تفسير سورة عبس 01

  • 1995-07-01

تفسير سورة عبس 01

بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين حمداً يُوافي نعمه ويُكافئ مزيده، وأصلِّي وأسلِّم على سيدنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم وعلى أخويه سيديّنا موسى وعيسى، وجميع إخوانه مِنَ النبيين والمُرسلين وآل كلٍّ وصحْبِ كلٍّ أجمعين، وبعدُ:


العرب قبل الإسلام:
نحن الآن في تفسير سورة عَبَس، هذه السورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في أوَّل الإسلام وفي مكة المكرمة، كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يومٍ مِنَ الأيام جالساً مع بعض أشراف قريش وزعمائهم يدعوهم إلى الإسلام ويُعرِّفهم بحقائق الإيمان وخُرافة عبادة الأوثان وما هم عليه مِنْ عاداتٍ جاهليةٍ وفوضوية، فلا أمّةٌ ولا دولةٌ ولا حضارةٌ ولا ثقافةٌ ولا روحانيةٌ ولا ربّانية، خُرافاتٌ وأوهام والإنسان يُؤلِّه الحجر والإنسان يأخذ توجيهاته مِنَ الأصنام، فإلى أيِّ مستوىً كان الإنسان العربيُّ في الانحطاط مِنْ كلِّ النواحي؛ السياسية كانت البلاد العربية مِنَ اليمن إلى الخليج إلى بلاد الشام وإلى شمال أفريقيا كلُّها كانت موزَّعةً بين الاستعمار الشرقي الفارسي والاستعمار الغربي الروماني، وما كان يتكلم باللغة العربية إلا أبناء الصحراء، لا مدنيَّة لهم ولا حضارة ولا ثقافة ولا دِين إلا عبادة الأحجار وتقودهم الأوهام والخرافات، إلى جانب الفقر والتمزُّق والتقاتُل والتناحُر، وما كان ينطِقُ باللغة العربية إلا أبناء الصحراء أما أبناء المدن فكانوا يتكلَّمون إحدى اللغتين: إما اليونانية وإما الرومانية، فالذي عرَّب العرب مِنَ البحر الأطلسي إلى الخليج الفارسي مَنْ؟ هل هي العروبة؟ كانوا عرباً وينطقون الفصحى لكن لا جامعةً تجمعُهم ولا دولةً تحرُسهم ولا ثقافةً تُرشدهم.
فأتى الإسلام بكتابه الوحيد؛ كتابٌ واحد ومعلِّمٌ واحد، ولم يكن العرب أمَّةً لم يكونوا شعباً، كانوا قبائل متراميةً متناثرةً في الصحراء مع الجِمال والأنعام والأغنام، وإذا بهذا الكتاب ومعلِّم الكتاب -وهو أميٌّ في القراءة والكتابة- يجعل مِنْ هذه العشائر الجاهلة الأميَّة الخُرافية المتعادية المتقاتلة خيرَ أمَّةٍ في الأخلاق والعقل، وفي العِلم والحضارة وفي التقدُّم والغِنى وفي الوحدة والإنسانية، ثم تتَّجه شرقاً ومغرباً فتُضيف الأمم والشعوب إلى شعبها حتى جعلت إلى حدود الصين وحدود فرنسا؛ جعلت مِنْ مئات الشعوب شعباً واحداً، ومِنْ عشرات الأمم أمَّةً واحدةً، وأحيت كلَّ العلوم والحضارات المندثرة عند الشعوب فصفَّتها مِنْ زُيوغها وباطلها وصاغَت منها فكراً وحضارةً وثقافةً تحقيقاً لقول الله تعالى:

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[سورة البقرة]

(آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) الحياة الحسنة في الدنيا: جسداً وحياةً وصحةً وعلوماً، (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) الحياة الروحية: أخلاقاً وربَّانيةً وترفُّعاً عن المادة واتجاهاً للمعاني والعلوم والأخلاق والفضائل حتى استطاعوا أن يُوحِّدوا نصف العالم القديم وبأقل مِنْ مئة سنة، ولم تكن هناك قطاراتٌ وسككٌ حديدية ومواصلاتٌ سريعة ولا طائراتٌ ولا سياراتٌ ولا هواتفٌ حتى ولا ورقٌ ولا قلمٌ للكتابة.

لا تمييز في الإسلام:
فيا تُرى لو ملكوا ما يملكه إنسانُ القرن العشرين مِنْ وسائل التعليم أو وسائل الإعلام أو وسائل المواصلات ألم يكونوا يستطيعون أن يُوحِّدوا العالَم كلَّه ويجعلوه أمّةً واحدة؟ بل الإسلام جعل الأمَّة كشخصٍ واحدٍ في اتحادها وفي اشتِراكها بأمانها وآمالها وواحدةً في أهدافها وفي جهادها واقتصادها وفي سرَّائها وضرَّائها، وفرَض وأوجَبَ العِلم على كلِّ شعوب العالَم إلى حيثما وصل العرب مِنْ علومٍ فرضه على كلِّ الشعوب، وما يوجد عند الشعوب مِنْ علومٍ كذلك فرضه الإسلام على العرب، ما يُسمَّى بعلوم الدنيا، وبذلك استطاع القرآن -الكتاب الواحد والمعلِّم الواحد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم- وبالوسائل قبل خمسة عشر قرناً أن يُوحِّد نصف العالَم، وجعل هذا النصف مِنَ العالَم في تماسكه واتحاده وتشارُكه في رخائه وبؤسه وثرواته وكلِّ ما يُصاب به صار كالجسد الواحد؛ الهندي والأفغاني والإيراني والأبيض والأسود والأصفر صاروا أبناء عائلةٍ واحدة، العِلم للجميع والعدالة للجميع، لا تمييز ولا تفوُّقَ لأبيضٍ على أسود، ولا لعالـِمٍ على جاهل إلا أن يُعلِّم العالِم الجاهل ويتعلَّم الجاهل مِنَ العالِـم، قانوناً إجبارياً ومجانياً بلا أجرة، والعالـِم يُجبِره الإسلام أن يُعلِّم الجاهل ويفرِض على الجاهل أن يتعلَّم مِنَ العالِم ولو مشى إليه على قدميه أربعين يوماً:

{ طلَبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مُسلم (1) }

[سنن ابن ماجة]

{ اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ(2) }

[شعب الإيمان للبيهقي]

فريضةٌ دينية.
وكان يقول في هذا الصَّدد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:

{ النَّاسُ رجلانِ عالِمٌ ومتعلِّمٌ ولا خيرَ فيما سواهُما }

[مسند الفردوس للديلمي]

(النَّاسُ رجلانِ عالِمٌ ومتعلِّمٌ) هؤلاء هم الناس إما عالِـمٌ يُعلِّم وإما مُتعلِّمٌ يتعلَّم ويزداد عِلماً، (ولا خيرَ فيما سواهُما)(3). والعِلم في الإسلام ليس هو العِلم الديني والعبادات والدروس فقط؛ لا بل كلُّ ما ينفع الإنسان في جسده وصحته وثروته، وفي زراعته وصناعته وكلُّ ما ينفعك فيُفرَض عليك إسلامياً ودينياً أن تتعلَّمه، وبذلك ما مضى قرنٌ إلا ونصف العالَم بثقافةٍ واحدةٍ وبرابطةٍ واحدةٍ وعائلةٍ واحدة، إذا تألَّم شخصٌ يتألَّم العالَم كلُّه مِنْ أجله، وإذا جاع شخصٌ فالعالَم كلُّه مسؤولٌ عن غذاءه، وإذا كان شخصٌ واحدٌ جاهلاً فالعالَم مسؤولٌ عن تعليمه.

نزول سورة عَبسَ:
الآن ندخل في موضوع درسكم وهو سورة عَبس، وهذه السورة لها قصةٌ في سبب نزولها مِنَ السماء على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كان النبي محمد عليه الصلاة والسلام مع بعض أشراف العرب يدعوهم إلى الله ويُبيِّن لهم فساد عقيدتهم الدينية وعبادة الأحجار وعقولهم المليئة بالخرافات والأوهام، يسجد للصنم ويأتي الثعلب الحيوان يَثِب على رأس الصنم ويبُول على رأس إله الإنسان، فيا تُرى أيهما أعقل الإنسان أم الحيوان؟ الثعلب يبُول على رأس الصنم والإنسان يسجد للصنم! يعني أن الانسان كان أحطَّ في جهله مِنَ الحيوان، لذلك بعضهم لما رأى صنَمه يبُول عليه ثعلبٌ استيقظ عقله وقال:
أربٌ يبول الثُّعلبان برأسه لقد ذلَّ مَنْ بالَت عليه الثعالبُ
{ راشد بن عبيد الله السلمي }
فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتقبَّل الإسلام وأسلَم، ومَنْ كان الذي أرشده والمُبشر له بالإسلام؟ الثعلب، فمِنْ هذه المرحلة نقل الإسلامُ الإنسانَ إلى أن صار في تلك العصور أعلَمَ شعوب أهل الأرض، وحمَل العِلم لا ليحتكره ويستغلَّه تجاه الإنسان الجهول المتخلِّف، بل حمَلَ العِلم ليُوصله إلى كلِّ إنسانٍ في مشارِق الأرض ومغاربها وبشكل إجباريٍّ، الجاهل يُعاقب مِنْ طَرف الله إذا لم يتعلَّم، ويتعلَّم أيضاً بشكلٍ مجانيٍّ بلا أجرة:

أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ (90)
[سورة الأنعام]

العِلم لكلِّ العالَم ولكلِّ الشعوب ولكلِّ إنسان، وبينما النبي محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم جالسٌ مع بعض زعماء قريش يبيِّن لهم الإسلام ويدعوهم إليه وإذا برجلٍ أعمى اسمه عبدالله ابن أمِّ مكتوم، على فقْدِ بصَرِه يتَّجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعلَم مَنْ حول النبي صلى الله عليه وسلم وما النبي صلى الله عليه وسلم مشغولٌ ومُهتمٌّ به، لأن الزعماء إذا آمنوا يتبعهم شعبهم، ويقول الأعمى مُخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله علِّمني مما علَّمك الله، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم مشغولٌ بهؤلاء الكبار ويخشى إذا تركهم واتجه نحو هذا الفقير الأعمى أن يقوم عليهم كبرياؤهم فينفضوا ويُعرِضوا عن الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يستجيب له والأعمى يُكرّر ولا يعلم ما النبي صلى الله عليه وسلم فيه مِنْ مهمَّة تبليغ الرسالة وكرَّر وكرَّر، وانزعج النبي صلى الله عليه وسلم منه وعَبَسَ في وجهه تأثُّراً مِنْ إحراج النبي صلى الله عليه وسلم وعدم تقديره لعمل ومسؤولية النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظة.
وشعر الأعمى بإعراض النبي صلى الله عليه وسلم عنه وعدم جوابه له وعدم تعليمه له انشغالاً بالزعماء والأغنياء، ولم ينتهِ المجلس حتى كتبت المخابرات الإلهية -مخابرات السماء - التقرير ورفَعَته إلى خالِق الأرض والسماء بأن نبيَّك محمدٌ صلى الله عليه وسلم أتاه الإنسان الضعيف الفقير الأعمى يريد أن يُعلِّمه نبيُّك صلى الله عليه وسلم فأعرَضَ عنه انشغالاً بالأغنياء والزعماء والكُبراء، وأنت يا الله لا فرق عندك بين الأغنياء والفقراء وبين الزعماء والضعفاء، ونبيُّك محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أقبَلَ على الأغنياء وأهمَلَ الضعفاء والفقراء وهذا التقرير وبكلِّ أمانةٍ وإخلاصٍ نُقدِّمه لك يا الله حيث ائتَمَنْتَنا على أن نُسجِّل على نبيك صلى الله عليه وسلم وكلِّ المخلوقات أعمالهم بكلِّ صدقٍ وأمانةٍ، والحكم لك فيما أعلمناك به، وهو أعلَم بالموضوع منهم.
فيُرسل الله حالاً، لا بعد يومٍ ولا أسبوعٍ ولا بعد سنةٍ حتى يُنصَر الضعيف مِنَ القويِّ والفقير مِنَ الغنيِّ والجاهل مِنَ العالِم، والشكاية لمَ لَمْ يُعلِّمه؟ لمَ لَمْ يُقبِل عليه إقبال الأستاذ على تلميذه؟! قائلاً ومُخاطِباً لنبيِّه محمَّدٍ صلى الله عليه بعد بسم الله الرحمن الرحيم أتعبِسُ في وجه الفقير؟ أتعبِسُ في وجه الضعيف المسكين وتُقبِل على الأغنياء والعظماء بمظاهرهم المادية والدنيوية؟ أين حقوق الإنسان؟ أنت نبيٌّ أرسلتك لأجل أن ترفع مِنْ شأن الإنسان وأيُّ إنسانٍ كان، لا الإنسان العربي أو التركي أو الفارسي أو الفرنسيّ أو الألماني، الإنسان، قال تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)
[سورة الأنبياء]

لكلِّ شعوب العالَم بلا تمييز ولا تفاضل وبلا تقديم الأبيض على الأسود والغنيِّ على الفقير والزعيم على الإنسان العاديِّ، الناس كأسنان المشط:

{ يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ (4) }

[مسند الإمام أحمد]

يعني إلا بالعِلم والعَمَل.
فنصُّ البرقية والقضية كم يوماً تحمَّلت؟ كم أسبوعاً؟ إذا أراد أحدهم أن يشتكي إلى المحكمة ليصل إلى حقَّه في القانون الأرضيِّ يحتاج مِنَ المدة والزمن إلى كَم؟ بعض الناس لا يصل لحقه بسنةٍ و بعشرات السنين، أما في المحكمة الإلهية حالاً وفوراً، وإذا بالبرقية الإلهية والوحي الإلهي الموجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وحالاً: أعبَستَ في وجه هذا الفقير الأعمى الذي أتى إليك لتُعلِّمه؟ وإنما بعثتُك مُعلِّماً مُربياً لتُزكي النفس الإنسانية ولتملأها بالعِلم وتفرِّغها مِنَ الجهل، لتنقُلها مِنَ الإنسان الحيوانيِّ الذي لا يعرف إلَّا شهوات جسده وشهوات بطنه وفرجه إلى الإنسان الإنسانيِّ ولكلِّ الناس، لتنقُله مِنَ الإنسان الوحشيِّ الذي لا يعرف إلا العدوان على الضعيف، فتجد الأسد يفترِسُ الغزال، ما ذنب الغزال؟ أنه ضعيف وما المبرر للأسد ليعتدي ويقتل الغزال؟ لأنه قويٌّ، أما في شريعة وقانون الله فالنصرة للحق والحقيقة ضعيفاً أو قوياً، مؤمناً أو كافراً، عدوّاً أو صديقاً، قريباً أو بعيداً؛ لأن الله هو الخالِق والناس كلُّهم مخلوقاته لا أحد أقرَب إلى الله بقرابة نسبٍ؛ ابنٌ أو أخٌ أو عمٍّ أو ابن عمٍ لا، فالله خالِقٌ ونحن كلُّنا مخلوقاته، فلماذا عبَسْتَ في وجه هذا الأعمى؟ ولماذا أعرضت عنه مُقبِلاً على الرأسماليين الأغنياء الزعماء، تُعرِض وتزهَدُ في الضعفاء الفقراء الجهلاء وقد أتوكَ مشتاقين إلى العِلم، وهؤلاء الأغنياء زاهدون في العِلم.

وجوب تزكية النفس:
﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ﴾ طالب العِلم، أعبَسْتَ وتولَّيت لأنه أعمى؟ ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ ماذا يُعرِّفُك؟ ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾، فمهمة النبوَّة والعِلم في الإسلام قبل كلِّ شيءٍ: تطهير النفس مِنْ رذائلها وتخليصها مِنْ نقائصها ومحقَّراتها الأخلاقية والعملية، التربية وتهذيب النفس وتطهيرُها مِنْ كلِّ ما يُبعِدها عن إنسانيَّتها، ما فيها مِنْ جهلٍ وإيذاءٍ وعبادةٍ للجسد، لشهواته لا يعرف الكمال الإنساني ولا الأخلاق ولا الفضائل، هذا المعنى اسمه التزكية، لذلك فالواجب على مَنْ يطلب العِلم أن يتزكَّى أولاً ليكون آنيةً طاهرةً حتى إذا وُضِعَ فيه العِلم المقدَّس لا يُوضَع في إناءٍ مُنجَّس.
فإذا كانت النفس غير طاهرةٍ وأتاها العِلم فيتنجَّس العِلم فبَدَل أن ينفع ينقلِبُ إلى شيءٍ ضارٍّ، والآن مِنَ الشعوب المتعلِّمة لم تتزكى نفوسها تستعمل العِلم وثمراته لا لنفع الإنسان بل للإضرار والعدوان وإيذاء الإنسان، أما في الإسلام فقبل كلِّ شيء تزكية النفس وتربيتها وأخلاقها حتى تتجه إلى الفضائل الأخلاقية وإلى العدل، وقال تعالى:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
[سورة النحل]

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) العدل أن تعطي الضعيف حقَّه، والإحسان أن تزيده على حقه، (بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ) القريبُ منك أن لا تُضيعه، (وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ) كلَّما يُستَقبح مِنَ الأقوال أو الأعمال أو السلوك فالإسلام يُحرِّمه، (وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) كلُّ ما تستنكره العقول مِنْ خرافاتٍ أو أوهامٍ، فالإسلام حربٌ على الخرافات والأوهام والخيالات، (وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ) أي العدوان فلا يجوز أن تعتديَ على أحدٍ، لا شخصٌ على شخصٍ ولا قويٌّ على ضعيفٍ ولا شعبٌ على شعبٍ، وإذا حارَبَ الإسلام فيما مضى في التاريخ فكانت حربه لتحرير الشعوب مِنَ الطغاة، ولتحرير الشعوب مِنَ الظالمين.

لا إكراه في الدين::
كان الرومان رغم أنهم نصارى ولكن كانوا يُرغِمون كلَّ الطوائف النصرانية التي على غير مذهبهم الأرثوذكسي على أن يكونوا على مذهبهم – مذهب الدولة- وكانوا يُصادِرون كنائسهم ويُصادِرون أوقاف كنائسهم ويضطهدون مَنْ هو نصرانيٌّ إذا كان على غير مذهبهم، يعني لا وجود للحرية، الحرية المذهبية الدينية، مع استعمالهم للشعوب المُستضعفة، ولما أتى الفتح الإسلامي أعطى للشعوب حريَّتها فيما تعتقد ديناً أو مذهباً وبقيَ النصرانيُّ نصرانياً، والكاثوليكيُّ كاثوليكياً والأرثوذكس أرثوذكسياً، والسريان سريانياً، وردَّ على الكنائس المصادرة أوقافهم وأموالهم مِنْ قِبَل الحكومة البيزنطية، وردَّ على الكنائس المضطهدة حقوقها وكرامتها وأوقافها، فهل كان الفتح الإسلامي ضد الأديان أو ضد الحرية أو ضد العِلم؟ أو العكس؟ والإسلام يُحرِّم الإكراه في الدين بأن نستعمل القوَّة لنفرض على الإنسان عقيدةً مِنَ العقائد، فالقرآن يقول:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
[سورة البقرة]

ويقول القرآن للنبيِّ صلى الله عليه:

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
[سورة يونس]

لا يجوز أن تفرض عقيدتك على أيِّ إنسانٍ ولو كنت تملك السلطة والدولة والقوة:

لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
[سورة الكافرون]


العتب الإلهي على النبي الكريم:
قال تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ إذا تزكَّت روحه بروح وبنور الله ونفسه بالأخلاق الملائكية فهذا أفضل مِنْ كلِّ زعماء العرب الذي أنت متَّجهٌ إليهم ومُعرِضٌ عن هذا الأعمى الفقير الضعيف والمسكين، عند الله أيُّهم أفضل؟

{ إنَّ اللهَ لا ينظُرُ إلى صُوَرِكم وأموالِكم ولكنْ ينظُرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم (5) }

[صحيح مسلم]

﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ يا محمَّد لعلَّ الأعمى يزكَّى ويصير إنساناً فاضلاً بالأخلاق الإنسانية وبالعقل الحكيم، ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ﴾ إذا ما دخلت الروح الإيمانية في كلِّ قلبه لعلَّه يتَّعظ وينتفِعُ بعض الانتفاع في بعض الأخلاق وبعض العلوم وبعض تصحيح الأفكار ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ﴾.
﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ﴾ هؤلاء الأغنياء الزعماء الأقوياء ﴿فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ﴾ تتعاطف معهم وتُقبِلُ عليهم وتُعرِض عن الضعفاء والفقراء، ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ﴾ أنت لست مسؤولاً إلا عن تبليغ رسالة الله فمَنْ قَبِلَ فله السعادة ومَنْ أعرَض فأنت غير مسؤولٍ عنه، ﴿وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى﴾ جاء يسعى بكلِّ طاقاته ليتعلَّم ﴿وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى﴾ مَنْ؟ الأعمى، وما اسمه؟ عبد الله ابن أمِّ مكتوم.

المساواة في الإسلام::
﴿وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى﴾ جاء بكلِّ اهتمامٍ وبكلِّ قوةٍ في المشي، ﴿وَهُوَ يَخْشَىٰ﴾خائفٌ مِنَ الله أن يلقى الله وهو زاهدٌ بثقافة السماء وهو يخشى، ﴿فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ﴾ تنشغل بالعظماء والكبراء، ﴿كَلَّا﴾ هذا حرف ردعٍ وزجرٍ، يعني لا تعُد تعمل مثل هذا العمل، وليكن الناس عندك سواء؛ أغنياؤهم مثل فقرائهم وضعفاؤهم مثل أقويائهم، العِلم للجميع وتزكية النفس للجميع والتبليغ للجميع، والذي يُقدَّم على غيره هو الراغب في العِلم والراغبُ في الإيمان مهما كان فقيراً أو ضعيفاً أو أعمىً أو ما يشبه ذلك.. فلا تعُد إلى مثل هذا العمل مِنْ إعراضك عن الضعفاء وعن الفقراء وعن المرضى العميان انشغالاً بالعظماء والأمراء والكبراء.
التقرير المخابراتي حارٌّ أم بارد؟ يغلي غلياناً؟ فمَنْ انتصر للإنسان الضعيف؟ يا تُرى هل تنتصر هيئة الأمم للضعفاء كما ينتصر قانون السماء؟ ومجلس الأمن هل ينتصر ويُسارِع لا نقول بعد شهرٍ وشهرين بل بعد سنة أو عشر سنين أو أكثر؟ قانون السماء فوراً بلا تأخُّر، والعتب والمؤاخذة على مَنْ؟ على خاتَم النبيين صلى الله عليه وسلم، القصة بين أعمى وبين خاتَم النبيين، وكيف يُعاتب وليته كان عتباً سرِّيّاً بمكتوب سريٍّ حتى لا يسمعه أحد بهذه المسؤولية تجاه العظمة الإلهية، بل جهراً وهل انتهى الموضوع؟ لا، بل تسجيلاً، سجِّلوه في المحضر الإلهي، وأين سيبقى المحضر؟ هل يبقى في المكتبة ويمضي الوقت وينتهي الزمن ويُحرقونه ويُتلفونه بعد عشرين سنةٍ مع كلَّ الموجودات؟ لا بل سيظلُّ هذا العتَب وهذا التقرير بحقِّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ويُتلَى في كلِّ شعوب العالَم أنَّ أعظَم الأنبياء وخاتَم الرسل عمِلَ عدم العناية بالفقير الضعيف الأعمى، فبقي العتَب والحكم مسجَّلاً ويُتلَى كلَّ يوم وفي كلِّ مكان، يتلونه في الشرق وفي الغرب، المرأة والرجل، الصغير والكبير، فمن أجل ماذا هذا التشهير؟ هذا ليس تشهيراً ولا إهانةً إنما هو تعليمٌ وتربيةٌ لكلِّ إنسانِ العالَم، بأنك إذا لم تُعطِ للإنسان الضعيف حقَّه فأنت مسؤولٌ في محكمة الله ولو كنت مِنْ أعظَم الأنبياء، ولو كنت مِنْ أعظَم مخلوقات الله، فيا تُرى إنسان القرن العشرين والقرن الواحد وعشرين هل هو بحاجةٍ إلى هذا القانون؟ الإنسان يتمنى هذا القانون، والأقوياء يكتبون هذا القانون لكن هل يُنفِّذوه على أنفسهم؟ هل يُنفِّذوه بين قويٍّ وضعيف؟ أو يُنفِّذوه إذا كان لهم مصلحةٌ مع القويِّ أو مصلحةٌ مع الطرف الثاني؟ والقانون ستارةٌ تُخفِي مقاصدهم الخاصة فلا يقصِدون عدالةً ولا إنسانيةً ولا حقَّاً ولا نصرةً لضعيفٍ ولا ردعاً لقويٍّ، أما الله فليس له مصلحةٌ مع الإنسان؛ لا مع القويِّ ولا مع الضعيف، الله عز وجل هو أرحَم بالإنسان مِنْ رحمة الأمِّ لرضيعها.

فرح الله تعالى بتوبة العبد:
وفي حديثٍ نبويٍّ يقول:

{ للَّهُ أفرَحُ بتوبةِ التَّائبِ مِنَ الظَّمآنِ الواردِ ومنَ العقيمِ الوالِدِ ، ومنَ الضَّالِّ الواجدِ فمَن تابَ إلى اللَّهِ توبةً نصوحًا أنسى اللَّهُ حافِظيهِ وجوارحَهُ وبقاعَ الأرضِ كُلِّها ، خطاياهُ وذنوبَهُ }

[التوبة لابن عساكر]

(مِنَ العقيمِ الوالِدِ) إذا كان أحدهم عقيماً وعاقِراً لا يُنجبُ الأولاد وأتاه ولدٌ فكَم يفرح به؟ فالله يكون أشدُّ فرحاً بالمذنِب إذا تاب مِنْ فرح العقيم إذا أتاه الولد، (ومنَ الضَّالِّ الواجدِ)(6) إذا كان ضائعاً في الصحراء ووجَد الطريق الذي يُوصِله إلى مقصَدِه فكم يكون فرحَه عظيماً، (مِنَ الظَّمآنِ الواردِ) إذا كان أحدهم مقطوعاً في الصحراء مِنَ العطش ووجد الماء فكم يفرح؟ فالله يكون فرحه بتوبتك مِنْ ذنوبك ومِنْ نقائصك وبانتقالك مِنَ جهلك إلى العِلم ومِنَ الذنب إلى الطاعة والتقوى ومِنَ الباطل إلى الحقِّ، ومِنَ الظلم إلى العدل أفرَحُ مِنْ هؤلاء الثلاثة إذا تحقَّقت غايتهم وتحققت لهم بُغيَتهم ومقصَدهم.
وفي روايةٍ أخرى يقول: ((الله أشد فرحاً بتوبة المذنب مِنْ رجلٍ كان في الصحراء مسافراً فأدركه الحرُّ فلقي شجرةً فآوى إلى ظلها ليستريح مِنْ حرِّ الظهيرة، وتغدَّى وأكل وغلبه النوم فنام فلما استيقظ وجد ناقته شرَدَت وفرَّت وفتَّش عنها فلم يجدها، وعليها طعامه وشرابه وأغراضه)) أي متاع المسافر ((فيئس مِنَ الحياة وأيقَنَ بالموت -انقطع في الصحراء- فقال: أرجِعُ إلى ظلِّ الشجرة فأموت تحت ظلها خيراً مِنْ أن أموت تحت حرارة الشمس المحرقة، ونام تحت شجرته وفي ظلِّها ثم استيقظ بعد ذلك وإذا به يرى ناقته واقفةً فوق رأسه وعليها طعامه وشرابه وكلُّ أمتعته، فمِنْ شدة فرحِه – هذا الإنسان الذي يئس مِنَ الحياة وأيقَن بالهلاك - صار يشكر الله على رجوع ناقته، فصار يُمجِّد الله ويُثني على الله قائلاً: اللهم أنتَ عبدِي))، وهل الله عبدٌ للإنسان أم أن الإنسان عبدٌ لله؟ لكن اختلط عقله فلم يعد يعرف ما يقول مِنْ شدة الفرح، فصار يثني على ربِّه عكس الحقيقة: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، فلماذا اختلط عليه عقله؟ مِنَ الحزن أم مِنَ الفرح؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((لله أشد فرحاً بتوبة المذنب مِنْ فرح هذا الرجل برجوع ناقته إليه وعليها طعامه وشرابه ومتاعه))(7).

الانتصار لالحقيقي حقوق الإنسان:
فالله الذي أنزل القرآن ومِنْ جملة القرآن سورة عَبَس انتصاراً لمَن؟ لحقوق الإنسان فهل مجلس الأمن وهيئة الأمم التي شرَعَت حقاً أم صورةً؟ تطبيقاً أو مصلحةً للأقوياء ولأصحاب الفيتو، إذا كانوا بحربٍ مع أيِّ شعبٍ وحكم مجلس الأمن وأحد أصحاب الفيتو قال: لا، يرفض الحق، فيا تُرى هل تتحقق العدالة أم تُداس العدالة بالنِّعال والأقدام؟ فيا تُرى قانون الأرض أفضل للإنسان أم قانون السماء؟ فالسماء كلُّها قدَّمت احتجاجاً برقياً لاسلكياً صحفياً إذاعياً تلفزيونياً حالاً، حالاً ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ إذا يُطبّق مئةً في المئة فلعلَّه يأخذ النصف ﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى﴾ هؤلاء الزعماء الأغنياء، وما مصلحة النبي صلى الله عليه وسلم في الموضوع؟ ليس له مصلحةٌ شخصية إنما المصلحة هداية الناس، ولكن هداية الناس يجب أن تكون بلا تمييزٍ عنصريٍّ وبلا تمييزٍ بين الأغنياء والفقراء لأن الناس كلُّهم مخلوقات الله، الله خالقهم وهم عباده، ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ﴾ أنت لست مسؤولاً عن الهداية، وأنت مسؤولٌ عن المساواة وعن حفظ كرامة الإنسان، لا تفضِّلُ إنساناً قوياً على الضعيف ولا الغني على الفقير، ولا الحاكم على المحكوم.
مرةً صعد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المدرسة المنبر وجَمَعَ الناس وقال:

{ إنَّما أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كما يَرْضَى البَشَرُ، وَأَغْضَبُ كما يَغْضَبُ البَشَرُ، فأيُّما أَحَدٍ دَعَوْتُ عليه مِن أُمَّتِي بدَعْوَةٍ ليسَ لَهَا بأَهْلٍ؛ أَنْ يَجْعَلَهَا له طَهُورًا وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بهَا منه يَومَ القِيَامَةِ }

[صحيح مسلم]

(إنَّما أَنَا بَشَرٌ) أي لست الله ولا ابن الله ولا ابن أخت الله ولا ابن عم الله، (إنَّما أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَى كما يَرْضَى البَشَرُ، وَأَغْضَبُ كما يَغْضَبُ البَشَرُ، فأيُّما أَحَدٍ دَعَوْتُ عليه مِن أُمَّتِي بدَعْوَةٍ ليسَ لَهَا بأَهْلٍ؛ أَنْ يَجْعَلَهَا له طَهُورًا وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بهَا منه يَومَ القِيَامَةِ)(8) مَنْ يقول هذا؟ هل الملك الذي يملك الأجساد والذي يملك الشرطة والقوة والجنود؟ يقول هذا مَنْ يملك القلوب ومَنْ يملك العقول ومَنْ مَلَكَ كلَّ شيء،((لا يقل يغضب محمَّد رسول الله فإن محمَّداً رسول الله لا يغضب مِنَ الحق)).
فسيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم في نبوَّته مثَّل تعليم وتربية الأنبياء، ومثَّل الدولة والسياسة الإلهيَّة وكيف تحكم في الأرض بتحقيق سعادة الإنسان وتعميم العدالة بين الناس وتعميم العِلم، والتعليم لكلِّ الشعوب وبكلِّ حريةٍ وبلا إكراه وبلا إجبار، فهل إنسان القرن العشرين وصل مستواه التعليمي أو السياسي أو الاجتماعي إلى البرنامج الإلهي الذي لا يزال محفوراً في القران ولم يتغيَّر منه حرفٌ واحدٌ لا في ترجمةٍ ولا في شرحٍ ولا تأويل؟ وهل وصل الإنسان إلى ما أوصَله إليه دستور وقانون السماء؟ لا يزال إنسان القرن العشرين يشكو الظلم كما إنسان قبل موسى وعيسى ومحمَّد وإبراهيم، يشكو الظلم لأنه لا يعيش تحت ظلِّ قانون السماء وقانون الله الذي هو أشدُّ فرحاً بالمذنب إذا تاب، يعني المذنب الذي فيه المرض النفسي والمرض الأخلاقي والتوبة هي الصحة الأخلاقية والروحيَّة، فكم هو اهتمام الله بالإنسان وبصحته وحياته وسعادته بأن لا يُظلَم وبأن لا يُعتدى عليه، بلا فارقٍ فليس هناك إنسانٌ إلهيٌّ وإنسانٌ غير إلهي.

العدل والأخلاق في قوانيننا اليوم:
قال صلى الله عليه وسلم:

{ الخلقُ كلُّهم عيالُ اللَّهِ ، وأحبُّ الخلقِ إلى اللَّهِ أنفعُهم لعيالِهِ (9) }

[المعجم الكبير للطبراني]

فالذي يستطيع أن يُسعِد الإنسان أكثر أو أن يُساعد الإنسان أكثر أو ينصُر الضعيف فيُوصِله إلى حقِّه، أو يُخلِّصه مِنْ ظالمٍ قويٍّ هو الأحبُّ إلى الله وهو المفضَّل عند الله، يا تُرى إنسان القرن العشرين ولو صار حماره طائرة.. كان الإنسان القديم مركوبه الحمار والبغل والحصان والجمل، والآن صار الجمل يطير وصار اسمه طائرة، وكان إذا أراد أن يبعث كتاباً يحتاج شهراً أو شهرين حتى يصل إلى المُرسَل إليه، والآن بالفاكس تضعه هنا فتجده في أمريكا، جهاز المواصلات فارتقى الحمار وصار سيَّارة وصار دراجةً وقطاراً وطائرةً، فيا تُرى هل إنسانية الإنسان ارتقَت؟ وهل انتقل مِنَ الظلم إلى العدل ومِنَ قسوة القلب إلى الرحمة ومِنَ الإنسان المسيء إلى الإنسان المحسِن ومِنَ الإنسان الجاهل إلى الإنسان العالِم؟ هل انتقل المعلِّم ليفتِّش عن الجاهل ويُعلِّمه مجاناً؟ وإذا لم يُعلِّم فهو مسؤولٌ عن تقصيره في حقِّ أخيه المتخلِّف الجاهل.
يا تُرى أيهما أرقى قانون هيئة الأمم ومجلس الأمن في القرن العشرين هذا القانون العالمي أو المحلي أم قانون الله؟ وقضاء الله وحكم الله وتعاليم الله؟ لكن المشكلة بأنَّ الإنسان وكلُّ إنسان يستطيع أن يُفضِّل الخير على الشر والكمال على النقص والحقيقة على الوهم لكن الذنب ذنبُ رجال الدين، ومِنْ كلِّ الأديان، رجال الدين في الإسلام وفي المسيحية واليهودية لا يُحسِنون طبخ الدين وتقديمه غذاءً مشتهىً محبباً للإنسان، بل يُقدِّمونه للإنسان تقديماً غير صحيح، وفُطِرَ الإنسان وطُبِعَ على أنه يحبُّ الجمال؛ الطعام الجميل والمنظر الجميل والموسيقى الجميلة والرائحة الجميلة، فكذلك لو عُرِض دين الله عرضاً حقيقياً.. كذلك الدين الذي هو أجمل مِنْ ملكات الجمال عقلاً وأخلاقاً وسيرةً وعِلماً وعملاً، لو عُرِضَ لا يمكن لإنسانٍ أن يرفضه، وكذلك إذا أعرَضَ إنسان القرن العشرين عن الدين فأنا أعذره لأنه ما رأى الدين بحقيقته وجماله وبإنسانيته وبدفع الإنسان نحو الأفضل في كلِّ شؤون حياته.

التقدم الدائم نحو الأفضل:
كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول حول وُجوب أن يكون الإنسان دائماً في تقدُّمٍ نحو الأفضل في كلِّ شؤون الحياة في زراعته وصناعته وعِلمه وحضارته:

{ مَن استوى يوماه فهو مغبونٌ ومَن كان آخرُ يومِه شرًّا فهو ملعونٌ ومَن لم يكن على الزيادةِ فهو في النقصانِ فالموتُ خيرٌ له }

[حلة الأولياء لأبي نعيم]

(مَن استوى يوماه) إذا كنت أنت في العِلم والتقدُّم اليوم مثل الأمس وهذا اليوم ما زِدت عن أمسٍ (مَن استوى يوماه فهو مغبونٌ)، مثل الذي يشتري هذا القلم بألف دولار وهو يساوي نصف دولار، وإذا باع الدار التي ثمنها مئة ألف دولار بعشر دولارات فهذا اسمه مغبون..
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن استوى يوماه) إذا لم يزِد عِلمك عن البارحة وأخلاقك تصير أفضل مِنَ البارحة وصحتك وزراعتك وصناعتك أحسَن مِنَ البارحة (مَن استوى يوماه) إذا كنت اليوم كالأمس (فهو مغبونٌ ومَن كان آخرُ يومِه شرًّا فهو ملعونٌ) محرومٌ مِنَ التقدُّم ومحرومٌ مِنَ السعادة والخير، (ومَن لم يكن على الزيادةِ) إذا كنت لا تزداد يوماً عن يومٍ عِلماً وتقدُّماً واقتصاداً وزراعةً وصناعةً وقوةً في الخير (ومَن لم يكن على الزيادةِ فهو في النقصانِ) وهل مِنْ أحدٍ يرضى أن يكون في نقصٍ في ماله أو صحته أو كرامته أو اقتصاده أو صناعته أو زراعته؟ (ومَن لم يكن على الزيادةِ فهو في النقصانِ فالموتُ خيرٌ له)(10) هل هذا دينٌ؟ بحسب مفهوم العصر الحاضر هذا اسمه الحياة وهذا اسمه التقدُّم والسعادة والعَظَمة، العَظَمة ليست في التعالي على الآخرين إنما العَظَمة بمساعدة الآخرين.
يا تُرى الدين بمعناه الأول الحقيقي الذي هو كمطر السماء هل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا ماء السماء؟ قال تعالى:

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
[سورة الأنبياء]

(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) فإذا كان هو مصدر الحياة (أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)؟ لماذا لا يؤمنون وهو يريد أن ينقُلهم مِنَ الموت إلى الحياة، ومِنَ الجهل إلى العِلم، ومِنَ الفوضى إلى النظام ومِنَ الظلم إلى العدل، ومِنَ التمييز العنصريِّ والاستئثار الأنانيِّ إلى المساواة والتعاون، وإلى الحبِّ والإخاء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ الإنسان أخو الإنسان أحبَّ أم كرِه (11) }

[ورد في الأثر]

لو كرهت الإنسان فهو أخاك فلا يجوز أن تظلم أخاك، إذا كان جائعاً فلا يجوز أن تشبع وهو جائع، لا يجوز إن كنت قوياً أن تظلمه لأنه ضعيف، يا تُرى القرن العشرون وأوروبا وأمريكا واليابان هل وصلت في الرقيِّ والحضارة إلى هذا المعنى السماوي الإلهي؟ الذي أتى به إبراهيم وموسى والمسيح وسيّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم وكلُّ الأنبياء الذين أرسل الله إليهم رسالته؟ هل حضارة القرن العشرين أرقى مِنْ حضارة السماء؟

مسؤولية رجال الدين:
فالأزمة وحلُّ المشكلة أن نُوجِد رجل الدين على مستوى تعاليم السماء بحقيقتها وجوهرها لا نُحرِّف ولا نُأوِّل، وإذا رأينا شيئاً يتناقض مع الحقائق والعقل والعِلم فما أتى الدين ليُناقِض العقل ولا الحقائق، والدين ما أتى ليقول عن عمامةٍ بيضاء آمنوا بأنها سوداء، فالدين لا يُخالِف العقل ولا الحقيقة ولا الواقع، فأتى رجال الأديان فأبعَدوا الدين عن حقائقه، وأبعَدوا الدين عن روحانياته وأهدافه ولم يعرضوه بأسلوبه الذي عَرَضَه أنبياؤه ووحي السماء، النبي صلى الله عليه وسلم لما عمِلَ خلاف الأفضل مع الأعمى صارت المظاهرة في السماء؛ الله وجبريل والملائكة كلُّهم قالوا أنه مخطئٌ، مع أنه بحسب قانوننا الأرضيِّ الصحيح أن المصلحة تقتضي أن نُقدِّم العظماء فإذا اهتدوا يهتدي الضعفاء، أما السماء فلا تفرِّق في تكريم الإنسان واحترامه بين غنيٍّ وفقيرٍ وبين مأمورٍ وأمير. يا تُرى هل يوجد إنسانٌ مِنَ اليابان إلى أمريكا يرفض الدين بهذا المعنى؟ هل يوجد إنسانٌ في الدنيا يقول عن عمامتي أنها سوداء أو خضراء أو حمراء؟ الدين هو هذا يا بُني، وحين يُعرَض بعكس هذا فإذا ألحَد الملحد فإنما هي مسؤولية رجال الدين.
في سنة التسعين أو قبل التسعين دعاني البابا إلى إلقاء محاضرةٍ في الفاتيكان، في المجمع المسكوني لكرادلة العالَم فحضرها الكرادلة، ودعا لها السفراء وبعض الوزراء وطلب أن يكون عنوانها: (مستقبل الدينين الإسلامي والمسيحي في العصر الحديث) وهي مطبوعةٌ باللغتين الإنكليزية والعربية لمن أراد، وبعد ذلك صار اللقاء الشخصيُّ بيني وبينه فسألته السؤال التالي: هل تعلم يا سيادة البابا مَنْ المتسبب في وجود الإلحاد والشيوعية؟ قال لي مَنْ؟ مَنْ هو السبب في وجود الشيوعية والإلحاد؟ قلت له أنت، أنت سبب الإلحاد وأنت سبب الشيوعية -والله أقول لكم كلامي وبالحرف إن شاء الله- فرأيته انزعج وحقٌّ له أن ينزعِجَ فقال لي: أنا؟ قلت له: نعم أنت، فلما رأيته انزعج قلت له وأنا شريكٌ معك في وجود الإلحاد والشيوعية، نحن رجال الدين حينما نقدِّم الدين بصورته المشوَّهة ونحجب عن الإنسان صورة الدين الجميلة المشوِّقة، ونقول عن الأبيض أنه أسود وعن الأسود أبيضَ أيؤمنون بكلامنا؟ هذا مستحيلٌ.. فالخلاصة بعد انتهاء الجلسة آخر كلمةٍ كانت منه ونحن متصافحون قال لي: أنا أقرأ القرآن كلَّ يوم، البابا الحالي.. فلا يمكن أن يسعَد الإنسان أو يتحقق سلامٌ أو أن يتقدَّم العِلم ولكلِّ الإنسان إلا بدستور وبقانون السماء، ولكن الأزمة عند المترجم الذي هو رجل الدين، فلو أن رجل الدين أحسَنَ الترجمة وقال عن القلم أنه قلمٌ وعن الماء أنه ماء.. إذا قلت لكم هذا ماء ولو أن طفلاً قال ماء، وكلكم كنتم قضاة وأساتذة ومحامين هل تقولون عن كأس الماء أنها قطٌّ أو كلبٌ أو قلم أو ورقة أو دفتر؟ هل تستطيعون أن تكذبوا؟ لأن الحقيقة هي:

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
[سورة الإسراء]


قانون السماء في نصرة الحق:
فلما عُوتِبَ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتَم النبيين مِنْ أجل رجلٍ فقيرٍ ضعيفٍ أعمى ليس له ناصر ولا منسوبٌ لحزبٍ حتى يُدافع عنه وليس له عشيرةٌ ولا مالٌ يُطمع فيه، والسماء تنتصر له أي تنتصر للحق، تنتصر للعدالة، تنتصر للمساواة فلا يوجد عند الله غنيٌّ وفقير ولا زعيم ومزعوم.
فينزل العتب الإلهي والله يقول للنبي صلى الله عليه وسلم لا تخبئها بيني وبينك بل عليك أن تبلِّغها لكلِّ الناس، والجيل الموجود يُبلِّغها للجيل الذي بعده وإلى قيام الساعة.. أن قانون السماء في حفظ حقوق الإنسان بلا فرقٍ بين قويٍّ وضعيف، وبين عظيمٍ وحقير وبين أبيضٍ وأسود، إنما النُّصرة للعدل والحق وبالمساواة مع كلِّ الناس، هذا قانون الله وقانون الدين والسماء، فيا تُرى إنسان القرن العشرون بحاجة إلى هذا القانون أم يستطيع أن يستغني عنه؟ لفقد هذا القانون نجد الحروب في مشارق ومغاربها، يقولون الحروب بين شعوب متخلفة ليس عندها اتحادٌ قومي أو اتحادٌ وطني ونظامٌ وقانونٌ سواء أفغانستان أو الصومال، فلماذا كانت الحرب العالمية الأولى والثانية بين الشعوب المتقدِّمة ألمانيا وروسيا وإنكلترا وأمريكا وفرنسا؟ حرب الشعوب المتخلِّفة نقطةٌ مِنْ بحر حروب الشعوب المتقدِّمة، دمَّروا بلادهم وأزهقوا أرواح خمسين مليون إنسانٍ، فلو كان القانون قانون الله هل تكون هذه الحرب؟ وهل يوجد ظالمٌ ومظلومٌ ومعتدٍ ومُعتَدَىً عليه؟
الشعب الفلسطيني كان موجوداً قبل أن توجد بنو إسرائيل واليهود، لأن بنو إسرائيل هم بالأصل غرباء عن فلسطين، هم بالأصل مِنْ نسل إبراهيم، من أبناء سيدنا إبراهيم يعقوب بن اسحاق ويعقوب الذي هو إسرائيل يعني إسرائيل ابن سيدنا إبراهيم فسيدنا إبراهيم أين مسكنه؟ كان في شمال العراق، وشمال العراق ماذا فيها؟ الأكراد، فمع حاكم العراق أراد أن يحرقه فحِفَظه الله وهرب وهاجر ولجأ إلى فلسطين وجاءه ولدان: إسماعيل وإسحاق، إسحاق له ولدٌ وهو يعقوب الذي اسمه الثاني إسرائيل، فاليهود مِنْ ذرية يعقوب الذي هو إسرائيل، فبنو إسرائيل فلسطينيون أم مهاجرون؟ مواطنون أم لاجئون؟ فمن المواطن الأصيل في فلسطين؟ كان اسمهم الكنعانيون، وبعدها تغيَّرت اللغات وصاروا يتكلَّمون باللغة العربية وصار اسمهم عرب، الإسلام لا يفرق، الأرض أرض الله لكن قوانين الأرض تفرِّق، فقانون الله لا يسمح بأن يعتدي ظالمٌ على ضعيفٍ، في قانون الله لا يوجد ظالمٌ ومظلومٌ ولا معتدٍ ولا مُعتَدَىً عليه، وما دام هناك ظالمٌ ومظلومٌ ومعتدٍ ومعتدىً عليه فالحرب دائماً متواصلةٌ قائمة، لا تنتهي الحروب إلا إذا تحققت العدالة وتأمَّنت الحقوق للجميع، فإن كان القويُّ هذا اليوم قوياً فالدهر والزمن دولابٌ لا يستقرُّ على حالٍ، بينما تكون جهةٌ مِنَ الدولاب عالية وبعد مدة تصير إلى الأسفل ومن يكون في الأسفل يصير في الأعلى.

ازدواجية مجلس الأمن في قراراته:
هيئة الأمم قررت قراراتٍ لمناصرة الشعب الفلسطيني ومجلس الأمن قرر قراراتٍ لتقسيم فلسطين؛ قسمٌ اليهود اللاجئون في الأصل في عهد إبراهيم، واللاجئون الأغراب في العصر الحاضر الذين هم ليسوا فلسطينيون مِنْ قلب فلسطين، مع ذلك فيا تُرى مجلس الأمن الذي تسيِّره الدول الخمس أصحاب الفيتو هل حكموا بالعدل الإنسانيِّ وهل كانوا أمناء على تطبيق قراراتهم؟ هل أنصفوا المظلوم من الظالم؟ بل هم الذين يشجِّعون الظالم ويُمدُّونه بالأموال وقرارات مجلس الأمن وبالفيتو وبكلِّ الوسائل ليبقى الظلم مستمراً متتابعاً؛ لأن في ذلك مصلحةً لهم، وفي الكويت حين هاجم العراق الكويتَ قرر مجلس الأمن ما قرره ضد العراق فهل أخَّروه عشرات السنين مثل قرارات فلسطين أم نفَّذوه فوراً؟
فلماذا الفورية في قضية العراق والبرودة تحت الصفر بسبعمئة درجة في قرارات مجلس الأمن في فلسطين؟ يا تُرى هل هذا عدلٌ؟ هل هذا هو القانون الذي يُحقق العدالة العالمية مِنْ هيئة الدول ومجلس الأمن الدولي؟ فما كان لفلسطين قراراتٌ على الورق، وفي العراق قراراتٌ فورية التنفيذ، وقالوا: حقوق الإنسان!! ولـمَّا هاجموا ليبيا بالصواريخ والطائرات مِنْ ثلاث أو أربع سنوات قُتِل النساء والأطفال والشيوخ فهل هذا قانونٌ؟ هل مشوا بقانونٍ أم أنَّ الأنا والفوضى والاعتداء والاستبداد والفوضوية وأنانية الأقوياء تجاه الضعفاء؟ وهل قانون الله يسمح بهذا؟ وهل يُقِرُّ هذا؟ والآن حُجاج ليبيا يريدون الحج وبينهم بين الحج صحارى وبحار، وبالجمل لا يمكن وعلى الأقدام لا يمكن، بل بالطائرات، هل هيئة الأمم ومجلس الأمن بقيادة أمريكا تسمح بأن يذهب الحجاج الليبيون إلى أداء مقدَّساتهم الدينية الذي هو الحج وهو أحد أركان الإسلام الخمسة؟ هل مجلس الأمن قائمٌ على العدل؟ هل هو قائمٌ على الإنسانية وقائمٌ على حقوق الإنسان؟ أمريكا المتحضِّرة هل هذه حضارةٌ أم عدوانٌ أم ظلم؟ أيضاً أين أعضاء مجلس الأمن أو هيئة الأمم لتحتجَّ على استغلال دول الفيتو وعلى رأسهم أمريكا وأن هذا لا يجوز وأنتم تخالفون القانون وتخالفون حقوق الإنسان وتتدخلون في الشؤون الدينية المقدَّسة؟ ففي مثل هذا الموقف لا يكفي أن يحتج المسلمون فقط بل أن يحتجَّ العالم كلُّه على تصرف واستغلال الدول الاستعمارية الكبرى في مجلس الأمن وأصحاب الفيتو الخمس الذين يستغلون مجلس الأمن فإذا ما وافق مصلحتهم يستخدمون الفيتو فالقانونٌ ملغيٌّ فمجلس الأمن لم يعد له فائدةٌ بالنسبة للضعيف والمظلوم والمقهور، فـما أحوَج إنسان هذا العصر إلى أن يتعرَّف على قانون السماء الذي أتى به إبراهيم وموسى والمسيح وسيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وما أتى سيدنا المسيح لينقُضَ رسالة موسى، وما أتى سيدنا محمَّد صلى الله عليه لينقُضَ رسالة المسيح ورسالة سيدنا موسى بل أتى ليتُمِّم كما يقول المسيح: ما جئت لأنقُض بل جئت لأتمم..
يا تُرى ما تصنعه أمريكا حين ألقت بقنابلها على ليبيا وقتلت مَنْ قتلت، والآن تمنع المسلمين مِنْ أداء فريضتهم الدينية التي هي الحج وسفرهم بالطائرات، فيجب على كلِّ الأحرار والشرفاء ومِنْ كلِّ الشعوب والديانات أن تحتجَّ على هذا العمل، وإذا كان هناك اتهامٌ لشخصين بحادث لوكربي فليبيا طلبت أن تكون محاكمتهما في دولةٍ حياديةٍ حتى لا تتدخَّل أمريكا أو غير أمريكا في العدالة فـتُبرِّئ المذنب وتُجرِّم البريء.

على كل مسليم دراسة القانون الإلهي:
فأنا نصيحتي والواجب ليس على المسلمين فقط بل على كلِّ العالَم؛ على الشرفاء والعقلاء والجامعات أن تدرس قانون الله السماويِّ لتُفتِّش هل يصلح قانون الله لأن يُسعِد العالَم كلَّه، فلا يوجد إنسانٌ جائع بلا غذاء ولا عارٍ بلا لباسٍ وكساء، ولا مريضٌ بلا معالجةٍ ولا دواء، ولا حربٌ يعتدي القويُّ فيها على الضعيف، يجب إيجاد هيئةٍ مِنْ أحرار رجال الأديان العالميين، رجال أديان ثوريون لا يتمسَّكون بالتقليد فيما سبق، يرجعون إلى النبع الأول، يرجعون إلى وحي السماء، وكلُّ ما يرفضه العقل يرفضونه لأن وحي السماء ما أتى ليسلِبَ منك العينين ويجعلك أعمى، أو يسلِبَ منك السمع ويجعلك أصماً، أو يسلِبَ منك العقل ويعطِّله فيجعلك مجنوناً، إنما أتى وحي السماء ليجعل مِنْ عقلك الذي هو كبذرة النخلة -النواة - ويجعل منها نخلةً عظيمة، ليجعل مِنْ عقلك الذرة العقل الكبير العبقريَّ الهائل، ويجعل مِنْ حيوانيَّتك -الحيوان لا يعرف إلا جسده طعامه وتناسُله- ليجعل مِنْ حياتك وشخصيَّتك الحيوانية أو الوحشية التي لا تعرف إلا الاعتداء على الضعيف نفساً ملائكيَّةً تُقدِّم الخير لكلِّ مَنْ تراه.

الأنبياءُ إخوة:
ما أعظَم ذلك العصر الذي يجتمع فيه أحرار رجال الأديان المجددون العقلانيون الربانيون الذين يرون في الأديان أن ثانيها مكمِّلٌ لأوَّلها وآخرها مُتمِّمٌ لأوَّلها، أن يجتمعوا فيجمعوا الإيمان بالله في دائرةٍ واحدةٍ نجد فيها إبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّد صلى الله عليه وسلم، وكما يقول سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم:

{ الأنبياءُ إخوةٌ لعَلَّاتٍ؛ أمَّهاتُهُم شتَّى ودينُهُم واحدٌ }

[أخرجه أبو داود]

لو التقى سيدنا المسيح بسيِّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم هل يتصارعان أم يتقاتلان أم يتعانقان ويُقبِّل أحدهما الآخر؟ ولو التقى موسى بعيسى وبمحمَّد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم ماذا يكون اللقاء؟ هل هو إلا لقاء الأب مع الأبناء والأشقاء الإخوة مع الإخوة الأشقاء؟ ليتعاون على تحقيق السعادة لكلِّ إنسان..
ما أحوَجَ الإنسان في هذا الوقت إلى وجود قمرٍ اصطناعيٍّ يبثُّ وباللغات العالمية حقيقة دين الأنبياء: دين إبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّد صلى الله عليه وسلم، وأنهم اشتركوا في البناء ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم وضع الحجر الأخير كما أن النبي الأول وضع الحجر الأساسي، وما بينهما مِنْ أنبياءٍ قاموا بتكملة المراحل بعضها في إثر بعض، ما أعظَم أن قمراً اصطناعياً مِنْ طبق ومِنْ مائدة رسالة السماء ومدرسة السماء وقانون السماء أن يعمل على تآخي شعوب العالَم، على تعاون شعوب العالَم، على معاونة القوي للضعيف، على تعليم العالِم للجاهل، على مساعدة الغنيِّ للفقير، على البحث في الشؤون العالمية مثل زيادة عدد سكان العالَم، الآن العالَم في تفجُّرٍ سكانيٍّ؛ كانوا مليارين صاروا ثلاثة وأربعة وخمسة وبعد عشرين سنة ربما يكونون عشر مليارات إنسان، فما أحوَج العالَم إلى تنظيم وتحديد النسل لأن دين الله ما نزل ضد مصلحة الإنسان وضد الواقع المفيد.

وجوب العلم والعمل والتعليم في كل زمان ومكان:
فما أحوَج الإنسان والعالَم في هذا الوقت لأن يُعلِّم الإنسان العالِم أخاه الجاهل، ومرةً قال سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم -وهذا آخر حديثٍ وأُنهي به المجلس- في نشر العِلم على كلِّ المجتمع:

{ ما بالُ أقوامٍ لا يُفقِّهون جيرانَهم ، ولا يُعلِّمونهم ، ولا يَعِظونَهم ، ولا يأمرونهم ، ولا ينهونهم ؟ ! وما بالُ أقوامٍ لا يتعلَّمون من جيرانِهم ، ولا يتفقَّهون ! ولا يتَّعِظون ؟ ! واللهِ لَيُعلِّمَنَّ قومٌ جيرانَهم ، ويُفقِّهونهم ، ويعِظونهم ، ويأمرونهم ، وينهونهم ، ولَيَتَعَلَّمنَّ قومٌ من جيرانهم ، ويتفقَّهون ، ويتَّعِظون ، أو لأُعاجِلنَّهم العقوبةَ }

[ضعيف الترغيب للألباني]

(ما بالُ أقوامٍ لا يُفقِّهون جيرانَهم) سواءٌ كان على مستوى الفرد، إذا أنت صرت عالِماً وجارك جاهلٌ فعليك أن تعلِّمه، وإذا كان شعبٌ عالمٌ وشعبٌ جاهلٌ والآن العالَم كلُّه صار كقريةٍ واحدةٍ وكبيتٍ واحد بسرعة المواصلات وسهولتها، (ولا يُعلِّمونهم، ولا يَعِظونَهم) إذا وُجدت أوهامٌ وخرافاتٌ وخيالاتٌ فيجب أن ينقُلوهم إلى العقلانية، (ولا يأمرونهم، ولا ينهونهم). إذا كانوا يسلكون طريقاً غير صحيحٍ وغير معروفةٍ فائدته وإسعاد صاحبه، وإذا كانوا تاركين للمعروف يجب أن يأمروهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، ثم قال بالنسبة للشعوب الجاهلة والفئة الجاهلة: (ولَيَتَعَلَّمنَّ قومٌ من جيرانهم، ويتفقَّهون، ويتَّعِظون، أو لأُعاجِلنَّهم العقوبةَ) يعني التعليم مِنَ المعلِّم والتعلُّم مِنَ الجاهل فريضةٌ قانونيةٌ سماويةٌ إلهية، والمعلِّم إذا تخلَّف عن التعليم والجاهل إذا تخلَّف عن التعلُّم فهو معرَّضٌ للعقوبة لأن الذي لا يفهم بالكلام والآذان مثل الحمار يحتاج إلى عصا، (أو لأُعاجِلنَّهم العقوبةَ)(12) فقالوا أمهلنا سنةً فأمهلهم سنةً فقام كلُّ عالمٍ يُعلِّم جيرانه.
يا تُرى بالله عليكم وأقول لإخواننا وضيوفنا الوفد الألماني هل هناك قانونٌ في الشرق أو الغرب أو في أوروبا أو في اليابان أرقى مِنْ هذا القانون الإلهيِّ؟ أرقى مِنْ هذا القانون الإنساني الرباني؟ الله يُسجِّل عتباً إلى مادام الإنسان على هذا الكوكب على النبي محمد صلى الله عليه وسلم لماذا؟ يعني هذا كلُّه تعليمٌ لكلِّ إنسانٍ في العالَم بأن يرفُقَ القوي بالضعيف، وأن يرحَمَ الغني الفقير، وأن يُعلِّم العالِمُ الجاهل وأن ينظر الإنسان إلى الإنسان أنه ضمن عائلةٍ واحدةٍ بل جسدٍ واحدٍ كما قال النبي محمد عليه الصلاة والسلام:

{ تَرَى المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَداعَى له سائِرُ جَسَدِهِ بالسَّهَرِ والحُمَّى }

[صحيح البخاري]

(إذا اشْتَكَى عُضْوًا) إذا كان هذا الظفر قد ضُرٍبَ بحجر فالجسد كلُّه تصيبه الحمى مِنْ أجل هذا الظفر يعني يُشاركه ألمه ومرضه ومصيبته، فقانون الله الذي هو اسمه الدين يقول أن الإنسانية يجب أن تكون هكذا (كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَداعَى له سائِرُ جَسَدِهِ بالسَّهَرِ والحُمَّى)(13). والعين تبحث عن الدواء والأذن تسمع من الطبيب ما يجب أن يعمل والأرجل تذهب إلى الصيدلية لتجلب الدواء.
وختاماً اسأل الله أن يجعلنا مِنَ التلامذة النجباء في مدرسة الله، وأن نفقه كلامه ونُحوِّله مِنْ كتابةٍ تُقرأ إلى أعمالٍ وأخلاقٍ تُسلَك لنَسعَد ونُسعِد، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيِّدنا محمَّدٍ وآله وصحبه، والحمد لله ربِّ العالمين.

الهوامش:
(1) سنن ابن ماجة، افتتاح الكتاب بالإيمان: باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم: (224)، «طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب».
(2) حديث: "اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ" قال الخطيب البغدادي في تخريج أحاديث الإحياء: "أخرجه ابن عدي والبيهقي في المدخل والشعب من حديث أنس، وقال البيهقي: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة"، (1/36)، شعب الإيمان، البيهقي، رقم: (1543)، (3/194).
(3) مسند الفردوس للديلمي، (3/419)، وفي المعجم الكبير للطبراني، رقم: (10461)، واللفظ: «الناس رجلان؛ عالم ومتعلم، ولا خير فيما سواهما».
(4) مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم: (23536)، (5/411).
(5) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، رقم: (2564).
(6) التوبة لابن عساكر، رقم: (5)، (ص: 37).
(7) ولفظ الحديث كما ورد في صحيح مسلم، ((لله أشدّ فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دورية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فنام فاستيقظ، وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش ثمّ قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتّى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)) صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، رقم: (2744)، صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب التوبة، رقم: (5950).
(8) صحيح مسلم، كتاب البرو الصلة: باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم، أو سبه، أو دعا عليه، وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجرا ورحمة، رقم: (2603)، ولفظه: حدثني أنس بن مالك، قال: كانت عند أم سليم يتيمة، وهي أم أنس، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة، فقال: «آنت هيه؟ لقد كبرت، لا كبر سنك» فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك؟ يا بنية قالت الجارية: دعا علي نبي الله صلى الله عليه وسلم، أن لا يكبر سني، فالآن لا يكبر سني أبدا، أو قالت قرني فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها، حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لك يا أم سليم» فقالت: يا نبي الله أدعوت على يتيمتي قال: «وما ذاك؟ يا أم سليم» قالت: زعمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها، ولا يكبر قرنها، قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " يا أم سليم أما تعلمين أن شرطي على ربي، أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه، من أمتي، بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهورا وزكاة، وقربة يقربه بها منه يوم القيامة.
(9) حدثنا يوسفُ بنُ عطيةَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ((الخلقُ كلُّهم عيالُ اللهِ، فأحبُّ خلقِهِ إليهِ أَنفعُهم لعيالِهِ))، المعجم الكبير للطبراني، رقم: (10033)، (10/86)، شعب الإيمان للبيهقي، رقم: (7045)، (9/521)، حلية الأولياء لأبي نعيم، (3/102)، مسند البزار, رقم: (6947), (13/332). والبيهقي أخرجه من طريق يوسف بن عطية الصفار به، ويوسف هذا متروك. فالحديث ضعيف جدّاً.
(10) حلية الأولياء لأبي نعيم، (8/35)، تخريج أحاديث الإحياء، (5/57)، مسند الفردوس للديلمي، (3/611)، ولفظ الحلية: ((مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ وَمَنْ كَانَ غَدُهُ شَرًّا مِنْ يَوْمِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ وَمَنْ لَمْ يَتَعَاهَدِ النُّقْصَانَ مِنْ نَفْسِهِ فَهُوَ فِي نُقْصَانٍ وَمَنْ كَانَ فِي نُقْصَانٍ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ)).
(11) ورد في الأثر.
(12) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس قائما، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر طوائف من المسلمين، فأثنى عليهم خيرا ثم قال: «ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم، ولا يفقّهونهم ولا يعطونهم (2)، ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلّمون من جيرانهم ولا يتفقهون، ولا يفطنون (3)؟ والّذي نفسي بيده لتعلّمنّ جيرانكم، ولتفقّهنهم ولتعطينهم (4) ولتأمرنّهم ولتنهنهم، [وليتعلمن] (5) قوم من جيرانهم وليتفقهن، وليتفطنن أو لأعاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا».
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيته، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم: من يعني بهذا الكلام؟ قالوا: ما نعلم يعني بهذا الكلام (6) الأشعريين، فدخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أذكرت طوائف من المسلمين بخير، وذكرتنا بشرّ، فما بالنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتعلّمن جيرانكم ولتفقهنّهم ولتعظنهم، ولتأمرنّهم، ولتنهينهم (7)، أو لأعاجلنّكم بالعقوبة في دار الدنيا» فقالوا: يا رسول الله أمّا إذا فامهلنا سنة، ففي سنة ما نعلّمهم ويتعلمون، فأمهلهم سنة. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (8) [6619]. رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق، (32/58)، الفردوس للديلمي، رقم: (6355)، (4/114)
(13) صحيح البخاري، رقم: (6011).