تفسير سورة الانفطار 01

  • 1995-07-07

تفسير سورة الانفطار 01

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله رب العالمين، وأفضل الصلوات وأعطر التحيَّات المُباركات على سيدنا محمدٍ النبي الأُميّ الأمين، وعلى أبيه سيدنا إبراهيم وأخويه سيدنا موسى وعيسى وجميع الأنبياء والمرسلين وآل كُلٍّ وصحب كُلٍّ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.


حاجة الحياة إلى كسب واجتهاد وعمل:
وبعد: فنحن في تفسير سورة الانفطار؛ الانفطار والانشقاق والتفتّت كلها تقريباً معان مُتقاربة إذا ذُكرت في القرآن تُشير إلى اندثار وخراب هذا العالم الذي من جملته كرتنا وكوكبنا الأرضي، بسبب النقلة إلى أرضٍ غير هذه الأرض، وإلى سماءٍ غير هذه السماء، فكما يخرج الإنسان من بطن أمه وضيق الرحم إلى سعة الدنيا هكذا قال سيدنا رسول الله عن خروج المؤمن من هذه الدنيا إلى سعة رحمة الله، فجعل سعة الدنيا كرحم الأُم، وما ننتقل إليه بتجردنا عن أجسادنا كأنها سعة الدنيا بالنسبة إلى بطن وأحشاء الأم، إلى آخره، وكما أننا في الدنيا في هذه الحياة على حسب ما يعمل الإنسان يقطف ويجني وينتفع كذلك تلك الحياة تحتاج إلى عمل، وإلى كسب، وإلى اجتهاد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ الدُّنيا مَزرَعَةُ الآخِرَةِ }

[الصغاني حديث موضوع]

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
[ سورة البقرة]

وتزودوا أي السفر إلى العالم عالم الخلود، إلى عالم الأبد، بأداء فرائض الله جسداً، وقلباً، وفكراً، وأخلاقاً، وسلوكاً، وأعمالاً، ومُعاملةً، وآخر استعداد، وإيماناً، وأعمالاً صالحة، وتقوى الله حق التقوى.
وردّ في الحديث بأنَّ سورة الزلزلة:

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
[ سورة الزلزلة]

يقول النبي الكريم بأنها تعدل نصف القرآن، كنا نفهم من قبل كما يفهم الكثير من الناس أنه إذا قرأ سورة الزلزلة تحصِّل على ثواب كأنك قرأت نصف القرآن، أنا فيما أفهمه بأنَّ نصف القرآن المكتوب كله يبحث في القيامة التي من عناوينها ومقدماتها الزلزلة.

يوم القيامة عالم الخلود:
القارعة، ما القارعة؟ هي القيامة، الواقعة، ما هي الواقعة؟ هي القيامة، الحاقة، ما الحاقة؟ هي القيامة، سورة القيامة، إن قرأت القرآن بتفهم وتحرّ وتدقيق فقلَّ أن تجد سورةً صغيرةً أو كبيرةً إلا وتُذكّرك بالقيامة بعالم الخلود، بعالم:

فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)
[ سورة القارعة]

أي يهوي في جهنم على أُم رأسه.

وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
[ سورة القارعة]

فما أضعف إيمان المسلم في عصرنا الحاضر بالقيامة.

الدنيا إعداد للحياة الآخرة:
بانتقالنا إلى قوله تعالى:

عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
[ سورة الواقعة]

أما كنت حيواناً منوياً لا تراه العيون؟ لو غمست الإبرة في النطفة لعلِّق في رأس الإبرة خمسون ألف حيوانٍ منويٍ، أي رأس الإبرة يُشكل مدينة من الإنسان لمّا كان في تلك النشأة التي لا تبصرها العيون إلا بالوسائل المُكبِّرة، فالذي نقلك من لا شيء، مما تعجز عنه الأبصار، فإذا جرّد روحك عن جسدك، وجسدك كان حوض ترابٍ، وغُرست فيه الروح لتتغذى بالروحانية وبالأخلاق القُدسية حتى تتأهل إذا انتقلت إلى عالم القدس أن تكون مُقدسةً، ومُواطنةً، ومُجانسةً لأولئك المواطنين في عالم الخلود الذي لا يسكن ذلك العالم إلا الأبرار والأخيار والأطهار من الرذائل والنقائص والشرور، ومن كل عملٍ مُشين في أخلاقهم، في أفكارهم، في أعمالهم، فالدنيا مدرسة، والدنيا إعداد لتلك الحياة، لذلك جعل الله نصف القرآن يدور حول الثقافة بعالم الخلود المُسمى بالقيامة، لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين في محكمته، حيث تُعرض أعمالك التي كُتبت في كتابك كتاب الأعمال الذي لا يُغادر ولا يترك صغيرةً من أقوال، ولا أعمال، ولا نظرات، ولا سمع، ولا فكر.

طهارة الصدر من الحقد والغل والمكر والنفاق:

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)
[ سورة الملك]

ما معنى عليمُ بذات الصدور؟ ما معنى:

وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
[ سورة طه]

أي لتكن طاهر السريرة، لتكن طاهر الصدر من الغل، من الحقد، من الحسد، من المكر، من النفاق، الله قال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
[ سورة التوبة]

وقال:

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
[ سورة الأحزاب]

هل أهل البيت كانت ثيابهم نجسة؟ هل كانت أبدانهم نجسة؟ فماذا يعني الرجس؟ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس؟ الرجس المادي أم الرجس المعنوي؟
(وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) تطهير النفس ثم تطهير العقل، أتى الإسلام لا من أجل الروح فقط لنكون رهبانيين، ولا من أجل الجسد فنكون حيوانيين، وإنما أتى لنكون ربانيين، لنكون ملائكيين في سورة الإنسان.

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
[ سورة الشمس]

فمن جملة نصف القرآن الذي يُذكر فيه أحوال القيامة أو اليوم الآخر أو:

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
[ سورة المطففين]

إلى محكمته، والأنبياء أعضاء المحكمة، والملائكة يُقدّمون إضبارتك فيها أعمالك، لكن لا حبراً على ورق ولا شريطاً تلفزيونياً:

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
[ سورة يس]

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
[ سورة الإسراء]


الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العقل:
يا ترى المسلم والمسلمة لمّا يقرؤون عن يوم القيامة الذي استوعب نصف القرآن، سورة الأنبياء أول آيةٍ يُقرأ فيها:

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
[ سورة الأنبياء]

ناسون الحساب، مُعرضون عن تذكّره، مُعرضون عن الاستعداد للقائه.

مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
[ سورة الأنبياء]

أليس هذه صفة أهل الجاهلية وإعراضهم عن القرآن؟ أليس الكثير من المسلمين في زمننا يستمعون القرآن وهم يلعبون؟ أليسوا يستمعون القرآن وهم لاهية قلوبهم؟ ثم نقول مسلمون ثم نقول:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
[ سورة الروم]

وليس الإيمان كما ورد في الحديث:

{ ليس الإيمانُ بالتَّمَنِّي ولا بالتحلِّي، ولكن هو ما وقر في القلبِ، وصدقَهُ العمل }

[الألباني ضعيف الجامع]

إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
[ سورة ق]

إذا ما صار له قلب، أو ألقى السمع، أي يستعمل تفكيره، يتمعّن في فهم معانيه، أما إذا صار له قلب فالقلب هو المَعِدة الروحانيّة التي تهضم كلمات القرآن فتحولها إلى أعمالٍ صالحة، وأخلاق ٍ فاضلة، وأنوارٍ كهربائيةٍ ربانيّة، تُعطي المؤمن القوة والنشاط على:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
[ سورة آل عمران]

سابقوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنة، وإذا كانت البطارية ضعيفة فكيف المُحرك سيشتغل؟ أو إذا كانت ما فيها قوة ولا فيها تيار؟
كان شيخنا رضي الله عنه من كبار العُلماء، ومن حَفظة كتاب الله، وكان عنده من طلاب العِلم من يُقرئهم شتى أنواع العلوم، فكان يقول: كنت أرى نفسي عالماً فلمّا التقى بشيخه عالم القلب بشيخه العارف بالله من ورثة الأنبياء قال: بجلسة دقائق وتوجهه القلبي إلى قلبي رأيت روحي تعرج مع روحه مُتصافحيّن في السماء، وجسدانا الأيدي تتصافح في الأرض، وفي هذا العروج امتزج الجسدان الروحيّان كما يمتزج الحليب بالماء، ثم رجعا إلى وضعهما الأرضي، ونزلا في قالبهما الجسدي، والتفت شيخه إليه قائلاً: يا ولدي هل رأيتَ كما رأيتُ؟ كان شيخه لا يتكلم إلا العربية الفصحى، فأجابه: شيخنا أنا رأيتُ لكن كما رأيتَ لا أدري، فقال له: قل ما رأيت فقال له، قال: صدقت، هذا لم يحصل لمُريدٍ عندي قبلك، دخولك الخلوة بالاختيار إن شئت تدخل وإن شئت لا تدخل، قال له: لا أدخل، قال: إذاً تترك كل أعمالك، قال: عندي دروس، قال له: تترك الدروس طلبة العِلم، إلا الصلوات الخمس، والفرائض، ونوافلها، وبقية الوقت تُشغله بذكر الله، فكان يقول لنا رضي الله عنه، الشيخ يقول: وأنا في داره كان يرى شيخه في داره يرى من عنده من ضيوفه، يسمع ما يقوله، إلى آخره، فبعد الأربعين أجازه بتربية المريدين وبتزكية النفوس:

وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
[ سورة الأعراف]


الخلوة مع الله:
يا ترى هذا القرآن لماذا أنزله الله؟ أي الله حكواتي من أجل أن يُسلينا أم حتى نقوم بأربعينية موسى؟ في الشرع في كتب الفقه ألا يوجد باب فقهي اسمه: باب الاعتكاف؟ الاعتكاف هو الخلوة، ما الاعتكاف ؟ أي الخلوة مع الله ، تحقيق الحديث القدسي:

{ أنا جليسُ مَن ذَكرَني }

[شعيب الأرناؤوط لا يصح]

فإذا جالست الجليد والثلج ألا تظهر آثاره من البرودة عليك؟ وإذا جاورت التنور ألا تسري فيك صفاته من الحرارة؟ وإذا جالست رب العالمين ستسري فيك بعض صفاته، بعض حكمته، بعض علمه:

فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65)
[ سورة الكهف]

لعلها تنكشف لك في مرآة قلبك أحوال الدار الآخرة فترى الآخرة في تلفزيون قلبك.
كما ورد عن حارثة الصحابي الجليل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقي النبي فسأله: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمناً حقاً، قال: انظر ما تقول، قال: رأيت كأني بعرش ربي بارزاً:

{ قال حارثةُ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنا مؤمنٌ حقًّا؟ قال: وما حقيقةُ إيمانِك؟ قال " عزفتُ نفسي عن الدُّنيا فاستوَى عندي حَجَرُها وذهبُها, وكأنِّي بالجنَّةِ والنَّارِ, وكأنِّي بعرشِ ربِّي بارزًا فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : عرفتَ فالزَمْ, عبدٌ نوَّر اللهُ قلبَه بالإيمانِ فانظُرْ كيف بدأ في إظهارِ حقيقةِ الإيمانِ بعُزوفِ النَّفسِ عن الدُّنيا, وقرَنه باليقينِ, وكيف زكَّاه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ قال: عبدٌ نوَّر اللهُ قلبَه بالإيمانِ }

[إسناده ضعيف]

{ اُعبُدِ اللهَ كأنك تَراه، وكن في الدنيا كأنك غَريبٌ أو عابرُ سبيلٍ }

[أخرجه البخاري وأحمد]

إذا رأيت رئيس الجمهورية على شاشة التلفزيون ماذا تقول؟ رأيت رئيس الجمهورية، لكن هل رأيت حقيقته؟ لا، ظلّ صورته، كذلك قلبك إذا انجلى من ظُلمات المعاصي، ومن ظُلمات حُب الدنيا، واتجه وكنت صادقاً في صلاتك لا تكذب فيها عندما تقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض هل أنت تقول من صدق أم من كذب؟ إذا كنت صادقاً لقد حصّلت كنزاً أبدياً، وإن كنت غير صادق فاجتهد لتكن صادقاً، واسلك طريق الصدق فتصل إلى مطلوبك.
في القرآن يقول عن السيدة مريم:

فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
[ سورة مريم]

احتجبت، وخلت بربها، واحتجبت عما سواه، ووجهت وجهها للذي فطر السماوات والأرض.

فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
[ سورة مريم]

فنبينا عليه الصلاة والسلام ما هي المدرسة التي داوم فيها وأخذ فيها شهادة النبوة؟ غار حراء، بقي سنوات متعددات، كل مرة عشرة أيام، وعشرون يوماً في الغار، ماذا في الغار؟ يا ترى فيه تلفزيون؟ فيه سينما؟ فيه مكتبة؟ فيه أصدقاء؟ فيه أساتذة؟ ماذا في الغار؟ هو يريد أن يقطع حسه وشعوره وتوجهه عن كل ما في هذا الوجود مُتوجهاً إلى الله وحده، صادقاً في قوله لا إله إلا الله، لا شيء يتوله القلب به ويتوجه إليه ويعشقه إلا الله، فخرج من مدرسة حراء حاملاً شهادة خاتم النبيين وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
في حياة النبي، النبي ما أرسلهم إلى حراء، ولكن كان هو حِراءهم، فمن لازمه وجالسه بجسده وبروحه:

{ الأعْمَالُ بالنِّيَّةِ، ولِامْرِئٍ ما نَوَى، فمَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسولِهِ، ومَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَرَ إلَيْهِ }

[صحيح البخاري]

فكانوا يجدون الله، ونوره، والحضور معه في صحبة رسول الله، وفي محبة رسول الله، فهل أنت أيها المسلم فكرت في حِرائك؟ هل هاجرت إلى حراء لتُحصِّل على ما حصّل عليه المهاجرون إلى حراء؟ اللهم اجعلنا من الحِرائيين.

مقدمات يوم القيامة:
نعود إلى تفسير السورة:

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
[ سورة الانفطار]

السماء بما فيها من كواكب، وما فيها من نظام، وما فيها من وجود بكواكبها وشموسها وأقمارها بالقيامة ينفرط عقد مجرتنا:

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
[ سورة الانفطار]

آيةً أُخرى:

إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1)
[ سورة الإنشقاق]

آيةً أُخرى:

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
[ سورة التكوير]

أي أرضنا وشمسنا وقمرنا وكواكبنا:

وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)
[ سورة الانفطار]

الأرض بسلاسلها عند القيامة الحواجز بين البحار والجبال تزول.

وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)
[ سورة المرسلات]

فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا (6)
[ سورة الواقعة]

يصير البحر بحراً واحداً:

وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
[ سورة الانفطار]

أي خرجنا بعد الموت خلقاً جديداً إلى مواقف القيامة فهذه مُقدمات، لماذا؟ قال: مقدمات للقيامة، لتقوم أيها الإنسان وتُدعى إلى محكمة الله، وإضبارتك وأعمالك قليلها وكثيرها مسجلٌ لك أو عليك:

مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[ سورة ق]

النكرة في سياق النفي حُكمها في عِلم الأصول تُفيد العموم، إذاً كل كلمة مسجلةٌ عليك أيها الإنسان، أنت مؤمن بالقرآن؟ مؤمن، يا ترى آمنت بهذه الآية؟ أنت مؤمن بالعقرب ولدغته وسُمه؟ ما مقتضى هذا الإيمان؟؟ أتضعه في شعارك على جلدك تحت قميصك؟! وإذا فعلت تكون أنت مؤمناً بالعقرب؟ وإذا قلت: أنا مؤمن بالعقرب، أنا مؤمن وكان فعلك هكذا، ماذا يقول الناس عنك؟ مجنون؟ لا، حمار الحمير، يرفضون لأن الحمار لما يصعد على جسر خشبي أول ما يضع حافره الأول ويشعر بالرج تحت الحافر يتوقف، يقول: هذا الجسر يرج فيه خطر، هذا يدل على عقل أم على قلة عقل؟ الناس تقول عن الغبي حمار، لا، الحمار يُعتبر من الأذكياء، أذكياء الحيوانات، لكن الحمار كما قال النبي وقد مرّ بمجلسه مجنون فقالوا: مجنونٌ مجنون، قال: لا تقولوا مجنون، المجنون من يعصي الله، قولوا مريض، الآن في العصر الحديث ماذا يسمون المجنون؟ مريض، أما في قاموس النبي فمن المجنون؟ يا ترى في مجتمعنا المجانين أكثر أم العقلاء أكثر؟ الله يجعلنا من عقلاء القرآن، من عقلاء مدرسة الله نعقلها، فإذا عَقَلت الأفعى والحية والثُعبان ما مقتضى هذا الفقه وهذا العِلم؟ الاجتناب، وإذا فقهت بالذهب والفضة والألماس وقُدّمت لك ما مقتضى هذا الفقه؟ ترفضها أو تقبلها ؟ الله يرزقنا الإيمان الذي يستقر في القلب ويُصدّقه العمل.

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(41)
[ سورة المائدة]


أعمال الإنسان كلها مسجلة عليه يوم القيامة:
إذا الله يقول مقدمات القيامة، ودقت القيامة أبوابها، ماذا يكون مصيرك أيها الإنسان؟ أيها الإنسان الطبيب، أيها الإنسان المحامي، الله يعين المحامين، إذا مشيتم على الحق لا تخافون، والله سيرزقكم أكثر، علمت نفس الوزراء، الملوك، الرؤساء من آدم إلى قيام الساعة:

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
[ سورة الواقعة]

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
[ سورة يس]

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
[ سورة الإسراء]

لما أنت تأخذ كأس الخمر وتشربه فما رأيك؟ لمّا هذا الفيلم يُعرض عليك في محكمة الله أمام عظمة الله وأنبياء الله ما رأيك؟ مجلس الزنا في محكمة الله إذا عُرض أمام الله وسيدنا رسول الله ماذا سيكون موقفك وأنت لا تستطيع أن تقترب من زوجتك أمام ابنك الصغير الذي عمره ثلاث سنوات أو أربع سنوات مع أن هذا حلال وإن كان بحضور مخلوقٍ آخر حتى ولو كان قطةً النبي نهى عن حضور أي مخلوق إلى آخره، حتى الملائكة الرقيب والعتيد لا يفارقونك إلا عند الجماع، وإلا عند قضاء الحاجة، لذلك كان النبي يقول:

{ إيَّاكم والتَّعرِّيَ فإنَّ معَكم من لا يفارِقُكم إلَّا عندَ الغائطِ وحينَ يفضي الرَّجلُ إلى أَهلِهِ فاستحيوهم وأَكرِموهم }

[ضعيف الترمذي]

فماذا تقدر نفسك؟ هذا الكلام ليس بكلام جرائد يا بني، كلام الجرائد تقول خبر اليوم، وثاني يوم تقول عدم المؤاخذة الخبر كان غير صحيح، لذلك نعتذر عن نشره، هذا كلام الله لا يتغير ولا يتبدل، البائع عندما يغش، لمّا الإنسان يكذب، لمّا يُنافق، لمّا يعمل عمل التقوى ليراه الناس، وليمدحه الناس، يعمله للناس لا لوجه الله، لا ابتغاء مرضاته، والله يقول لك:

وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
[ سورة طه]

ما هو الأخفى من السر؟ هو الشيء الذي سيكون سِرك بعد سنة، الذي يعلم أسرارك الآن وما ستسُره في مستقبل السنون والأيام، أين أنت ذاهب أيها الإنسان؟
يقولون: أتى أحد زعماء العرب إلى المدينة ضيفاً عند أحد الصحابة، فأخذه إلى رسول الله فتألُّفاً من النبي لذلك الزعيم وهبه وأعطاه وادياً من أودية جزيرة العرب، وادياً مُخصِّباً، فلما رجع إلى مضيفه الصحابي قال له: والله النبي أكرمني بأن أعطاني وادياً خصباً لمرعى الأنعام إلى آخره، وأنت باعتبارك كنت الوسيط فسأعطيك بعضه لك ولأولادك، أي مكافأة لك، فقال له: بارك الله لك فيما أعطالك، لقد نزلت على رسول الله سورةٌ من القرآن أذهلتنا عن الدنيا بما فيها، ما هي؟ قال:

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
[ سورة الأنبياء]

هذه المدرسة العظمى مدرسة القيامة مدرسة:

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
[ سورة الانفطار]

مدرسة:

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
[ سورة التكوير]

مدرسة الواقعة هي التي تخّرج منها العظماء الذين صنعوا التاريخ المُشرق المُشرِّف للعرب للمسلمين، هذه المدرسة بأستاذها، ومُربيها، ومُرشدها سيدنا رسول الله، الكتاب مهما كان عظيماً يحتاج إلى المعلم المُربي المُدرب، كتب الطيران لا تصنع طياراً، وكتب الهندسة لا تصنع مهندساً، وهل هناك أعظم من كتاب الله القرآن إذا لم تجد الشيخ الذي يُربي قلبك بنور الله، ويُعمره بنوره، ويُنظفه من ظلامه وظلماته، ويُحيي عقلك بحكمة القرآن؟

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
[ سورة البقرة]

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها وأنت مولاها، تقول له: يا ربي زكِّ لي نفسي، فيقول لك: نعم، لتكن نفسك معي لأُزكيها، وإذا بك تهرب عن الله بدل أن تهرب إلى الله، ففروا إلى الله أم فروا من الله؟ فالفرار إلى الله الفرار إلى أحباب الله.
سُئل النبي الكريم عليه الصلاة والسلام عن خيّار هذه الأمة؟ فقال: هم الذين إذا رؤوا ذكر الله.
إذا رؤوا لا بأجسامهم فقط، بل هناك رؤيا من وراء الجسم، أن تراهم بحقيقتهم الروحانية الربانيّة، وإذا الناس رؤوا النبي وقال الله عنهم:

وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
[ سورة الأعراف]


تحذير الله للإنسان بدافع الحب والرحمة والرأفة:
نرجع إذا صارت مقدمات القيامة الدنيا ذهبت وأنت على كل حال عندما تفقد الجسد لم يعد لك علاقة بكوكب الأرض، لا بأرضه، ولا بنسائه، ولا بزراعته، ولا بتجارته، انتقلت إلى عالم الروح ثم العالم الأخير عالم الخلود، القيامة وما بعدها، فهناك الموقف المصيري الأبديّ الخالد.

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
[ سورة آل عمران]

تود لو أن بينها وبين عمل السوء أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه، لمّا أبوك يُحذرك من العقرب هذا تحذير لأي دافع؟ بدافع الحب والرحمة والرأفة، ولذلك قال:

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
[ سورة آل عمران]

تدخل الجنة وأنت روائحك أنتن من خمسمئة ألف جيفة وفطيسة، لا يمكن أن تدخل الجنة أنت لا ترضى، لمّا النبي كان يذكر زوجته صفية فغارت من ذِكرها عائشة وقالت بدافع الغيرة: إلى متى أنت تذكرها وتشير لها وتمدحها؟ حسبك من صفية أنها قصيرة ولو لم يكن لها عيب إلا أنها قصيرة لكفى، والمرأة الغيرَة تجعل الغيرة فيها لا تفرق بين أعلى الوادي وأسفله:

{ عن عائشة رضي الله عنها: قلتُ للنبيِّ : حسبُك مِن صفيةَ - زوجِ النبيِّ - كذا وكذا - تعني ! إنها قصيرةٌ - فقال النبيُّ : لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجتْ بماء البحرِ لَمَزَجتْه }

[أخرجه أبو داود والترمذي]

هذه كلمة واحدة تُنتِن بحراً، وإذا كانت عشر تُنتِن عشرة بحار ، وإذا كانت عشرين تنتن هذه الكلمة المحيط الأطلسي ، وإذا مع الكلمة يوجد عمل ومع العمل أعمال، كيف هذا سيدخل الجنة يا بني؟ أي إذا كان هناك حفلة مدعو لها الوزراء وأساتذة الجامعات وعُليّة القوم ، وشخص وقع في كنيف ودعوه للحفلة يذهب؟ يدخل؟ هو لا يرضى، الخنفس إذا وضعت له عطراً يموت، القط إذا أردت أن تُنفره تضع له رائحة طيبة عند أنفه ستجده يهرب، كذلك لا تظن أن الجنة الله منعها عنك بُخلاً أو حِرصاً ، أو أراد أن يُبقي نصفها لنفسه ، لا، هل تستطيع أن تعيش في قاع البحر بلا هواء؟ وهل يستطيع السمك أن يعيش في الهواء؟ كذلك إذا ما رُزقت الروح الإيمانية الحقيقية التي من ثمراتها ما وقر في القلب وصدّقه العمل لا تستطيع أن تدخل الجنة، نسأل الله أن يرزقنا الجنّة وما قرّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بالله من النار وما قرّب إليها من قولٍ وعمل.

التزام أوامر الله وشريعته يحقق للإنسان سعادة في الدنيا قبل الآخرة:
إذاً صارت مُقدمات القيامة إذا غربت الشمس أفطر الصائم.

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)
[ سورة الانفطار]

وإذا مجرتنا خَربت.

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
[ سورة التكوير]

وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)
[ سورة الانفطار]

عند ذلك:

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
[ سورة الانفطار]

النفس تعلم ما أدت من واجبات فرضها الله عز وجل عليها، هذه الفرائض والواجبات النبي يقول في الحديث القدسي، يقول الله تعالى:

{ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا }

[صحيح مسلم]

كلها مُسجّلة ليست مسألة أولاد صغار يا بني، ليست مسألة صديق يمزح مع صديقه، شرطي سير إذا كنت تمشي على يسارك وأعطاك إشارة هل تنزعج أم لا تنزعج؟ وبالأصل إذا رأيته من بعيد هل ستمشي على اليسار؟ تحسب حساباً وتخاف، فرب العالمين خالق الوجود الذي خلقك من العدم:

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
[ سورة الإنسان]

هذا الخالق خالقك، وخالق الكون هو من يُخاطبك، شرطي إذا قال لك : لا تمش على اليسار تخالفه؟ تريد أن تعمل عملية تلتفت يميناً وشمالاً هل يراك أحد؟ لماذا لا ترفع رأسك وتقول: الله يراني ؟ الله أليس له وجود، دليل إيمانك ليس له وجود.
في خلافة عمر كان في الليل يصير حارساً ليلياً فسمع أُماً تقول لابنتها: ضعي شيئاً من الماء في الحليب حتى يزيد وزنه ونأخذ ثمناً أكثر، أي تغش الحليب بالماء، فقالت البنت لأمها: إن عمر نهى أن يُخلّط الحليب بالماء، فقالت: ويحك أيراك عمر؟ فقالت: يا أماه إذا كان عمر لا يراني أفلا يراني رب عمر؟! هذا إيمان يا بني، هذا الإيمان بالله، أما تعمل كل شيء أين الله؟ محكوم عليه بالإعدام ليس له وجود؟!

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
[ سورة التوبة]

إذا لم تتذكر الله في كل أحوالك، عند الواجبات تُسارع إليها، عند المُحرّمات تفرّ منها، عند المُشتبهات تتوقف حتى تتبين الحق من الباطل، ادخل مستشفى للقلوب حتى يعالجوا قلبك المريض:

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
[ سورة البقرة]

فقالت: يا أماه إذا لم يرنا عمر أفلا يرانا ربُّ عمر؟ وسمع عمر حوار الأم وابنتها فوضع علامةً على الدار، وفي الصباح جمع أولاده وقال بعدما سأل عن البنت وإذا هي عزباء فزوجها أحد أبنائه لأنها مُثقفة، مُثقفة ثقافة إيمان الحيّ لا إيمان الميت، إيمان العمل لا إيمان الأماني والتمني.

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
[ سورة آل عمران]

فما أحلى إذا قامت القيامة وأنت في حضرة الله، وقدّمت أضابيرك وصحائف أعمالك وكلها مليئة بالأعمال الصالحة، وبالأخلاق الفاضلة، وبتقوى الله، وبمجالس العِلم، ومجالس الصالحين، ما أحلى ذهبت الدنيا، وذهبت الوزارة، وذهبت الأملاك، وذهبت المناصب، وذهب الجاه، وذهب الشباب، وكله ذاهب خالدين فيها أبداً، وما أعظم الحسرات إذا عُرضت عليك الأعمال!

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
[ سورة آل عمران]

ووجهك أسود في محكمة الله:

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)
[ سورة الرحمن]

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
[ سورة آل عمران]

هنا القرآن يقول: يوم القيامة علمت كل نفس ما قدّمت من الأعمال الصالحة، وما أخّرت وتركت من الواجبات والفرائض الإلهية التي بها سعادتك لا في عالم الآخرة، وما بعد موت الجسد، لا، أوامر الله، شريعة الله لتُسعدك في الدنيا قبل الآخرة، وقلباً، ونفسياً قبل أن تسعد جسديّاً وبدنيّاً يقول الله تعالى:

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[ سورة النحل]

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
[ سورة العنكبوت]

وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
[ سورة البقرة]

الحياة الحسنة الغنى حسن أم الفقر حسن؟ كان النبي يقول:

{ وكان النبيُّ يستعيذُ باللهِ من الدَّيْنِ ويقولُ: اللهم إني أعوذُ بك من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقَهْرِ الرجالِ }

[الألباني ضعيف]

{ اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ الجوعِ فإنَّهُ بئسَ الضَّجيعُ وأعوذُ بِكَ منَ الخيانةِ فإنَّها بئستِ البطانةُ }

[صحيح ابن ماجه]

ويقول:

{ كادَ الفقرُ أن يكونَ كُفرًا }

[الطبراني ضعيف]

ويقول :

وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8)
[ سورة الضحى]

فامتنَّ عليه بالفقر أم بالغنى؟

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
[ سورة التوبة]


طلب المغفرة بشكل دائم من الله عز وجل:
استغفروا ربكم، اطلبوا المغفرة بالتوبة الصادقة، إذا تُبتم وتركتم الطريق الأعوج إلى الطريق المستقيم، تركتم المعاصي إلى الطاعات، تركتم مجالسة الفُسّاق إلى صحبة الصالحين والأولياء، استغفروا ربكم، اطلبوا المغفرة بماذا؟ نحن نطلب ركوب الطائرة بدفع ثمن البطاقة، أما إذا طلبنا الركوب بلا ثمن البطاقة هل نركب الطائرة؟ وأيضاً استغفروا أي اطلبوا المغفرة، بماذا تكون المغفرة؟

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ (82)
[ سورة طه]

يجب أن يترك كل أخلاقه، كل أعماله، كل صفاته الناقصة، هذه التوبة، ويؤمن الإيمان الذي يقرّ في القلب، ويصدّقه العمل، يحتاج إلى مدرسة إيمان وهذه تحتاج إلى معلم إيمان، "وَعَمِلَ صَالِحًا" الإيمان الذي لا يُثمر العمل الصالح إيمانٌ ميت، "ثُمَّ اهْتَدَىٰ" أي الآن يطلب المعرفة بالله سواءٌ بطريق القلب، سواءٌ بطريق العِلم من المعلم، فالأميّون أبناء الصحراء عندما سلكوا هذا الطريق يا تُرى نُقلوا من غنى إلى فقر أم من فقرٍ إلى غنى؟ من ضعف إلى قوة أم من قوةٍ إلى ضعف؟ من ذلٍ إلى عزة أم من عزةٍ إلى ذل؟ من فُرقة إلى وحدة أم من وحدةٍ إلى فرقة؟

وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
[ سورة الأعراف]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
[ سورة محمد]

نصرة الله العمل بكتابه ووحيّه وتقواه حقَّ التقوى.

على كل إنسان أن يسأل الله القلب الذي هو موضع نوره:

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
[ سورة الانفطار]

ليس لنا علاقة، الله المجرة يُبقيها أو يُذهبها هذا عمله، أما المهم أنت ما مصيرك أيها المسكين؟ حفاة أي لا يوجد جراب أو حذاء، ولا يوجد بنطال مرتب أو غير مرتب، فما رأيكم؟ حفاة عراة غرلاً فالسيدة عائشة قالت: الرجال والنساء؟

{ يُبعَثُ النَّاسُ يَومَ القيامةِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، فقالت عائشةُ: يا رَسولَ اللهِ، فكيْف بالعَوراتِ؟ فقال: لكلِّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأْنٌ يُغِنيهِ. }

[صحيح مسلم]

من يأخذونه إلى المقصلة إذا صديقه كان عارياً هل يُفكر بِعُرّيه أم يفكر بالمقصلة؟ الله يجعلها لنا:

لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)
[ سورة الأنبياء]

ويحشرنا في ظل عرشه يوم لا ظلّ إلا ظلّه.
فإذا علمت ما قدّمت، إذا مُقدّم الأعمال الصالحة، ومُؤدي فروضك الكاملة، صلاتك بجسدك، ركوعها مضبوط، سجودها مضبوط، صلاتك بفهمك للقرآن، ما تقرؤه يُحدّثك الله ويُعلّمك الله في مدرسة الصلاة فهل عقلت درسه؟ إذا تليت:

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
[ سورة العصر]

يا ربي لماذا أمرتنا ونحن من الخاسرين؟ قال: لا يوجد طريق للربح هل تحبون أن أدلكم حتى تربح تجارتكم؟ هل أدلكم على تجارةٍ لن تبور؟

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
[ سورة العصر]

الإيمان الذي وقر في القلوب، كيف واقر في قلبك؟ الاحتراز والبُعد من الأفعى والحية والحنش وحب الذهب والفضة والألماس؟ إذا إيمانك ليس بهذا المستوى في قلبك مرض، إذا لم تذهب إلى الطبيب يزداد المرض حتى يقتلك المرض:

فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
[ سورة الروم]

من الموتى؟ أموات الأجساد؟ لا، أموات القلوب:

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
[ سورة البقرة]

القلب الذي يضخ الدم، أم القلب الذي يضخ نور الله والإيمان والعزيمة والمُسارعة إلى مرضاة الله؟ نسأل الله أن يرزقنا القلب النوراني، القلب الربّاني، القلب الذي هو موضع نور الله عز وجل.

الندم لا ينفع يوم القيامة:

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
[ سورة الانفطار]

عَلمت لأنها ترى أعمالها مُجسّمة بأفلامها التلفزيونية الربانيّة في محكمة الله.
وما أخّرت؛ ما أهملت، ماذا تركت؟ ماذا أهملت؟ ماذا ضيعت من فرائض الله؟ من واجباته؟ فإذا قدّمت الصالحات تفرح بها لأنها تنال بها حياة الأبد وسعادة الأبد سعادةً لا شقاوةً بعدها، وحياةً لا موت بعده، وصحةً لا سقم معها، وما أخّرت إذا وجدت نفسها تركت الصلاة هل يرجع ليُصلي ويقضي ما فاته؟ إذا كان مانعاً الزكاة يا ترى هل يرجع إليه ماله ويؤدي زكاته؟

كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
[ سورة ص]

يندم، ليس الوقت وقت الندم، لأن الندم لا يُفيد، فالله يقول لنا: احذروا ذلك اليوم لمّا تعلمون أعمالكم، ما قدمتم وأديتم من واجبات، وما أهملتم وتركتم كسلاً وضعف إيمانٍ من فرائض وواجبات، فانتبهوا وسارعوا.

الحرص على الفرائض وعدم الاغترار بالدنيا:
ثم قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
[ سورة الانفطار]

حدثتك عن مستقبلك الأبدي، تدرس للابتدائي، للثانوي، للإعدادي، للجامعي، للدكتوراه، ويصبح نصف رأسك أقرع، إذا لم يصبح نصفه أبيض حتى تؤّمن لك عشرين أو ثلاثين سنة، فإذا فيه مستقبل مئة سنة هل تعمل أكثر أم للعشرين تعمل أكثر؟ وإذا كان مئتي سنة؟ وإذا كان ألف سنة؟ وإذ كان لا نهاية له الخلود والأبد؟ الله لا يجعلنا من المجانين، في القاموس النبوي المجنون من يعصي الله، هل يوجد فيكم مجانين يا ترى؟ هل أنتم من المجانين؟ نسأل الله أن يجعلنا عُقلاء مع الله يا بني، عُقلاء مع كتاب الله، لو جاءتك ورقة من المخفر: يلزم حضورك الساعة الثانية عشرة غداً هل تستطيع أن تُخالف؟ جاءتك ورقة من خالق الوجود ويفهمك كل شيء ثم يقول لك:

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
[ سورة الانفطار]

هل هو ضعيف يتكلم ولا يفعل؟ هل يمزح معك مثلاً ؟ أي هو صنم يكلمك كلاماً لا ينفع ولا يضر؟ الذي يخاطبك فاطر السماوات والأرض، خالق الوجود، بيده ملكوت كل شيء.

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
[ سورة البقرة]

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (98)
[ سورة المائدة]

فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47)
[ سورة إبراهيم]

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
[ سورة النحل]

بيده حياتك، ورزقك، وروحك، ووجودك، ومصيرك، الشرطي إذا خاطبك تستوعب كلامه بالحرف، وورقة تأتيك من المحكمة تطبقها بالحرف، كلام رب العالمين خالق الوجود تقرؤه لا لتفهمه، تقرؤه لا لتنفذه، تقرأ الجريدة لتفهمها أم تقرأها لتعرف ما الأخبار؟ تقرأ سورة الانشقاق ماذا فهمت منها؟ لم يفهم شيئاً، لو كان الله في منزلتك مثل منزلة رئيس الجمهورية لفهمت كلامه كما تفهم الخبر عن رئيس الجمهورية، إذاً في قلبك مرض، اذهب وداو نفسك قبل أن يسحبوك ولا تجد مستشفى ولا طبيباً ولا صيدلية، إذا ما الذي غرك بربك الكريم؟ ألا يراك؟ ألا يسمعك؟! يسمع دبيب النملة السوداء النملة هل تسمع أنت حركة مشيها عندما تمشي؟ الله يسمع مشي النملة ويراها في الليلة الظلماء، ومشيها على الصخرة الصمّاء، إذا كل هذا الكلام لم تفهمه أنت حائط، بتعبير آخر أنت لست مؤمناً بالقرآن، تؤمن بوصفة الطبيب، هذا القرآن هو وصفة طبية.

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
[ سورة الإسراء]

إذا كنت مريضاً تُشفى، وإذا كنت مؤمناً تزداد إيماناً، "وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا" الظالم لنفسه لا يغير شيئاً.
سألوا جحا رحمة الله عليه قالوا له: كم عمرك؟ قال لهم: أربعون سنة، بعد عشر سنوات سألوه مرة أُخرى: كم عمرك؟ قال: ألم أقل لكم قبل عشر سنين أن عمري أربعون سنة؟ فقالوا له: مضى عشر سنوات، قال: لا، المؤمن الذي يثبت على قوله لا يُغيره، القول قول، والدين دين، كما أن الدين لا يتغير كذلك كلام الرجال الحمير لا تتغير.
الله لا يجعلنا من بني آدم الحمير، ثِقّوا أن الحمير يرفضون أن يعطوه جنسية الحمار، لا يعطونه، لأنهم سيقولون: أنت ستُعير الحمير وتُسيء سمعة الحمير، لأن الحمير يفهمون الله، سخرهم للإنسان فأطاعوا أمر الله فسُخِّروا له، إلى آخره.
ما الذي غرّك بالله حتى تعصيه؟ ما الذي غرك بأمر الله حتى تترك فرائضه؟ "مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ" لأنه كريم محسن أعطاك لم يعجل العقوبة عليك.

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
[ سورة النحل]

أغرّك حلمه؟ أغرّك إمهاله؟

الله تعالى خلق الإنسان من العدم وهو حريص على وجوده وحياته:
ثم يقول لك:

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
[ سورة الأعراف]

تحتاج يا بني إلى ذكر لله، إلى قلب يحيا بذكر الله، إلى طبيب يعمل لك عملية جراحية في قلبك يُخرج منه الظلمات ويحشوه بالنور، وأين طبيب القلوب في هذه الأزمان وفي هذه الأوقات ولعلك تراه وتشهده ولا تعرفه؟
كان شيخنا يقول عن شيخه: كنت من أكبر المُنكرين عليه حتى عرّفني به رجلٌ عامي، كان لا يلبس نعلاً إلا القبقاب الخشبي، قال: هذا العامي الأُميّ هو الذي عرفني بشيخه، ولمّا عرفت شيخي بمعرفته الحقيقية فكرت ماذا أُكافئه؟ بماذا أُقابل إحسانه؟ أحياني بعد موتي، شيخنا كان من كبار العُلماء، قال: فرأيت لو وهبت نفسي وروحي وحياتي لشيخي لا أؤدي حقه، قال: فكرت أن أعمل ما أستطيع أن أكافئ الذي دلّني على شيخي، والمشايخ دائماً مساكين يقول لك الفقير لمّا يكتب إمضاء يكتب الفقير لأنه لا يوجد شيء ليكتب الغني، اكتب الغني بالله، الغني بالله مثل الفقير إلى الله، الله يجعلنا أغنياء بالله، وبعطاء الله، ويجعلنا فقراء إلى الله، لأن هذا شيء ذاتي وطبيعي إلى آخره.
قال: فرأيت أنَّ أعزّ ما أملك عباءة عجمية جديدة، قال: فوهبتها لمن دلني على شيخي، ووطّنت نفسي على أن أكون خادماً لشيخي مادام فيَّ نفسٌ في جسدي وهذا ما أملكه.
لو أَنّ رُوحي في يدي وَوَهَبْتُهــــا لمُبَشّري بِقُدُومكمْ لـــــــــــــم أُنْصِف ما لي سِوَى روحي وباذِلُ نفسِـــهِ في حُبّ مَن يَهْواهُ ليسَ بِمُســــــــــرِف فلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسعَفْتَنــــي يا خَيبَة المَسْعَـــــــــى إذا لم تُسْعِـــــفِ
{ ابن الفارض }
لكن ليس غريباً عن الصغار إذا قدّموا اللعبة على حفنة ألماس، أعطيت للطفل ملء الكف ألماساً وأعطيته لعبة بلاستيكية ماذا سيأخذ؟ الله لا يجعلنا أطفال الآخرة، ولا أطفال القرآن، ولا أطفال الإيمان.

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
[ سورة الانفطار]

يا ترى أنت مغرور بالله أم لا؟ والله يا بني لو كنّا صاحين تماماً والله لا نفتر لحظة واحدة لا عن ذكره، ولا نستعمل جارحة من جوارحنا إلا في مرضاته، ولا نجلس مجلساً إلا يُقربنا إلى الله، ولا نصحب إلا أحبابه، ونعمل ليلاً نهاراً لنحوِّل القرآن من تلاوةٍ إلى عملٍ إلى تعليمٍ إلى إرشادٍ إلى دعوة، هذا هو المسلم الحقّ والمسلمة الحقة، وإلا أنت مغرور، وما الذي غرك؟ جهله؟ غفلته؟ لا يُحاسبك؟ لا يوجد جنة ولا نار؟ ما غرّك بربك؟ الذي غرّك جهلك، قسوة قلبك، استمرار غفلتك عن الله، صُحبتك للغافلين، بُعدك عن الأطباء المُداوين للقلوب المريضة أو إحياء القلوب الميتة.

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
[ سورة الانفطار]

الذي أوجدك من العدم كم هو حريص على وجودك وحياتك؟ الذي أعطاك الوجود والحياة تنساه؟!

الإنسان أحسن مخلوقات الله على هذه الأرض:
"فَسوّاك" جعل خلقك كاملاً مستوياً على أحسن حال:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4)
[ سورة التين]

عَدل لك عيونك مثل بعضهم، لو عين كبيرة كعين البقرة، وعين صغيرة كعين الفأر، ما الذي جعلهم متعادلتين؟ ستكون جميل؟ لو قدماك واحدة أطول من الثانية بأربعة أصابع كلكم ستصبحون عُرج، لسانك لو لم يضبط لك النطق كله أعصاب خلايا عصبية أربعة عشر مليار خلية في الدماغ كلهم يعملون بعمل مُنظم مُتناسق، بوحدة عملٍ كاملة، من رتب هذا الترتيب؟ من رتب هذه الخلايا؟ من علَّمها وظائفها؟ ما الذي غرك بالله؟ لأنه خلقك؟ لأنه سوّاك؟ جعلك أحسن مخلوقات الله على هذه الأرض.

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
[ سورة الانفطار]

لو عمل صورتك لك ذنب من الخلف بدل ربطة العنق من الأمام، جعل لك ربطة عنق من الخلف؟ لأن الأجانب عملوا ربطة العنق:

{ لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟ }

[ صحيح البخاري]

حلقوا ذقونهم، حلقنا نصف شارب نصف شارب إلى آخره، هذه قشور ليس لها قيمة يا بني، نسأل الله أن يصلحنا من الداخل ومن الخارج، إذا تمّ يكون نوراً على نور، المهم الشيء الذاتي، الله يفيض علينا الكمال بكل وجوهه، فما أحلى العقل الإلهي!
ما غرَّك! كالصديق يُعاتب صديقه، الأب يُعاتب ابنه، الذي خلقك فسواك، جعلك خلقاً مستوياً، كاملاً، حلواً، جميلاً، أعظم مخلوق على وجه الأرض، فعدلك أسنانك لو واحد لا ينطبق على الثاني هل تستطيع أن تمسك الخيط بأسنانك الأمامية؟

فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
[ سورة الانفطار]

عند خلق الإنسان وهو نطفة تُعرض على المَلَك المُصور صور آباء المخلوق من آدم إلى أبيه فالصورة التي تقع عليها القرعة الإلهية يُصوّر الجنين ببطن أمه في تلك الصورة.
كلا إذا كان الأمر كذلك فراقبوا الله ولا تنسوه، اذكروه فلا تغفلوا عنه، أطيعوه فلا تعصوه، اقرؤوا كلامه قراءة المتدبرين، الفاهمين لتطبيقه وتنفيذ أوامره.

محاسبة كل إنسان يوم الدين:

كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
[ سورة الانفطار]

ما الدّين؟ كما تدين تُدان، كما تعمل جناية ستحاسب عليها، الدّين يوم الدين، يوم الحساب، يوم القيامة، الفاتحة مالك وحاكم وقاضي يوم الدين، القيامة موجودة في سورة الفاتحة، في سورة القارعة، في سورة العاديات، في سورة ألهاكم، سورة إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، نصف القرآن الذي هو بالقيامة أي إذا كنت شتمت شخصاً وهو مؤمن بالقيامة أنت تؤمن أنك ستُحاسب، إذا كنت مؤمناً ستذهب وتستسمح منه، تسترضيه حتى يرضى، جارك، أجيرك، زوجتك، زوجك، عدوك، صديقك، النبي عليه الصلاة والسلام وهو خاتم النبيين وأول من يقرع باب الجنة ويدخلها صعد المنبر وقال: " أيها الناس من كان له عندي مال فهذا مالي، من كنت ضربته فهذا بدني فليضربني، من سببته فليسبني، معنى الحديث لا يقل: محمد يغضب فإن محمداً لا يغضب من الحق".
إذا النبي خائف من القيامة، وأنت يا ترى - والخوف شعبة من شعب الإيمان - أنت خائف؟ آمنت بالقرآن؟ أنت لا تؤمن، تسمع القرآن ولا يُفيدك، لأن بأعضاء الهضم عندك الجهاز الهضمي يحتاج إلى تصحيح، تحتاج الطبيب وما أندر يا بني أطباء القلوب، والطبيب الذي هو العالم الحقيقي طبيب القلب، وطبيب العقل، وطبيب الحياة، يُعلّمك الدنيا والآخرة، دنيا بلا آخرة هذا ليس إسلاماً وآخرة بلا دنيا ليس إسلاماً.

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
[ سورة القصص]

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
[ سورة النحل]

إذاً الإسلام كل التقدم إلى الأمام في الدنيا قبل الدار الآخرة، وها هو التاريخ يشهد على ذلك، وهذا تاريخ الله القرآن يشهد، نسأل الله أن يجعلنا من المؤمنين المُصدّقين، فأنتم تكذبون بالدين؟ إذا كنتم مُكذبين بالدين عملياً، ويوم القيامة بين يدي الله قال لك: يا مُكذِّباً بالدّين و مُكذِّباً بكلامي وبقرآني، وكانت أعمالك كلها تشهد عليك أنك مُكذِّب بالدّين ماذا سيكون جوابك؟ موقفك؟ مصيرك؟ لا تغتر بعلمك، لا تغتر بصلاتك التي لا تنهاك عن الفحشاء والمنكر لأن صلاتك ميتة، صلاة تستحق.

فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4)
[ سورة الماعون]

أما الصلاة التي أرادها:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
[ سورة المؤمنون]

إن شاء الله لا نُكذِّب بالدين، فيجب أن تراقب كلامك ألا تخرج منك كلمة تحاسب عليها يوم الدين، نظرك لا تنظر إلى ما حرّم الله حتى لا تُحاسب يوم الدين، ابنك لا تسمع إلى:

وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
[ سورة القلم]

أخلّاؤك لا تُصاحب إلا تقياً ولا تأكل إلا طعام التقّي، سوف أسألكم إذا شخص أغضبكم، غضب وغضبتم هل تؤمنون بيوم الدين في هذه اللحظة؟ إذا صار لك مطمع مئة ألف ليرة بحرام أو بشبهة يا ترى عند تلك اللحظة تؤمن بيوم الدين؟ تؤمنون؟
مالِك، حاكم، قاض، لا يوجد استئناف، لا يوجد محام، لا تمييز، ولا رشوة، ولا نساء.

وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
[ سورة الجن]

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)
[ سورة الانفطار]

يوجد مخابرات، يوجد تحرّ يتبعكم، يُسجّل عليكم كل أعمالكم، كراماً لهم كرامة عند الله كرموهم، لا تعلموا أمامهم أعمالاً مُخزية، أعمالاً مَعيبة، هؤلاء كرام جداً، وعظماء جداً، لأن لهم منزلتهم عند الله عز وجل، أمام سيئ قد تفعل شيئاً سيئاً لكن أمام وزير هل ستفعل أشياء سيئة؟ أمام الله الذي هو معكم أينما كنتم.

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)
[ سورة الانفطار]

متبعك إلا عند الجماع، وإلا عند الاستنجاء، كراماً كلامهم مقبول عند الله، وهم مُكرمون عند الله، كاتبون لأعمالكم، يعلمون ما تفعلون، فإذا كانت هذه المراقبة، هؤلاء موظفون من طرف الله فالنهاية ماذا ستكون؟

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
[ سورة الانفطار]

الأبرار الأخيّار الذي لا يعملون إلا الخير، لا يُفكرون إلا بعمل الخير، لا يَصحبون إلا أهل الخير، لا يجلسون إلا في مجالس العِلم والإيمان والتقوى، وإن الفجار الذين أعمالهم أعمال الشرور، والفجور، والكفر، والعُصيان، والظلم، والعدوان، والغِش، والحقد، والحسد، والإيذاء، والإضرار، والحرام بالأقوال والأعمال:

وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)
[ سورة الانفطار]

في جحيم، في جهنم يصلونها ويدخلونها يوم الدين، يوم القيامة، يوم الجزاء.

وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
[ سورة الانفطار]

يوم الدين شيء عظيم مصيرك الأبدي، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ شيء عظيم مهول، يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا لا أبوك ينفعك ولا زوجتك تنفعك ولا شيخك ينفعك.

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
[ سورة الأنبياء]

والأمر أي الحكم لله، لا يوجد أعضاء محكمة بالأكثرية، حكم واحد ومن مصدرٍ واحد.

قصيدة أبي عثمان الواسطي إلى نور الدين الشهيد:
ختاماً اسمعوا هذه القصيدة:
أتى أبو عثمان الواسطي إلى نور الدين الشهيد، نور الدين الشهيد أستاذ صلاح الدين، والملك قبله الذي ربى صلاح الدين من؟ الملك نور الدين هو الذي حَرَّر معظم سواحل الشام فلسطين وسوريا ولبنان من الصليبين، وبعدها أكمل صلاح الدين رضي الله عنهما، قال: أنشد أبو عثمان الواسطي نور الدين الشهيد هذه القصيدة، وقد قال له: عِظني ذكرني بالله وعظني موعظة أزداد فيها قُرباً إلى الله وابتعد فيها عن معاصي الله؟ فما أعظم الملوك عندما يكونون عند الشيوخ ويطلبون من الشيوخ أن يقووا إيمانهم، يزيدوا تقواهم، يُقربّوهم من الله رحمة الله عليهم، والله يجعل حُكّامنا كلهم هكذا ندعي لهم يا بني، فأنشده قائلاً، من القائل؟ أبو عثمان الواسطي، ومن طالب الموعظة؟ نور الشهيد قال:
مثِّلْ وُقُوفَكَ أَيُّهَا المَغْرُورُ يَومَ القِيَامَةِ والسَّمَاءُ تَمُورُ
{ البداية والنهاية لابن كثير }
النجوم تتساقط، الشمس والقمر كُوِّرت، ذهب ضوءها، والأرض زُلزلّت ونُسفت، والكواكب انتثرت.
إن قيل نور الدين ليس الكلام أن يكون اسمك نور الدين، نريد أن يكون اسمك يوم القيامة نور الدين، أما إذا كنت في الدنيا نور الدين وفي الآخرة ظلام الدين!
إِنْ قِيلَ: نُورَ الدِّينِ رُحْتَ مُسَلِّــــــــــــمًا فَاحْـــــــــــذَرْ بِأَنْ تَبْقَى وَمَا لَكَ نُورُ أنهيتَ عن شُرب الخُمور وأنـــت مـــــن كأس المظالم طافــــــــح مخـــــــمور
{ البداية والنهاية لابن كثير }
أنت أغلقت الخمارات لكن المظالم التي تكون من جماعتك الذين يظلمون الناس هل لاحقتهم أيضاً؟ الله يرحم المشايخ يا بني، ويرضى عنهم، ومازال الخير والبركة إن شاء الله إلى يوم القيامة:
عطّلت كاسات المدام تعففا وعليك كاسات الحرام تدور
{ البداية والنهاية لابن كثير }
يُدخلون عليك مالاً حراماً جماعتك ونوابك .
ماذا تقول إذا نُقلت إلى البلـــــــى فرداً وجاءك مُنكر ونَكيـــــــــــرُ؟ مـاذا تقــول إذا وقَفْــتَ بموقــفٍ فرداً ذليلاً والحِسابُ عَسيـــــــــرُ؟ وتعلقت فيك الخصوم وأنت فــــي يوم الحساب مُسَحَّبٌ مجــــــــرور وتفرقت عنك الجنود وأنت فـــــي ضيق اللَّحود مُوَسَّدٌ مقبــــــــــور
{ البداية والنهاية لابن كثير }
السلسلة برقبتك وتجرك إلى جهنم، نور الدين يا بني هزم أوروبا والشيخ هكذا يقول له! رحم الله أولئك الملوك، ورضي عن أولئك الشيوخ، لكن لا تقلدوا كل زمان يا بني وكل مكان له حُكمه، الله يرزقنا الحكمة.
وتفرقت عنك الجنود وأنــــــــت في ضيق اللَّحود مُوَسَّدٌ مقبـــــــــــور وودت أنــك مــا وليــت ولايــة يوماً ولا قــال الأنــــــــــــام أميـــر
{ البداية والنهاية لابن كثير }
تتمنى في ذلك اليوم لا أن تكون سلطاناً، ولا أن تتحمل مسؤولية الرعية والأمة:
وبقيت بعد العزّ رَهْن حُفيرة فــــــــي عالم الموتى وأنــــــــت حقيـــــــر وحُشرت عرياناً حزيناً باكيـــــــــــــاً قلقاً ومالَكَ في الأنام مُجيـــــــــــــر أرضيت أن تحيا وقلبــــــــــك دارسٌ عافي الخراب وجسمُك المعمـــــــور
{ البداية والنهاية لابن كثير }
قلبك خرب، قلبك ميت، جسمك حي وقلبك ميت:
أرضيتَ أن يحظى سواك بقربـــــه أبداً وأنت مبعد مهــــــجور مهد لنفسك حجة تنجــــــــو بها يوم المعاد لعلك المعــــــذور
{ البداية والنهاية لابن كثير }
يوم نعود إلى الله وتظهر النقائص والعيوب.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين