تفسير سورة عبس 04

  • 1993-05-05

تفسير سورة عبس 04

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيدنا محمدٍ خاتم النبيين والمرسلين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيدنا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين وبعد:


الإسلام حفظ حقّ الضعيف والفقير:
فنحن في أواخر سورة ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾، يقول الله تعالى بعد أن ذكر قصة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى، وإعراضه عنه، انشغالاً بزعماء ورؤساء قريش والعرب، طمعاً في هدايتهم وإسلامهم، ولم يلتفت إلى ابن أم مكتوم الأعمى، وأنزل الله عليه في الحال سورة ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾عَتباً من الله على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وتعليماً للأمة جميعاً ألَّا نحتقر الفقير لفقره، والأعمى لفقد بصره، ونُفضِّل الأغنياء على الفقراء، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يهدف من كل ما فعل إلا أن هؤلاء عظماء القوم إذا أسلموا تُسلِم قريشٌ وأهل مكة كلها بإسلامهم، مع هذا عاتبه الله عز وجل، وسجّله عتاباً خالداً مُخلَّداً يُتلى في الدنيا والآخرة، ويُتلى في الجنة.
هذا درس يا بني، إذا قرأناه

{ خيرُكم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمَه }

[صحيح الترمذي]

يجب علينا أن نستفيد من سورة عبس لرعاية حقّ الضعفاء، ليس الأعمى فقط، الأعمى، واليتيم، والفقير، والمسكين، والغريب، وابن السبيل، وكل ضعيف مُستضعف، نُعطيه حقَّه، ونحفظ له كرامته، فهذا حقُّ الإنسان في القرآن وفي الإسلام.

حقوق الإنسان في العصر الحالي:
وجعل حقّ الإنسان أي إنسان بقطع النظر عن لونه، وعن دينه، جعل الأساس قول الله تعالى:

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
[سورة الإسراء]

لم يقل: المسلمين، لم يقل: المؤمنين، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، الإنسان وفي القرن العشرين، ومع كل ما يتبجح به من هيئة الأمم، وعِصبة الأمم، ومجلس الأمم، ورعاية والدفاع عن حقوق الإنسان، يا ترى هل كانت هذه الكتابات وهذه القوانين للتطبيق بلا تمييز، أو لمصلحة الأقوياء ليتدخلوا في شؤون الضُعفاء؟ لذلك إسرائيل مهما امتهنت ومهما طغت وبغت على الإنسان الفلسطيني، ولأنّ القوي لا مصلحة له مع الفلسطيني فتراها تدوس وتطأ بنعلها حقوق الإنسان، وقوانين حقوق الإنسان، وقرارات مجلس الأمن، وما هو إلا دجلٌ في دجلٍ في دجل.
فلمّا يكون لها مصلحةً استعمارية تستغل حقوق الإنسان، ولمّا لا يكون لها مصلحة تفتش على الطير من النوع الفلاني، لماذا؟ قال:لأنها تخاف عليه من الانقراض، وترسل البعثات الطبّية، والمختصين بالطيور، وتأتي بالطائرات لإنقاذ حوت في ألاسكا، لأنهم إلى الحيوان أقرب منهم إلى الإنسان، أما الإسلام فسجل حقوق الإنسان في دستوره القرآني، وطبَّقه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته وطريقته في الحكم مع كل الناس، لا فرق بين الأبيض والأسود.

قمة العدالة تتجلى في حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
لمّا جرى سباق للخيل في مصر، وكان في السباق ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقبطي من النصارى، فالقبطي سبق في سباق الخيل ابن عمرو بن العاص، وعمرو رضي الله عنه فاتح مصر، وحاكمها المُطلق بلغة الوقت، والابن دائماً يتباهى بأبيه، وهذا يكون من سخافة الابن الذي يريد أن يأخذ المجد فقط بنسبه إلى أبيه، الولد النبيل هو الذي يأخذ الشرف بأعماله، بأخلاقه، بسلوكه، بعقله، باستقامته، فابن عمرو أخذته العزة باسم أبيه، وضرب بالسوط على رأس القبطي النصراني، وقال له مُستعلياً: أنا ابن الأكرمين، ويذهب القبطي إلى عمر رضي الله عنه في المدينة يشكو ابن فاتح مصر، ابن حاكم مصر المُطلق، الحاكم المُطلق، ويستدعي عمر رضي الله عنه ابنَ عمرو ووالدَه، وتجري المحاكمة، وهذه المحاكمة لا تطول سنة أو سنتين أو عشر سنين مثل محاكمات هذا الزمان، بل بجلسة واحدة الحق يظهر واضحاً، وتتبين ظُلامة القبطي النصراني من قِبَل ظالمه ابن عمرو بن العاص، فيُعطي سيدنا عمر السوط إلى القبطي، ويقول له: اضرب ابن الأكرمين على رأسه كما ضربك على رأسك، والقبطي أيضاً لم يكن خائفاً من أنه إذا رجع إلى مصر فإن عمرو بن العاص سيفعل له ويفعل، كان يعرف الشعب الذي تحت حكم الإسلام، كان يعرف عدالة الإسلام، والمساواة في الحقوق والكرامة بين الناس جميعاً، لا فرق في الحقوق بين مسلمٍ وغير مسلم.
قال: فضربه على رأسه لابن عمرو، من الذي يضربه؟ النصراني، وأين؟ في المدينة المنورة، وسيدنا عمر يقول له: اضرب ابن الأكرمين، اضرب، اضرب، يقول: حتى اشتفيت من ضربه، كما اشتفى من ضربي، هذه حقوق الإنسان، هل اكتفى سيدنا عمر رضي الله عنه والإسلام إلى هذا الحد؟ قال له: اضرب بالسوط على رأس أبيه عمرو، من عمرو؟ عمرو هو الذي فتح مصر، وإذا سيدنا عمر قال:اضربه على رأسه، لا يوجد رد للحكم باستئناف أو غيره. قال له: يا أمير المؤمنين ما ذنبي؟ القبطي ضرب ضاربَه، قال له: إن ابنك ضرب القبطي بسلطانك وبمكانتك في الحُكم، لو لم تكن أنت أمير مصر لَمَا تجرَّأ ابنك أن يعتدي على هذا القبطي الذي هو من أبناء الشعب.
يا ترى أمريكا هل تتعامل هكذا؟ أوربا هل تتعامل هكذا؟ اليابان هل تتعامل هكذا؟ الشيوعية هل تتعامل هكذا؟ فلماذا المسلمون لا يرجعون إلى إسلامهم؟ السبب: جهلهم بإسلامهم، ما عرفوا الإسلام، وما وُجِدَ من يُعلمهم الإسلام الذي تُرفع به الرؤوس إلى أعلى السماوات، فأسأل الله أن يهيئ للمسلمين من يُعلّمهم دينهم.

يوم القيامة من أهم موضوعات القرآن الكريم:
سورة عبس تُختتم الآن بقوله تعالى:

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
[سورة عبس]

يومَ: ظرف زمان مفعول فيه، يعني اذكر أيها المسلم، أيها القارئ للقرآن الكريم اذكر هذا اليوم، أي يومٍ هذا؟ هو يوم القيامة، ماذا في هذا اليوم؟ قال: فيه يفر المرء الإنسان من أخيه، لمّا توزن أعماله، وترجح وتزيد سيئاته على حسناته، فالسيئات أكثر، وسيدخل إلى جهنم، يركض إلى أقاربه وأرحامه، يرى أخاه، أرجوك يا أخي، ينقصني عشر حسنات، خمسة عشر حسنة، حسنتان، حسنة واحدة حتى أدخل الجنة.يهرب من وجهه، يقول له: أنا أيضاً ينقصني حسنات، يذهب إلى أبيه أرجوك يا أبي أعطيني حسنتين ينقصني حسنتان حتى أدخل الجنة، يقول له: أنا أحوج إلى حسناتي منك، يذهب إلى زوجته، يقول لها:أما كنت أحسن الأزواج إليك؟ أما كرمتك؟ أما أعطيتك؟ يذهب إلى أخته، إلى ابنته، إلى عمته، كل واحد يفرّ من المستغيث به، ولا يبقى للإنسان إلا عمله، فالله في ختام السورة يقول: تذكر أيها الإنسان، أيها المؤمن، أيتها المؤمنة، تذكروا هذا اليوم، إذا كنت حاكم، إذا كنت ملك، رئيس، مدير معمل، أمير من الأمراء، مَلِك من الملوك، هناك يُحشر الناس حفاةً، الملوك والخدم، الأشراف وعامة الناس، عُراةً بلا ملابس، غُرلاً، يعني جلدة الطهور تعود للإنسان.
سيدتنا عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، النساء والرجال حفاةً عراةً؟! قال لها: النساء والرجال، قالت: وسوأتاه، يعني هل عورتي تظهر؟ النبي صلى الله عليه وسلم تلا عليها قوله تعالى:

لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
[سورة عبس]

{ يُحْشَرُ النَّاسُ يَومَ القِيامَةِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، النِّساءُ والرِّجالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ! قالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: يا عائِشَةُ، الأمْرُ أشَدُّ مِن أنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ }

[صحيح مسلم]

كحال الذي وُضِع على المشنقة ولفوا الحبل حول رقبته، فإذا رأى امرأة عريانة هل يفكر بالنظر إليها؟ هو مشغول بما هو أهم، فما أعظم أهوال ذلك اليوم! فيا ترى قارئ القرآن أو قارئة القرآن لمّا يقرؤوا هذه الآيات هل يفهموا هذا الفهم، أم فقط تكرار الكلمات، وتكرار الحروف، دون أن يعلم معنى الآيات في النفس وفي الفكر، ثم تظهر في الأعمال وفي السلوك؟

المسلم الحقيقي يحاسب نفسه قبل يوم الحساب:
الذين دخلوا في مدرسة القرآن بإشراف المعلّم الأول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قرؤوا القرآن قراءة العِلم، قراءة القلب، قراءة اليقين، قراءة:

{ اُعبُدِ اللهَ كأنك تَراه، وكن فى الدنيا كأنك غَريبٌ أو عابرُ سبيلٍ }

[أخرجه البخاري وأحمد]

النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام الذي هو سيد ولد آدم يقول:

{ أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامةِ ولا فخرَ، وأنا أوَّلُ من تنشَقُّ عنْهُ الأرضُ يومَ القيامةِ ولا فخرَ، وأنا أوَّلُ من يدخلُ الجنَّةَ ولا فخرَ، وأنا أوَّلُ شافعٍ وأوَّلُ مشفَّعٍ بيدي لواءُ الحمدِ يومَ القيامةِ آدمُ، ومن دونَهُ تحتَ لوائي فآتى ربِّي - تبارَكَ وتعالى - فيقالُ لي: من؟ فأقولُ: أحمَدُ فيفتحُ لي فإذا رأيتُ ربِّي - عزَّ وجلَّ - خررتُ لَهُ ساجدًا فأحمدُهُ بمحامدَ لم يحمَدْها أحدٌ قبلي ولا بعدي يلْهمنيها اللَّهُ - تبارَكَ وتعالى }

[أخرجه البزار ضعيف]

صعد مرّةً على منبره وقال:" أيها الناس، إنما أنا بشرٌ مثلكم، من أخذت من ماله فهذا مالي، فليأخذ حقَّه، ومن ضربته على بدنه فهذا بدني، فليضربني كما ضربته، من سببته، انتقصته فليأخذ حقه مني يسبني، لا يقل بأن محمداً يغضب، فإن محمداً لا يغضب من الحق، إني أرجو أن ألقى ربي وليس لأحدٍ عندي مظلمةٌ في دمٍ"، يكون سفك دمه من غير حق، أو آخذ ماله بغير حق، أو سببته وشتمه أو اغتبته ولم أستسمح منه، "أرجو أن ألقى ربي وليس لأحدٍ عندي مظلمةٍ في عرض"، العرض يعني موضع السِباب والشتائم والتنقيص، هذا اسمه عرض، في عرضٍ أو دمٍ أو مال، فإن استجبتَ لهذه المعاني فأنت مسلم، لأنّ الإسلام هو الاستجابة لأوامر الله، وإذا لم تستجب لأوامر الله ولكن قلت: أنا مسلم، ولو قرأت القرآن، ولو صليت، لأنّ الصلاة هي التي

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
[سورة العنكبوت]

ليست الصلاة التي قال الله تعالى عن أصحابها:

فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4)
[سورة الماعون]

يوجد مُصلّين الويل والهلاك لهم، ويوجد مُصلّين الذين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر.

يوم القيامة لا ينفعك إلا عملك:
(يَوْمَ يَفِرُّ) ماذا يعني يوم؟ يعني تذكر يا إنسان ذلك اليوم الذي تهرب فيه من أبيك، أبوك يقول لك: يا بني أما ربيتك؟ أما دللتك؟ أما زوجتك؟ أما حججتك؟ أما جمعت لك ثروة؟ أما كذا، أما كذا، ماذا كنت أنا لك؟ والله يا أبي أنت كنت أحسن الآباء، فهل تعطيني حسنة واحدة؟ لأن ينقصني حسنة حتى أدخل الجنة، يقول له: والله يا أبي لا أستطيع، فيهرب من وجه أبيه، من يقول هذا الكلام؟ هو الله في قرآنه.
(يَوْمَ يَفِرُّ) الأخ مع أخيه، يا أخي أما ساعدتك؟ أما أعنتك؟ أما كذا، أما كذا؟ زوجته، أمه صديقه، نفسي نفسي.
يَوْمَ يعني تذكر، يا ترى هل يتذكر كل واحد منا ذلك اليوم؟ تخيل نفسك يوم القيامة، ووزِنت أعمالك، ونقصت حسناتك بعض الحسنات حتى تدخل الجنة، وتذكر أنه ذهبت إلى أمك وأبيك وزوجتك وأختك وابنتك، وكلهم تبرَّؤوا منك، ماذا تتمنى في ذلك الوقت؟ تتمنى أن ترجع إلى الدنيا لتعمل الحسنات ليكون معك زيادة ولا ينقصك.

الهدف من قراءة القرآن الكريم:
يا ترى هل نقرأ القرآن هكذا؟ أم نقصد من القرآن القارئ الذي صوته جميل أو غير جميل، هل قلقل، أم أدغم، أم أخفى، أم أظهر؟ أحكام إجادة النطق بحروف القرآن، أم نفكر في تجويد فهم معاني القرآن؟ وتحويلها من سماعٍ وتلاوةٍ إلى أعمالٍ وأخلاقٍ وسلوك؟ بذلك تكون أنت مسلماً، وبذلك تكونين مسلمة، وإلا إذا قرأنا القرآن بلا فهم، ولا للعمل، فكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ تالٍ يتلو القرآن والقرآن يلعنه"، إذا كان كاذب يقول: ألا لعنة الله على الكاذبين.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
[سورة هود]

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ (23)
[سورة محمد]

بمعاصيهم وآثامهم، فيكون يلعن نفسه بقرآنه، فكيف همّتكم أنتم؟ يا ترى هل تنوون أن تتفهموا هذه الآية، وأن تكثروا الحسنات ليزيد معكم ولا ينقصكم؟ وتفكروا في أعمالكم الماضية إذا كنتم قد أكثرتم من السيئات في الماضي هل ستزيدونها أم ستتوقفوا عند هذا الحد، وتشتغلوا بمحو الماضي، وتجديد المستقبل بالأعمال الصالحة؟ بغير هذا يا بني القرآن لن يفيدنا، والدرس أيضاً لن يفيدنا، نأتي لنتسلّى بكلام الشيخ ونخرج من المسجد كما نحن، لم يتغير فينا شيءٌ، ولم يتحسن، فأسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(يَوْمَ يَفِرُّ) إما أن تهرب منه، أو هو يهرب منك.

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35)
[سورة عبس]

هل يوجد أكثر حناناً من الأم؟ أمك تهرب منك (وَأَبِيهِ) ،هل يوجد أكثر حناناً من الأب؟ يُهلك نفسه في المهالك ليصنع منك إنساناً، ليؤمِّنَك، ويُؤمِّن مستقبلك، يعلّمك، ويزوِّجك، ويشتري لك، إلى آخره، أيضاً أمه وأبوه يقول لهما: نفسي نفسي

وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
[سورة عبس]

صاحبته يعني زوجته، وبنيه الأولاد

لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
[سورة عبس]


يوم القيامة هو يوم المحكمة الإلهية:
لماذا اسمها القيامة؟ لأنَّ الناس يقومون فيها إلى محكمة ربِّ العالمين.

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
[سورة المطففين]

وسُمّيت القيامة بيوم الدين، الدين هو الجزاء، وهو الحساب، كما تَدين تُدان.

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
[سورة الفاتحة]

في كل فاتحة يوجد مالك يعني الحاكم والقاضي، يوم الدين يعني يوم الحساب، من؟ الله، وهذا الحاكم هل يحتاج إلى شهود؟

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
[سورة الحديد]

يا ترى إذا تكلمت بصوت منخفض سرّاً هل يسمعك وأنت تُسِر؟ يعلم السرَّ، ليس فقط إذا أسررت، يعرف أسرار قلبك، ولو لم تنطق بها

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
[سورة النحل]

إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
[سورة الأنفال]

وبذلك يصبح المسلم الحقيقي والمسلمة مُراقِبَين لقلوبهم، لا ينوي نية سوء مع أحدٍ من مخلوقات الله، يصبح مُحسن مع كل عباد الله، رفيق لكل مخلوقات الله، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، ولَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِن خَشَاشِ الأرْضِ }

[صحيح البخاري]

يعني قطة، هل تستطيع القطة أن توكِّل محاميّاً هنا في دنيانا إذا تعدى عليها أحد وظلمها وضربها، وجوعها؟ وهل المحكمة تسمع كلام القطط؟! هل يكون ذلك في الدنيا؟ أما الله تعالى فيسمع كلام القطط وظلامتهم، ويقيم لهم مُحاكمة من ظالمهم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، ولَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِن خَشَاشِ الأرْضِ) لتصيد بنفسها، فتركتها حتى ماتت، فالله عز وجل أقام لها محاكمة؟ فهذه قطة، فكيف إذا كنت ظالم لزوجتك، أو ظالمة زوجك، أو ظالم لأخيك، أو جارك، أو أجيرك، أو موظف عندك، أو أي قوي يظلم أي ضعيف، يا ترى في محكمة رب العالمين هل تحتاج إلى شهود؟ الحاكم هو الشاهد، فوق ذلك يوجد شهود من الملائكة

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق]

كلامك يوجد مَلك يترقب كل كلمة حتى يكتبها، وعتيد يعني حاضرٌ لا يغيب ولا يفارقك

وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
[سورة ق]

مَلَك يسوقك إلى المحكمة، ومَلَك يشهد عليك في محكمة الله، فقط هؤلاء الشهود؟ ماذا فوق ذلك؟

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
[سورة يس]

يدك التي سرقت ستنطق يوم القيامة، لن تستطيع أن تلف وتدور على الله، قد تكذب على الناس، وتحلف يميناً، وتتظاهر بأنك مستقيم، لكن في محكمة الله كيف ستلف وتدور على الله؟ سترى الفلم الإلهي الذي أُخذ لك، وسيُعرَض على شاشة التلفزيون في محكمة الله، ماذا ستقول لله؟
(وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) إلى أين السائق؟ إلى محكمة الله، وشهيد يشهد عليك أو يشهد لك، ومع هذا (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ)، هذا العتيد الحاضر مثل المخابرات لا تراه، لكن هو يراك، (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) رقيب يراقبك، وعتيد لا يفارقك إلا في حالة الجماع أو في حالة الاستنجاء، عندما تقضي الحاجة الملك يبتعد حتى لا يرى العورات.

الإيمان الحقيقي بيوم القيامة:
يا ترى هذه الآيات عن يوم القيامة والنبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ {إِذَا زُلْزِلَتْ} تعدلُ نصفَ القرآنِ و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدلُ ثلثَ القرآنِ و{قُلْ يَا أيُّهَا الْكَافِرُونَ} تعدِلُ ربعَ القُرآنِ }

[أخرجه الترمذي والبيهقي]

لأن نصف القرآن يدور حول المحكمة الإلهية، وحول الحفظة

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)
[سورة الإنفطار]

مكرَّمين عند الله، كلامهم مقبول لا يُرفض﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) يسجل أعمالك، نظراتك، سمعك، خطواتك، عمل يدك، يا ترى هل أنت مؤمن بكلام الله؟ هل أنتم مؤمنون بالقرآن؟ يعني هل أنتم مؤمنون أن العقرب لدغتها قد تقتل، وإذا ما قتلت قد تؤذي أذىً كبيراً؟ بحسب هذا الإيمان يا ترى هل تضع العقرب بيدك، وتمسكه، وتشدُّ يدك عليه؟ لماذا؟ لأنك مؤمن بحقيقة العقرب، هل تمسك الأفعى من ذنبها وتتخذها كمسبحة؟ لماذا؟ لأنك مؤمن بأن لدغتها قد تكون قاتلة، هل أنت مؤمن بالقرآن مثل إيمانك بالأفعى والعقرب والدبور والذبابة؟ عندما تريد أن تنام تطرد الذباب، وترش عليه المبيد حتى لا تزعجك، يا ترى هل تهديد الله لك بيوم القيامة تضعه في حسبانك أم لا؟ الذبابة تضعها في الحسبان، والدبور تضعه في الحسبان، والناموسة تضعها في الحسبان، والمكروب تضعه في الحسبان، والله تعالى، وكلام الله، وعذاب الله، وملائكة الله ألا تضع كل ذلك بالحسبان؟ يا ترى هل أنت مؤمن بها و هذه هي أوصافك؟

قصة الأعرابي مع سيدنا عمر رضي الله عنه:
سيدنا عمر رضي الله عنه أتى إليه مرّةً أعرابي يعني بدوي دخل عليه، فقدّم الأعرابي له استدعاء بطريقة الشعر، ليس بطريقة النثر فقال له:
يا عُمر الخيرِ جُزيتَ الجنة اُكْسُ بُنيّاتي وأُمّهن وكــُن لنا من الزمان جُـنّـهْ أُقسم بالله لَـتَفعَـلَنّ
{ الأعرابي }
يعني بناتي يحتاجن الكسوة وزوجتي تحتاج الكسوة، وأنتَ أمير المؤمنين المسؤول عن الرعية، والبدوي يُقسم عليه، بلا طوابع، ولا استدعاء، ولا تسجيل بالمكتب، وبعد شهر ويحتاج إلى خمسين جلسة إما أن يصل إلى حقّه أو لا يصل، لم يقل له: من أنت أيها البدوي لتحلف يميناً على الإمبراطور، على قاهر الأباطرة؟ بالديمقراطية هل يُذكَر عن بدوي يدخل على كلينتون أو على ملكة إنكلترا أو رئيس جمهورية فرنسا بهذا الشكل البسيط؟ أقسم بالله عليك لتفعل ذلك رغماً عنك، ومن الذي يقول هذا؟ شخص بدوي، بدوي يعني حسب مفاهيم الدنيا يعني رجل إلى آخره.
فقال له عمر: فإن لم أفعل؟ يعني إذا لم أكسُ لك بناتك وأمهن ماذا ستفعل؟
فقال عمر رضي الله عنه: فإن لم أفعل يكون ماذا؟
فقال الأعرابي :إذاً أبا حفص لأذهبنّ
{ الأعرابي }
يعني إذا لم تفعل فأنا سأدير ظهري وأمشي.
قال عمر رضي الله عنه: فإن مضيت يكون ماذا؟
قال: واللهِ عَن حالِي لَتُسأَلَنَ
{ الأعرابي }
أنت الآن إمبراطور، ولكن يوجد أمامك محاكمة دستورية إلهيّة، حاكم الحاكمين سوف يُحاكمك عنده، وهناك لا يوجد أمير المؤمنين، ولا خليفة أبي بكر الصديق.
واللهِ عَنْ حَالي لَتُسَأَلَنَّ يَومَ تَكونُ الأُعطِياتُ مِنَّة
{ الأعرابي }
عندما يكون العطاء سعادة الأبد بيد الله، وشقاء الأبد بيده أيضاً، في ذاك الوقت سيسألك الله عني، فإذا كان وراء صاحب الحق خالق الكون فأيُّ ضمان لحقوق الإنسان في ظلال الإسلام؟ في ظلال ثقافة الإسلام؟ قال: فإن مضيت يكون ماذا؟ يعني ماذا ستفعل؟ قال:
واللهِ عَنْ حَالي لَتُسَأَلَنَّ يَومَ تَكونُ الأُعطِياتُ مِنَّة
{ الأعرابي }
من حضرة الله العطاء سعادة الأبد، أو العكس.
والوَاقِفُ المَسؤُولُ بَينَهنَّ، والمسؤول غداً أنا وأولادي وعائلتي، ونشتكي عليك، كلنا في محكمة الله، والله هو القاضي.
والوَاقِفُ المَسؤُولُ بَينَهنَّ إمَّا إلى نارٍ وإمَّا إلى جَنَّة
{ الأعرابي }
إمّا إلى نارٍ هذا الواقف المسؤول الذي هو من؟ عمر رضي الله عنه الواقف والمسؤول بينهنَّ.
الآن إذا تكلمت هكذا مع شرطي ماذا سيفعل؟ربما سيضربك أو يسبك!
قاهر الاستعمار العالمي الشرقي الفارسي، والغربي الروماني، مع رجل بدوي في عرف الناس لا يساوي خمس ليرات سورية، ولكن عند الله المسألة ليست بالغنى والفقر، قال: فبكى عمر رضي الله عنه حتى أخضلت لحيته بدموعه، فما هذا الإسلام الذي يجعل هذا البدوي الأعرابي ابن الصحراء له هذه الجرأة؟! لأنه يعرف أن الإسلام قد أعطاه حريته الكاملة، فيستطيع أن يتكلم مع الإمبراطور بكل ما له من حقّ، وبكل جرأة، ولا يخاف لوماً ولا عقاباً.
قال: فبكى عمر رضي الله عنه حتى أخضلت لحيته بدموعه، لحيته اغتسلت بدموعه، يا ترى الثقافة الإسلامية هل تصلح لهذا الزمان أم لا تصلح؟ هل يوجد مثلها في كل الدنيا من اليابان، إلى أمريكا؟ هل يوجد مثلها بالمائة عشرة؟ بالمائة خمسة؟ في العدالة، في المساواة، في حقوق الإنسان، في تثقيف المجتمع كله؟
كان الجهاد الذي جاهده المسلمون ليس ليأخذوا أموال الشعوب، بل كان ليعلموهم الكتاب والحكمة ويُزكّوهم، اختياراً لا إجباراً ولا إكراهاً، كان الشعب الذي تفتح بلده، الدولة الإسلامية كم تأخذ منه إذا كان أغنى الأغنياء؟ تأخذ منه أربعة دنانير، ولو ثروته بلغت الملايين كم تدفع للدولة؟ إذا كان من الوسط يدفع دينارين إذا كان من عامة الشعب يدفع ديناراً واحداً؟ وإذا كان فقيراً فيعفى من الدفع.
أما المسلم فإذا كان يملك ألف دينار فكم يدفع ضريبة؟ يدفع خمساً وعشرين الزكاة، وإذا كانت عشرة آلاف فإنه يدفع مئتين وخمسين، إذاً هل الضريبة على المسلم أكثر أو على الذُمي المواطن الذي فتحت بلاده الضريبة أكثر؟ يا بني نحن لا نعرف شيئاً من الإسلام، نحن حتى نقرأ القرآن فإننا لا نفهمه، كأنه بالتركي أو بالألماني أو بالفلمنكي، لأننا لا نقرأُه لنفهمه، لماذا نقرأ الجريدة؟ هل تقول للمغني عبد الوهاب: أقرأ لي لأستمتع بقراءتك؟ المجلة هل تقرأُها بالموسيقى أم تقرأُها كلمة كلمة، وجملة جملة، حتى تفهم فحواها؟ ألا يجب أن نقرأ القرآن هكذا؟ ألا يجب أن نبحث عن من يُعلمنا علوم القرآن؟ يؤدبنا بآداب القرآن؟ ليكون أحدنا المسلم بالمعنى الحقّ والحقيقة، ليس إسلام التمني، أو إسلام الكذب، أو إسلام الشيطان الذي يضحك علينا، هل الإسلام يرضى أن ندَّعي الإسلام ولا نفهم منه شيئاً، ولا نُطبّق منه شيئاً؟!
قال: فبكى عمر رضي الله عنه حتى أخضلت لحيته بدموعه، وقال لغلامه: أعطه قميصي هذا، أي ثوبي، لذلك اليوم، يعني يوم القيامة، لا لِشِعرِه، يعني أنا لست خائفاً من شعره، أو ليمدحني، لذلك اليوم لا لِشِعرِه، والله لا أملك غيره.
يا ترى هل هناك ثقافة وحضارة تجعل من أعظم رجل في الدولةٍ تجعل منه هذا الإنسان؟ يا ترى هل الإنسان العربي أو المسلم يدرس الإسلام بحقيقته وجوهره؟ ليس لأجل أن يقيم الحجة على الناس، لا، حتى العالِم يُعلِّم الجاهلَ، والذاكر يُذكِّر الغافل، والسبَّاق يأخذ بيد المُقصِّر، من غير أن يتعالى عليه.
فيا ترى هذه الآية هل وضعتها بالحسبان؟ (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) إذا ما نفعك أخوك، ودلَّك شخص على شيء يخلِّصك من هذه الأزمة، وهذه الداهية، ماذا تعطيه لذلك اليوم؟ كل ما تملكه من الدنيا، لأن الذي تملكه في الدنيا سيأتي وقت تتركه كله، فمن الآن يجب علينا أن نُصلح أنفسنا قبل أن يأتي ذلك اليوم، فلا نحتاج لأخينا، ولا لأبينا، ولا لزوجتنا، ولا لصديقنا، إلا إذا أراد شيء نحن لدينا حسنات زائدة ونحن على استعداد.

تأكيد القرآن الكريم على ذكر القيامة والحساب:
كم ذكر الله القيامة في القرآن الكريم؟ سورة القيامة:

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
[سورة القيامة]

سورة الدهر:

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)
[سورة الإنسان]

سورة المرسلات:

لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
[سورة المرسلات]

سورة النبأ:

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)
[سورة النبأ]

ما هو النبأ العظيم؟هو يوم القيامة، بعدها سورة النازعات:

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)
[سورة النازعات]

والله لَتُبعَثُنَّ إلى يوم القيامة وتُحاسَبُنَّ بأعمالكم، سورة عبس ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ فنصف القرآن يدور حول القيامة وأوصافها.

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)
[سورة الواقعة]

ما هي الواقعة؟ القيامة:

لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)
[سورة الواقعة]

عندما تقع هل يستطيع أحد أن يكذب؟ الآن تستطيع أن تكذب تقول بلسانك، وأعظم من التكذيب باللسان أن تكذِّب بأعمالك، تقول: أنا مؤمن بالقيامة، لكن أعمالك كلها تدل على أنك ما عندك ذرة إيمان بيوم القيامة، لأنه لو كان عندك ذرة من الإيمان بيوم القيامة فدائماً عليك أن تحافظ على بصرك:

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
[سورة النور]

تحافظ على سمعك،لا تسمع ما حرّم الله عليك سماعه.

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(36)
[سورة الإسراء]

الفؤاد لا يكون في قلبك غش، حقد، خيانة، مكر، خديعة ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾.
يا ترى هذه الثقافة إذا عُمِّمت خاصةً بوسائل الإعلام المعاصرة الإذاعة، والتلفزيون، والطباعة، والصُحف، والمجلات، يا ترى في البلد الآن كم شرطي؟ ربما أكثر من ألف أو ألفين أو أكثر، يا ترى في زمن سيدنا عمر رضي الله عنه كم شرطي كان؟ لم يكن أي شرطي، كم مخفراً كان؟ لم يكن أي مخفر، كم سجن؟ لم يكن أي سجن، فالإسلام ربّى وانتزع من كل مسلمٍ في المجتمع انتزع منه واقتلع كل رذائله، كل شروره، كل خياناته، كل مُحقَّرات أعماله وأخلاقه، فلا سجن، ولا سجَّان، ولا شرطي، ولا قاضي، ولا محكمة، كم محكمة الآن في البلد؟عندما تدخل إلى القصر العدلي ماذا ترى؟ ترى القيامة قد قامت، وإذا كان لك حقّ فبعد كم سنة تصل إليه؟ هناك أناس بعشر سنين أناس بعشرين سنة، أما في ظل الإسلام حالاً تأخذ حقّك، ولا تجد مُعتدي، ظالم، جائر، طاغي، يتعدى عليك.

{ المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه. }

[صحيح البخاري]

لا يؤذي أحداً، لا بيده، لا بسرقة، ولا بخيانة، وبلسانه لا يؤذي أحداً بغيبةٍ، أو نميمةٍ، أو كلمةٍ مؤذية إلى آخره. (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ).

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
[سورة الزلزلة]

عندما تقوم القيامة بماذا تبدأ؟ تحدث الزلازل، لكن ليس سبعة بمقياس ريختر، ربما تكون الزلزلة بقوة سبعين، إذا كان بالسبعة وبالثمانية تُهدم البلد، فكيف بالسبعين؟! وإذا بالسبعمائة ماذا يحدث؟ من ذلك؟

وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)
[سورة الزلزلة]

يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5)
[سورة القارعة]

وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
[سورة المعارج]

لا الصديق يسأل على صديقه، ولا الأب يسأل على أولاده، ولا الأولاد يسألون على أبيهم من الأهوال.

فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
[سورة المزمل]

الطفل الصغير من الأهوال، هذا الطفل الذي لا يعرف الهول والفزع، الله يقول: يشيب فيه الأطفال، فيا ترى هذا الكلام الذي يكلمنا الله إياه يا ترى هل يدخل في قلوبنا؟ إذا ابنك الصغير الذي لا يعرف الأفعى عندما تقول له:هذه أفعى بابا احذر أن تقرصك، ربما تموت، كذا، كذا، فالولد على صغر عقله يؤمن بكلام أبيه، هل يقترب من الأفعى؟ هل يمسك الأفعى؟ هل يضعها في قميصه؟ فإذا الله يُحذّرنا من مُهلِكٍ أكبر من الأفعى بمائة ألف مرة، فهل نقبل كلام الله يا ترى؟ هل يظهر ذلك فينا وفي أعمالنا؟ الطفل أدرك الأفعى تماماً، يقول: بابا قال: هذه (كع)، بلغة (كع)، الطفل فهم على أمه وأبيه، ونحن كبار، ولحىً، وشارب، وشهادات، وأعمال، وأطباء وكذا، ولا نفهم على كلام الله، فمن عقله أصغر؟ الطفل الذي تعلّم من الخادمة أو الأم أو الأب، أم نحن بطولنا، وعرضنا، وعمرنا، وشهادتنا، وثقافاتنا، وإلى آخره؟ فأسأل الله أن يجعلنا مسلمين إسلام العِلم، مسلمين العِلم والعمل.

سبعة يظلهم الله في ظل عرشه:
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) هذا يهرب من أبيه، وهذا يهرب من أمه، وهذا يهرب من صديقه، وهناك فئة أُخرى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:

{ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: الإمَامُ العَادِلُ، وشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّهِ، ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، ورَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ اجْتَمعا عليه وتَفَرَّقَا عليه، ورَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ، فَقَالَ: إنِّي أخَافُ اللَّهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ، أخْفَى حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. }

[صحيح البخاري]

لا يرى المحاكم، ولا يرى الزحمات، ولا يرى الأخطار، ولامنكر ونكير، ولا لأنه

{ قال عمرُ بنُ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه : حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسَكم قبل أن تُوزنوا ، فإنَّه أخفُّ عليكم في الحسابِ غدًا أن تُحاسِبوا أنفسَكم اليومَ وتزيَّنوا للعَرضِ الأكبرِ ، كذا الأكبرِ { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } }

[أخرجه أحمد]

سبعةٌ في ظل عرش الله، يعني في حماية الله، في رعاية الله، في كرامة الله، هل أحد له نفوذ في ذاك الوقت إلا الله؟ يوم لا ظلَّ إلا ظلّه، أولّهم (الإمَامُ العَادِلُ) كم اعتنى الإسلام برجل الحكم ورجل الدولة، أول واحد جعله ماذا؟
لكن ما هو شرط الإمام؟ أن يكون مُقتدى للناس في الفضائل والأعمال، كما ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم العرب البدو الأميّين، حتى جعلهم أعلى من الملائكة، بكتاب واحد، وبمُعلِّم واحد، ولا يوجد إذاعة، ولا تلفزيون، ولا مطابع، ولا كتب.

شاب نشأ في طاعة الله:
الرجل الثاني في ظل عرش الله، لا يحتاج أباه، ولا زوجته، ولا أخاه، ولا يقول لأحد أعطني حسنة، الله تعالى يقول له: تعال أنت لا حساب عليك (وشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّهِ)، من بداية شبابه ما عرف المعاصي، ما عرف الذنوب، ما عرف الآثام، ما عرف الشرّ، (وشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّهِ). ورجل قلبه معلق في المساجد:الثالث ( رجلٌ قلبُه مُعَلَّقٌ بالمساجدِ) لأنَّ المساجد كانت يا ابني والمسجد الذي يجب أن يكون عليه، هو مسجد العِلم، متى أتيت إليه تجد مائدة العِلم موجودة، فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ الأعين، فتجد فيها الحكمة، إذا كان عقلك صغير يصبح عقلك كبير، وإذا كان إيمانك ضعيف يصبح قوي، فإذا كان عندك رذائل الأخلاق كذب، غيبة، سرقة، خيانة، غدر، مكر، تصبح طاهراً مُطهَّراً، مَلَكاً كريماً، إذا كان شخص في مطعم الأمراء، وقت الظهر وهو جائع، أين يتعلق قلبه؟ إذا لا يريد الذهاب إلى البيت، بمطعم الأمراء، والعريس قبل عرسه بيومين قلبه أين مُعلَّق؟ والعروس أين قلبها مُعلَّق، وإلى آخره.
( رجلٌ قلبُه مُعَلَّقٌ بالمساجدِ) المقصود من المساجد جدرانها أو مُعلّمها والمُربي فيها الذي يُعلّم الكتاب والحكمة، ويُزكّي النفوس الضعيفة الإيمان، المُلوثة بالذنوب والآثام، فيُطهرها، ويقوي إيمانها، وتتغير أخلاقها الرديئة بالأخلاق الفاضلة؟ هذا هو المسجد الذي ( رجلٌ قلبُه مُعَلَّقٌ بالمساجدِ) يعني مُعلَّق بمَن؟ بأستاذ المسجد.

ورجلان تحابَّا في الله:
الثالث (رجلٌ قلبُه مُعَلَّقٌ بالمساجدِ)، والرابع (ورجلان تَحَابَّا في اللهِ ) يُحبُّه ليس لأجل أن يتسلى معه، بكلامه وسهراته بكلام اللغو، بعض الناس يسهرون ساعتين ثلاثة أربعة، من أول السهرة إلى آخرها كما قال الله تعالى:

لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
[سورة النساء]

أحاديثهم وكلامهم وسهراتهم كلها الله قال: لا خير فيها.
(إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) إذا اجتمعوا في نزهة في الزبداني في السهرة يبحثون هل يوجد عمل خير؟ يتذاكرون، ويتعاونون،هل يوجد فقير؟ أو أرملة؟ أو محتاج؟ وإلى آخره.
(إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) مَنْ مِنَ العائلة، مِنْ أصحابنا، من في السوق، من في المدرسة تارك فريضة من فرائض الله؟ هذا هو مجتمع المسلمين حسب القرآن.

تطبيق القرآن الكريم:
يا ترى مجتمعاتنا، ونوادينا، وسهراتنا، ونزهاتنا، هل هي حسب القرآن؟ إذا قرأنا هذه الآية ولم نعمل بها، ماذا استفدنا من القراءة؟ إذا أخذت شيكاً بمائة مليون ليرة، وأنت جائع وعارٍ، لا يوجد عندك بيت، وتنام في الشارع، وعورتك مكشوفة، وجائع، وبردان، وأتاك شيك بمائة مليون، ولم تشترِ بيتاً، ولا ملابس، ولا طعاماً لتأكله، لكن أخذت الشيك وغنيت به في السهرة: ادفعوا لحامله، هذا صوته ليس جميلاً، نريد صوتاً أجمل مثل عبد الوهاب وأم كلثوم، وأخذ يغني بصوت جميل: ادفعوا لحامله مائة مليون ليرة، وأنت جائع عارٍ؟ يقولوا لك: عندك مائة مليون ليرة، استفد منها، تقول: لا، أنا مشغول الآن بالقراءة وبالتجويد وبالتلاوة على السبعة وعلى العشرة وعلى الأربعة عشر، وفي سهرة ثانية جائع، وعارٍ، وبردان، وينام بالشوارع، تقول: اسمعوا هذا الشيك وتغني: ادفعوا لحامله، وأنا حامله، ماذا سيقول الناس عنه؟ مجنون؟! حمار؟ والله الحمار يفهم أكثر، الحمار اسحبه ليمشي فوق جسر من الخشب، يضع قدمه أولاً فإذا اهتز الجسر تحته يقف مباشرة، شدّ له الحبل لا يمشي، لأنه يعرف أنه لا يصح أن يضع قدمه إلا على أرض قوية مثل الصخر، وهذا الجسر يهتز والحمار يخاف أن يسقط، أنت أيها الإنسان ألا تخاف من الله؟ تقرأ القرآن ولا تحاول أن تفهمه، وإذا فهمته لا تحاول أن تحوِّله إلى عمل، مثل الشيك عليك أن تحوله من الورق إلى قبضه من المصرف، وإذا قبضت النقود عليك أن تشتري بيتاً وكسوة وتتزوج وتشتري الطعام، لكن طوال عمره يقرأ، وينام بالشارع تحت المطر وبين الوحل، الناس ماذا سيقولون عنه هذا؟ حمار؟ الحمار أحسن منه بمليون مرة، حتى يقال إن الحمار يعتبر من أذكى الحيوانات.
كنت أسمع من شيخنا مرة أحد إخوانه دعاه إلى بستانه، قال له: لا أعرف المكان، قال له: شيخي أنا سأرسل لك حماري، أنت تركبه، وهو يوصلك إلى البستان، قال له: الحمار سيوصلني؟ قال: اركبه وجرِّب، وكان البستان في الربوة، وبيت شيخنا هنا في دار القرآن، ابنه الصغير جلب له الحمار، ركب الحمار ومشى، وكان صاحب البستان قد دلّه على البستان بإشارات، ولكن الشيخ لم يعرف الطريق تماماً، وهو في الطريق بين البساتين وصل إلى مفترق طريقين، شيخنا ظنَّ أن الطريق الشمالي هو طريق البستان، فأدار الحمار إلى الطرف الشمال، ولكن الحمار لم يرضَ أن يمشي، يريد أن يمشي من الطريق الذي يعرفه، حاول أن يضرب الحمار ليمشي، فالحمار لما عرف أنه سيُضرب استجاب لشيخنا ومشى كما يريد، وبعد مسافة طويلة أدرك شيخنا أن الطريق خطأ، فأدار الحمار بالعكس، ولما أداره ركض الحمار بسرعة، ووصل إلى مفترق الطرق، وذهب من الطريق الصحيح، ألا يدل هذا على أن الحمار ذكي؟
فإذا قلت عن شخص: حمار، والله إنك تزكيه، إذا قلت: فلان كلب، والله الكلب أحسن من كثير من الناس، إن أحسنت للكلب بيومين أو ثلاثة بعظمة صغيرة ونصف رغيف يموت بين رجليك، ولا يترك صحبتك حتى تموت ويموت، وهناك أناس تُحسن إليه طول العمر وطول الحياة، وبلحظة واحدة ينكر الجميل، وكأنه ما عرفك، ما عرف منك أي معروف، أو أي إحسان، إذا قلت له: كلب، فهل تشرفه أم تذمّه؟ والكلب سيحتجُّ عليك، سيقول: أنا لا أرضى أن أكون مثل هذا اللئيم الغادر الذي لا وفاء عنده.
الخلاصة (رجلٌ قلبُه مُعَلَّقٌ بالمساجدِ)، لكن ابني الطاولة إذا كان عليها طعام من ألذ الطعام، والله قلبنا يتعلّق بالطاولة، وإذا الطاولة لم يكن فيها شيء؟ المسجد لا يوجد فيه شيء، فيه سجاد وأعمدة، هل الأعمدة تصنع الإنسان يا بني؟ هل تصنع إيمانه، إسلامه، عقله، حكمته؟
(ورجلان تَحَابَّا في اللهِ) أحبه ليس ليستفيد دنيا من ورائه، أو من جاهه، أو من ماله، أو ليساعده في أمر من أمور دنياه، أحبّه لأنه عالِم ليتعلم منه، أو ذاكر ليكتسب من ذِكره، أو ذو أخلاق ليتعلم من أخلاقه، أو مُربّي ليستفيد من تربيته، أو ليفيده، أو ليعلمه، أو يذكّره، إما نافع أو مُنتفع، بالعِلم، وبالتقوى، وبالأخلاق، وبالسلوك، فهذان الرجلان: المُحب والمَحبوب في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله.

التعفف عن الحرام:
(ورَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ) حلوة وصغيرة وجميلة، كل شيء مُهيأ بين يديه (فَقَالَ: إنِّي أخَافُ اللَّهَ) هذا الإيمان يا ابني.

إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)
[سورة آل عمران]

يقال عن شخص كان يُلقب بالمسكي، وسبب اللقب أنه كان من أجمل شباب زمانه وبلده، فعشقته امرأةٌ شابة، وعرضت نفسها عليه مراراً، وهو يقول: إني أخاف الله رب العالمين، فلما يئست من استجابته لجأت إلى الحيلة، وكان يبيع الثياب متنقلاً بين الأحياء والحارات، مرَّ من أمام بيتها، قالت للخادمة: ناديه لنشتري منه، فقالت له: ادخل للداخل لينظروا للبضاعة، ولمّا دخل إلى داخل الدار أغلقت الباب وأقفلته، وقالت له: الآن، ولمّا عرف أنه قد وقع، رأى أنه ليس له نجاةٌ إلا بالحيلة، قال لها: نعم كما تريدين، لكن إذا سمحتِ لي أريد أن أذهب إلى الحمام لأقضي حاجتي، يعني لأستنجي، فذهب إلى بيت الخلاء، في ذاك الزمان لم يكن يوجد مثل الآن صنبور ماء وتنظيف، كان على البلدي العتيق، أخذ شيئاً من الغائط ودهن وجهه وبدنه وكل ملابسه ورجليه ويديه، ولمّا خرج كأنه يلبس بدلة من عمل خياط المعلم الأول، قال لها: تفضلي، فجنّت منه وصرخت به وطردته خارج البيت، فخرج، واغتسل ونظف نفسه، فكان من بعد هذه الواقعة كان يُشَمُّ منه رائحة المسك، (ورَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ، فَقَالَ: إنِّي أخَافُ اللَّهَ ) لمّا تخلو بمعصية الله من امرأة، أو من مال، أو من جاه، أو لأجل الناس فهل تخاف الله ؟ هل تذكر الله؟ هذا هو الإيمان يا بني، هذا هو القرآن.
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) لا ينفعك شيء إلا إيمانك وعملك الصالح.

أثر الصدقة يوم القيامة:
(ورَجُلٌ تَصَدَّقَ، أخْفَى حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ) ، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي.

ورجل ذكر الله خالياً:
((ورجلٌ ذكر الله خالياً))،خلَّى قلبه، ونظفه من كل ما سوى الله، لا امرأة، ولا ولد، ولا دكان، ولا بستان، ولا سيارة، إلا (الله ولا إله إلا الله).
(ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)، من خشية الله، من جلال الله، من محبّة الله، هذا هل يفرّ من الناس أو الناس تفرّ منه؟ ليس له حاجة بالناس، وهو

فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55)
[سورة القمر]

نرجع للآيات، ﴿يَوْمَ﴾ ماذا يعني يوم؟ يعني تذكر يا مسلم ويا مسلمة تذكرا هذا اليوم، أيُّ يوم؟﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾، أبوك لا ينفعك، تقول له: يا أبي أنت تدعوني إلى معصية الله؟ أنا سأفرُّ منك الآن، قبل أن أفرُّ منك في الآخرة.

الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
[سورة الزخرف]

صاحب أهل التقوى، لا تصاحب أهل الغفلة، أهل الجهل، أهل الجاهلية، مجالس اللغو والبطالة، قال:" إنَّ من علامة الإفلاس الاستئناس بالناس"
المؤمن يحسب أوقاته بالدقائق، هل تذهب منه دقيقة أو ساعة بلا عمل أو بلا فائدة؟!

وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
[سورة عبس]

يعني كل واحد يهتمُّ بنفسه لينجوَ من حساب الله، من عذاب الله، من جهنم.

الإيمان بالآخرة ضرورة لإصلاح الفرد والأسرة والمجتمع:
يا ترى هل جهنم حقيقة أم هي وهم؟ وهل هناك محاسبة الله للإنسان؟

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
[سورة الزلزلة]

يعني يرى ثوابه ومكافأة الله له على الخير ولو كان مثقال ذرة.

وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة]

لو عمل من الشر مثقال الذرة، السمسمة إذا قسمتها سبعين جزء، فكل جزء منها اسمه ذرة، فإذا عملت من الخير واحداً من سبعين جزء من السمسمة، الله قال: مهما كان قليل فكله مسجل عندي، ويُحاسَب صاحبه عليه، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ، يا ترى هذه التربية القرآنية، هل العائلة بحاجة إلى هذه التربية؟ هل الزوجين بحاجة إلى هذه التربية؟ هل الأولاد بحاجة إلى هذه التربية؟ هل الجيران بحاجة إلى هذه التربية؟ الحكَّام بحاجة إلى هذه التربية؟ هل الشرطة بحاجة إلى هذه التربية؟ الأغنياء، الفقراء؟ فما أعظم خسارة المسلم أن يأتي إلى الدنيا ويخرج و لا يعرف من إسلامه شيئاً! لا عِلماً، ولا عَملاً، مع أن المسلم مطلوب منه ليس العِلم والعمل فقط، مطلوب منه العِلم والعمل ثم أن يُعلِّم الآخرين، ليس بالكلام فقط، بل يُعلمهم بالقول، وبالعمل، وبالصدق، وبالإخلاص.

{ انفذْ على رسلِك ؛ حتى تنزلَ بساحتِهم ، ثم ادعُهم إلى الإسلامِ ، و أخبرُهم بما يجبُ عليهم من حقِّ اللهِ فيه ، فواللهِ لأنْ يهْدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من أنْ يكونَ لك حُمرِ النعمِ }

[الألباني صحيح الجامع]

إذا هدى الله على يدك إنساناً واحداً، المرأة الله هدى على يدها إنسانة واحدة، والرجل والشاب، "خيرٌ لك من الدنيا وما فيها" هذا كلام مَن؟ هذا كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل نحبّ النبي بالتمنيات، ونرفض كلام النبي صلى الله عليه وسلم في ميدان الحياة والعمل؟ هذا حُب كاذب يا بني، هذا حُب التمني، هذا حُب وساوس الشيطان.
تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ هَذا مَحالٌ في القِياسِ بَديعُ لَـو كانَ حُبُّكَ صـادِقاً لَأَطـَعتَهُ إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ
{ الإمام الشافعي }
(لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) لا أحد يسأل على أحد، ولا أحد يفكر بأحد، إلا نفسي، نفسي، ثم كيف تكون النتيجة بعد الحساب؟

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38)
[سورة عبس]

أسفر الصبح وانجلى وتلالى، لمّا يُسفر الفجر يصبح الجو كله أنوار.
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ مضيئة مُنورة مثل الفجر عندما يشق ظلمات الليل.

ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39)
[سورة عبس]

النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليس على أهل لا إله إلا الله ، ليس له إله إلا الله، الآن أنتم كم إلهاً لكم؟ واحد؟ يا ترى هذا الإله الواحد هل هو الله أم هوى نفوسكم والأنانية؟ إذا الله أمرك قال: افعل كذا، وأنانيتك وهواك قالت لك: افعل كذا، يا ترى هل تطيع نفسك وهواك وأناك أم تطيع ربَّك وخالقك؟ إذا كنت من أهل لا إله إلا الله

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (41)
[سورة النازعات]

فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37)
[سورة النازعات]

تجاوز حدود الله إلى محارم الله.

وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (39)
[سورة النازعات]

"ليس على أهل لا إله إلا الله وحشةٌ عند موتهم" تأتي الملائكة عند موتك بصورة أحبّ الناس إليك، إذا كنت تحب شيخك يأتيك ملك الموت بصورة الشيخ، بصورة أحبابك، يقولوا لك: تفضل إلى النزهة، تموت وتخرج من الدنيا دون أن تشعر بشيء، نسأل الله أن يجعلنا من أهل لا إله إلا الله، وألا نكون عبيد الهوى.

أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
[سورة الجاثية]

"ليس على أهل لا إله إلا الله وحشةٌ عند موتهم، ولا في قبورهم، ولا عند بعثهم يوم القيامة ونشورهم"، ثم يقول النبي عليه الصلاة والسلام: "كأني بهم أنظر لهم يخرجون من قبورهم ينفضون التراب عن جبينهم قائلين:

وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
[سورة فاطر]

الملائكة تستقبلهم:

لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103)
[سورة الأنبياء]

تفضلوا إلى المأدبة والحفل الإلهي، في ظل عرش الله، يوم لا ظلَّ إلا ظله، لا يرى يوم القيامة، ولا ازدحامها، ولا مشاكلها، هذه بحاجة إلى تعب وجهد يا بني، بحاجة إلى صدق اليقين، يجب أن تكون ليس لك همٌّ إلا (إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي).
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ كلها مثل القمر ﴿ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾، (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ).

لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(64)
[سورة يونس]

عند الموت ملك الموت وملائكة الموت يقولوا لهذه النفس:"يا أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب، اخرجي إلى روحٍ وريحان، وربٍّ غير غضبان"
وإذا كانت نفس خبيثة فاسقة، تاركة فرائض الله، لا تُبالي بمحارم الله، ومعصية الله، فالملائكة تقول لها: يا أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث، اخرجي إلى سمومٍ وحميم، وظلٍ من يحموم، لا باردٍ ولا كريم، تأتيك الملائكة بأفظع الصور وأبشعها.

{ المَيِّتُ تَحْضُرُه الملائكةُ ؛ فإن كان الرجلُ صالحًا قالوا : اخرُجِي أَيَّتُها النفسُ الطَّيِّبَةُ ! كانت في الجسدِ الطَّيِّبِ، اخرُجِي حَمِيدةً، وأَبْشِرِي برَوْحٍ ورَيْحانٍ، وربٍّ غيرِ غضبانَ، فلا تزالُ يُقالُ لها ذلك ؛ حتى تَخْرُجَ، ثم يُعْرَجُ بها إلى السماءِ، فيُفْتَحُ لها، فيُقالُ : من هذا ؟ ! فيقولون : فلانٌ، فيُقالُ : مَرْحَبًا بالنفسِ الطَّيِّبَةِ كانت في الجسدِ الطَّيِّبِ، ادخُلي حميدةً، وأَبْشِرِي برَوْحٍ ورَيْحانٍ، وربٍّ غيرِ غَضْبانَ، فلا تزالُ يُقالُ لها ذلك، حتى تنتهيَ إلى السماءِ التي فيها اللهُ . فإذا كان الرجلُ السُّوءُ ؛ قال : اخرُجِي أيَّتُها النفسُ الخبيثةُ ! كانت في الجسدِ الخبيثِ، اخرُجِي ذَمِيمةً، وأَبْشِرِي بحميمٍ وغَسَّاقٍ، وآخَرَ من شكلِهِ أزواجٌ، فما تزالُ يُقالُ لها ذلك، حتى تَخْرُجَ، ثم يُعْرَجُ بها إلى السماءِ، فيُفْتَحُ لها، فيُقالُ : من هذا ؟ ! فيُقالُ : فلانٌ، فيُقالُ: لا مَرْحَبًا بالنفسِ الخبيثةِ كانت في الجسدِ الخبيثِ، ارجِعِي ذميمةً ؛ فإنها لا تُفْتَحُ لكِ أبوابَ السماءِ، فتُرْسَلُ من السماءِ، ثم تَصِيرُ إلى القبرِ }

[الألباني إسناده حسن]

يا بني، الحياة منام، "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"

حسب الأعمال تبيضُّ الوجوه أو تسودُّ:
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ(38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ)، هل تريدوا أن تكون وجوهكم هكذا عند الموت، وفي القيامة، وفي ظل العرش؟ هذا الأمر يحتاج إلى تعب يا بني، ويحتاج إلى تذكير، ويحتاج إلى أن نقرأ القرآن للعِلم والعمل، ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ﴾ مع العرق يوم القيامة

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)
[سورة عبس]

كلها غبار

تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)
[سورة عبس]

ليس فقط غبار وعرق، بل فوق الغبار والعرق الشحار، كيف تكون الصورة والجمال؟

أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
[سورة عبس]

أولئك الذين لم يؤمنوا بالقرآن، لم يؤمنوا إيمان العمل، الفجرة أعمالهم أعمال الفُجَّار، أعمالهم أعمال الأشرار، أعمال الطُغاة، أعمال الخونة، أعمال الفسقة.
فيا ترى هل تحبون أن تكونوا من (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ(38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ)، أو (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ)؟ ولكن بالتمني هذا لا يصح، بالأعمال، يا ترى هل أنتم من أهل الغبرة أم (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ)؟ هل الكلام للتمني أم للعمل؟ والعمل يحتاج إلى عِلم، والعِلم يحتاج إلى مُعلّم، ويحتاج إلى مُزكّي، ويحتاج إلى حكيم، فهل بحثتَ؟ عندما يؤلمك ضرسك تذهب إلى الطبيب، حذاؤك إذا قطع تركض على الإسكافي، ثوبك إذا نزل عليه نقطة واتسخ تخلعه للغسيل وللكي، يا ترى دينك إيمانك هل تهتم به؟ ماذا يوجد من نقائص؟ ماذا يوجد تقصير؟ ماذا يوجد من ضياع للفرائض؟ ماذا يوجد من وقوع بالمآثم؟ كم مِنْ شابٍّ كان جالساً وفجأة لا يوجد روح.

مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)
[سورة الحاقة]

فوراً يوم القيامة، مثل حكاية اثنين أحدهما مسلم والآخر يهودي، كانا في سفر، هذا يقول له: نحن الجنة لنا، وهذا يقول له: نحن الجنة لنا، قال أحدهما للآخر: أخي نقيم عهداً بيننا، الذي يموت قبل الآخر عليه أن يأتي إلى الآخر بعد الموت ليُخبره بالحقيقة، وفي الطريق رأوا شجرة تين، صعد اليهودي الشجرة، يبدو أن الغصن كان ضعيفاً، فكُسِر، ووقع اليهودي على رقبته، انكسرت رقبته ومات، دفنه المسلم، وتلك الليلة رأى صاحبه في المنام، قال له: الآن وصلت إلى دار الحق، احكي لنا، أما قلت لك: إنه يوجد حساب القبر، وعذاب القبر، وسؤال أنكر ونكير وجهنم؟ قال له: كله كذب، ما رأيت شيئاً أبداً، لا أنكر ونكير، ولا سؤال الملكين، ولا سؤال القبر، ولا عذاب القبر، قال له: إذن ماذا رأيت؟ قال له: من شجرة التين، كسرت رقبته، إلى جهنم فوراً.
احذر يا ابني، وإذا اتقيت الله هل تظن أنك تخسر شيئاً؟ والله تكسب ثقة الناس يا بني، تكسب محبة الناس، محبة الله، ويصبح معك رأسمال، والناس تأمِّنك على مالهم، على أغلى شيء عندهم، وإذا لم تكن مستقيماً فأولاً تكسب غضب الله، وتخسر رضاء الله، وتسقط من نظر الناس، ومهما خبَّأت وسترت.
وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ
{ زهير بن أبي سلمى }
مهما سترت، "من أسرَّ سريرةً ألبسه الله رداءها".
( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ(40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) تعلوها فوق الغبار ماذا يوجد؟ الظلام والشحار، (أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)، الكفرة بالله، وبكلام الله، وشريعة الله، والفجرة في أعمالهم، وسلوكهم، وتصرفاتهم، فأي الفريقين تحب أن تكون؟ وهذا بالأعمال وليس بالكلام، كل واحد منا يتمنى أن يصبح ملياردير، لكن بالتمني هل يكون هذا؟ وكل واحد يحب ألا يفتقر، ولا يتعذب، ولا كذا، ولا كذا، لكن بالتمني هل يكون هذا يا بني؟ كذلك الإيمان:

{ ليسَ الإيمانُ بالتَّمنِّي ولكنهُ ما وقرَ في القلبِ وصدَّقَهُ العملُ }

[أخرجه السيوطي والديلمي]

أسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أخيراً سمعتم وأنا سمعت بالإذاعة عن أمريكا وإعلانها أنها تُقاطع إيران المسلمة، فأمريكا الآن بيد اليهود، تلعب فيها اليهودية الصهيونية كما تشاء وكما ترغب، وضعوا إيران في دائرة الإرهاب، ووضعوا سورية في دائرة الإرهاب، وليبيا في دائرة الإرهاب، عملوا مقاطعة وحصار على ليبيا استجابةً لقرارات مجلس الأمن، بينما إسرائيل أصدر مجلس الأمن بحقّها عشرات القرارات، وكلها حبر على ورق، لا للتنفيذ.
وإخوانا الليبيين منعوهم من الحج، وفي عرف كل قوانين العالم الدين لا يُمَس، الشعائر الدينية لا تُمَس، مع ذلك تتدخلوا في كل شيء، فنحن في معركة صليبية صهيونية، في زمن صلاح الدين كان الإسلام نائماً فاحتلوا بلاد الشام، فلسطين، لبنان، القدس، فبقيت القدس أسيرةً أكثر من ثمانين سنة، حتى أتى الإسلام في صلاح الدين، وفي نور الدين، فحُررت القدس وإلى آخره.
أما الآن فالحرب على العالم الإسلامي كله، على المسلمين، وعلى أراضي المسلمين، وعلى العقيدة الإسلامية، دولة تفرض أغراضها وأهدافها على المسلمين، ثم على شعائر الدين، على حج المسلمين، أين المؤتمر الإسلامي الذي مركزه جدة؟ أين الجامعة العربية؟ يعملوا مقاطعة لأمريكا ولو ليوم واحد، يعملوا إضراب في كل العالم الإسلامي عن طريق المؤتمر الإسلامي، ولو ساعة واحدة احتجاجاً على أمريكا، فمؤتمر الجامعة العربية، لماذا الجامعة العربية تستجيب لأمريكا الصهيونية، وتقاطع البلد العربي الإسلامي؟ لماذا؟ يا ترى هل العروبة هكذا؟ سوريا ما قاطعت، وتحدَّت قرارات مجلس الأمن، فهذا كله بسبب أنَّ الإسلام نائم في القلوب وفي الأفكار، فلا بدّ من يقظة في المسلمين، كل واحد منكم عليه أن يعتبر نفسه مسؤول، أن يوقظ النائم، إذا كان ذاكراً يقول له: قم اذكر الله، اقرأ القرآن للعِلم والعمل، لا تفرح أنك قرأت ختمتين وعشرة وعشرين وثلاثين، وعلى القراءات السبع، والأربع عشرة، قل لي: ماذا فهمت من القرآن؟ وماذا طبّقت ممّا تقرأ؟ وهل عَلَّمت ما عَلِمت؟ العِلم أصبح أمانة في رقبتك يا بني، الآن الذي سمعتموه صار أمانة، عليكم أن تؤدوه إلى إخوانكم وأهلكم، وجيرانكم وكل من تعرفوه، استجابةً لقول النبي صلى الله عليه وسلم:

{ بلِّغوا عني ولو آيَةً }

[أخرجه البخاري]

هذا واجب العرب إذا كانوا مؤمنين بالعروبة، فرنسا تؤمن بفرنسيتها، لذلك تجدهم فرنسا خمسين أو ستين مليون كلهم يستجيبون لمصلحة الأمة الفرنسية، الألمان كذلك، والأمة العربية، الأمة الإسلامية؟ والسبب الذي أوجد العرب، وجعلهم أمة، كانوا عشائر متقاتلة في الصحراء،هل هؤلاء أمة؟ كانت البلاد العربية بلاد الشام تتكلم باليوناني والروماني، من عرَّبها؟ الإسلام، مصر تتكلم بأي لغة؟ بالقبطية، شمال أفريقيا ماذا كانت تتكلم؟ بالبربري، من الذي عرَّبها؟ من خلق العروبة؟ والآن صار العرب لا يعرفون الإسلام، لأنهم أيضاً يُظهِرون الإسلام ويستعملوا الإسلام بالعكس، أول أمر أنه يريد أن يحارب الدولة، أنت بحاجة إلى الدولة، والدولة بحاجة إلى الإسلام، لماذا الجناحان لا يعملان لمصلحة الطائر الواحد الذي هو الأمة، والذي هو الشعب؟ فالحاكم مسؤول، والإسلاميون مسؤولون، وعلماء الدين مسؤولون وكلنا مسؤولون، واجب علينا أن نحقّق قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:

{ الإسلامُ والسلطانُ أخوانِ توأمٌ لا يصلحُ واحدٌ منهما إلا بصاحبِه فالإسلامُ رأسٌ والسلطانُ حارسٌ وما لا رأسَ له منهدمٌ وما لا حارسَ له ضائعٌ }

[أخرجه السخاوي]

فعلى كل حال يا بني (لأنْ يهْدي اللهُ بك رجلًا واحدًا) ،هذا يجب أن يكون دائماً مخالطاً للحمكم وعظمكم ودمكم في كل مكان، وأعرف أنكم تعملوا جهدكم، وأرجو الله أن يوفقنا، ويُلهمنا الحكمة، ويرزقنا الإخلاص في العمل هذا شيء.
الأمر الثاني ذُكر لي عن أحد من يأتي إلى المسجد، يبدو أنه استدان من بعض أبناء المسجد، وباسم المسجد، يستغل أكثر من إنسان، فانتبهوا يا بني من المستغلين، ابن الجامع، أخو الجامع، يجلس جنب الشيخ، بعيداً عن الشيخ، أنا ليس لي علاقة بأي إنسان، قريباً كان أو بعيداً، معروفاً كان أو مجهولاً، كل واحد منكم يتحمل مسؤولية نفسه، أنا ليس لي علاقة لا ببيعكم، ولا بشرائكم، ولا بهداياكم، لا تقل: أنا أعطيته لأن هذا من إخوان الشيخ، هذا يأتي إلى الجامع، هذا يُحبّه الشيخ، أنا لو عاملتوني عاملوني كإنسان أجنبي، وأنا شيخكم، أنا أقول لكم، ومن أنذر فقد أُعذر، لا يأتي أحد ويقول: أتاني فلان، وأخذ مني كذا وكذا، ولم يدفع لي، أنا ما علاقتي بهذا؟ لا حاجة في أن أتكلم، لكن يقع هذا الأمر، لذلك ليكن الجميع على عِلم بهذا الموضوع، لا يَلُمْ أحد الشيخ، وليَلُمْ نفسه.
وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
فاعلم أنه لا إله إلا الله لا إله إلا الله...
محمد رسول الله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم تقبّل منا هذه التهليلة المباركة، وأوصل ثوابها إلى حضرة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إلى روح شيخنا وأستاذنا، وروح والدتنا، وولدنا زاهر ووالدته، ثم إلى أرواح والدينا، وأحبابنا، وإخواننا، والمسلمين أجمعين، اللهم كن للمسلمين عوناً ومعيناً وناصراً ومؤيداً، اللهم لا تكلنا والمسلمين جميعاً إلى أنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، اللهم فرج عن إخواننا المسلمين في ليبيا، وفي إيران، وفي السودان، وفي كل مكان، اللهم انصرنا على من عادانا، وانصرنا على أنفسنا وأهوائنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ ولا أقل من ذلك، وأصلح لنا شأننا كله، لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.