ويُنقِذَهُ مِنْ كُنودِه إلى تقواه وإيمانه وإسلامه، فما رأيكم إذا حَلَفَ الله بالخيل وبالبغال في سبيل هداية الخلق، فالفضل للخيل أم لراكِبها؟ فكيف راكِبُها؟

تفقد أقرب النَّاس إلينا:
هل لديكم استعدادٌ لتؤمنوا بسورة العاديات وتُطبِّقُونها في ميدان العمل والحياة؟ تفقَّدْ أهلك وجيرانك:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[سورة التحريم]

وإذا انتهيت منهم فمَنْ حولك:

وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
[سورة الشعراء]

هذا هو الإسلام، أما إسلام الكلام والهوية أظنُّه لم يبقَ أيضاً أليس كذلك؟ هل يوجد إسلامٌ بالهوية؟ لم يبقَ أيضاً بالهوية، فليكن إسلامك بهويَّة أعمالك، إسلامك بالهوية الربَّانية مكتوبٌ عند الله أنك مؤمن، اليوم آمنَّا بالعاديات، مَنْ مِنْ أقاربنا ببيتنا الأولاد والجيران وكذا.. ولا تقل لا يمكن، لا، يُقال: مَنْ دقَّ الباب، إذا دققت أول دقَّةٍ ولم يردُّوا عليك ماذا تفعل؟ تدقٌّ مرةً ثانية، وإذا لم يردُّوا أيضاً، يكونون نائمين، لا والله سمعت صوتهم في البيت، لا يُريدون أن يفتحوا، دقَّ أيضاً وأزعجهم قليلاً، يُقال: مَنْ دقَّ الباب ونَجى وَلَج، يفتَحُ الباب ويلِجُ ويدخل الدار.

شهادة أعمالنا علينا:
(وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) أعمالك كلها تشهد أنك كَنودٌ لله ولست بالشكور، تسمع المؤذن وتقرأ القرآن:

يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
[سورة الانشقاق]

لو قالوا لك: غداً يوجد لقاءٌ مع الأمن رقم كذا أو بالمحكمة الفلانية أو كذا، التاجر الفلاني أو البضاعة الفلانية، ففي اليوم الثاني تعمل بمقتضى عِلمك وما أُخبِرت وعُلِّمت، فربُّ العالمين يُخاطبك ويقول: (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) فتِّش نفسَك، هل أنت مؤمنٌ شكورٌ تقيّ؟ هل تُؤدي أوامِر الله في نفسِك وأعضائك وأهلك؟ إذا رأيت منكراً تُنكِرُه بالقول والعمل وبالحكمة والموعظة الحسنة، أن تكون كالطبيب مع المريض، إذا كان الدواء مُراً والمريض طفلاً تمزِجُ مع الدواء المرِّ سُكَّراً وتلبِسُ الشوكولا بالدواء وتخلِطها حتى تستسِيغها نفسه الضعيفة الصغيرة، (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) أنت كَنودٌ مُقصِّرٌ مع الله فتِّش نفسَك قبل كلِّ شيء.

ذنب من اتخذ إلهه هواه:

أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
[سورة الجاثية]

جاهِد:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
[سورة العنكبوت]

كان بعض السلف الصالح مِنَ الصباح يضع البحص في كيس، فإذا عمل حسنةً يضع البحصة بجيبه اليمنى، وإذا عمل سيئةً يضع بحصةً بجيبه اليسرى، وفي المساء يعد: فإذا كانت بحصات الحسنات عشرة والسيئات خمس عشرة يقول زادت سيئاتنا اليوم، فيستدرك في المساء لتُذهِبَ الحسناتُ السيئات، كان إيمانهم بالقرآن إيمان العمل وإيمانهم بالإسلام إيمان العِلم و الفهم والتطبيق، وإذا أخذت كمبيالةً لا فهِمتها ولو قرأتها ولم تعرِفها وإذا عرَفتها لم تقبِضها من البنك وأنت جائعٌ وعريانٌ ونائمٌ في العراء.. والكمبيالة تقرؤها أمام النَّاس ويسمعون قراءتك ويرونَك بهذا الشقاء وهذه التعاسة ماذا يقولون عنك؟ إذا أعطيتها لحمارٍ فهو لا يفهم الكمبيالات، وإذا أعطيتها للإنسان وصار مثل الحمار فالحمار لا يُعاتَب لأنه لا يقدِرُ على الفهم، وإذا ذهب للبنك ومعه الكمبيالة، يأخذونها منه وهم يقبضونها.

الحرص على فعل الخير:
الأعرابي كان يأتي للنبي يقول علِّمني وأوجِز، فيقرأ له:

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) يعني يرى الجزاء والأجر على الخير ولو كان مثقال ذرة، يعني احرص على الخير مهما كان ضئيلاً، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فالأعرابي يقول: كفَتني كفَتني، لأنه أتى ليفهم القرآن عِلماً وعملاً وتطبيقاً، أنت لما تقرأ القرآن هل تقرؤه لتعلَمه وتفهمه وتعمل به وتُعلِّمه للناس وتقوم بنشر رسالته في الأعمال والأحوال وبالصدق والإخلاص؟ عند ذلك تكون مؤمناً بالقرآن:

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
[سورة البقرة]

(وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) فتِّش نفسَك هل أنت كَنودٌ أم أنت شكورٌ أو تقيٌّ صالحٌ مُستجيبٌ لكلِّ رسالات الله وكتابه وقرآنه في نفسِك وأهلِك وفي مَنْ حولك ومَنْ رأيت و:

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (286)
[سورة البقرة]

وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
[سورة البقرة]

لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
[سورة الطلاق]


استعمال القوة الممكنة:
فإذا استعملنا القوة المُمكنة فهل يُصبح الإنتاج أكثر مما هو عليه الآن؟ يا تُرى لو دعا أحدكم جيرانه أو رفقاءه في الأسبوع لشُرب الشاي لأجل سورة العاديات، لأن كأس الشاي لا يوجد به عادياتٌ إلا إذا قلنا صوت موقد الشاي هل يكون هذا ضَبْحاً؟ يسمعون لنصف ساعة، ذكِّرْهُم، وليس شرطاً أنَّ كلُّهم يستجيبون ولن يستجيبوا مِنْ أول مرَّة، تحتاج تكراراً، وعلى كلِّ حالٍ المُسجِّل الإلهي سجَّل لك جهادك ودعوتك وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، أنت ماذا يُهمُّك استجابوا أم لا؟ أخذت الأجرة أم لا؟ هل هي مُسجَّلةٌ أم لا؟ ألا تكفيك؟ الإسلام يا تُرى هل يكون بهذا أم بتركِه؟ فهل تُعاهدوني أن تؤمنوا بسورة العاديات إيمان التطبيق؟ ولا نريد خيلاً أصيلة، وإنما على الدراجة يجعلها الله لك في الآخرة مِنْ الخيل الأصيلة ومِنْ أحدث السيارات على الصراط:

{ مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفقِّهْهُ في الدِّينِ }

[أخرجه الطبراني]


الإسراع إلى الهداية:
(إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) وانظُر لنفسِك أيضاً قد تكون أنت الكَنود الكَفور العاصِي لله، جاهِد نفسك أيضاً بهمَّة العاديات ضَبْحاً، أسرِع إلى هداية نفسِك قبل أن يُسارِع إليك الموت، أسرِع إلى مجالس العِلم قبل أن تفقِدَها، (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) لا يستطيع الإنكار.

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
[سورة يونس]

مَنْ يُنزِّلُ الأمطار مِنَ السماء ومَنْ يُخرِجُ الفواكه والخضار مِنَ الأرض؟

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ ۖ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ (95)
[سورة الأنعام]

يُخرِجُها:

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
[سورة البقرة]

مَنْ يفلِقُ النواة؟ بذرة المشمش والتين بحجم رأس الدبوس يضعُ شجرةً كبيرةً في بذرةٍ صغيرة، فعلى المؤمن أن يُفتِّش نفسَه (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ)، يستدرك قُصوره وغفلَته بالذِّكر وجهلَه بالعِلم وكسَلَه بالعاديات.

النجوى بين المسلمين:
تسهر مع رفاقك ساعةً وساعتين وكلُّه إما لغوٌ وإما إثم، أو غيبةٌ أو نميمةٌ أو حسدٌ وأحسن الأشياء إذا كان كلاماً بطالاً لا خيرَ ولا شرَّ فيه، ما هكذا سهرات المسلمين في القرآن، الله قال:

لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
[سورة النساء]

(لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ) النَّجوى لما يجتمع الأصدقاء والأصحاب مع بعضهم البعض ويتكلَّمون، الله يقول لا خيرَ في الكثير مِنْ تلاقي النَّاس بعضهم مع بعضٍ في نجوى وسهرةٍ واجتماع، (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) مَنْ مِنْ الموجودين ترَكَ واجباً مِنَ الواجبات نُذكِّرُه بلُطفٍ وحكمةٍ وشيءٍ يتناسب مع قابليَّته، والنَّاس بخير، لا تقُلْ هذا لا يُقبَلْ، أنت على كلِّ حالٍ ارمِ البِذار والمطر على فضل الله عزَّ وجلَّ، فهل يجوز للفلاح أن يمتنع عن رمي البذار لأنه قد لا ينزِلُ المطر؟ هل يفعلها الفلاح؟ لا، نرمي والباقي على فضل الله عزَّ وجلَّ، وحاشا لفضل الله كما قال تعالى:

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)
[سورة نوح]

(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) توبوا إلى الله توبةً نصوحاً (إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) توبوا التوبة الصادقة، (يُرْسِلِ السَّمَاءَ) يجعل السماء بيدِكم (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)، فقط؟ (وَيُمْدِدْكُمْ) بالفقر والجوع والمَسكنة هل هكذا الآية؟ (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ).

علامة التقوى الغِنى:
الله جعل علامة التقوى الغِنى، صحيح؟ والنبي يُوضِّح أكثر مِنْ هكذا فيقول:

{ كاد الفقر أن يكون كفراً (4) }

[شعب الإيمان للبيهقي]

هل معناه افتقِروا أم استغنوا؟ والغِنى يصير بالكسل أم بالعمل؟ بالأخلاق أم بلا أخلاق؟ بالفِكر أم بلا فِكر؟ بماذا امتنَّ الله على النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالفقر أم الغِنى؟ قال له:

وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8)
[سورة الضحى]

المسلمون لما استجابوا لله وللرسول ماذا قال لهم النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال:

{ ألَمْ أجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بي؟ وكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فألَّفَكُمُ اللَّهُ بي؟ وعَالَةً فأغْنَاكُمُ اللَّهُ بي؟ (5) }

[صحيح البخاري]

هذا الإسلام دين الغِنى، صار المشايخ رحمهم الله وغَفَرَ لنا ولهم في الماضي يدعون للفقر ويُعلِّمونه ويتباهون به، الله يدعو إلى القوَّة والعزَّة وهم يتباهون بالعجز والضَّعف، إذا كَتَبَ الشَّيخ رسالةً ماذا يكتب في التعريف؟ الفقير، والثاني يكتب الحقير والثالث العاجِز والرابع قد يكتب المفلوج مُقطَّع الأيدي والأرجل، والله قال:

﴿ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
[سورة المنافقون]

والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:

{ الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ (6) }

[صحيح مسلم]

حرَّفنا القرآن والإسلام عن مواضعه، فوصلنا إلى ما نحن فيه، شُذاذ آفاقٍ تلَملَموا مِنْ مزابِل العالَم ويتحكَّمون في العالم العربي والإسلامي، لمَ؟
أإسلامٌ وتغلبهم يهـــــــودُ أآسادٌ وتقهرهم ضبــــــــــاعُ محمدٌ .. ألهذا جئت تسعـــى وهل أتباعك هَمَلٌ مَشَــــــــاعُ أيشغلهم عن الجُلّى نِـــــزاعٌ وهذا نَزْعُ موتٍ لا نـــــــــزاعُ شَرعتَ لهم سبيل المجد لكن أضاعوا شرعك السامي فضاعوا
{ أحمد الصافي النجفي }
(شَرعتَ لهم سبيل المجد) عبَّدتَ لهم الطريق مثل الزجاج لا يوجد فيه بحصةٌ ولا حفرة، شَرعتَ لهم طريق المجد والعزِّ والقوَّة والعَظَمة، (أضاعوا شرعك السامي فضاعوا) أنتم ستقومون لأن معركتنا مع الاستعمار والصليبية والصهيونية معركةٌ دونَها بكثيرٍ الصليبية التي خاضَها صلاح الدين، ولا نستطيع الانتصار لا يصلُحَ آخر هذه الأمَّة إلا بما صَلُحَ عليه أولها، بأيِّ شيءٍ صلَحوا؟ بعلوم القرآن والعمل به والتعليم له، لا بألفاظه بل بأحكامه وواجباته وبالعِلم والنُّطق والتفهيم والعمل والسلوك:

{ يَهْديَ اللَّهُ بِكَ رجلًا واحدًا، خيرٌ لَكَ مِن أن تَكونَ لَكَ حُمرُ النَّعمِ (7) }

[سنن الترمذي]


محاسبة النفس:
(وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) فتَّش نفسَك هل أنت كنودٌ أم لا؟ نظِّف نفسَك، يعني إذا لم تَنظُف بأول استحمامٍ ففي الثاني والثالث، إذا لم يتعافى المريض مِنْ أول وصفةٍ يُكرِّر له الطبيب وإذا لم يتعافى أيضاً يُكرِّرها له، وإذا استمرَّ كذلك يقول: له طوال عمرك سيكون لديك أمراض، ستستعمل الدواء طوال الحياة:

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
[سورة الإسراء]

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) للمرضى والأصحَّاء (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) وإذا أراد أحدٌ أن يقرأه للقراءة فقط لا يزداد بقراءته إلا خسارةً وبُعْداً عن الله:

{ ربَّ تالٍ يتلُو القرآنَ وَالقرآنُ يَلعَنُه (8) }

[إحياء علوم الدين للغزالي]

يقرأ القرآن:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
[سورة هود]

وهو ظالِم.

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
[سورة آل عمران]

وهو كاذِب.

حب المال والمادة:
(وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) ما هو الذي سلَبَ عقله وإيمانه وإسلامَه وقرآنه؟ حبُّ المال والمادة، هذا يقول: لا إله إلا المال والمرابح، تجاراتٌ بالبَرِّ والبحر في الليل والنهار، عشرون ساعةً نشتغل للدنيا، أين شُغلنا للإسلام؟ الإسلام في زمن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان مكتوباً على الأحجار، هذا الذي كَتَبَ خمس آياتٍ وعشر آياتٍ وهذا على ورق النخل، القرآن بهذا الشكل، لكن ببركة المُعلِّم وتعليمه وتربيته.. ما خَلَقَ الله أمَّةً مِنْ آدم وإلى أن تقوم الساعة بمثل فضائلهم وشرَفِهم وعزَّتهم وكرامتهم، وقد وصَفَهُم الله بقوله:

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
[سورة آل عمران]

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) يعني أفضل أمَّة (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) بمَ؟ قال: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) إذا رأيت تاركاً لواجبٍ ستُعلِّمُهُ وتُذكِّرُهُ بالحكمة والموعظة الحسنة، الطبيب عندما يأتيه المريض وقدمه مكسورة فهل يُوبِّخُه؟

ارتباط الصحابة بالنبي الكريم:
والصحابة هل دخلوا الأزهر؟ هل أخذوا ليسانس ودكتوراه وماجيستير؟ كان حُبُّهم للنبي الذي هو رابطة الحُب، يترك مالَه وأهلَه ووطنَه وتجارتَه وأعمالَه مُهاجراً مِنْ مكَّة إلى المدينة، هل توجد هذه الرابطة الآن بين المسلم وبين نائب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟

{ العلماء ورثة الأنبياء (9) }

[سنن ابن ماجه]

فإذا لم تكُن لك رابطة الحُب والامتثال بالتعليم القرآني، وإلا فأنتم تسمعون بالإذاعات أحسَنَ قراءةٍ للقرآن، ولكن لا نريد قرآن القراءة والصوت الجميل بل قرآن الفهم والعِلم ثم التعليم، يجب أن تُعلِّم وبذلك تكون الأجود:

{ وأجودهم بعدي رجل تعلم علماً فعلمه يحشر يوم القيامة أمة وحده (10) }

[مسند أبي يعلى]

النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: الإسلام عنده طاقةٌ تجعل الإنسان الفرد لا بعشرةٍ وعشرين ومئة، بل يجعله بقيمة ووزن أمَّةٍ في العطاء والقوَّة والعَظَمَة، وتوجد أمَّةٌ لا تساوي شيئاً.

الأمة بالاستعداد وليست بالعدد:
دخل رجلان مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى مَشهدٍ منه، واحدٌ سمينٌ وبدينٌ وكبيرٌ مِنْ كبار الأغنياء والآخر مِنَ الدراويش، فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه: هل تنظرون إلى الأول؟ نعم، والثاني؟ نعم، فقال: لَهَذا الفقير خيرٌ مِنْ مِلء الأرض مِنْ مثل ذلك الغني، لم يقُل مِنْ ضيعةٍ أو مدينةٍ بل مِنْ سكان أهل الأرض، لأن مئة مليون صفرٍ على اليسار ماذا يفيدون؟ وإذا جاء واحدٌ صار على يمينهم ماذا يصيرون؟ بَعَثَ الله للمسلمين ذلك الواحد، مليار ونصف الذباب كم عدده؟ كم مليار؟ الأمَّة بالعدد أم بالاستعداد؟

حب الدنيا والمال وتقديمهم على الدين :
(وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ).

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
[سورة الإسراء]

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)الله يقول لنا: أننا يجب أن يكون حُبنا للمال شديداً أم لله ورسوله ووارِثه؟ (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) تذكُر لما:

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
[سورة الانشقاق]

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
[سورة الانفطار]

(بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) وخرجْتَ مِنْ قبرِك إلى مواقف القيامة والمحكمة إما الحقوقية أو الجنائية أو الجزائية أو العسكرية أو الربانية:

يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ۚ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
[سورة طه]

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
[سورة آل عمران]

الذي وجهه أسودٌ مِنْ قبرِه وأزرقٌ هل يحتاج مُحاكمة؟ هذا فوراً على جهنم.
يُقال: رجلان مسافران واحدٌ مسلمٌ والآخر يهودي، فكلُّ واحدٍ يقول ديني أحسَن مِنْ دينك ودينك لا ينفع، فقال واحدٌ للآخر: أخي كلُّ واحدٍ هكذا يدَّعي، لنضع عهداً بيننا الذي يموت قبل الثاني يأتي للثاني ويقول له ماذا حصل معه، لأن الحقيقة تظهر بعد الموت، ففي الطريق رأوا تينةً فصعد اليهودي ليقطُفَ منها فيجلس على عرقٍ مسوِّسٍ فيقع به على أمِّ رأسه فيموت، فيدفِنُه المسلم ويقول إن شاء الله هذا يأتيني للمنام لأشفي غليلي، في تلك الليلة رأى اليهوديَّ في المنام، فقال له: أنت الآن ذهبت لدار الحق، قُل هل توجد جهنم وجنةٌ أم لا؟ أيضاً في الآخرة هل تكذِب؟ قال أبداً لا أكذب، فقال: له كيف؟ فقال: والله مِنْ رأس التينة إلى الأرض إلى جهنم فوراً، قال: هل رأيت الصراط والحساب وأنكَر ونَكير؟ قال: لم أرَ شيئاً، مِنَ التينة إلى جهنم.

المسلم بالعلم والعمل وليس باللقب:
يجب أن نصبح مسلمين بالعِلم والعمل؟ طبيبٌ بالادعاء لأن جدَّك كان طبيباً واسمك حكيمٌ لأن جدك كان حكيماً، اللقب لا يجعلك حكيماً، (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) الله يُرغِّبُنا بحب المال أم يُزهِّدُنا به؟ وما معنى الزُّهد؟ الترك، يعني أن لا يكون المال معبودنا بل نستعمله حسب مخطط الله:

وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا (67)
[سورة الفرقان]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
[سورة الملك]

نأخذ المال ونُحبُّه لكن ليس أكثر مِنَ الله ورسوله واتباع أوامره، (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) فإذا مات وقامت القيامة فهل ينفعه المال، إذا وصلت الروح في حلقك وصدرك وضاق بها الصدر هل ينفعك المال؟ فإذا وصلت لهذا الحال ووصلت إلى طرف الآخرة وهيا امشِ ودفعوك دفعاً ماذا ينفعك؟ (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) أيضاً كُشِفَ عن خبايا نفسِك ماذا كنت تُضمِرُ مِنْ حقدٍ وغشٍّ ومكرٍ وأذى وكُفرٍ ونفاق، غداً كله سيُكشَفُ في مواقف القيامة أمام ربِّ العالمين، هذا المَخفي، والمُعلن ومعك سائقٌ يقودك للمحكمة وشهيدٌ يشهدُ عليك، فوق ذلك تشهد عليهم ألسنتهم، هذا التصوير السينمائي، الممثل غداً إذا أحضروا له أفلامه عند الله يقول له: ماذا هذا؟ الرقاص الذي يرقص والرقاصة، تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم فقط؟

أحوال يوم القيامة:
(وَحُصِّلَ) يكون في قلبك شيءٌ لا تُخرِجُهُ كلَّه سيُكشَفُ وتُحاسَب عليه، (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) خبيرٌ بظاهِر أعمالك وخفايا نفسك وستُحاسب على الكل، فهل آمنت بسورة العاديات؟ هل نقَّيت قلبك مِنْ دخائله التي لو كشَفتها لخجِلت مِنْ كشفها، اللهم اجعل سرائرنا خيراً مِنْ علانيتنا واجعل علانيتنا صالحة:

إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
[سورة آل عمران]

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) الخير الذي يُحبُّه الله هذا شيءٌ حسن، أما إذا أحببت المال حباً يُوقِعُك في معصية الله بخلاً واستعمالاً فهذا شقاءٌ وعدَمه خيرٌ مِنْ وجوده.

الجليس الصالح:
(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) العاديات الله يحلِفُ بها بأن الإنسان لربِّه لكَنود، فمعنى الآيات أن تبقى كنوداً أم أن تُصبح شكوراً؟ تبقى على ضلالك أم تسلُك طريق الهدى؟ تسلُك طريق الجهل أم العِلم؟ تبقى مع رِفاق وقُرناء السوء أم يكون جُلساؤك ورفاقك مِنَ الصالحين؟

{ مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً }

[صحيح البخاري]

الجليس الصالح كحامِل المسك: إما أن يُعطيك وإما أن يبيعَك وإما أن تشُمَّ منه رائحةً طيبة، وجليس السوء كنافِخِ الكِير- كور الحداد - إما أن يُحرِقَك بناره أو يُؤذِيك بشراره أو تشُمَّ منه رائحةً خبيثة(11).
فإذا حلَفَ الله بالأحصنة والفرس، فهي قُدِّسَت لذاتها أم مِنْ أجل راكِبها؟ وهل كلُّ راكبي العاديات يحلِفُ الله بعادياته وخيلِه وفرَسِه؟ العاديات التي تركُض في سبيل الله، فأجسامنا كذلك عادياتٌ تركَبها نفوسُنا وأرواحنا، إن شاء الله أن نستعمل أجسامنا وأوقاتنا وشبابنا ومالَنا وجاهَنا في إصلاح الإنسان الكَنود.

حب الله ورسوله:
(وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) وإذا تكلَّمت معه لا يُنكِرُ ويقول: صحيحٌ أنا مُخطئ، (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ).

وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
[سورة الفجر]

أحبَّ المال لكن يكون الله ورسوله وجهادٌ في سبيله أحبَّ إليك مما سواه، الله لم يقُل لا تُحب المال، ولكن يكون الله والنبي وطاعة الله وما يُحبه الله يكون أحبَّ إليك مِنْ كلِّ مَحبوب، وإذا لم تعمَل فأمامك غداً بعد الموت ستعود لك الحياة وستُحاسَب عن كلِّ أعمالك حتى عن خفايا نفسِك وما يُكنُّهُ صدرك، إذاً هذه السورة وحدها إذا آمنَّا بها الإيمان مثلما تُؤمن بالسُّم، لما تُؤمن بالسُّم في كأسٍ هل تشربها؟ ولما تُؤمن بالعسل والشاي الأخضر ألا تشربه؟ إذا آمنت بالعاديات تُطبِّقُها طبعاً، وإذا لم تُطبِّقها، وأنت فقيرٌ ويُقال لك: هذه صُرَّةٌ فيها ألف ليرةٍ من ذهب، ولم تأخذها، هل أنت مُؤمنٌ بهذا القول؟ وإذا آمنت ولم تأخذ فهل استفدت مِنْ هذا الإيمان؟ فهل لديكم استعدادٌ للإيمان الذي أراده الله أن نؤمن بهذه السورة؟ فإذا آمنَّا ماذا سيكون الوضع؟ سنعدُو عَدْواً ونركُض ركضاً، سواءً على الخيل رُكباناً أو مُشاة، إذا لم تجد فلتكُن أقدامك هي العاديات، وإذا صار لك تعبٌ أونَصَبٌ أوكذا:

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
[سورة آل عمران]


تعلم القرآن وتعلمه:
القرآن هكذا يُقرَأ ويُعلَّم:

{ خَيرُكم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ (12) }

[صحيح البخاري]

انتهت معكم الآن سورة العاديات، جعلنا الله مِنَ الذين يستمعون القول فيتِّبعون أحسنه، فهل تستطيعون أن تُعلِّموها هذه الليلة لأقاربكم وأهل بيتكم؟ وغداً أيضاً لأصحابكم ومَنْ تلقَونه، ولا يجب أن نشرحها مِنْ أوَّلها لآخرها، بل بحسب القابلية والإمكان والمناسبات، وصلى الله على سيِّدنا مُحمَّد وعلى آل سيِّدنا مُحمَّد وأصحابه وأحبابه، والحمد لله رب العالمين.

الدعاء للرئيس بالنصر في معركته مع الصليبية والصهيونية:
ادعوا لرئيسنا أن ينصُرَه الله عزَّ وجلَّ بفضله وإحسانه نصراً مؤيَّداً، ويُمِدَّه بجندٍ مِنْ الأرض والسماء، بقيت سوريا وحدها في المعركة ولكن مَنْ يكُنِ الله معه لا يبقى وحده، وكلُّ الدول العربية التي لا تسيرُ برغبات وتحقيق أهداف اليهودية والصهيونية بدءاً مِنْ ليبيا تثنيةً بالسودان وتثليثاً بإيران وتربيعاً بوضع سوريا، وهكذا نحن في حربٍ صليبيةٍ يهودية، يجب أن نستعمل الدعاء لمَن ولَّاه الله أمر قيادة هذه الأمة أن يُدِيم عليه صحَّته ويُطيل في عمره ويُؤيِّدَه بقوةٍ مِنَ الأرض والسماء، وكذلك لكلِّ المجاهدين والمناضلين في هذه المعركة الظالمة الجائِرة، هيئة الأمم ومجلس الأمم مِنْ ورائه الصهيونية المُستترة، الآن حاربوا العراق، مَنْ حاربها هيئة الأمم أم الصليبية؟ الصليبية، الذي يُحارِب ليبيا هيئة الأمم؟ اليهودية والصهيونية، لا يُريدون دولةً عربيةً أن يصبح لديها قوة، تحتاج عودةً للقرآن وعودة الدِّقة، كثيرٌ مِنَ النَّاس يقولون إما النصر وإما الشهادة، ننزِلُ المعركة، النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمكة ثلاث عشرة سنةً هل طبَّقَ على هذه المقولة؟ يعني هل قاتلوا على أساس إما النصر وإما الشهادة؟ لماذا لم يقاتلوا؟ لأن القتال لا يُعطي ثمرة النصر، القتال متى يجب؟ إذا كان هناك أملٌ مُؤكَّدٌ بالنصر، أما إذا لم يوجد الأمل فلا يجوز، فالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم كم مرَّةً نتفوا شعر رأسه ولحيته وبصقوا في وجهه ووطِئوا بنعالهم على عُنقه وهو ساجِد، يضعون التراب على رأسه ويدخلون بيته، بماذا يُقابلهم؟ يقول: أهكذا يفعل الجار بجاره؟ لو قال إما النصر وإما الشهادة لقتلوه منذ زمن، والقرآن قال:

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
[سورة آل عمران]

فالقصة ليست أن نُحارب أم لا، نزرَع إذا كانت الأرض تُحصَد، أما إذا ألقيتَ في أرض سبخةً لا تُنبِتُ فهل يجوز؟ أو على صخرٍ لا يوجد أملٌ فهل يجوز؟ وإذا صارت الأرض والتربة الجيدة والماء الجيد هذه الحكمة أن نضع الأشياء في مواضِعها مع مراعاة زمانها ومكانها وإمكانها، والحمد لله رب العالمين.
فاعلم أنه لا إله إلا الله..

الحواشي:
(1) ورد في الأثر.
(2) مسند أحمد (23489)، (38/ 474)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (4774)، (17/ 132).
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (1/ 232) من طريق محمد بن سعيد الأثرم عن همام عن ثابت عنه مرفوعاً.
(4) شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (6188)، (9/12)، حلية الأولياء لأبي نعيم، (3/53)، الدعاء للطبراني، رقم: (1048)، (1/319).
(5) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، رقم: (4330)، وصحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام..، رقم: (1061).
(6) صحيح مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوّة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، رقم: (2664).
(7) سنن الترمذي، أبواب العلم: باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، رقم: (2656)
(8) إحياء علوم الدين للغزالي بلا سند عن أنس رضي الله عنه. (1/274).
(9) سنن ابن ماجه، أبواب السنة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (223). وأبو داود، أول كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، رقم: (3641). والترمذي، أبواب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: (2682).
(10) مسند أبي يعلى، رقم: (2790)، (5/176).
(11) صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، رقم: (5534)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين..، رقم: (2628).
(12) صحيح البخاري, كتاب العلم, باب خيركم من تعلم القرآن, رقم: (5027).