تفسير سورة عبس 02

  • 1995-04-21

تفسير سورة عبس 02


مقدمة لسورة عبس وحقوق الإنسان في الإسلام:
ضيوفنا اليوم وفدٌ من السّويد من أبناء سيدنا المسيح عليه الصلاة والسلام، فنُرحّب بهم باسمي وباسمكم أجمل الترحيب.
الحمد لله ربّ العالمين خالق السّماوات والأرض، وخالق الكون أجمع، وأفضل الصلاة والتحيات على سيدنا مُحمَّدٍ المبعوث رحمةً للعالم، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم، وعلى أخويه سيدنا موسى وعيسى، وعلى جميع إخوانه من النّبيين والمُرسلين، ومن أحبّهم وناصرهم وتابعهم إلى يوم الدين وبعد: سبق معَكُم في الجمعة الماضية، حقوق الإنسان في سورة عبس.

حقوق الإنسان في سورة عبس:
وحقوق الإنسان ما حُسرت في هذه السورة القصيرة، بل القرآن كله ليس له هدف إلا حِفظ حقوق الإنسان وحِفظ كرامة الإنسان، القرآنُ رسالةُ الله، الله الذي يقول عنه سيدنا مُحمَّد صلّى الله عليه وسلّم:

{ الخلقُ عيالُ اللهِ ، وأحبُّهم إليه أنفعُهم لعيالِه }

[الألباني إسناده ضعيف]

الخَلق المخلوقات يعني الخَلق كلّهم من عربٍ ومن عجم، ومن أبيض ومن أسود، ومن مسلمٍ ومسيحي وبوذي ويهودي كلّهم خَلق الله، فالنّبي مُحمَّد يقول: (الخلقُ عيالُ اللهِ )
عائلةُ الله! فكيفَ إذا كنتَ أنتَ ربَّ العائلةِ؟ فكيف حنانُك وعطفُك ورعايتُكَ لأفرادِ أسرتِكَ وأنتَ ربُّها ومُربّيها وسبب وجودها؟ يقول سيدنا محمد: (الخلقُ عيالُ اللهِ ، وأحبُّهم إليه أنفعُهم لعيالِه) وكلَّما المؤمن بذَلَ الجُهد لينفَعَ أخاه الإنسان فبقدر اهتمامه بأخيه الإنسان بقدر هذا الاهتمام يَكون محبوباً عند الله عز وجلّ، هكذا يقول النّبي مُحمَّد صلّى الله عليه وسلّم.

ضرورة تحويل القول لفعل:
يا بنيّ هذا الكلام لا نريد أن نجعَلَ حظَّنا منه أن نسمَعُهُ كما يَجعَلُ الإنسانُ اللقمة في فمِهِ يَمضغُها ولكن لا يُحوِّلها إلى الجهاز الهضمي لِيُحوِّلها دماً ثم يتحوَّلُ الدمُ إلى طاقة والطاقة إلى عملٍ صالح، كذلك الكلمة إذا بقيت للاستماع لا للعمل والتطبيق فهذا مما استعاذ منه النّبي محمد كما يستعيذ الإنسان مِن الشّيطان، والإنسان يقول: "أعوذ بالله" يعني أستجير بالله من الشّيطان الرجيم، والنّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول:

{ اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لا ينفعُ ، ومِن قلبٍ لا يخشعُ ، ومِن نَفسٍ لا تشبَعُ ، ومِن دعاءٍ لا يُسمَعُ }

[صحيح النسائي]

لا تفرَحْ إذا حضَرتَ مجلسَ العِلم أو إذا استمعتَ إذا ما كان همُّك أن تُحوِّلَ الكلام إلى أعمال إلى سلوك إلى أخلاق.

{ إنَّ أشدَّ الناسِ عذابًا يومَ القيامةِ عالمٌ لم ينفعْهُ اللهُ بعلمهِ }

[ضعفه الترمذي]

هذا كلام سيدنا محمد، إذا استمَعَ إلى الخير ولم يفعل الخيرَ، وإذا حُذِّر من الشّر ثمّ ارتكب الشرّ، فالنبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم يقول: هذا أشدّ النّاسَ عذاباً يوم القيامة.

القرآن للبشرية جمعاء:
إذا رجلٌ بدويّ أخذ شيئاً مسموماً فأمرضَهُ أو أتلفَهُ هل يُؤاخذ مثل ما يُؤاخذ الطبيب الذي يَعرِف السُّمَّ وأثَرَهُ في الإهلاك؟ يا ترى أيُّهما مؤاخذتُهُ أشدّ؟ وعذابه النفسيّ أشدّ؟ البدويّ يقول: يا أخي أنا لا أعرف، لكنَّ الناس يقولون للطبيب: أنتَ درستَ وسمعت وعرفت وبعدها خالفتَ عِلمك، الله أن يجعَلَنا يا بُنيّ من المؤمنين الذين يستمعون القول فيتَّبِعُون أحسنَهُ، يوجد حسَنٌ ويوجَد أحسَن، والنبي عليه الصلاة والسلام والقرآن يقول:

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ(18)
[سورة الزمر]

الذين يَستحقّون المدح والإكرام عند الله لا أن تستمع.
كان المنافقون يَجتَمِعُون في مجلِسِ النّبي صلّى الله عليه وسلّم ويَستمعُون له، ولكن الله قال:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
[سورة المائدة]

يَستمعونَ مِن الكاذبين لِيُفسِدوا في الأرض:
( سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) يحضروا عندك حتى ينقلوا كلامَكَ لأعدائك ليقوموا بالفساد والفتنة ضدّ المسيرة العلميّة الإيمانيّة، ( سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) فهُم سفراء أعداء الإسلام والنبيّ ويَحضروا مجلسَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ودرس النبيّ حتى ينقلوا الكلام لِيُفسِدُوا في الأرض، كما يفعل الشّيطان في أعماله المُفسدة، فالقرآن كلّه مِن أجل الإنسان، قال الله تعالى:

طه (1 (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2)
[سورة طه]

أنزلنا عليك القرآن ليكونَ سعادةً للإنسان.

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]

الآية الأُخرى (إِلَّا رَحْمَةً) ليس للعرب ولا لإيران ولا للهند بل للعالم، ( لِّلْعَالَمِينَ).
ولَمّا العرب الأُوَل قبل أربعة عشر قرناً على أمِّيتهم، وأبناء الصّحراء لا يعرفون إلا رعاية الأنعام، على أُميّتهم لَمَّا سمعوه فأحسَنُوا استماعَهُ، وهيئوا جهاز تحويل السَّمع إلى العمل وهو القلب، هنا موضع الترجمة، كما أنَّ موضِعَ تحويل الطعام إلى دم المعدة والجهاز الهضميّ إذا كان لك فم ولكن ليس لك جهازٌ هضميّ يُحوّل الطعام إلى دم وإلى طاقة فما الفائدة أن تمضَغ أو تُثرثر؟ فهؤلاء الأميّون لَمَّا أحسَنوا الاستماع وهيئوا جهاز الاستماع لتحويلِهِ إلى أعمالٍ

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
[سورة النحل]

أعمال السّر حتى في سرائرك وداخليّة نفسك، لماذا قال الله:

وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
[سورة طه]

يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
[سورة غافر]

ما معنى هذا الكلام؟ يعني لا يكن ما يَدورُ في صدركَ إلا خواطرُ الخير والنيات الخيّرة، وخائنة الأعين: لا تنظر نظرة ابتسامٍ لإنسان وأنت تُريدُ بِهِ المكرَ والخداع، هذا معنى ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ). عفوّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم وتسامحُهُ:
أحد المُخرِّبين والمُدِّمّرين والمُقاومين للإسلام قام بعدّة أعمال مِن الفتك والغدر بالمسلمين، فالنّبي صلّى الله عليه وسلّم أهدَرَ دمَهُ وقال: أينمّا وجدتُموهُ فاقتلُوهُ، فلمّا النّبي صلّى الله عليه وسلّم فتَحَ مكة، هذا الإنسان الغادر الماكر المخادعُ أيقَنَ أنّه لا نجاة له مِن الإعدام إلا بعد أن يَستسلمَ ويتوب، فدَخَلَ على النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعد صلاة الفجر، ولم يكن في المسجد إضاءة، بل على الطبيعة، وقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "ما تقول في فلان إذا أتاك تائباً؟ " فسكت النّبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يجبْهُ، أعاد السؤال مرة ثانية ًوثالثة، ما تقول في فلان إذا أتاك تائباً مُستغفراً؟ ثلاث أربع مرات والنّبي صلّى الله عليه وسلّم صامتٌ لا يُجيبُ، وقال: نَقبَلُهُ ونَعفو عنه، فبعد ذلك النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: ما منعُكُم وقد هدرتُ دمَهُ؟ لكثرة ما قتل من المسلمين وما خرّب من أمور الدعوة، ما منعكم إذ رأيتموني ساكتاً أن يَقومَ أحدُكُم إليه بالسّيف فيَقطَعَ رأسَهُ؟ قالوا: يا رسول الله لو أشَرْتَ إلينا بِطرَفِ عينك "غمزة" وننفِّذ، فماذا كان جواب النّبي صلّى الله عليه وسلّم؟
(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) قال: ما كان يَنبغِي لنبيٍّ أن تكونَ عندَهُ خائنةُ الأعين، أي يُظهِرُ شيئاً مِن طرف عينه ويُشير إلى ضدّ ما يَستقبل به عدوَّهُ.

{ لمَّا كان يومُ فتحِ مكةَ اختبأَ عبدُاللهِ بنُ سعدِ بنِ أبي السرحِ عِندَ عثمانَ بنِ عفانَ فجاءَ به حتى أوقفَهُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فقال يا رسولَ اللهِ بايعْ عبدَاللهِ فرفعَ رأسَهُ فنظرَ إليه ثلاثًا كلُّ ذلك يأبَى فبايعَهُ بعدَ ثلاثٍ ثم أقبلَ على أصحابِهِ فقال أما كان فيكم رجلٌ رشيدٌ ، يقومُ إلى هذا حيث رآني كففْتُ يَدي عن بيعتِهِ فيقتلُهُ ؟ فقالوا : ما نَدري يا رسولَ اللهِ ما في نفسِكَ ألَّا أومأتَ إلينا بعينِكَ ! قال : إنَّهُ لا يَنبغي لنبيٍّ أن تكونَ له خائنةُ الأعينِ }

[صحيح أبي داوود]


أهمية فهم النّصّ القرآنيّ:
فيا بنيّ إما أن نكون مؤمنين بصِدقٍ، عندما نقرأ القرآن نقرأُه للعِلمِ، إذا ما فهمتَ الآية فما الفائدة من قراءتها؟ يعني إذا قرأتَ الوصفة الطبية مئة مليون مرَّةً، ولم تأتِ بالدواء من الصيدليّ، ولم تطبَّقْ حسب توجيه الطبيب، وقرأتْها وأحضرت أمُّ كلثوم قرأَتها لك، وبعدها عبد الوهاب، وبعدها كلّ الموسيقيين في العالم، وبعد أنت أيضاً أصبحت تقرأها أيضاً وتنغّمها صباح ومساء وصار معك إسهال يا ترى الإسهال يتوقَّف؟! هكذا الكثير من المسلمين يقرأون القرآن كهذا المثال، يقرأ لا لِيفهَمَ ولا ليُطبِّق ولا ليُنفِّذ فيَنطبِقُ عليهم قولُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ربّ تالٍ يَتلُو القرآن -يقرأ القرآن-والقرآن يَلعنُهُ، يَكونُ ظالماً للناس عندما يقرأ:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۚ أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(18)
[سورة هود]

وهو ظالم فيَقرَأُ القرآن والقرآن يلعَنُهُ والبهيمة لا تفعَلُ هذا يا بنيّ.

سبب نزول سورة عبس:
فنرجِعُ لسورة عبس وحقوق الإنسان، وسبَقَ معكم أن سببَ نزولِ السورة، و فيها العتَبُ الشديد من الله على سيدنا مُحمَّد صلّى الله عليه وسلّم، ويُبيِّن الله له أنّه أخطَأَ في استقبال الإنسان الفقير الأعمى، وما أحسَنَ استقبالَهُ بل انشغَلَ بالأغنياء عن الفقراء، وباستقبال الأقوياء على حساب الضعفاء، ومَن المُعاتِب؟ ويا ليت العتَبَ سري، أي إذا كان هناك مَن يَعزّ عليك وظهَرَ منه خطأ بينَكُ وبينَهُ تقول له: والله أنا لا تؤاخذني وتقدّم له خمسين اعتذاراً حتى تُبيّن له خطأه، وأنت من أنت؟ أنت إلى آخره، ومع ذلك إذا أردتَ أن تَنقُدَه وتنصحَهُ تقوم بخمسين مقدّمة كي لا ينزعج، أمّا خطأ النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا خطأ اجتهاديّ ليس خطأً في التبليغ أو في التشريع، بل في الأمور العاديّة وهو عتِب في الإذاعة، وأيضاً في الإذاعة الصوتية أذاعَ الخبرَ مرّة واحدة وانتهى الموضوع، وبالإذاعة التلفزيونيّة هل يُذاع الخبر مائة ألف مرة؟ إذاعةُ مُكرَّرة على لسان أكثَرَ مِن مليار إنسان وعتباً خالداً مُخلداً إلى يوم القيامة.
فقال له: أعبَستَ وأعرضتَ عن الإنسان لأنه الفقير الأعمى؟! ولم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مشغولاً بالأغنياء لأجل مصلحته الشخصيّة، وليكتَسِبَ عندهم منزلة عالية، أو ليَستفيد منهم فائدةً معينة لا، بل مشغول بالأغنياء والأمراء لهدايتهم مِن ضلالتهم، ولِيَنقُلَهم مِن وَثَنيتهم إلى وحدانيّة الله، ومِن رذائل الأخلاق إلى فضائلها؟ كالطبيب إذا كان يُجري عملية جراحية لوزير وأتى رجل فقير يريد إجراء عملية، والطبيب مشغول بالعملية الأُخرى، قال: لا، هذا الفقيرُ هو إنسان، وهذا الإنسان ينبغي تشجيعُهُ وتكريمُهُ حتّى لا يَشعُرَ في نفسه حَزناً أو ألماً ينبغي أن تقدِّمَهُ على الأغنياء وعلى الوزراء، فظلّ عَتباً مئات السنين وقد يبقى آلاف السنين.
فالإسلامُ شرَعَ حقوقَ الإنسان على الورق بلا تنفيذ! وأوّل مَن نفذَّه الله الذي شرَّعَهُ، ومع من؟ مع أحبِّ مخلوقاتِهِ إليه سيِّدِنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: لو أنَّ القرآن لم يكن مِن عند الله لو كان مِن عند مُحمَّد صلّى الله عليه وسلّم، لا يُسجِّل مُحمَّدٌ صلّى الله عليه وسلّم على نفسِهِ خطأ يُقرَأ عبرَ مئات الأجيال ومئات السنين، خطأً يُكرَّر ويُتلى، ويقرأه الصغير والكبير وفي اليابان وفي أمريكا لأجل أن يَعلمَ الناسُ كلُّهُم في كلّ العالم أنّ الإسلام شرَعَ حقوق الإنسان كدينٍ، كما أنَّ الصلاة دينٌ يجب أن تؤدَّى، فرعاية حقوق الإنسان هي كالصلاة فريضةٌ يجب أن تؤدَّى سواءٌ كان مسلماً أو غير مسلم.

عدل الرسول وحبّ الناس له:
غير المسلم مرّةً كان النّبي عليه الصّلاة والسّلام يوزع الصّدقات، فأَتَى إليه عابدُ صنمٍ يَطلُبُ المساعدة، والنّبي صلّى الله عليه وسلّم بشر، كان يقول:

{ إنما أنا بَشَرٌ، أَغْضَبُ كما يَغْضَبُ البَشَرُ، فأيُّـما رَجُلٍ آذَيْتُه أو جلَدْتُه فاجْعَلْها لَه زَكاةً وصلاةً. }

[أخرجه البخاري ومسلم]

يقولوا: "ديمقراطية" يا تَرَى رؤساء الحكومات الديمقراطية إذا أخطأ الملكُ خطأ مع أحد الرعيّة فلا يحتاجُ إلى محكمة ولا قاضي ولا محامي، ومن؟ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذي من حيث السياسة مَلَكَ الجزيرة العربيةّ ملك البلاد، والملِكُ قد يملِكُ ولكن الشعبَ قد لا يُحِبُّهُ، لكنَّ سيدنا مُحمَّد صلّى الله عليه وسلّم مَلَكَ الأرض، ومَلَكَ القلوب، ومَلَكَ العواطف، وملك الحبّ ويقول: فليَضرِبني!
وكان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم مرّة يُسوِّي الصفوف، فأحدُهُم مُتقدِّمٌ بيدِهِ قضيبٌ صغير، فضربَهُ، وقال له: تأخَّر.
فالديمقراطية نسبةً لفيلسوف يوناني اسمه "ديمقراطس" يا ترى الديمقراطية أعظَمُ أم الْمُحمَّدية أعظم؟ لا نحكُمُ حتى نرى بالمشاهدة، فقال المضروب : يا رسول الله إنّ الله بعثَكَ بالحقّ والعدل، ولو قلتَ لي: تأخَّرْ لتأخرتُ، فلماذا ضربتني؟ فأنا أطلَبُ منكَ القَصاصُ وأطلَبُ منك القَوَدْ، القَوَد: يعني ضربةٌ بضربة، فالنّبي عليه الصّلاة والسّلام أعطاه القضيب وقال له: اقتص لنفسَكَ يا سواد، واسمه سواد، لم يقل له: اذهبْ قدِّمْ استدعاءً ووكّلْ محامياً وبعد خمسة عشر سنة حتّى تحكُمَ المحكمةُ لكَ، لا نُريدُ حقَّنا ولا نُريدُ أن نُعطِّلَ وقتنا ونُضيع نصف عمرِنا و إمَّا أن نصل وإمَّا لا نصِلَ، فأخَذَ القضيبَ وقال له: اقتصَّ، قال: لا، ضربتَنِي وجسميّ مكشوفٌ وأنت ترتدي ثيابَكَ، فرفَعَ النّبي صلّى الله عليه وسلّم ثيابه حتى ظهَرَ بدنُهُ، وقال: اقتصَّ لنفسك يا سواد، وإذا بسواد يَمُدُّ يديه ويَلتزم النّبي صلّى الله عليه وسلّم ويُقبّل بدنَهُ، ويُقبّل جسده، فقال له: ما هذا يا سواد؟! قال: يا رسول الله حضَرَ وقت مقاتلة الوثنيين، عبدةِ الأصنام وأرجو أن يَرزقَني الله الشّهادة لألقى ربّي في ميدان الأعمال الصّالحة، فأحببتُ أن أودِّع الحياة بأن يكون آخر عهدي بها أن يمسَّ جلدي جلدَكَ، فأريدُ أن أتبارك بكَ، فقبّل جسد النّبي صلّى الله عليه وسلّم ودعا النّبي له عليه الصّلاة والسّلام.
فالشاهدُ أنَّ مَلِكَ الدّولة وقائد الجيش ومَلِكَ القلوب ومع إنسانٍ عاديّ وضربَةُ قضيب لتسوية الصفوف، فهل الديموقراطية وصلَتْ إلى هذا المستوى؟! يا ترى المدنيَّة في القرن العشرين، ورؤساء الدّول أو شرطي إذا أخطأَ معك وقلتَ له: أنتَ مُخطئ أعطيني حقّي هل يَستجيبُ لك؟ فيقولوا: إنّ عصرنا عصر تقدُّم، الذي تقدَّمَ هي الآلة، يا ترى هل الإنسان تقدَّمَ نحو إنسانيته؟ أو نحو فضائله؟ أو نحو الكمال في أخلاقه ومعاملاته؟

إنسانيةُ الإنسان في الإسلام:
في إنسانيته أن يَنظُرَ لأخيه الإنسان كما كان النّبي مُحمَّد صلّى الله عليه وسلّم يقول: الإنسانُ أخو الإنسان، ما قال: المؤمن، ويوجَد أخوّة الإيمان:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
[سورة الحجرات]

ويُوجَد أُخوُّةُ الرَّضاع، ويوجَد إخوّة مِن الأبّ وإخوّة منِ الأم، ويوجَدُ أُخوَّة الشقيق، ويوجَد الإخوة الإنسانية، "الإنسان أخو الإنسان أحبَّ أم كرِهَ" فإنسانُ هذا الزّمن مغرور، والمُتحضِّرُ مُتقدّم، والذي تقدَّم مركوبُهُ كان حماراً فصار سيارةً، والحمار ترقّى يعني المركوب، كان يمشي بالتبن فصار يمشي بالبِنزينِ، أيضاً الحمار ترقّى ترقيّاً ثانياً، صار قطاراً وصار طيّارةً، أمّا يا ترى الإنسان هل ترقَّى بفضائله وبأخلاقه وبإنسانيَّتِهِ؟ لمّا قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم:
ما آمَنَ بي يعني الإنسان لا يَنال الإيمان ولو ساعة مِن نهار، إذا رأى جائعاً ولا يُطعِمُهُ، والرَّائي له شبعان، أن تكون شبعانَ وترى جائِعاً ولا تُطعِمُهُ أو تكون صحيحاً وتَرَى مريضاً وتستطيع أن تُسعِفَه وتُعالِجَه ولا تُساعِدَه، فالنّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: أنك ما نلتَ مِن الإيمان ولا ساعةً من نهار، يعني عُمرُكَ كلُّه بلا إيمان، وما نلتَ مِن الإيمان ولو ساعةً واحدة.

الانحراف سبب الخلافات :
فيا ترى هذه المعاني لو عُمِل على تغذية عقلِ الإنسان فيها، يا ترى هل ستكونُ حروبٌ في هذا الزمان؟ يا ترى العِلْمُ الذي يَصنَعُ القنبلة النوويّة هذه لحقوق الإنسان ولِمصلحة الإنسان؟ الحروب الجرثوميّة لمصلحة الإنسان؟ فإذا ما الإنسان استعانَ بالإيمان، والإيمان الحقيقيّ في الأديان الثلاث الإبراهيميّة، الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة، ليست هي الآن كما بلَّغَها سيدِّنُا موسى والمسيح عليهما السّلام ومُحمَّد صلّى الله عليه وسلّم، المسلمون انحرفوا انحرافاً كثيراً عن الإسلام، والمسيحيون كذلك انحَرفُوا، واليهود كذلك انحرفوا، الأديان تحتاجُ إلى إرجاعها إلى أصولِها، إلى تجريدِها مِن الدّخائل عليها التي شوهَّتْ جمالها، وأماتَت حيويتَها وأبعدت إنسانيتها.
فالبوسنة والهرسك يا ترى على مشهد من العالم وهيئة الأمم ومجلس الأمن، والنساء يقولوا: حقوق المرأة، الأطفال، المرضى، الجرحى، تُهدُّمَ البيوت فوق رؤوس أصحابها، في فلسطين سنة 1948 وقرارات هيئةِ الأمم لا تُنفَّذ، في العراق حالاً تُنفَّذ! أليس دَجْلاً ودَجَلاً على شعوب العالم؟

ضرورة العودة للأصل الصّافي من الشوائب :
فما لم يرجِع الإنسان إلى قانون الله بعد تصفيتِهِ مِنَ الشّوائب التي شوَّهَتْه، وجعلَت العقلَ يَتَجافى عنه ولا يتقبَّلُهُ، أمّا الإيمان والتشريع الإلهيّ السماويّ فهو مثلُ ماء المطر ينزِلُ مِن السّماء ليَهَبَ لك الحياة، وبدونه لا تكون حياة لا للإنسان ولا للحيوان ولا للنبات، ولكنَّ هذا الماءَ الواهبَ للحياة إذا اختلطَ بأوساخ الإنسان هل يُعطِي الحياة بعد اتساخه؟ بل يُعطِي الأمراضَ ويُعطي الهلاك؟ فيَنفِرُ الإنّسان منه، فيا ترى إذا اتّسخ الماء هل يرضى الإنّسان لنفسه أن يبتعدَ عن الماء ويُحرِّمُهُ على نفسه فلا يستعملُهُ، أم يُفتِّشَ على ماءٍ زُلالٍ نظيفٍ غير ملوَّث؟ أجيبوني؟ فمن يَبتعِدُ عن الدِّين لأنَّ الدين توسَّخَ بأخطاء رجال الدين، وبتَّأويلات كثيرة ليسَتْ مِن جوهَرِ الدِّين بل مُنافية للدِّين.
فيا ترى إذا كان الدين هو الحياةُ، حياة للعقلِ، حياة للرُّوح، وحياة للفضائل، وحياة للتقدم، لمّا النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول:

{ مَنِ استوى يوماهُ فهوَ مغبونٌ ومَنْ كان آخرُ يومينِ شرًا فهوَ ملعونٌ ومَنْ لمْ يكنْ على الزيادةِ فهوَ في النُّقصانِ ومَنْ كان في النقصانِ فالموتُ خيرٌ لهُ }

[أخرجه الديلمي إسناده ضعيف]

إذا كنت في اليوم مثل أمس، والمغبون الذي يَكونُ مغلوباً في بيعته أو شَروَتِهِ، يَقولُوا تقدُّميّة، أليس كذلك؟ وهل هذا الحديث تخلُّف؟ فيا أيّها الإنسان في القرن العشرين يا ترى هل إذا عرفتَ الإيمان، يا ترى لمّا تَشتَري سيّارة وتُريدُ الأفضل وخيِّرتَ بين سيارةٍ موديل 95 أو55 ماذا تختار؟ حتماً الحديثة لأنّها لن تكون مُعرَّضَة لتعَبِ أو لخلل، فكذلك الإسلام في هذا الوقت.
النبي يقول يا بنيّ هذا الحديث النبوي الذي غَفَل عنه المسلمون، الذي يَدعُو إلى إعادة النَّظَرِ في المفهوم الدينيّ الإسلاميّ، يقول كل مائة سنة يجب أن يُعاد النظر في المفهوم الإسلامي، خوفاً مِن أن يدخل على الدين دخائل تُشّوُّهُ جمالَهُ وتُغيِّرُ حقيقتَهُ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ اللهَ يَبعَثُ لهذه الأُمَّةِ على رأسِ كلِّ مئةِ سَنةٍ مَن يُجَدِّدُ لها دِينَها }

[شعيب الأرناؤوط صحيح]

يعني يجب على المسلمين كلّ مئة سنة أن يُعيدوا النظرَ هل دخَلَ على الدين شيءٌ شَوهَّهُ أو غيّرَ جوهرَهُ، أو بدَّلَ مسيرته إلى غير الطريق السّويّ المستقيم المُوصِلِ إلى النَّجاح؟
قال:

{ يحمِلُ هذا العِلْمَ مِن كلِّ خَلَفٍ عُدولُه يَنفون عنه تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المُبْطِلينَ وتأويلَ الجاهلينَ }

[أخرجه الطبراني والعقيلي ]

وهناك مِن الناس لشدّة حُبّهم في الدين يُغالون ومن المُغالاة يُحرّفون في الدين، انظر إلى المسلم يدعو إلى شيءٍ غير إسلاميّ باسم الدين لحبّه للدّين، ويكونُ هذا ليس من الدّين، لكنّه يتَوهّمه أنّه من الدين، فالمُجدِّد (يَنفون عنه تحريفَ الغالين، وتأويلَ الجاهلينَ) يأتي جاهل يُفسِّرُ الدين ويَشرَحُه في غير حقيقته، فتضيعُ الحقيقة ويَبقى تأويلُ وشرحُ الجاهل، (وانتحالَ المُبْطِلينَ) هناك دسَّاسون يَدُسُّون في الدِّينِ الباطل ليُشوِّهوا جمالَهُ جهلاً وحِقداً وحقارةً نفسيةً.

العدالة الإنسانيّة في الإسلام:
نعود لسورة عبس، وليسَت سورة عبس فقط هي دافعَت عن حقوق الإنسان الضعيف في وجه الأقوياء، وفي سورة البقرة لمّا يُوزِّع النّبي صلّى الله عليه وسلّم الصّدقات ويأتي إليه الوثنيّ، النصرانيّ يُعتبر مِن أهل الكتاب المقدس، واليهوديّ والنصرانيّ أفضل من الوثنيّ، وفي الأصل كلُّهم يشربون مِن نبعٍ واحد ولهدفٍ واحد، مِن المصدر الإلهيّ خالق الكون بما فيه من مجرَّاتٍ ونجومٍ أكثر من عدد رمال الدنيا، فقال له: أنت لستَ على ديني فلا أُعطيك! لأنَّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم بشر، وينصرَفَ الإنسان الوثني حزيناً جائعاً، مُحقّرةً إنسانيته، وفي مجتمعٍ جاهليّ لا يوجد ناصر، حتى النّبي عليه الصّلاة والسّلام إنسان أيضاً لم يُناصِرُهُ، لكن مَن الذي ناصَرَهُ؟ ناصَرَهُ خالقُهُ، ناصرَهُ أرحم الرّاحمين، الذي نطَقَ نبيُّهُ بعد ذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:

{ الخلقُ كلُّهم عيالُ اللَّهِ ، وأحبُّ الخلقِ إلى اللَّهِ أنفعُهم لعيالِهِ }

[أخرجه الطبراني والبزار ]

والوثنيّ مِن الخلق؟ من عيال الله؟ (وأحبُّ الخلقِ إلى اللَّهِ أنفعُهم لعيالِهِ) تشمل المجوسيّ؟ تشمل الشيوعيّ وتشمل اليهودي؟
فأنزَل الله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم عتباً، ولم يكن عتباً سرياً، أنني أنا رسول الله وخاتم النّبيين وتُعاتبني أمام الخَلْقِ وأمام قومي؟! لا بل هذا العَتب سيبقى خالداً مُخلَّداً لكلّ الأجيال مادامت الدّنيا في الوجود والبقاء، يُتلى مِن إندونيسيا إلى سان فرانسيسكو، مليار وعشرون ملياراً هذا العتب لأنه ليس عَتباً فقط، وإنّما هو تعليمٌ لكلّ الأجيال لكلّ إنسان، لِيَعرِفَ حقّ الإنسان عن طريق العقيدة الدينيّة السّماويّة التي وراءها المسؤوليّة، وليست مثل أميركا تصنع أساطيرَ بسبب قضية الكويت، مسؤولية مِن خالقُ أميركا، وخالق الشّمس والقمر والكواكب والنّجوم والمجرّات، فأيُّ المسؤوليّتين أعظَمُ وأخطَرُ على المُخالف للأوامر؟ مُخالفة الله أم مُخالفة أمريكا؟ فيَنزِلُ القرار في حقوق الإنسان، وهذا الإنسان ليس من أهل الكتاب، وأهل الكتاب يُعتَبَرون مُشرَّفين في القرآن سمَّاهمُ الله "أهل الكتاب" والكفّار أطلقَهم على الوثنيين، وسمَّاهُمُ الكفار أو المشركين، فأنزَل الله في أواخر سورة البقرة هذه الآية عَتباً على النّبي صلّى الله عليه وسلّم قائلاً:

لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
[سورة البقرة ]

أنت لستَ مسؤولاً عن هداية الناس، أنت مسؤول عن تبلِّيغ الرسالة فقط، بالحكمة والموعظة الحسنة، ونَسمَعُ بعضَ مَن يُنْسَب إلى التديُّن مِن أعمال إرهابيةّ من اغتيالِ الأبرياء كشرطيّ، وهذا مأمور عند الدولة إلى آخره، وهذا في الإسلام لا يُسمَح به، كما أنّه على الحكاّم أيضاً أن يمنحُوا الحرية لشعوبِهِم ليقولَ كلٌّ ما يَشكُو من ظُلامةٍ أو اضطهادٍ، فالدولة تُعطي الشعوب حقَّها في الحياة وحقَّها في العمل وحقَّها في العيش الكريم إلى آخره، فأنزَلَ الله في القرآن انتصاراً للوثنّي على من؟ على نبيِّهِ ورسوله، والخلافُ بين رسول الله وبين وثنيّ، والله يَقِفُ ويَنصر مَن؟ الله مِن أسمائه الحقّ والله مع الحقّ، والحقّ مع مَنْ؟ مع الوثنيّ.
فأُنزِلَ القرآن بقوله مخاطباً النبي صلّى الله عليه وسلّم (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) أنت لستَ مسؤولاً عن عقيدته، ودينه، وثني، نصرانيّ، يهوديّ، بوذيّ، كونفوشيي، أنت لست مسؤول، (وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) هذه مسؤوليّتها ومرجعيَّتُها إلى الله، أما أنت مسؤول عن إغاثة المُستغيث، وعن إطعام الجائع، وعن إكساء العاري، وتأمين المظلوم الخائف، بحسَبِ ما تملِكُ مِن طاقة (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ) عندما تُقدّم له مساعدة، وما تقدّموا من خير فإنَّ الله يَعلمُهُ فيُسجَّلُ لك ويُكافِئُكَ الله عليه، وإنّما تفعلُه بنفسك لأنّ ثوابه ومرددُوه إليكَ (وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) وعندما تُنفق لا يجوز أن يكون لك غرضُ شخصيّ في مساعدة الفقير، إلا ابتغاء مرضاة الله وتنفيذاً لأوامر الله (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ).
كم مرّة يؤكِّدُ المساعدة؟ ثلاث مرّات، (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) مردودُهُ إليكم (وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) عملُكَ لا يَضيع، وإذا ضيّعه الله يكون قد ظلمَكَ لكن الله (لَا تُظْلَمُونَ)

ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (51)
[سورة الأنفال ]


قانون الغاب الفاقد للمنطق بحججٍ واهية:
لو كان عتباً سرّياً يا الله بَينِي وبينَكَ، ولا تذلّني أمامَ الناس، طيب لا تسجِّلْهُ بالقرآن الآن سمعوهُ فلا بأسَ، بعدَها يَنسونَهُ ويمشِي الحال، لا، سجَّلَهُ في القرآن وتسجيل:

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
[سورة الحجر ]

إنّ القرآن لا يُمحَى إلى يوم القيامة حتى يُتلى في الجنة، فما هذا القانون الإلهيّ العادل الرّحيم الذي لا يُفرِّقُ بين أبيضَ وأسود، وبين عربيٍّ وغير عربي، بين مسلم وغير مسلم، والإنسان الآن يُغَشُّ بقوانين هيئة الأمم ومجالس الأمن الذين يَكيلُون بمكيالين، حيثما كانت مصلحة أصحاب الفيتو وعلى رأسهم أمريكا الحقّ للقوّة، والحقّ للمصلحة الأمريكيّة أو المصلحة البريطانية، أمَّا الضعيفُ إذا كان له الحقّ فلا حقّ للضعيف، كالذئب عندما دخل الحمَّام ورأى الخروف في الحمّام، فالحمّام تكون أرضُهُ فيها غبار؟ لا، دائماً الماء سيَّال على أرض الحمَّام هل يمكن أن يكون هناك غُبار؟ فالذئب لَمَّا رأى الخروف الصغير في الحمَّام قال له: لماذا تُغبِّرُ الحمّام؟ قال له: الحمَّام تغبَّرت أرضه ولا ترى أرضُهُ كلّها ماء نمشي عليها، قال له: لماذا أنت قبل سنتين سبَبْتَ أبي؟ قال له: أنتَ تقول قبل سنتين أنا الآن كم عُمري؟ قال له: إذا أردتَ أن تأكلني فكُلني، لكن لا تقل لي: سبَبْتُ أباك، ولا تقل لي: لماذا غبَّرتَ الحمّام؟!
هذا هو القانون الذي يَسيرُ عليه مجلسُ الأمن في أكثر قراراته، ولذلك لا يَستقِرُّ أمن، ولا يستقر سلام مادام هناك مُعتدٍ ومُعتدَى عليه، فالمُعتدَى عليه ما دام ضعيفاً يَسكُتُ، ولكن يقولوا: الكون دوّار، بينما يكونُ أحدُهم في الأعلى يُصبِحُ في الأسفل والضعيف سينقلبُ قوياً، والقويّ سيصيرُ ضعيفاً، فقانونُ الله لا يوجَد فيه قويّ وضَعيف، وقانونُ الله الحقّ لِصاحب الحق قويّاً أو ضعيفاً، والنبيُّ بعد نزولِ العَتَبِ الإلهي له يقول: ردُّوا عليَّ الوثني، فردُّوهُ عليه فأعطاه مثلما أعطى المسلمين، وزاده على ما أعطى المسلمين ليُكفِّر عما فعله مِن منَعَ المعونة لهذا الوثني؟ وبقيت الآية قانوناً ثابتاً خالداً مُخلَّداً ما دام الإنسان على هذه الكرة الأرضية.

انتصارُ الإسلام لليهوديّ المتّهَم على المسلِم الظالم:
آيةٌ أخرى في حقوق الإنسان، في سورة النساء، وقعَت سرقة لأحدِهم، وسُرِقَ مِن بيته كيسٌ مِن الطحين وشيءٌ مِن الأسلحة، فالسَّارق أخَذَ المسروق وخبَّأَه عند رجلٍ يهوديّ، ولأمرٍ ما كان كيس الطحين فيه ثقب يعني مثقوب، فعندما حمَلَهُ في الليل صار الطحين يَنزِلُ مِن الثقب بحسبِ مرور الحامل، حتى وصَلَ إلى بيت المحمول إليه وهو يهوديّ، قال له: ضعْهُ لي عندك أمانة وديعة، فلمَّا صار الصباح رأى أهل البيت المسروق أنّ كيس الطّحين وبعض أمتعة البيت سُرِقت، وخرجوا فشاهدوا أثَرَ الطّحين على الأرض، فتتَّبَعُوا الأثر حتى وصلوا إلى بيت اليهودي وفتّشوا بيت اليهودي فوجَدُوا المسروقات في بيته، فالقضاء ماذا سيحكم في ذاك الوقت وبهذا الوقت؟ على اليهوديّ، لكنّ اليهودي بريءٌ ليس لديه عِلم، قال لهم: والله ليس لدي عِلم، قالوا: والطحين؟! قال لهم: فلان أحضَرَهُ لي ووضعَه عندي أمانة، أحضِرُوا فلاناً إذ هو مسلم، لكنه مسلم كذّاب، فمسلم ويصبح سارق يا بني! والسارق تُقطَع يدُهُ، ولِماذا تُقطَع يدُهُ؟ بعض النّاس يستفظعوا قَطْعَ اليد أو القصاص، وكم من القتلى قُتِلوا بسبب جرائم السارقين؟ في أمريكا السنة الماضيّة سمعتم جميعاً ما حدثّنا به الدكتور مُحمَّد أسعد وهو إيرلنديّ الأصل، بأنَّ الجرائم في أمريكا في سنة الأربع وتسعين بلغَت أربعة عشر ألف قتيل! لماذا؟ لو كانت القوانين إلهيّة لن يكون هكذا قتلى، في المملكة السعوديّة ورغم سعة مساحة أرضها فهي أقلّ البلدان جرائم مع تخلُّفها في الأمور الحياتيّة والعلميّة، وإلى آخره ككثير من البلاد الإسلاميّة.
فاليهوديّ تبرَّأ واتّهَم الذي جلَبَ له الكيس، أمّا السارق فأنكَرَ ودعا أقاربه إلى النّبي عليه الصّلاة والسّلام حتى يمدحوهُ ويُدافِعُوا عنه وأنّه لا يفعل هكذا أشياء، والدليل أنّ الكيس وجدوه في بيت اليهوديّ؟ فكلُّهُم شهدوا ببراءة المسلم والإدانة والاتهام لليهوديّ، فالقاضي ماذا سيحكم؟ في كلّ بلاد العالم بإدانة اليهوديّ وببراءة المسلم، لكن الواقع من الْمُدان؟ والمجرم والسارق؟ المسلم، يا ترى هل تَخفَى على الله خافية؟

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59)
[سورة الأنعام ]

يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(4)
[سورة التغابن ]

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق ]

يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
[سورة غافر ]

يا ترى المسلم هل يُؤمِن بهذه الآيات في أعماله؟ هل يقرأها مِن غير ما يفكر في معناها! حتى التفكير لا يُفكِّرُ، فكيف سيُحوِّلَها إلى أعمال وسلوك صالحة حتى يصير مسلماً حقاً؟ لا تنغرَّ يا بنيّ أن أنت مسلم لأن أباك مسلم وجدَّك مسلم، لو كان لك خمسون جدّ، كانوا أطباء أتصبح طبيب من غير دراسة في كلية الطب ومن غير أساتذة ومن غير تدريب؟! لو كان لك خمسمائة جدٍّ طيار أتصبح أنت طيّاراً؟! فالعِلم لا يُورَث، لأنّ العِلم بالتعلُّم، والإيمان بالمُعلَّم المُربّي الحكيم المُزكِّي.
والنّبيُّ عليه الصّلاة والسّلام مثل القاضي عندما يُهيّئُ القرارَ بإعلان إدانة المجرم، همَّ أن يُدينَ اليهوديّ، ويُبرئ المجرم، واليهودي بريء، والسارق هو المسلم، والله عنده علمٌ بالقصة ذلك؟ وحاضر و شاهد، أتخفى عليه خافية؟ الله يَعلَم أنَّ اليهودي بريء، والمسلم هو المجرم وهل الله سيَسكُتُ عن الحقّ؟ "السّاكت عن الحق.. "
الله يسكت عن الحقّ؟! وينزلَ القرآن في سورة النساء يُعاتِبُ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، أيضاً عتَبٌ، لماذا ليس بيني وبينك؟ الآن هل يجوز أن أُعاتِبَ أبو نزار إن أخطَأ وأنا أُخطِئ، فسيقول لي: يا شيخي لو بينِي وبينَكَ وليس أمامَ الناس، والله يُعاتِبُ النَّبيَّ عليه الصلاة والسلام أمام العالم وبالإذاعات، وكلَّ يوم يُقرَأ بالإذاعات وبالتلفزيون وبالطباعة وباندونيسيا وبباكستان، ما هو العتاب؟

وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (106)
[سورة النساء ]

واستغفر الله يا مُحمَّد، أنت ستقَعُ في الخطأ (وَاسْتَغْفِرِ) مِن هذا الهمِّ، ولم يكن قد تكلَّمَ، ما زال لم يُخطِئ، قبلَ الخطأ، يا بنيّ هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هكذا يُحاكِمُه الله، فأنت وأنا كيف الله سيُحاكمنا؟ هل نهِّم نحن في الخطأ أم نُحوِّلُ الهمَّ إلى عمَلٍ؟ هذا لأنه سيُدافِعُ عن المُذنب ويُجرِّمُ البريء؟ فإذا كنتَ أنتَ المجرمَ، أنتَ السّارق، فكيف تُدافِعُ عن نفسك أمام الله أتستطيعُ أن تُدافِعَ أمْرَ الله أتكذبُ على الله؟ إن كنتَ تكذبُ على الناس فهناك أناسٌ يُصدِّقونك، وهناك أناس يُسايرونك ويعتقدون فيك أنكَ كاذب، لكن أمام الله يا بُني كلُّه:

فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة ]

يَرى الثواب على الخير، و( شَرًّا يَرَهُ) ويرى العقوبة على الشر.
فالحكم على من كانَ؟ على النبيّ عليه الصّلاة والسّلام، قبل كلِّ شيء على القاضي، قال له: يا أيها القاضي ولو كنتَ نبيِّ ورسولي وأنت رحمة للعالمين، وأنت سيِّدُ ولدِ آدم، لكن ستقَعُ في خطأ، (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ) وإذا استغفرتَ وندمتَ ورجعتَ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)

وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
[سورة النساء ]

كان النّبي عليه الصّلاة والسّلام يدافع عن المسلم، والمسلم خائن سارق (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) خواناً يخون الأمانة، وأثيماً يُلصِقُها بالبريء.

هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
[سورة النساء ]

بالدنيا تُبَّرأ، ولو كذبتَ على النّاس أو خادعتَ أو لعِبتَ وستّرتَ ودهّنتَ فمشَت،أمَّا على الله تمشي؟! أأنتَ مؤمنٌ بالله أنّه لا تمشي عليه، إذا كنتَ مؤمن بالله أنه لا تمشي عليه فكيف ستُمشِّيها عليه؟ يا ترى أنت عاقلٌ أم مجنون؟ أنت مؤمنٌ أم كافر؟ (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا)

يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
[سورة النساء ]

يستطيعُ أن يُخفي عيوبَهُ عن الناس، لكن هل يستطيعُ أن يُخبّئ عيبَه عن الله (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ) لأنَّه ذهَبَ إلى عشيرته بالليل وقال لهم: أَستجيرُ بكم أن تُدافِعُوا عنّي عند النّبي عليه الصّلاة والسّلام، والله سأُفضَحُ وتُفضحون معي، (وَهُوَ مَعَهُمْ) بالسهرة، لمّا يَتآمرون ليُساعدوا الخائن السّارق، وعلى إدانة البريء اليهوديّ، (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا).
فإذا الله هو مَن يُشرِفُ على القضية أيُخبأ على الله شيء؟ يا ترى لَمَّا المسلم يقرأ هذه الآيات هل فَقِهها؟ هل فهمَها؟ هل آمَنَ بها؟ هل تحوَّلَت قراءتُهُ إلى عملٍ وسلوك؟ لا يَتَّهِمُ بريئاً ويَنتصِرُ للبريء؟ ويُجرِّمُ المُجرِم، ولكنَّ النّبيُّ عليه الصّلاة والسّلام ما كان عنده عِلم، ويقول:

{ إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّار }

[صحيح البخاري]

بالمحكمة أمَا يَكون هناك خصمانِ؟ (ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ) يعرف أن يتكلّمَ أكثر، ومحاميه أفضل، ويستطيع أن يُصوِّر الباطل بصورة الحقّ، والقاضي لا يَعرِفُ إلا ما يُقدِّمُ له، والآخر لا يَستطيعُ أن يُبيِّنَ حقَّهُ بشكلٍ واضح، فأحكُمُ له لِمَن؟ لمن َظهَرُ أنَّ الحق معه، (فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا)، لو كان النبيُّ عليه الصَّلاة والسّلام قد حَكَمَ لك، النّبيّ حَكَمَ لكَ أنَّ هذه الأرض أرضُكَ، وهذا البيت لك، وهذه الدُّكّانَة لك، وهي ليسَت لك (فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّار)، لا يقلْ: إنَّ النّبيَّ عليه الصّلاة والسّلام حَكَمَ لي، أنت غششتَ النّبيَّ عليه الصّلاة والسّلام، لكن الله لا يُغَشُّ.

القوانين الإلهيّة عندما تسودُ تُغني عن المحاكم:
فيا بنيّ يا تَرَى هذه القوانين والتّربية الإلهيّة لو عُمِّمَت في العالم عن طريق الأقمار الصّناعية والمدارس تبنَّتْ هذه التَّعاليم، يا ترى هل يحتاج الإنسان إلى القضاء والمحاكم؟ ولذلك في زمَنِ النّبيِّ عليه الصّلاة والسّلام ما كان هناك سجون، ولا كان يُوجَد محاكم، وفي زمن أبي بكر رضي الله عنه ما كان يُوجَد لا محاكم ولا سجون، والمذنبُ إذا أذنَبَ يأتي إلى المسجد ويَربِطُ نفسَه بعمودٍ من أعمدة المسجد ويحلف: أنّه والله لا يأكل ولا يَشرَبُ حتى يغفر الله له أو يموت، هذا الإيمان الذي فَعَلَ بالإنسان هذا الفعل فحوَّلَهُ إلى هذا الشكل، يا ترى إنسان القرنِ العشرين، أليس بحاجةٍ إليه؟ في كلِّ بلدِ المحاكم بالمئات، السجون بالمئات، القضاة بالمئات، ويقال: دخَلَ أحدُهُم على قاضٍ، قال له: السّلام عليك يا قاضيَ الشَّياطين، فغضِبَ القاضي، قال له: أنا قاضي الشَّياطين! قال له: لكن مَن أنت؟ أنتَ قاضي الملائكة، الملائكة لا يَحتاجُونَ إلى قاضٍ، لأنهم ليس فيهم مُعتدٍ ومُعتدى عليه، أمَّا الشياطين فهم الذي يعتَدي بعضُهُم على بعض فيأتون إليكَ فأنتَ قاضِي الشَّياطين، (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا).

هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
[سورة النساء ]

بالمحكمة المؤقَّتَة دافعتُم وأخذتُم الُحكمَ، أمَّا في محكمةِ الله يومَ القيامة (فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) من يَقدر أن يعمل محامياً عن الباطل في محكمة الله؟! الله يَقطعُ له رقبتَهُ، ويَسحَبُهُ مِن قدمه ويَرميهِ بجهنم ثم قال:

وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا (110)
[سورة النساء ]

هنا معالجةُ السّارق المذنبِ الخاطِئ﴿ أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ) ويَتوبُ لله ويُعلِنُ توبته وتراجَعَهُ عن خطأه (يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا) أمَّا الذي يُصرّ على خطئه ولا يَتراجع إلى الخير:

وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
[سورة النساء ]

في الدّنيا قبل الآخرة (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)

وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (112)
[سورة النساء ]

مثل هذا المسلم السّارق( وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا) من البريء؟ اليهوديّ، (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا).
صفحةٌ مِن القرآن دفاعاً عن الإنسان اليهوديّ في ظِلِّ الدّولة الإسلامية النبويّة، تنفيذاً للقانون الإسلاميّ السَّماوي! يا تُرى القرن العشرين والحادي والعشرين قانونُهُ أفضَلُ أم هذا القانون الإلهيّ؟ لكن ما الذي يَقِفُ في الطريق؟ يقفُ في الطّريق الجهلُ بالحقائق، الإنسان لا يَصيرُ له طريقٌ مُيسَّرٌ لِفَهمِ الدِّينِ مِن جوهرِهِ وأصالته ويشربُهُ من نبعه، بل يَشرَبُهُ بعد أن يَدخُلَ النهر في المدن، وتُلقى عليه أوساخُها ويخرج ماءً أسود كلُّه سموم، فيَشربُهُ فيُصاب بالمرض أو بالهلاك والموت، ولذلك الإنسان قال: لا حاجة لنا بالدين، ولا حاجة لنا بهذا الماء لأنّه يقتلَ، لا يا أخي هذا الماء ملوَّثٌ يجب أن نصنع له معملَ تصفية، فإذا رجع إلى نقائه وصفائه فلا حياة بدونه، وأمَّا أن نستعملَهُ بأوساخه وسمومِهِ إنّه والله قاتل.

الناس ألحَدوا بالدّين المشوَّه، وأمّا لو كان حقيقيًا لدانوا له:
وإذا ألحَدَ الملحِدُ فلا يستطيع أن يُلحِدَ بالدّين، وإنّما ألحَدَ بالدّين المزوَّر وبالدّين المشوَّه، وهذا أنتم بجمعِكُم هذا، قد تكونون ألفاً أو أكثَرَ إلى آخره، أنا أتحدَّاكم جميعاً، فما لونُ عمامتي؟ هل تستطيعون أن تُلحِدُوا ببياضِها، فتقولون: سوداء ليس أنتم، وأنتم أهلُ سوريا كلَّها والجزيرة العربيّة وأوروبا وأمريكا واليابان أتستطيعون أن تَقولوا عنها: سوداء؟! كذلك الحقّ هو حقّ لكن إذا أُظهِرَ بثوبه الحقيقيّ، أمَّا إذا كانَت ملكةُ الجمال وألبسناها ثوبَ بلاستيك غوريلا، ووضَعْنا فيها مُسجَّلاً لصوتِ الغوريلا وفي حفلة العرس وقلنا: لأهل الحاضرين، أتَت العروسُ وأدخلناها عليهِم، ونطقَتْ بالمسجِّل بصوت الغوريلا، ماذا يحدثُ بالزغاريد؟ تنقلِبُ صراخاً، والذين يَرقصون يَقعون كلُّهم مُغمَى عليهم ويدوسون على بعضهم البعض أليس كذلك؟
هكذا الآن مفهوم الدّين في كثيرٍ مِنَ النّاس، يَحتاجُ واحد ابن حلال ليُخرِجَ الغطاء البلاستيكيّ عن رأس ملكةِ الجمال، فعندما يَرون الحقيقة بجوهرِها يَكونُ الوضعُ كما قال الشاعر:
لو يَسمَعون كَما سَمعتُ كَلامَها خرّوا لِعَزّة رُكَّعاً وَسُجوداً
{ كثير عزة }

الدّين يحتاجُ إلى ترجمةٍ جديدة:
والله يا بنيّ لو ظهَرَ الدين بحقيقته؛ فمَن العطشان المُنقطع بالصحراء إذا قُدَّمَ له الماء المُثلّج الْمُحلَّى يَرفضُهُ؟! والمُعطر بماء الورد أو بماء الزهر؟!أيِّ جائع وهو من ثلاثة أيّام جائع فيُقدِّمُ له الطَّعامَ الشّهيّ مِن مطعم الأمراء فيَرفضُهُ ولا يقبلُهُ؟! مَن البردان السّقعان الذي يُدعَى إلى الحمَّام ويرفض إلا البقاء تحت الثلوج وعلى الجليد؟! فالدّين يحتاج إلى ترجمةٍ جديدة، وإلى شرحٍ جديد، وبوسائلِ الإعلام المتاحة، والله لَيُوحِدَنَّ العالم كلَّهُ مِن أمريكا إلى اليابان وما بينهما، والغنيّ يَكونُ سعيداً بالإسلام، والإسلامُ الأصيلُ ليس الإسلامُ الذي عليه المسلمون، والمسلمون يُشوِّهون الإسلام بسُلوكِهِم وببُعدِهِم عن فهمِهِ، والكثير مِن رجال الأديان يَتَحمَّلُون مسؤوليةً كبيرةً في عدم إجادتهم لتصوير الدين بحقيقتِهِ وجمالِهِ، لو أنا كُلِّفتُ أن أُصوِّرَ ملكة الجمال وأنا ما اشتغلتُ بالتصوير كيف تخرُجُ الصّورة؟ لا أستطيعُ أنا على الورق أن أنقُلَ صورةَ ملكة الجمال.
لذلك يجب على الإنسان أن يتفهَّمَ قوانين الله، تربية الله، التربية الإلهية التي تصنَع مِن الإنسان الخام ومِن الحديد الخامّ وتصنع منه طائرة البوينغ التي تحمِلُ أربعمائة أو خمسمائة راكبٍ، لكن وهو حديدٌ خامٌ بين التراب والأحجار لا قيمة له، له القيمة بعدَ تصنيعِهِ مِن طرَفِ المهندسين الاختصاصين بالصّناعة.

سماحة الإسلام مع أديانِ أهل الكتاب:
لذلك نرجع إلى سورة "عبس وتولّى" ومرّةً أتى وفدٌ من نجران، وكان مِن النّصارى المسيحين إلى النّبي عليه الصّلاة والسّلام لَمَّا شاع أمرُ نبوَّتِهِ ورسالته، فحان وقتُ صلاتِهِم المسيحيّة، فأرادُوا طلَب من المسلمين المسجد ليُصلُّوا فيه، فمنعُوهُم مِن الصلاة فيه يريدون أن يُصلُّوا "باسم الأب والابن وروح القدس"، وهذا التثليثُ ضدّ العقيدة الإسلامية وهل يمكنُ في مسجد الإسلام أيجوز؟ حسب المتعارَفِ العام لا يجوزُ، فبلَغَ النّبيَّ عليه الصّلاة والسّلام أمرُهُم، وأنهم يريدون الصلاة وفي مسجده فقال لهم: " افتحُوا لهم مسجدي ودَعُوهُم يُصلوا لله فيه على حسَبِ صلاتهم" أخَذَ النّبيُّ عليه الصّلاة والسّلام دروساً مِن عبس وتولّى، وأخَذَ الدرس الثاني مِن الوثنيّ في قصّة الصدقات، والدرس الثّالث مِن اليهودي الذي يُدافع عن اللصّ المسلم ضدّ اليهودي ألا يكفي ثلاث دروس فحفظِ الدرس.
ومرّت جنازةُ يهوديٍّ على النّبي عليه الصّلاة والسّلام وأصحابُه فقامَ النّبي عليه الصّلاة والسّلام احتراماً للجنازة، ودائماً التعصب في المؤمن بعقيدة التسامح يصبح عندَهُ قليلٌ إلا الناضج الذي فَهِمَ العقيدةَ بأبعادها فكلَّما توسَّعَت يكونُ متسامحاً أكثر، ويَرَى التسامُحَ فريضةً عليه لا خيارَ له فيها، فقام النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم احتراماً لليهودي في جنازته، قالوا: يا رسول الله أتقوم لجنازة يهوديّ؟! فماذا كان جوابُ سيِّدِنا مُحمَّد؟

{ مُرَّ على رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ بجَنازةٍ فقامَ ، فقيلَ لَهُ: إنَّهُ يَهوديٌّ، فقالَ : أليسَت نفسًا }

[صحيح النسائي]

هذه حقوق الإنسان، شرّعَ ونفَّذَ، شرَّعَ الله فنفَّذَ شريعةَ الله، لكن هيئة الأمم ومجلس الأمم يُشرِّعُون ينفذوا؟ بحسب ما تُمليهِ عليهم مصالِحُهم، مثل طريقة الذئب لماذا غبَّرتَ بالحمَّام؟ والحمَّام أرضُهُ كلُّها تمشي مياهاً من أين الغُبّار؟! قال له: لماذا شتمت أبي مِن سنتين؟ أنا كلُّ عُمري ثلاثة شهور؟ إذا أردتَ أن تأكُلَني فكُلْني ولا تسوِّغُ لي حُجَجاً خذعبليّة.
لذلك يا بنيّ في النهاية من مثلِ هذا الدَّرس أن نُجِدَّ ونجتهدَ في دراسة هذه الرسالة السّماوية "القرآن"، دراسة علمٍ وفهمٍ، ودراسة تنفيذٍ وتطبيق وعمل، لماذا؟ لأجل أن نسعد في الدّنيا في عالم الأجسام ونَسعَدَ في عالم السَّماء، وهل يا تُرَى إذا تعلَّمنا وعَمِلنا نَسعَد؟ اقرأوا التاريخ، فالآن هناك جامعات ومدارس وطباعة وكتابة أشكالاً ألواناً، وأولئك كانَت أوراقُهُم من أحجار يكتبون على الأحجار، ويَكتبون على العظام، ونحن ورق مصقول وطباعة أشكالاً ألواناً وتلفزيون، مع ذلك لَمَّا قصَدُوا أن يَتَعلَّمُوا وأن يَعمَلُوا هل قطَفُوا ثمار عِلمِهِم وعملِهِم؟ ماذا قطفوا؟ تَبدَّلَ فقرُهُم بغنى، وجهلِهِم بعِلمٍ، وطيشِهِم بحكمة، فوصَفَهُم النّبي عليه الصّلاة والسّلام بقولهم:

{ حكماءُ علماءُ، كادوا مِن فِقْهِهم أن يكونوا أنبياءَ }

[شعيب الأرناؤوط إسناده ضعيف]

والنّبي عليه الصّلاة والسّلام هو الذي يَبنِي الأمة السعيدة والأمّة العارمة الفاضلة الحكيمة العقلانية، هذا هو دينُ الله.

الناس متساوون في الإسلام لا فرقَ بينهم:
وإذا رأينا الدينَ الآن لا يلتقِي مع هذه الحقائق، فالذنبُ ليس هو ذنبُ الدّين إنَّما هو ذنب رجال الدّين الجامدين أو المتعصِّبين أو ضعيفي الثقافة العلمية الدينيّة، مثل إذا كان سائق سّيارة يَعرِف نصف قيادة سيّارة، وأراد أن يُوصِلكَ إلى المصيف، وهو يَعرِف نصف القيادة، يا تَرى أيُوصِلُكَ إلى الزبدانيّ أم يُوصِلُكَ إلى الآخرة؟ والجاهل كالطّحان لا يسوقُ السّيارة يقول لك: أنا لا أعرِفُ، واللّحام يقول لك: أنا لا أعرِفُ، لكن نصف السّائق يَنغَرّ بنصف السّواقة، ويقودُ السّيارة، فيُهلِكُ نفسَهُ ويُهلِكُ مَن معَهُ، وهكذا حالُ الكثير مِن رجالِ الأديان، ولذلك الإنسان قال: ما عدتُ أريدُ هذا الدِّين، لأنَّ الذين سبقُوني إلى الزَّبداني بالسّيارة ذهبوا إلى الواديّ، وأنا دعوني أذهَبُ ماشياً أو على الحمار أفضل من أن أركَبُ بالسّيارة وتُوصِلُني إلى أين؟ إلى الآخرة.
لذلك أنتم يا بنيّ يا تَرَى أنتم مثقّفون أكثر أم الصَّحابة رضي الله عنهم قبل الإسلام مثقَّفون أكثَرُ؟! كان الصَّحابة رضي الله عنهم لا يَقرؤون ولا يكتبون، أنتم فيكم أطبّاء ومهندسون وحقوقيّين، ومِن كليات الآداب، ليس فيكم واحد لا يَقرَأُ ولا يَكتبُ، هُم كان النادرُ فيهم من يَقرَأ و يكتب، لكن عندهم كتاب واحد ومكتوب على الأحجار وعلى أوراق النَّخيل، وعلى أكتافِ العِظام، لكنّهم كتبوهُ بالخطّ النورانيّ في صفحات قلوبِهِم البيضاء، بذلك الإيمان الحيّ الذي وصَلَّ هذه الطّاقة إلى كلِّ خلايا وجودِهِم، فحوَّلُوا القرآن إلى أعمال، إلى أخلاق، إلى حكمةٍ في العقول، إلى تزكيةٍ في النَّفوس وإلى نورٍ في القلوب.
فاستطاعُوا بأقلَّ من مئة سنة وبالوسائل البدائيّة أن يُوحِّدُوا نصفَ العالم القديم مِن حدود الهند إلى حدود فرنسا، لا فضلَ لعربيٍّ على عربيّ، ولا لحاكم على محكوم، الغنيُّ ملتزم بمساعدة الفقير، والعالم واجبٌ عليه أن يُعلِّمَ الجاهل ومجاناً، وعلى الجاهل يجب عليه فريضةً دينيّةً أن يَتَعلَّمُ وإلا فالإسلام منه بريء، وهذا مصداقُ قولِ النّبيِّ عليه الصّلاة والسّلام:

{ النَّاسُ رجلانِ عالِمٌ ومتعلِّمٌ ولا خيرَ فيما سواهُما }

[السيوطي الجامع الصغير]

{ وليس منّي-أنا بريء- إلا عالمٌ أو متعلِّمٌ }

[السيوطي الجامع الصغير]

فهكذا يَحثُّ الدين على العِلم، وهكذا يَحثُّ على التقدم (مَنِ استوى يوماهُ فهوَ مغبونٌ)
ومَن لم يكن يَومَهُ خيراً من أمسه فهو محرومُ ، هل هذا دينُ كلاسيكيّ؟ هذا دين نَفصِلُه عن الدولة؟ الذين فصَلوا لهم كلُّ الحقّ، لأنهم رأوا الدّين منحرفاً، والدين ليس منحرفًا لكن قائدَهُ منحرف، ورجلُ الدين هو الذي انحرَفَ، أمَّا لمّا يرى الإنسان هذا العلمانيّ أو هذا الشيوعيّ أو هذا المُلحِد عندما يَرَى ملكة الجمال مرفوعاً عنها الغطاء البلاستيكي ويُعطَّل عنها صوتُ الغوريلا أيُقبِّلُها أم لا يُقبّلُها؟ إذا كانت هذه هي زوجتُهُ، ويأخذُها إلى غرفة العرس؟ ويبقون للفجر؟ أم يَهرُب ويَخافُ ويَرتعِبُ ويُغمَى على قلبِهِ؟ أمَّا عندما يُعرَضُ الدَّينُ بالشكل المُشوَّه يَغُطُّ على القلب ويُهرِّب.
اللهم أرِنا الحقَّ حقاً وارزقْنا اتباعَهُ وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعلْهُما متشابهينِ علينا فنتَّبِعَ الهوى، في بعض الأوقات يَرى الإنسانُ الحقّ لكنَّ أناهُ وهواهُ وآباءُه وأجداده يقول: هكذا كانوا وأنا على ما عليهم، هذا خطأ، الحقّ أولى مِن أبيكَ وجدِّكَ، كما أنَّ النبيَّ عليه الصّلاة والسّلام لَمَّا ظهَرَ له الحقّ مِن الوحي تَرَكَ أنانيتَهُ، وما أنانيّةُ النبيَّ عليه الصّلاة والسّلام مع وحي الله؟! وطبَّقَ أمرَ الله ووحي الله، وصار وحيُ الله قانوناً خالداً يَصلُحُ لكلّ زمانٍ ومكان، كلُّ زمانٍ ومكانٍ ألا يَحتاجُ إلى هذه العدالة؟! أليس يَحتاجُ إلى مساعدة الإنسان من أي دينٍ كان؟!
"مرّةً شتم أبو ذر رضيَ الله عنه بلالاً الحبشيّ رضيَ الله عنه، وبلال ماذا كان لونه؟ حبشي أسود، وما الشتيمة التي شتمه بها؟ قال له: يا ابنَ السّوداء، يُعيَّرَهُ بأمّه، فأتى بلال يَشكُوهُ إلى سيِّدنا مُحمَّدٍ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستدَعَى أبا ذر وسألَهُ، قال له: هكذا قلتَ، قال: نعم يا رسول الله هكذا قلتُ، فغضِبَ النّبيُّ عليه الصّلاة والسّلام غضباً شديداً، وقال لأبي ذر الشّاتم:

{ كلُّكم بَنو آدمَ وآدمُ خُلِقَ من تُرابٍ }

[أخرجه الترمذي والبيهقي]

{ يا أيُّها النَّاسُ، ألَا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألَا لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على أعجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عرَبيٍّ، ولا أحمَرَ على أسوَدَ، ولا أسوَدَ على أحمَرَ إلَّا بالتَّقْوى }

[أخرجه أحمد وإسناده صحيح]

والتقوى هي العِلمُ والعمَلُ، والعمل الصّالح لا يَكونُ بلا عِلم، وعِلم بلا عمَل أشدُّ الناس عذاباً، فلقاء تنبيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذرّ رضي الله عنه على خطئه، إذا عرفتَ أنّكَ أخطأتَ فماذا يجب أن تفعل؟ عليك أن تُصلِّحَ الخطأ، كيف قام أبو ذر بتصحيح الخطأ؟ فلَمّا خرَجَ من مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استلقَى أبو ذرٍّ على الأرض ووضَع خدّه الأيمن على الأرض على التراب، أتفهمون؟ وحلَفَ يميناً بالله على بلال إلا أن يطَأَ خدَّه بنعلِهِ!
فيا بنيّ إذا أسأتَ فأحسِنْ:

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ (114)
[سورة هود]

{ اتَّقِ اللهَ حيثُ كنتَ وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُهَا وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسنٍ }

[أخرجه أحمد والترمذي]

أمّا أن تقول: "الله غفورٌ رحيم" وتَسرِقُ وتنهَبُ وتكذِبُ وتُخادِع وتُؤذِي النَّاسَ، وتقول الله غفورٌ رحيم، هذا سلوكٌ خاطئ (وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُهَا) إذا أسأتَ فأحسن (وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسنٍ) ما قال: خالق المسلمين بل الناس، فأقسمَ أبو ذرٍّ رضي الله عنه فأساء أم أحسَنَ مع بلال رضي الله عنه، بماذا أساء؟ بالكلام، فحلَفَ أبو ذر على بلال إلا أن يَطَأَ خدَّهُ بنعلِهِ كفّارةً لِما سبَّهُ بنسبته إلى أمِّهِ السّوداء، مع أنّ أمّه سوداء، فكيف إذا قلتَ في حقِّ إنسان قولاً زوراً وكاذباً وبهتاناً وافتراءً، فقولوا: " آمين" يا بنيّ، الله يجعِلني وإياكم مِنَ الذين يَستَمِعون القول فيَتّبِعُون أحسنَهُ، هذه شذراتٌ مِن حقوق الإنسان في الإسلام.

تعلُّم الإسلام وسؤال أهل الذّكر:
وإذا كان هناك شكٌّ عند أحدٍ في قضية مِن قضايا الإسلام

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
[سورة النحل]

الإنسان يسأل، عندما يكون الإنسانُ في تحليل دمِّهِ أو فَضَلاته يَشُكُّ في وجود جرثوم، فيسأل طبيباً يقول له: "حلِّل"، فعلى نتيجة التحليل، يكتب الطبيبُ له: فيَذهَبُ إلى عند الصيدليّ، ويَدفَعُ الثمّن للطبيب وللمُحلّل وللصّيدلي، بعدها يَستعمِلُ الدّواء فيحصُلُ الشفاء، أمَّا لا نُحلِّلَ ولا نحضِرَ الطبيب ولا نذهبَ إلى عند الصيدلي ولا ندفع ثمن الدّواء، ونريد الدّواء مجّاناً، اذهبوا و جرِّبُوا أيَّ وصفة طبية عند أيِّ صيدليّ، قل له: على روح أبيك أنا معي نقود، لكن اجعَلْها لوجهِ الله، فسيقول لك: تحتاجُ إلى سيفٍ يَخلَعُ رقبتَكَ إلى آخره، فالناس يُريدون الدّين مجَّاناً وهناك أناس أعرَضُوا عن الدّين لأنَّهم ما رأَوا الدّيَن الحقيقي بل رأوا الدّين المُزوَّر، وما رأوا رجل الدّين الحقيقي بل رأوا رجل الدين المُشوَّه، فنسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُعرِّفَنا بالخلِّ خَلاً وبالعسل عسلاً، ولا يغيّر أذواقَنا بأنْ نجد المرَّ حلواً والحلوَ مرّاً، وصلَّى الله على سيدنا مُحمَّدِ وعلى آله وصحبه، والحمد لله ربّ العالمين.
يوجد أخ من إخوانكم طالب في الثانوية الشرعية اسمه بلال خير بيك، تُوفي بحادث سيّارة عليه رحمة الله، وأنا أُقدِّمُ التَّعازي باسمي وباسمكم لوالدِهِ وأهلِهِ، ووالدُهُ -أظنّ- موجودٌ هنا في المسجد، ونشاركُهُ إنْ شاء الله في التهليلة ونسألُ الله له المغفرة وأن يَجعَلَ روحَهُ مع الذين أنعَمَ الله عليهم، وفي جنّة الفردوس إنْ شاء الله ونُشارِكُ أيضاً فقيدَنا باسل عليه رحمات الله، ونسأل الله أن يغفِرَ له ويُعوِّضَه الله الجنة، وصلّى الله على سيدنا مُحمَّدِ وآله والحمد لله ربِّ العالمين.
فاعلم أنه لا إله إلا الله لا إله إلا الله.. مُحمَّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، اللهم تقبّل منا هذه التهليلة المباركة وأوصِل ثوابها إلى حضرة نبينا مُحمَّدِ صلى الله عليه وآله وسلم ثم إلى روح شيخنا وأستاذنا وإلى روحِ والدتنا وولدنا زاهر ووالدته، وإلى مَن ذكرنا اسمَهُ ولجميع إخواننا المؤمنين والمؤمنات، اللهمَّ اغفر لنا ولهم ما قدَّمُوا وما أخَّرُوا وما أسرُّوا وما أعلنُوا، ولجميع المؤمنين أجمعين يا أرحَمَ الراحمين اللهمّ وفّق رئيسنا حافظ الأسد لِما تحبّه وترضاه، واغفِرْ لنا ولوالِدينا ولمشايخنا والمسلِمين أجمعين، والحمدُ لله ربِّ العالِمينَ.